خريطة المدينة المنورة .
الفصل الحادي عشر
أول العهد بيثرب
(استقبال يثرب للمهاجر العظيم - بناء المسجد ومنزل النبي - تفكير محمد في حرية العقيدة لأهل يثرب جميعا - يهود المدينة - مؤاخاة محمد بين المهاجرين والأنصار - معاهدته مع اليهود لتقرير حرية الاعتقاد - زواج محمد بعائشة - الأذان للصلاة - مثل محمد وتعاليمه - قوة الدين الجديد وخوف اليهود منها - تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام - وفد نصارى نجران إلى المدينة - التقاء الأديان الثلاثة بيثرب - تفكير المسلمين في موقفهم من قريش) ***
خرج أهل يثرب لاستقبال محمد زرافات ووحدانا، رجالا ونساء، بعد الذي ترامى إليهم من أخبار هجرته ومن ائتمار قريش به، ومن احتماله أشد القيظ في هذه الرحلة المضنية بين كثبان تهامة وصخورها التي ترد ضوء الشمس لظى وسعيرا. وخرجوا يثيرهم تطلعهم، لما انتشر من خبر دعوته في أنحاء شبه الجزيرة وما تقضي عليه هذه الدعوة من عقائد ورثها أهلها عن آبائهم، وكانت عندهم موضع التقديس. لكن خروجهم لم يكن راجعا إلى هذين السببين وكفى، بل كان راجعا أكثر من ذلك إلى أنه هاجر من مكة إلى يثرب ليقيم بها. فكل طائفة وكل قبيلة من أهل يثرب كانت ترتب على هذا المقام - من الناحية السياسية والاجتماعية - آثارا شتى، هي التي استخفتهم أكثر مما استخفهم التطلع ليخرجوا فينظروا إلى هذا الرجل، وليروا هل تؤيد سيماه حدسهم، أو هي تدعوهم إلى تعديله؛ لذلك لم يكن المشركون ولا كان اليهود أقل إقبالا من المسلمين - مهاجريهم والأنصار - على استقبال النبي.
ولذلك أحاطوا به جميعا وكل يخفق قلبه خفقانا مختلفا عن غيره باختلاف ما يجول بنفسه إزاء القادم العظيم. وقد اتبعوه إذ ألقى بخطام ناقته على غاربها في شيء من عدم النظام أدى إليه حرص كل على أن يجتلى محياه، وأن يحيط نواحيه جميعا بنظرة ترسم في نفسه صورة من هذا الذي عقد بيعة العقبة الكبرى مع من بايعه من أهل هذه المدينة على حرب الأسود والأحمر من الناس، والذي هجر وطنه وفارق أهله واحتمل عداوتهم وأذاهم ثلاث عشرة سنة متتابعة، في سبيل توحيد الله توحيدا أساسه النظر في الكون، واجتلاء الحقيقة من طريق هذا النظر.
بركت ناقة النبي - عليه السلام - على مربد سهل وسهيل ابني عمرو، فابتاعه ليبنيه مسجدا له. وأقام أثناء بنائه في دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري. وعمل محمد في بناء المسجد بيديه، ودأب المسلمون من المهاجرين والأنصار على مشاركته في بنائه، حتى أتموه وأقاموا من حوله مساكن الرسول. وما كان بناء المسجد ولا كان بناء المساكن ليرهق أحدا وقد كانت كلها البساطة بما يتفق وتعاليم محمد. كان المسجد فناء فسيحا، بنيت جدرانه الأربعة من الآجر والتراب، وسقف جزء منه بسعف النخل، وترك الجزء الآخر مكشوفا، وخصصت إحدى نواحيه لإيواء الفقراء الذين لم يكونوا يملكون سكنا. ولم يكن المسجد يضاء ليلا إلا ساعة صلاة العشاء؛ إذ توقد فيه أنوار من القش أثناءها. وكذلك ظل تسع سنوات متتالية شدت بعدها مصابيح إلى جذوع النخل التي كان يعتمد سقفه عليها. ولم تكن مساكن النبي أكثر من المسجد ترفا، وإن كانت بطبيعتها أكثر منه استتارا.
بنى محمد مسجده ومساكنه، وأوى من بيت أبي أيوب إليها. ثم جعل يفكر في هذه الحياة الجديدة التي استفتح، والتي نقلته ونقلت دعوته خطوة جديدة واسعة. فقد ألفى هذه المدينة وبين عشائرها من التنافر ما لم تعرف مكة؛ لكنه ألفى قبائلها وبطونها تصبو إلى حياة فيها من السكينة ما يجنبها الخلاف والحزازات التي مزقتها في الماضي شر ممزق، وما يهيئ لها في المستقبل طمأنينة تطمع معها أن تكون أوفر من مكة ثروة وأعظم جاها. وما كانت ثروة يثرب ولا كان جاهها أول ما يعني محمدا وإن كان بعض ما يعنيه. إنما كان همه الأول والآخر هذه الرسالة التي عهد الله إليه في تبليغها والدعوة إليها والإنذار بها. لقد حاربها أهل مكة من يوم بعثه إلى يوم هجرته أهول الحرب، فحال ذلك دون امتلاء كل القلوب بنورها وكل الأنفس إيمانا بها من خوف أذى قريش وعنتها. والأذى والعنت يحولان بين الإيمان والقلوب التي لما يدخل الإيمان فيها. فيجب أن يؤمن المسلمون وأن يؤمن غيرهم بأن من اتبع الهدى ودخل في دين الله بمأمن من أن يصيبه الأذى، ليزداد المؤمنون إيمانا، وليقبل على الإيمان المتردد والخائف والضعيف.
في هذا كان يفكر محمد أول طمأنينته إلى مسكنه بيثرب، وإلى هذا كانت تتجه سياسته، وفي هذا الاتجاه يجب أن يترجم لحياته. هو لم يكن يفكر في ملك ولا في مال ولا في تجارة؛ بل كان كل همه توفير الطمأنينة لمن يتبعون رسالته، وكفالة الحرية لهم في عقيدتهم ككفالتها لغيرهم في عقيدتهم. يجب أن يكون المسلم واليهودي والنصراني سواء في حرية العقيدة، وفي حرية الرأي وحرية الدعوة إليه. فالحرية وحدها هي الكفيلة بانتصار الحق وبتقدم العالم نحو الكمال في وحدته العليا، وكل حرب على الحرية تمكين للباطل ونشر لجيوش الظلام لتقضي على جذوة النور المضيئة في النفس الإنسانية، والتي تصل بينها وبين الكون كله، من أزله إلى أبده، صلة اتساق ومحبة ووحدة، لا صلة نفور وفناء.
هذه الوجهة في التفكير هي التي نزل بها الوحي على محمد منذ الهجرة، وهي التي جعلته جنوحا للسلم، راغبا عن القتال، مقتصدا طول حياته أشد القصد فيه، غير لاجئ إليه إلا لضرورة تقتضيه الدفاع عن الحرية دفاعا عن الدين وعن العقيدة. ألم يقل له أهل يثرب ممن بايعوه في العقبة الثانية حين سمعوا المتجسس عليهم يصيح بقريش ينبهها لأمرهم: «والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا.» فكان جوابه: «لم نؤمر بذلك»؟ ألم تكن أول آية نزلت في القتال:
صفحه نامشخص