الإهداء
سجل المراجع
تعريف بالكتاب
تقديم الكتاب
تقديم الطبعة الثانية
تقديم الطبعة الثالثة1
1 - بلاد العرب قبل الإسلام
2 - مكة والكعبة وقريش
3 - محمد: من ميلاده إلى زواجه
4 - من الزواج إلى البعث
5 - من البعث إلى إسلام عمر
6 - قصة الغرانيق
7 - مساءات قريش
8 - من نقض الصحيفة إلى الإسراء
9 - بيعتا العقبة
10 - هجرة الرسول
11 - أول العهد بيثرب
12 - السرايا1 والمناوشات الأولى
13 - غزوة بدر الكبرى
14 - بين بدر وأحد
15 - غزوة أحد
16 - آثار أحد
17 - أزواج النبي
18 - غزوتا الخندق وبني قريظة
19 - من الغزوتين إلى الحديبية
20 - عهد الحديبية
21 - خيبر والرسل إلى الملوك
22 - عمرة القضاء
23 - غزوة مؤتة
24 - فتح مكة
25 - حنين والطائف
26 - إبراهيم ونساء النبي
27 - تبوك وموت إبراهيم
28 - عام الوفود وحج أبي بكر بالناس
29 - حجة الوداع
30 - مرض النبي ووفاته
31 - دفن الرسول
خاتمة في مبحثين
تقدير وشكر
الإهداء
سجل المراجع
تعريف بالكتاب
تقديم الكتاب
تقديم الطبعة الثانية
تقديم الطبعة الثالثة1
1 - بلاد العرب قبل الإسلام
2 - مكة والكعبة وقريش
3 - محمد: من ميلاده إلى زواجه
4 - من الزواج إلى البعث
5 - من البعث إلى إسلام عمر
6 - قصة الغرانيق
7 - مساءات قريش
8 - من نقض الصحيفة إلى الإسراء
9 - بيعتا العقبة
10 - هجرة الرسول
11 - أول العهد بيثرب
12 - السرايا1 والمناوشات الأولى
13 - غزوة بدر الكبرى
14 - بين بدر وأحد
15 - غزوة أحد
16 - آثار أحد
17 - أزواج النبي
18 - غزوتا الخندق وبني قريظة
19 - من الغزوتين إلى الحديبية
20 - عهد الحديبية
21 - خيبر والرسل إلى الملوك
22 - عمرة القضاء
23 - غزوة مؤتة
24 - فتح مكة
25 - حنين والطائف
26 - إبراهيم ونساء النبي
27 - تبوك وموت إبراهيم
28 - عام الوفود وحج أبي بكر بالناس
29 - حجة الوداع
30 - مرض النبي ووفاته
31 - دفن الرسول
خاتمة في مبحثين
تقدير وشكر
حياة محمد
حياة محمد
تأليف
محمد حسين هيكل
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما
الإهداء
إلى الذين يبتغون الحق لوجه الحق وحده
سجل المراجع
المراجع العربية
القرآن الكريم.
تفصيل آيات القرآن الحكيم، لجول لابوم، نظمه بالعربية محمد فؤاد عبد الباقي.
كتب الحديث.
تفسير الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (مطبعة بولاق الأميرية سنة 1329ه).
أسباب النزول لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، وبهامشه الناسخ والمنسوخ، لأبي القاسم هبة الله بن سلامة أبي النصر (مطبعة هندية سنة 1315ه).
الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، لأبي جعفر النحاس (مطبعة السعادة).
زاد المعاد في هدي خير العباد: لشمس الدين أبي عبد الله الدمشقي المعروف بابن القيم الجوزي (المطبعة اليمنية بمصر سنة 1324ه).
سيرة سيدنا محمد رسول الله، المعروفة بسيرة ابن هشام، لأبي محمد عبد الملك بن هشام (طبعة جتنجن سنة 1274ه بعناية المستشرق وستنفلد).
الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد كاتب الواقدي (بمطبعة برل بليدن سنة 1322ه). عني بطبعه وتصحيحه إدورد سخو
Imp. Brill. Leiden .
المغازي، لأبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي (طبعة البعثة المعمدانية المسيحية بكلكتا سنة 1855م).
تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (مطبعة برل بليدن). عني به بارت ونلدكي.
المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، لأحمد بن محمد بن أبي بكر الخطيب القسطلاني (مطبعة شاهين).
البداية والنهاية في التاريخ، لابن كثير الدمشقي (مطبعة السعادة).
الشفاء للقاضي عياض (نسخة خطية بمكتبة جعفر ولي).
الأصنام، لابن الكلبي (مطبعة دار الكتب المصرية).
الإعلام بأعلام بيت الله الحرام، لقطب الدين النهرواني (مطبعة بركهاوس بليبزج).
أخبار مكة، لأبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي (مطبعة بركهاوس بليبزج
Brockhaus, Leipzig ).
فجر الإسلام للأستاذ أحمد أمين.
في الأدب الجاهلي، للدكتور طه حسين.
قصص الأنبياء، للأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار.
الوحي المحمدي، للسيد محمد رشيد رضا صاحب المنار.
تفسير الفاتحة ومشكلات القرآن، عن الشيخ محمد عبده.
الإسلام والنصرانية، للشيخ محمد عبده (مطبعة المنار).
الرحلة الحجازية: لمحمد لبيب البتانوني.
اليهود في بلاد العرب، للدكتور إسرائيل ولفنسون.
محمد المثل الكامل، للأستاذ محمد أحمد جاد المولى.
الإسلام الصحيح، لمحمد إسعاف النشاشيبي.
فتح العرب لمصر، للدكتور ألفرد بتلر، ترجمة الأستاذ محمد فريد أبي حديد (مطبعة دار الكتب المصرية).
مفتاح كنوز السنة لفنسنك، ترجمة محمد فؤاد عبد الباقي (مطبعة مصر).
الإسلام والتجديد في مصر، تأليف تشارلس آدمز وترجمة الأستاذ عباس محمود.
دائرة معارف القرن العشرين، للسيد محمد فريد وجدي.
المراجع الأجنبية
The Spirit of Islam , by Sayed Ameer Aly.
Life of Mahomet , by Washington Airving.
Life of Mohammed
by Sir William Miur.
The Prophet of the Desert , by Khaled Goba.
Mohammad , by Margliouth.
Heroes, and Hero Worship , by Thomas Garlyle.
La Vie de Mahomet , par Emile Demenghem.
Essai sur L’Histoire des Arabes , par Caussin de Perceval.
L’Islam . Par Lammens.
Les Grands Initiés , par Edouard Schuré.
Dictionnaire Larousse , Art. Mahomet.
Encyclopaedia Britannica ; Art. Mahomet.
Historian’s History of the World .
تعريف بالكتاب
منذ وجد الإنسان على الأرض وهو مشوق إلى تعرف ما في الكون المحيط به من سنن وخصائص، وكلما أمعن في المعرفة ظهرت له عظمة الكون أكثر من ذي قبل، وظهر ضعفه وتضاءل غروره. ونبي الإسلام صلوات الله عليه شبيه بالوجود. فقد جد العلماء منذ أشرقت الأرض بنوره يتلمسون نواحي العظمة الإنسانية فيه، ويتلمسون مظاهر أسماء الله جلت قدرته في عقله وخلقه وعلمه. ومع أنهم استطاعوا الوصول إلى شيء من المعرفة، فقد فاتهم حتى الآن كمال المعرفة؛ وأمامهم جهاد طويل، وبعد شاسع، وطريق لا نهاية له.
والنبوة هبة الله لا تنال بالكسب؛ لكن حكمة الله وعلمه قاضيان بأن تمنح للمستعد لها والقادر على حملها. الله أعلم حيث يجعل رسالته. ومحمد أعد لأن يحمل الرسالة للعالم أجمعه، أحمره وأسوده، إنسه وجنه، وأعد لأن يحمل رسالة أكمل دين، ولأن يختم به الأنبياء والرسل، وليكون شمس الهداية وحده إلى أن تنفطر السماء وتنكدر النجوم، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات.
عصمة الأنبياء في التبليغ وأداء أمانة الوحي قضية فرغ العلماء منها؛ فليس للأنبياء فضل الاختيار في التبليغ وأداء الأمانة بعد طبعهم بخاتم النبوة واختيارهم لها. وهذا التبليغ نتيجة حتمية للنبوة لا مرد لها. غير أن الوحي لا يلازم الأنبياء في كل عمل يصدر عنهم وفي كل قول يبدر منهم؛ فهم عرضة للخطأ، يمتازون عن سائر البشر بأن الله لا يقرهم على الخطأ بعد صدوره، ويعاتبهم عليه أحيانا.
أمر محمد بأن يبلغ عن ربه، ولم تبين له الطرق التي يتبعها في التبليغ وفي حماية الدعوة، وترك له أن يتصرف بعقله وعمله وفطنته، كما يتصرف غيره من العلماء والعقلاء. وجاء الوحي مفصلا قاطعا في كل ما يخص ذات الإله ووحدته وصفاته وكيفية عبادته؛ ولم يكن كذلك فيما يخص النظم الاجتماعية للأسرة والقرية والمدينة والدولة منفردة ومرتبطة بغيرها من الدول. فهناك مجال واسع للبحث عن عظمة النبي قبل الوحي، وهناك مدى فسيح للبحث عن تلك العظمة بعد الوحي. فقد صار مبلغا عن ربه داعيا إليه، حاميا لتلك الدعوة ولحرية الداعين، مدافعا عنهم؛ وأصبح حاكم الأمة الإسلامية وقائد حربها ومفتيها وقاضيها ومنظم جميع الصلات والروابط فيها، وبينها وبين غيرها من الأمم. وقد أقام العدل في ذلك كله، وألف بين أمم وطوائف ما كان العقل يسيغ إمكان التأليف بينها؛ وظهرت الحكمة والرصانة وبعد النظر وكمال الفطنة وسرعة الخاطر وقوة الحزم في كل ما صدر عنه من قول أو فعل، وتفجرت منه ينابيع العلم والمعرفة، وينابيع البلاغة التي يطأطئ البلغاء رءوسهم أمامها إجلالا وهيبة؛ وفارق الدنيا وهو راض عن عمله مرضي من الله ومن المسلمين.
وكل هذه النواحي تستحق الدرس والتمحيص، وليس في مقدور شخص واحد أن يفيها حقها، بل ليس في مكنة شخص واحد أن يوفي على الغاية في ناحية من هذه النواحي.
وسيرة محمد صلوات الله عليه وعلى آله - كسائر العظماء - أضيف إليها ما ليس منها، إما عن حب وهوى وحسن قصد، وإما عن سوء قصد وحقد. غير أنها تمتاز عن سير العظماء جميعهم بأن منها شيئا كثيرا ضمه الوحي الإلهي وضمن حفظه القرآن المطهر، وشيئا كثيرا روي على لسان الحفاظ الثقات من المحدثين، وعلى هذه الأسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة، وأن يستنبط العلماء منها حكمها وأسرارها ودقائقها، وأن تحلل التحليل العلمي النزيه، ملاحظا في ذلك ظروف الوسط وحال البيئة ونواحيها المختلفة من عقائد ونظم وعادات.
وقد أخرج الدكتور هيكل للناس كتابه «حياة محمد» في سيرة محمد، ويسر لي أن أطلع على جزء منه قبل إتمام طبعه. والدكتور هيكل معروف لقراء اللغة العربية، غني بآثاره فيها عن التعريف. وقد درس القانون واطلع على المنطق والفلسفة، ومكنته ظروفه وطبيعة عمله من الاتصال بالثقافة القديمة والثقافة الحديثة، وأوفى منهما على حظ عظيم، وناظر وجادل وهجم ودافع في المعتقدات والآراء وقواعد الاجتماع وفي السياسة وغيرها، فنضج عقله وكمل علمه واتسع اطلاعه وامتد أفقه، فأصبح ينافح عن آرائه بمنطق قوي وحجج باهرة وأسلوب اختص به لا تخفى نسبته إليه. بهذه الثقافة وهذه القوة نسج الدكتور كتابه وقال في مقدمته: لست مع ذلك أحسب أني أوفيت على الغاية من البحث في حياة محمد؛ بل لعلي أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث في العربية على الطريقة الحديثة. وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكرت ما بين دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة من شبه قوي. فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثا أن تمحو من نفسك كل رأي وكل عقيدة سابقة في هذا البحث، وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية. فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كله كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها. وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر، وها هي ذي مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته.
أما أن هذه الطريقة طريقة القرآن فذلك حق لا ريب فيه، فقد جعل العقل حكما والبرهان أساس العلم، وعاب التقليد وذم المقلدين، وأنب من يتبع الظن وقال:
إن الظن لا يغني من الحق شيئا
وعاب تقديس ما عليه الآباء، وفرض الدعوة بالحكمة لمن يفقهها. ولم تكن معجزة محمد القاهرة إلا في القرآن، وهي معجزة عقلية. وما أبدع قول البوصيري:
لم يمتحنا بما تعيا العقول به
حرصا علينا، فلم نرتب ولم نهم
وأما أن هذه الطريقة حديثة، فهذا ما يعتذر عنه. وقد ساير الدكتور غيره من العلماء في هذا؛ ذلك لأنها طريقة القرآن كما اعترف هو، ولأنها طريقة علماء سلف المسلمين. انظر كتب الكلام ترهم يقررون أن أول واجب على المكلف معرفة الله، فيقول آخرون: لا، إن أول واجب هو الشك. ثم إنه لا طريق للمعرفة إلا البرهان. وهو وإن كان نوعا من أنواع القياس إلا أنه يجب أن تكون مقدماته قطعية حسية، أو منتهية إلى الحس، أو مدركة بالبداهة أو معتمدة على التجربة الكاملة أو الاستقراء التام، على ما هو معروف في المنطق. وكل خطأ يتسرب إلى إحدى المقدمات أو إلى شكل التأليف مفسد للبرهان.
وقد جرى الإمام الغزالي على الطريقة نفسها. وقد قرر في أحد كتبه أنه جرد نفسه من جميع الآراء ثم فكر وقدر، ورتب ووازن، وقرب وباعد، وعرض الأدلة وهذبها وحللها؛ ثم اهتدى بعد ذلك كله إلى أن الإسلام حق، وإلى ما اهتدى إليه من الآراء. وقد فعل هذا ليجافي التقليد، وليكون إيمانه إيمان المستيقن المعتمد على الدليل والبرهان، ذلك الإيمان الذي لا يختلف المسلمون في صحته ونجاة صاحبه.
وأنت واجد في كتب الكلام في مواضع كثيرة حكاية تجريد النفس عما ألفته من العقائد، ثم البحث والنظر. فطريق التجريد طريق قديم، وطريق التجربة والاستقراء طريق قديم، والتجربة والاستقراء التام وليدا الملاحظة، فليس هناك جديد عندنا، ولكن هذه الطريقة القديمة بعد أن نسيت في التطبيق العلمي والعملي في الشرق، وبعد أن نشأ التقليد وأهدر العقل، وبعد أن أبرزها الغربيون في ثوب ناضج وأفادوا منها في العلم والعمل، رجعنا نأخذها عنهم ونراها طريقة في العلم جديدة.
هذا القانون العلمي في البحث معروف قديما وحديثا. والمعرفة سهلة ولكن العمل عسير. ولا يتفاوت الناس كثيرا في معرفة القانون، ولكنهم يتفاوتون جد التفاوت في تطبيق القانون.
تجريد النفس والملاحظة والتجربة والموازنة والاستنباط كلمات سهلة؛ لكن الإنسان الرازح تحت أحمال الوراثة في دمه وعقله، وأحمال البيئة في البيت والقرية والمدينة والدولة والمدرسة، وأحمال المعتقدات والمزاج والصحة والمرض والشهوات، كيف يسهل عليه تطبيق القانون؟ هذا هو موضع الداء قديما وحديثا، وهو سبب تعدد المذاهب والآراء وسبب تبدلها وتنقلها من قطر إلى قطر، ومن أمة إلى أمة. والفلسفة والآداب تبدل ثيابها على تعاقب الأجيال كما تبدل النساء أزياءها، وقل أن تجد فيها شيئا يصونه حرز أو يقيه حصن؛ بل سرى التبدل إلى قواعد العلم التي لم تكن طوال الأجيال الماضية موضعا للشك. ونظرية النسبية اضطرب لها العلماء وسرعان ما قام من يهدمها. والآراء في الأمراض وأسبابها وطرق علاجها وفي التغذية لا تزال مطية للتبدل والتحول. وهكذا إذا أنعمنا النظر لا نجد أمانا لما أنتجه العقل وحده إلا ما كان البرهان بشروطه متوافرا فيه. ولكن ما نسبة هذه الأشياء التي يتوافر فيها البرهان إلى غيرها مما تمليه الظنون وتسطره الأوهام وتمجه الأذهان المريضة، وتفرضه السياسة؛ ويبدعه العلماء الذين يجدون كل اللذة في مخالفة غيرهم وإحداث هذه المذاهب والآراء! ولعل هذه الحيرة ستخفف غلواء العلماء المعتزين بالعقل وحده، وتلويهم يوما من الأيام إلى الدخول في حمى الحق وحصن اليقين؛ وهو الوحي الصادق، وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة المطهرة.
نعود بعد هذا إلى الدكتور هيكل وكتابه.
يقول بعض علماء الكلام: إن الاطلاع على علم تشريح الأفلاك وعلم تشريح الإنسان يدل أوضح الدلالة على شمول العلم الإلهي لدقائق الوجود. وأنا أقرر أيضا أن العلم والكشف عن سنن الوجود وعجائبه سيكون نصير الدين، وسيقرب إلى العقل الإنساني طريق فهم ما كان غامضا مبهما، وما كان فوق طاقة العقل إدراكه من قبل، مصداقا لقوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد .
والكهربا وما نشأ عنها من المخترعات قربت إلى العقل فهم إمكان تحول المادة إلى قوة وتحول القوة إلى مادة. وعلم استحضار الأرواح فسر للناس شيئا كثيرا مما كانوا فيه يختلفون، وأعان على فهم تجرد الروح وإمكان انفصالها وفهم ما تستطيعه من السرعة في طي الأبعاد، وقد انتفع الدكتور هيكل بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء فأتى بشيء طريف.
ويطول بي القول إذا أنا عرضت لما في كتاب الدكتور هيكل من حسنات، وحسبي أن أنبه إلى تلك الحسنات إجمالا، وسيدرك الناس جماله بأنفسهم ويستمتعون بلذة نتاج الفكر تهديه الأسانيد الصحيحة، ويهديه المنطق الدقيق وتسعده الفطرة الصادقة، وسيرون أن الدكتور كان مخلصا الإخلاص كله للحقيقة، عامر القلب بما في الوحي المحمدي من هدى ونور، وبما في سيرة النبي من جمال وجلال وعظمة وعبرة، مطمئنا كل الاطمئنان إلى أن هذا الدين المحمدي سينقذ البشر مما هم فيه من الحيرة، وينشلهم من ظلمة المادة ويبصرهم بنور الإيمان، ويوجههم إلى النور الإلهي، فيدركون به سعة رحمته التي وسعت كل شيء ، وعظمة مجده الذي تسبح به السموات والأرض وكل شيء فيهما ، وعزته التي تتضاءل أمامها الموجودات. ألا تراه يقول: «وأذهب أبعد مما تقدم فأقول: إن هذا البحث جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي نلتمسها. وإذا كانت نصرانية الغرب تستكبر أن تجد النور الجديد في الإسلام ورسوله وتلتمس هذا النور في «ثيوزوفية» الهند وفي مختلف مذاهب الشرق الأقصى، فإن رجال هذا الشرق من المسلمين واليهود والنصارى خليقون بأن يقوموا بهذه البحوث الجليلة بالنزاهة والإنصاف اللذين يكفلان وحدهما الوصول إلى الحق.
فالتفكير الإسلامي على أنه تفكير علمي على الطريقة الحديثة في صلة الإنسان بالحياة المحيطة به، هو من هذه الناحية واقعي بحت، ينقلب تفكيرا ذاتيا حين يتصل الأمر بصلات الإنسان بالكون وخالق الكون.»
ويقول: «لكن طلائع القضاء على الوثنية التي تتحكم في عالمنا الحاضر وتوجه الحضارة الحاكمة فيه تبدو واضحة لكل من يتتبع سير العالم وأحداثه. فلعل هذه الطلائع تتواتر وتقوى دلالتها إذا انجلت أمام العالم تلك المسائل الروحية بالتخصص لدراسة حياة محمد وتعاليمه وعصره، والثورة الروحية التي انتشرت في العالم كأثر من آثاره.»
وهذا الاطمئنان يؤيده الواقع؛ فإن ما يرى الآن من عناية الغرب ببحث آثار الشرق، ومن عناية علمائه بدراسة الإسلام من نواحيه المختلفة ودراسة تاريخه وأممه قديما وحديثا، ومن إنصاف بعضهم للنبي، وما أيدته التجارب من أن الحق لا محالة غالب؛ كل ذلك يرشدنا إلى أن الإسلام سينشر لواءه على العالم وسيكون أشد الناس عداوة له اليوم هم أشد الناس غيرة عليه ودفاعا عنه، وسيكون هؤلاء الغرباء عنه هم أنصاره وأهله، وكما نصره أول أمره الغرباء عن البيئة التي نشأ فيها، فسينصره آخر الأمر الغرباء عن لغته ووطنه. وقد بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء!
وإذا كان النبي خاتم الأنبياء وليس للعالم بعده هاد مرشد، وكان دينه أكمل دين بنص الوحي القاطع، فلا يمكن أن يقف أمره على ما هو عليه الآن، ولا بد أن يمحو نوره نور غيره كما تمحو الشمس أضواء غيرها من الكواكب.
وقد وفق الدكتور في تنسيق الحوادث وربط بعضها ببعض ، فجاء كتابه عقدا منضدا وسلسلة متينة محكمة الحلقات. وقد أبدع في بيان الأسباب والأغراض والحكم بيانا قويا واضحا يجعل القارئ مطمئن النفس رضي القلب يستمتع بما يقرأ ويثلج صدره ببرد اليقين، فيملك عليه أمره، ويجبره على متابعة القراءة حتى يوفي على آخر ما بيده من البحث.
وفي الكتاب بحوث قيمة ليست من السيرة، ولكنها اتصلت بها بسبب الإسهاب في بيان أغراضها.
وأختم كلمتي هذه بقول سيد الخلق صلوات الله عليه وعلى آله الأطهار ومن اتبعه: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل علي غضبك، أو تحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.»
15 من فبراير 1935
محمد مصطفى المراغي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
تقديم الكتاب
محمد عليه الصلاة والسلام
بهذا الاسم الكريم تنطق ملايين الشفاه، وله تهتز ملايين القلوب كل يوم مرات. وهذه الشفاه والقلوب به تنطق وله تهتز منذ أربعمائة وألف سنة إلا خمسين. وبهذا الاسم الكريم ستنطق ملايين الشفاه وتهتز ملايين القلوب إلى يوم الدين. فإذا كان الفجر من كل يوم وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. أهاب المؤذن بالناس أن الصلاة خير من النوم. ودعاهم إلى السجود لله والصلاة على رسوله، فاستجاب له الألوف والملايين في مختلف أنحاء المعمورة يحيون بالصلاة رحمة الله وفضله متجليين في مطلع كل نهار. وإذا كانت الظهيرة وزالت الشمس أهاب المؤذن بالناس لصلاة الظهر، ثم لصلاة العصر فالمغرب فالعشاء. وفي كل واحدة من هذه الصلوات يذكر المسلمون محمدا عبد الله ونبيه ورسوله في ضراعة وخشية وإنابة، وهم فيما بين الصلوات الخمس ما يكادون يسمعون اسمه حتى تجف قلوبهم بذكر الله وبذكر مصطفاه. كذلك كانوا وكذلك سيكونون حتى يظهر الله الدين القيم ويتم نعمته على الناس أجمعين.
الإمبراطورية الإسلامية الأولى
ولم يك محمد في حاجة إلى زمان طويل ليظهر دينه وينتشر في الخافقين لواؤه، فقد أكمل الله للمسلمين دينهم قبيل وفاته، ويومئذ وضع هو خطة انتشار الدين فبعث إلى كسرى وإلى هرقل وإلى غيرهما من الملوك والأمراء كي يسلموا، ولم تمض خمسون ومائة سنة من بعد ذلك حتى كان علم الإسلام خفاقا من الأندلس في غرب أوروبا إلى الهند وإلى التركستان وإلى الصين في شرق آسيا؛ وبذلك وصلت الشام والعراق وفارس وأفغانستان - وقد أسلمت كلها - ما بين بلاد العرب ومملكة ابن السماء، كما وصلت مصر وبرقة وتونس والجزائر ومراكش ما بين أوروبا وإفريقية ومبعث محمد عليه السلام. ومن يومئذ إلى يومنا هذا بقي علم الإسلام مرفرفا على هذه الربوع جميعا، خلا الأندلس التي أغارت النصرانية عليها فعذبت أهلها وأذاقتهم ألوانا من الشدة والبأس. ولم يطق أهلها صبرا على الحياة، فعاد منهم من عاد إلى إفريقية، ورد الهول والفزع من ارتد منهم عن دينه ودين أبيه إلى دين العتاة والمعذبين.
على أن ما خسره الإسلام في الأندلس من غرب أوروبا كان له عنه العوض حين فتح العثمانيون القسطنطينية ومكنوا لدين محمد فيها. هنالك امتدت كلمته إلى البلقان كلها، وانبلج نوره في روسيا وفي بولونيا، وخفقت أعلامه على أضعاف ما كانت تخفق عليه من أرض إسبانيا. ومن يوم انتشر الإسلام في صولته الأولى إلى يومنا لم يتغلب عليه من الأديان متغلب، وإن تغلب على أممه من شدائد الظلم وألوان التحكم ما جعلها أشد بالله إيمانا، ولحكمه إسلاما، وفي رحمته وفي غفرانه أملا ورجاء.
الإسلام والمسيحية
هذه القوة التي انتشر الإسلام بها سرعان ما وقفته وجها لوجه أمام المسيحية وقفة نضال مستميت. لقد تغلب محمد على الوثنية، ومحا من بلاد العرب - كما محا خلفاؤه الأولون من بلاد الفرس والأفغان وطائفة كبيرة من بلاد الهند - أثرها. ولقد تغلب خلفاء محمد على المسيحية في الحيرة واليمن والشام ومصر إلى مهد المسيحية مدينة قسطنطين. أفقدر على المسيحية ما قدر على الوثنية من اضمحلال وهي دين كتاب من الأديان التي أشاد بها محمد ونزل الوحي بنبوة صاحبها؟ وهل قدر لهؤلاء العرب - عرب البادية الزاحفين من شبه الجزيرة الصحراوية القاحلة - أن يضعوا أيديهم على حدائق الأندلس وبزنطية وسائر البلاد المسيحية؟ الموت ولا هذا! واستمر القتال بين أتباع عيسى وأتباع محمد قرونا متتالية. ولم يقف القتال عند حرب الأسنة والمدافع، بل تعداها إلى ميادين الجدل والنضال الكلامي. جاء المقاتلون فيها بأسماء عيسى ومحمد، وجعل كل فريق يلتمس الوسيلة لتأليب السواد واستثارة حماسة الجماهير وتعصبها.
المسلمون وعيسى
على أن الإسلام حال بين المسلمين وبين الحط من مقام عيسى، إنه عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبيا، وجعله مباركا أينما كان، وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيا، وبرا بوالدته ولم يجعله جبارا شقيا، فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا. أما المسيحيون فقد جعل الكثيرون منهم يعرضون بمحمد وينعتونه بأوصاف يبرأ منها المهذب من الرجال؛ شفاء لما في نفوسهم من غل، واستفزازا وحفزا لشهوات الناس الدنيا. وعلى رغم ما يقال من أن الحروب الصليبية وضعت أوزارها منذ مئات السنين ظل تعصب الكنيسة المسيحية على محمد على أشده إلى عصور قريبة. ولعله كذلك ما يزال إن لم يك أشد، وإن كان خفيا يعمل في ظلمات التبشير بالدون من الوسائل. ولم يقف الأمر عند الكنيسة بل تعداها إلى كتاب وفلاسفة في أوروبا وفي أمريكا لم تك تصلهم بالكنيسة صلة تذكر.
المسيحيون المتعصبون ومحمد
ولقد يعجب الإنسان أن يظل تعصب المسيحية على الإسلام بهذه الشدة في عصر يزعمون أنه عصر النور والعلم، وأنه لذلك عصر التسامح وسعة الأفق، ويزداد الإنسان عجبا إذ يذكر المسلمين الأولين وكيف كان اغتباطهم بانتصار المسيحية على المجوسية عظيما حين ظفرت جيوش هرقل بأعلام فارس وكسرت عسكر كسرى. فقد كانت فارس صاحبة النفوذ في جنوب شبه جزيرة العرب منذ أخرج كسرى الأحباش من اليمن. ثم إن كسرى وجه جيوشه - سنة 614 ميلادية - تحت إمرة قائد من قواده يدعى شهر براز
1
لغزو الروم، فظهر عليهم حين التقى بهم بأذرعات وبصرى، أدنى الشام إلى أرض العرب، فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع زيتونهم. وكان العرب - ولا سيما أهل مكة - يتتبعون أخبار هذه الحرب بتلهف وشغف؛ فقد كانت القوتان المتناحرتان أكبر ما تعرف أمم الأرض يومئذ. وكانت بلاد العرب تجاورهما وتخضع بعض أجزائها لفارس وتتاخم الروم بعض أجزائها الأخرى. وشمت كفار مكة بالمسيحيين وفرحوا لهزيمتهم؛ لأنهم أهل كتاب كالمسلمين، وحاولوا أن يلصقوا بدينهم عار اندحارهم. أما المسلمون فشق عليهم أمر الروم لأنهم أهل كتاب مثلهم، فكان محمد وأصحابه يكرهون أن يظهر المجوس عليهم. وأدى هذا الخلاف بين مسلمي مكة وكفارها إلى تنادر الفريقين وإلى تهكم الكفار بالمسلمين، حتى أبدى أحدهم من السرور أمام أبي بكر ما غاظه ودفعه إلى أن يقول: لا تعجل بالمسرة، فسيأخذ الروم بثأرهم. وأبو بكر معروف بالهدوء ووداعة النفس. فلما سمع الكافر قوله أجابه متهكما: كذبت. فغضب أبو بكر وقال: كذبت أنت يا عدو الله! وهذا رهان عشرة جمال على أن تغلب الروم المجوس قبل عام. وعرف محمد أمر هذا الرهان فنصح إلى أبي بكر أن يزيد في الرهان وأن يطيل المدة. فزاد أبو بكر في الرهان إلى مائة بعير إن هزمت الفرس قبل تسع سنين. وانتصر هرقل سنة 625 وهزم فارس واسترد منها الشام، واستعاد الصليب الأعظم، وكسب أبو بكر رهانه. وفي النبوءة بهذا النصر نزل قوله تعالى في صدر سورة الروم:
الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
2
المبادئ الأولية في الدينين
كان اغتباط المسلمين يومئذ بانتصار هرقل والنصارى عظيما، وظلت صلة الإخاء بين الذين اتعبوا محمدا والذين آمنوا بعيسى عظيمة طوال حياة النبي وإن تكرر بين الفريقين ما كان من مجادلة، على خلاف ما كان بين المسلمين واليهود من تهادن أول الأمر ثم عداوة استمرت وكان لها من الآثار والنتائج الدامية ما أجلى اليهود عن شبه جزيرة العرب جمعاء. ومصداق ذلك قوله تعالى:
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون .
3
ثم إنك لترى الدينين يصوران الحياة والخلق صورة تكاد تكون واحدة، وهما في تصوير الإنسانية ومبدأ خلقها سواء: خلق الله آدم وحواء وأسكنهما الجنة، وأوحى إليهما ألا يسمعا إلى نزغ الشيطان فيأكلا من الشجرة فيخرجهما من الجنة. والشيطان عدوهما الذي أبى أن يسجد لآدم فيما أوحاه الله لمحمد، والذي أبى أن يقدس كلمة الله، على رواية كتب النصارى المقدسة، ووسوس الشيطان لحواء وزين لها، فزينت لآدم فأكلا من شجرة الخلد فبدت لهما سوءاتهما، فاستغفرا ربهما فبعثهما على الأرض بعض ذريتهم لبعض عدو، يغريهم الشيطان فيضل قوم ويقاوم الهلاك آخرون. ولتقوى الإنسانية على حرب الغواية بعث الله نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى، والنبيين. وبعث مع كل رسول كتابا بلسان قومه مصداقا لما بين يديه ليبين لهم. وكما يقوم في صف الشيطان أنصاره من أرواح الشر، تقوم الملائكة تسبح بحمد ربها وتقدس له. وهؤلاء وأولئك يتنازعون أسباب الحياة والكون جميعا حتى يوم البعث، يوم تجزى كل نفس بما كسبت ولا يسأل حميم حميما.
الخلاف بينهما: التوحيد والتثليث
وإنك لتجد في القرآن من ذكر عيسى ومريم وإكرام الله لهما وتقديمه إياهما ما تشعر معه حق الشعور بهذا الإخاء، وما يجعلك تسائل: ما بال المسلمين والنصارى إذن ظلوا على القرون خصوما متقاتلين؟ والجواب عن سؤالك أن بين الإسلام والنصرانية خلافا على مسائل أساسية كانت موضع جدل شديد في عهد النبي، وإن لم يتعد الأمر الجدل إلى العداوة والبغضاء. فالنصرانية لا تقر بنبوة محمد كما يقر الإسلام بنبوة عيسى، والنصرانية تقول بالتثليث، والإسلام ينكر كل ما سوى التوحيد أشد الإنكار. والنصارى يؤلهون عيسى ويتلمسون الدليل على ألوهيته في أنه تكلم في المهد وأوتي من المعجزات ما لم يؤته غيره مما هو من عمل الخالق جل شأنه. وهم كانوا أيام الإسلام الأولى يحاجون المسلمين في ذلك بالقرآن ويقولون : أوليس يقر القرآن الذي نزل على محمد رأينا حتى يقول:
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل * ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين .
4
فالقرآن قد ذكر إذن أنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين طيرا، ويخبر بالغيب، وكل هذه خصائص إلهية. هذا رأي نصارى عهد النبي الذين كانوا يحاجونه ويجادلونه ويذهبون إلى أن عيسى إله مع الله. ولقد ذهبت طائفة منهم إلى تأليه مريم أن ألقى الله إليها بكلمته. وكان أصحاب هذا الرأي من نصارى ذلك العهد يعتبرون مريم ثالث الثلاثة: الأب والابن والروح القدس. ولم يكن أصحاب هذا القول بألوهية عيسى وأمه إلا طائفة من طوائف النصرانية الكثيرة المتفرقة يومئذ شيعا وأحزابا.
مجادلة النصارى للنبي
كان نصارى شبه الجزيرة يجادلون محمدا على اختلاف نحلهم على أساس مذاهبهم. فكانوا يقولون إن المسيح هو الله، ويقولون هو ولد الله، ويقولون هو ثالث ثلاثة، وكان القائلون بألوهيته يحتجون بما سبق بيانه، ويحتج القائلون بأنه ولد الله بأنه لم يكن له أب يعلم، وأنه تكلم في المهد صبيا مما لم يقع لأحد من بني آدم، ويحتج القائلون بأنه ثالث ثلاثة بأن الله يقول: أمرنا وخلقنا وقضينا، ولو كان واحدا لقال: أمرت وخلقت وقضيت. وكان محمد يستمع لهم جميعا ويجادلهم بالتي هي أحسن. وهو لم يكن في جادلهم يشتد شدته في جدال المشركين وعباد الأصنام، بل كان يحاجهم بالوحي من طريق المنطق ومن كتبهم وما جاء فيها؛ فالله تعالى يقول:
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير * وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .
5
وقال تعالى:
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم
6
وقال جل شأنه:
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
7
تقول المسيحية بالتثليث وبأن عيسى ابن الله، والإسلام ينكر إنكارا صريحا باتا أن يكون لله ولد.
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد .
8
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه .
9
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .
10
والإسلام دين توحيد في أشد معاني التوحيد صفاء وقوة، وفي أشد معاني التوحيد بساطة ووضوحا. وكل ما يمكن أن يلقى ظلا على فكرة التوحيد أو صورته ينكره الإسلام ويراه كفرا.
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
11
فمهما يكن للصورة المسيحية في التثليث من صلة تاريخية ببعض الأديان القديمة فهي ليست من الحق عند محمد في شيء. إنما الحق هو الله وحده، لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فلا عجب إذن أن تكون بين محمد ونصارى عهده تلك المجادلة بالتي هي أحسن، وأن يؤيد الوحي محمدا بما تلوت من الآيات.
مسألة صلب المسيح
ومسألة أخرى يختلف فيها الإسلام والنصرانية، وكانت مثار جدل بينهما في عهد النبي: تلك مسألة صلب عيسى ليفتدي بدمه خطايا الخلق. فالقرآن صريح في نفي أن اليهود قتلوا المسيح أو صلبوه، إذ يقول:
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما .
12
ولئن كانت فكرة افتداء المسيح بدمه خطايا إخوته من بني آدم جميلة لا ريب، ويستحق ما كتب فيها دراسة من نواحيه الشعرية والخلقية والنفسية، لقد كان المبدأ الذي قرره الإسلام من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن كل امرئ يوم القيامة مجزي بأعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، يجعل التقريب المنطقي بين العقيدتين غير ممكن، ويجعل منطق الإسلام من الدقة بحيث لا تجدي معه محاولات التوفيق، مع التناقض الواضح بين فكرة الافتداء وفكرة الجزاء الذاتي.
لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا .
13
الروم والمسلمون
هل فكر أحد من نصارى يومئذ في هذا الدين الجديد وفي إمكان التوفيق بين فكرة التوحيد فيه وبين ما جاء به عيسى؟ نعم، وآمن به منهم كثيرون. ولكن الروم الذين اغتبط المسلمون بنصرهم واعتبروه نصرا للأديان الكتابية؛ لم يكلف سادتهم أنفسهم مئونة البحث في الدين الجديد ، ولم يلبثوا أن نظروا إلى الأمر من ناحيته السياسية، وفكروا فيما يصيب ملكهم إذا تم للدين الجديد الغلب. ولذلك بدءوا يأتمرون به وبأهله، حتى أرسلوا جيشا عرمرما عدته مائة ألف في رواية، ومائتا ألف في رواية أخرى، مما أدى إلى غزوة تبوك. وقد انسحب فيها الروم أمام المسلمين الذين خرجوا ومحمد على رأسهم لدفع عدوان لم يكن له ما يسوغه.
من يومئذ وقف المسلمون والنصارى موقف خصومة سياسية حالف النصر فيها المسلمين قرونا متتالية امتدت إمبراطوريتهم في أثنائها إلى الأندلس غربا وإلى الهند والصين شرقا. وآمنت أكثر أجزاء هذه الإمبراطورية بالدين الجديد واستقرت فيها لغته العربية. فلما آن لدورة التاريخ أن تدور، طرد النصارى المسلمين من الأندلس، وحاربوهم الحروب الصليبية، وأخذوا يطعنون في دينهم ونبيهم طعنا كله فحش وكذب وافتراء؛ ونسوا في فحشهم ما بلغ محمد عليه الصلاة والسلام في أحاديثه، وما بلغ القرآن في الوحي الذي نزل عليه، من رفع مقام عيسى عليه السلام إلى المستوى الذي رفعه الله إليه.
كتاب المسيحية ومحمد
جاء في موسوعة لاروس الفرنسية خلال العرض لآراء كتاب المسيحية إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر ممن نالوا من محمد شر نيل ما يأتي: «بقي محمد مع ذلك ساحرا ممعنا في فساد الخلق، لص نياق، كردينالا لم ينجح في الوصول إلى كرسي البابوية، فاخترع دينا جديدا لينتقم من زملائه. واستولى القصص الخيالي والخليع على سيرته. وسيرة باهوميه (محمد) تكاد تقيم أدبا من هذا النوع. وقصة محمد التي نشرها رينا وفرانسيسك ميشيل سنة 1831 تصور لنا الفكرة التي كانت لدى أهل العصور الوسطى عنه. وفي القرن السابع عشر نظر بيل في تاريخ أدب القرآن نظرة تاريخية. مع ذلك ظلت مقررات ظالمة ثابتة في نفسه عنه. على أنه يعترف مع ذلك بأن النظام الخلقي والاجتماعي الذي أقامه لا يختلف عن النظام المسيحي لولا القصاص وتعدد الزوجات.»
وإن واحدا من المستشرقين الذين عرضوا لحياة محمد بشيء من الإنصاف - ذلك هو الكاتب الفرنسي إميل درمنجم - ليذكر بعض هذا الذي كتب إخوانه في الدين فيقول:
14 «لما نشبت الحرب بين الإسلام والمسيحية اتسعت هوة الخلاف وسوء الفهم بطبيعة الحال وازدادت حدة. ويجب أن يعترف الإنسان بأن الغربيين كانوا السابقين إلى أشد الخلاف. فمن البزنطيين من أوقروا الإسلام احتقارا من غير أن يكلفوا أنفسهم - فيما خلا جان داماسيين - مئونة دراسته. ولم يحارب الكتاب والنظامون مسلمي الأندلس إلا بأسخف المثالب. فقد زعموا أن محمدا لص نياق، وزعموه متهالكا على اللهو، وزعموه ساحرا، رئيس عصابة من قطاع الطرق، بل زعموه قسا رومانيا مغيظا محنقا أن لم ينتخب لكرسي البابوية ... وحسبه بعضهم إلها زائفا يقرب له عباده الضحايا البشرية. وإن جبير دنوجن نفسه - وهو رجل جد - ليذكر أن محمدا مات في نوبة سكر بين؛ وأن جسده وجد ملقى على كوم من الروث وقد أكلت منه الخنازير، وذلك ليفسر السبب الذي من أجله حرم لحم ذلك الحيوان. وذهبت الأغنيات إلى حد أن جعلت محمدا صنما من ذهب وجعلت المساجد الإسلامية برابي ملأى بالتماثيل والصور! وقد تحدث واضع أغنية أنطاكية حديث من رأى صنم «ماحوم» مصنوعا من ذهب ومن فضة خالصين وقد جلس فوق فيل على مقعد من الفسيفساء. أما أغنية رولان التي تصور فرسان شارلمان يحطمون الأوثان الإسلامية فتزعم أن مسلمي الأندلس يعبدون ثالوثا مكونا من ترفاجان وماهوم وأبلون. وتحسب «قصة محمد» أن الإسلام يبيح للمرأة تعدد الأزواج!
وقد ظلت حياة الأحقاد والخرافات قوية متشبثة بالحياة. فمنذ رودلف دلوهيم إلى وقتنا الحاضر قام نيكولا دكيز، وفيفس، ومراتشي، وهوتنجر وبيلياندر، وبريدو وغيرهم، فوصفوا محمدا بأنه دجال، والإسلام بأنه مجموعة الهرطقات كلها وأنه من عمل الشيطان، والمسلمين بأنهم وحوش، والقرآن بأنه نسيج من السخافات، وقد كانوا يعتذرون عن الحديث الجد في أمر هذا مبلغ سخافته. مع ذلك فإن بيير المحترم (فنرابل) مؤلف أول رسالة غربية ضد الإسلام قد ترجم القرآن في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية. وفي القرن الرابع عشر كان بيير باسكال من الذين توسعوا في الدراسات الإسلامية. وقد وصف إنوسان الثامن محمدا يوما بأنه عدو المسيح. أما القرون الوسطى فلم تكن تحسب محمدا إلا هرطيقا. وكان لريمون ليون في القرن الثامن عشر، ولغليوم بستل في القرن السادس عشر، ولرولان وجانييه في القرن الثامن عشر، وللقسيس دبرجلي ولرينان في القرن التاسع عشر آراء وأحكام مختلفة. على أن الكونت بولنفلييه وشول وكوسان دبرسفال ودوزي وسبرنجر وبارتملي سانتيلير ودكاستري وكارليل وغيرهم يظهرون على وجه الإجمال إنصافا للإسلام ونبيه، ويشيدون في بعض الأحيان بهما. مع ذلك فإن دروتي يتحدث في سنة 1876 عن محمد قائلا: «هذا الأعرابي المنافق القذر.» كما طعن عليه فوستر من قبل سنة 1822. وما زال للإسلام حتى اليوم محاربون متحمسون.»
أرأيت الحضيض الذي هوت إليه هذه الطائفة من كتاب الغرب؟ أرأيت إصرارهم - مع توالي القرون - على الضلال وعلى إثارة العداوة والبغضاء بين أبناء الإنسانية؟! ومن هؤلاء من جاءوا في العصور التي يسمونها عصور العلم والبحث والتفكير الحر وتقرير الإخاء بين الإنسان والإنسان. قد يخفف من أثر الضلال قيام أولئك المنصفين إلى حد ما، ممن أشار إليهم درمنجم، ومنهم من يقر بصدق إيمان محمد بالرسالة التي عهد الله إليه تبليغها من طريق الوحي، ومنهم من يشيد بعظمة محمد الروحية وبسمو خلقه ورفعة نفسه وجم فضائله، ومن يصور ذلك في أقوى أسلوب وأتمه روعة. وإن بقي الغرب مع ذلك ينال من الإسلام ونبيه أشد النيل، ثم تبلغ منه الجرأة حتى يبث المبشرين في أنحاء البلاد الإسلامية يذيعون مثالبهم الوضيعة، ويحاولون صرف المسلمين عن دينهم إلى المسيحية.
سبب الخصومة بين الإسلام والمسيحية
يجب لذلك أن نبحث عن السبب الذي ترجع إليه هذه الخصومة الهوجاء وهذه الحرب العنيفة التي تثيرها المسيحية على الإسلام. وعندنا أن جهل الغرب بحقيقة الإسلام وبسيرة النبي في مقدمة ما يدعو إلى هذه الخصومة. والجهل - ولا ريب - من أعقد أسباب الجمود والتعصب وأشدها استعصاء.
الجهل والتعصب
ولقد تراكم هذا الجهل على مر القرون، وقامت له في نفوس الأجيال تماثيل وأوثان يحتاج تحطيمها إلى قوة روحية كبرى كقوة الإسلام أول ظهوره، على أنا نحسب أن ثمة سببا غير الجهل هو الذي دفع أهل الغرب إلى هذا التعصب وإلى إثارة الحرب الضروس الشعواء التي أثاروها ويثيرونها على الإسلام وعلى المسلمين آنا بعد آن. وليس ينصرف ذهننا إلى ما قد يدور بالخاطر من صروف السياسة وحب الظفر بالشعوب لاستغلالها: فتلك في اعتقادنا نتيجة لا سبب لهذا التعصب المستعصي حتى على العلم وعلى بحوثه.
المسيحية لا تلائم طبيعة الغرب
أما السبب في رأينا فيرجع إلى أن المسيحية، وما تدعو إليه من الزهد في الحياة واعتزال العالم ومن العفو والمغفرة ومن المعاني النفسانية السامية، ليست مما يلائم طبيعة الغرب الذي عاش ألوف السنين على دين تعدد الآلهة، والذي يدعوه مركزه الجغرافي إلى حياة الكفاح لمغالبة الزمهرير والضنك وسوء الحال. فإذا قضت الظروف التاريخية عليه بأن يدين بالمسيحية فلا مفر له من أن يسبغ عليها ثوب الكفاح، وأن يخرجها بذلك عن طبيعتها السمحة الجميلة، وأن يفسد فيها هذا التناسق الروحي الذي يجعل منها حلقة في سلسلة الوحدة التي أتمها الإسلام: هذه الوحدة التي تؤاخي بين الروح والجسد وتزاوج بين العاطفة والعقل، وتسلك الفرد والإنسانية جميعا في نظام الكون على أنهما بعض منه متسق وإياه في لا نهاية الزمان والمكان. هذا في رأينا هو مرجع السبب في تعصب الغرب في موقفه من الإسلام موقفا تجافت الحبشة المسيحية عنه حين احتمى المسلمون بها أول ما دعا النبي إلى دين الله.
وإلى هذا السبب في رأيي، يرجع إغراق الغربيين وغلوهم في التدين وفي الإلحاد جميعا، إغراق تعصب وكفاح لا يعرف الهوادة ولا يعرف التسامح. وإذا كان التاريخ قد عرف منهم قديسين احتذوا في حياتهم مثال السيد المسيح والحواريين، فإن التاريخ قد عرف كذلك أن حياة أمم الغرب كانت دائما حياة نضال وكفاح وحروب دامية باسم السياسة أو باسم الدين، وعرف أن بابوات الكنيسة وأرباب السلطة الزمنية كانوا في نزاع دائم يغالب بعضهم بعضا، فيتغلب هذا يوما ويتغلب ذاك يوما آخر. ولما كان الفوز في القرن التاسع عشر قد تم للسلطة الزمنية، حاولت هذه السلطة أن تقضي على الحياة الروحية باسم العلم، وأن تزعم أن العلم سيحل من الحياة الإنسانية محل الإيمان من الحياة الروحية. وها هي ذي عرفت اليوم، بعد جهاد طويل، سوء رأيها، وأن ما قصدت إليه مستحيل تحقيقه. والصيحة تعلو اليوم من جوانب الغرب المختلفة يريد أهله حياة روحية أضاعوها، فهم يتلمسونها في الثيوزوفية وغير الثيوزوفية.
15
ولو أن المسيحية كانت تلائم غرائز الكفاح التي تنشأ بحكم الطبيعة كجزء من حياة أهل الغرب، لرأيتهم - وقد شعروا بعجز الفكرة المادية عن أن تلهمهم المدد الروحي - يعودون إلى الدين المسيحي الجميل دين عيسى ابن مريم، إن لم يهدهم الله إلى الإسلام، ولما كانوا في حاجة إلى هذه الهجرة إلى الهند وإلى غيرها يستمدون منها حياة روحية يشعر الإنسان بالحاجة إليها حاجته إلى التنفس؛ لأنها بعض طبعه، بل لأنها بعض نفسه وكيانه.
الاستعمار والدعوة ضد الإسلام
وقد عاون الاستعمار الغربي أهله على الاستمرار في الحملة التي أثاروها على الإسلام وعلى محمد، ودعاهم ليقولوا ما قال أهل مكة حين أرادوا أن يحملوا النصرانية عار هزيمة هرقل والروم أمام فارس، فقد قالوا - ولا يزال الكثيرون منهم يقولون - إن الإسلام هو السبب في انحطاط الشعوب الآخذة به وفي خضوعهم لغيرهم. وهذه فرية يكفي لإدحاضها أن يذكر قائلها أن الشعوب الإسلامية ظلت صاحبة الحضارة الغالبة وصاحبة السيادة على العالم المعروف كله قرونا متوالية، وأنها كانت محط رجال العلم والعلماء، وموئل الحرية التي لم يعرفها الغرب إلا من أمد قريب. فإذا أمكن أن ينسب انحطاط طائفة من الشعوب إلى الدين الذي تؤمن به فلا يكون هذا الدين الإسلام، وهو الذي حفز بدو شبه جزيرة العرب وأثارهم ومكن لهم من حكم العالم.
الإسلام وما صارت إليه الشعوب الإسلامية
على أن لهؤلاء الذين يحملون الإسلام وزر انحطاط الشعوب الإسلامية من العذر أن أضيف إلى دين الله شيء كثير لا يرضاه الله ورسوله، واعتبر من صلب الدين ورمي من ينكره بالزندقة. وندع الدين جانبا ونقف عند سيرة صاحبه عليه الصلاة والسلام. فقد أضافت أكثر كتب السيرة إلى حياة النبي ما لا يصدقه العقل ولا حاجة إليه في ثبوت الرسالة، وما أضيف من ذلك قد اعتمد عليه المستشرقون واعتمد عليه الطاعنون على الإسلام ونبيه وعلى الأمم الإسلامية واتخذوه تكأتهم في مطاعنهم المثيرة لنفس كل منصف. اعتمدوا عليه وعلى ما ابتدعوه من عندهم وما زعموا أنهم يكتبونه على الطريقة العلمية الحديثة، هذه الطريقة التي تعرض الحوادث والناس والأبطال فتصدر بعد ذلك حكمها عادلا إن هي رأت لإصدار حكم محلا. فإذا أنت وقفت عند ما كتبه هؤلاء رأيته تمليه شهوة الجدل والتجريح، مصوغا في عبارة لا تخلو من براعة تستهوي إخوانهم في العقيدة إلى الظن بأن البحث العلمي المجرد النزاع إلى الحقيقة وحدها يريد أن يستشفها من وراء كل الحجب، هو الذي وجه هؤلاء المتعصبين من الكتاب والمؤرخين. على أن السكينة التي ينزلها الله على نفوس الراضين من الناس، كتابا وعلماء، قد أدت بآخرين من أحرار الفكر ومن المسيحيين ليكونوا أدنى إلى العدل وأحرص على النصفة.
الجمود والاجتهاد عند المسلمين
ولقد قام بعض علماء المسلمين في ظروف مختلفة فحاولوا إدحاض مزاعم أولئك المتعصبين من أبناء الغرب. واسم الشيخ محمد عبده هو أنصع الأسماء في هذا الصدد. لكنهم لم يسلكوا الطريقة العلمية التي زعم أولئك الكتاب والمؤرخون الأوروبيون أنهم يسلكونها لتكون لحجتهم قوتها في وجه خصومهم.
أثر الجمود في الشباب
ثم إن هؤلاء العلماء المسلمين - والشيخ محمد عبده في مقدمتهم - قد اتهموا بالإلحاد والكفر والزندقة، فأضعف ذلك من حجتهم أمام خصوم الإسلام. ولقد كان اتهامهم هذا عميق الأثر في نفوس شباب المسلمين المتعلمين. شعر هؤلاء الشبان بأن الزندقة تقابل حكم العقل ونظام المنطق في نظر جماعة من علماء المسلمين، وأن الإلحاد عندهم قرين الاجتهاد، كما أن الإيمان قرين الجمود؛ لذلك جزعت نفوسهم وانصرفوا يقرءون كتب الغرب يتلمسون فيها الحقيقة، اقتناعا منهم بأنهم لن يجدوها في كتب المسلمين. وهم لم يفكروا في كتب المسيحية والتاريخ المسيحي بطبيعة الحال؛ إنما فزعوا إلى كتب الفلسفة يتلمسون في أسلوبها العلمي ري ما في نفوسهم من ظمأ محرق للحق، وفي منطقها ضياء للجذوة المقدسة الكمينة في النفس الإنسانية، ووسيلة إلى الاتصال بالكون وحقيقته العليا. وهم واجدون في كتب الغرب، سواء منها كتب الفلسفة وكتب الأدب الفلسفي وكتب الأدب نفسه، الشيء الكثير مما يغري الإنسان بالأخذ به، لروعة أسلوبها ودقة منطقها وما يظهر فيها من صدق القصد وخالص التوجه إلى المعرفة ابتغاء الحق. لذلك انصرفت نفوسهم عن التفكير في الأديان كلها وفي الرسالة الإسلامية وصاحبها، حرصا منهم على ألا تثور بينهم وبين الجمود حرب لا ثقة لهم بالانتصار فيها، ولأنهم لم يدركوا ضرورة الاتصال الروحي بين الإنسان وعوالم الكون اتصالا يرتفع به الإنسان إلى أرقى مراتب الكمال وتتضاعف به قوته المعنوية.
علم الغرب وأدبه
انصرف هؤلاء الشبان عن التفكير في الأديان كلها وفي الرسالة الإسلامية وصاحبها. وزادهم انصرافا ما رأوا العلم الواقعي والفلسفة الواقعية (الوضعية) يقررانه من أن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق ولا تدخل في حيز التفكير العلمي، وأن ما يتصل بها من صور التفكير التجريدي (الميتافيزيقي) ليس هو أيضا من الطريقة العلمية في شيء. ثم إنهم رأوا الفصل بين الكنيسة والدولة واضحا صريحا في البلاد الغربية، ورأوا البلاد التي تقرر دساتيرها أن ملكها هو حامي البروتستنتية أو الكثلكة، أو تقرر أن دين الدولة الرسمي المسيحية، لا تقصد من ذلك إلى أكثر من مظاهر الأعياد والمواسم وما يتصل بها؛ فازدادوا انخراطا في هذا التفكير العلمي وحرصا على الأخذ منه ومما يتصل به من فلسفة وأدب وفن بأوفر نصيب. فلما آن لهم أن ينتقلوا من الدرس إلى الحياة العملية، شغلتهم هذه الحياة عن التفكير في المسائل التي انصرفوا من قبل عن التفكير فيها، وظل اتجاههم الفكري في تياره الأول، ينظر إلى الجمود العقلي مشفقا مزدريا، وينهل من ورد التفكير الغربي والفلسفة الغربية، فيجد فيهما لذة ويزداد بهما إعجابا وعلى ما نهل صدر شبابه منهما حرصا.
وليس ريب في أن الشرق اليوم في حاجة أشد الحاجة إلى النهل من ورد الغرب في التفكير وفي الأدب والفن. فقد قطع ما بين حاضر الشرق الإسلامي وماضيه قرون من الجمود والتعصب غشت على تفكيره السليم القديم بطبقة كثيفة من الجهل وسوء الظن بكل جديد. فلا مفر لمن يريد أن يصهر هذه الطبقة من الاستعانة بأحدث صور التفكير في العالم، ليستطيع من هذه السبيل أن يصل بين الحاضر الحي وثروة الماضي وتراثه العظيم.
جهود التجديد الإسلامي
ومن الحق علينا للغرب أن نقول: إن ما يقوم به علماؤه اليوم من بحوث نفيسة في تاريخ الدراسات الإسلامية والدراسات الشرقية، قد مهد لأبناء الإسلام وأبناء الشرق أن يتزيدوا من هذه البحوث في تلك الدراسات وأن يكونوا أكبر رجاء في الاهتداء إلى الحق؛ فهم أقرب بطبعهم إلى حسن إدراك الروح الإسلامي والروح الشرقي. وما دام التوجيه الجديد قد بدأ في الغرب، فواجب عليهم أن يتابعوه وأن يصححوا أغلاطه وأن يبثوا فيه الروح الصحيح الذي يعيده إلى الحياة ويصله بالحاضر، لا على أنه مجرد دراسة وبحث، بل على أن ميراث روحي وعقلي يجب أن يتمثله الوارثون، وأن يضيفوا إليه، وأن يزيدوا سنا ضيائه بما يزيد الحقيقة الكامنة فيه ضياء ونورا.
المبشرون والجامدون
وقد توفر منهم كثيرون على هذه البحوث يقومون اليوم بها على الطريقة العلمية الصحيحة؛ والمستشرقون أنفسهم يقدرون لهم ذلك ويشيدون بفضلهم فيه.
وبينا يقوم هذا التعاون العلمي الجديد بأن يؤتي خير الثمرات، إذا بنشاط رجال الكنيسة المسيحية لا يفتر في الطعن على الإسلام وعلى محمد طعنا لا يقل عما تلوت منه فيما سبقت الإشارة إليه. والاستعمار الغربي يؤيد بقوته أصحاب هذه المطاعن باسم حرية الرأي، مع أن أصحاب هذه المطاعن قد أجلوا عن بلادهم وحيل بينهم وبين ما يسمونه تثبيت الإيمان في نفوس إخوانهم في الدين. وهذا الاستعمار يؤيد كذلك دعاة الجمود من المسلمين. وكذلك تضافر عمل الاستعمار على تأييد ما دس على الإسلام مما يبرأ الإسلام منه، وعلى سيرة الرسول من خرافات لا يسيغها العقل ولا يقبلها الذوق، وعلى تأييد الطاعنين على الإسلام وعلى محمد بما دس على الإسلام وعلى سيرة الرسول.
كيف فكرت في وضع هذا الكتاب؟
أتاحت لي ظروف حياتي العملية أن أرى ذلك كله في مختلفة بلاد الشرق الإسلامي، بل في البلاد الإسلامية كلها، وأن أتبين ما يقصد إليه من القضاء على الروح المعنوية في هذه البلاد بالقضاء على حرية الرأي وحرية البحث ابتغاء الحقيقة. وقد شعرت بأن علي واجبا أقوم به في هذا الموضوع لإفساد الغاية التي ترمي هذه الخطة إليها، والتي تضر الإنسانية كلها ولا يقف ضررها عند الإسلام والشرق. وأي أذى يصيب الإنسانية أكبر من العقم والجمود يصيبان نصفها الأكبر والأعرق في الحضارة على حقب التاريخ؟! ولذلك فكرت في هذا وأطلت التفكير، وهداني تفكيري آخر الأمر إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية، وهدف مطاعن المسيحية من ناحية، وجمود الجامدين من المسلمين من الناحية الأخرى، على أن تكون دراسة علمية على الطريقة الغربية الحديثة، خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده.
بدأت أراجع تاريخ محمد، وأعيد النظر في سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد ومغازي الواقدي، وعدت إلى كتاب سيد أمير علي (روح الإسلام)، ثم حرصت على أن أقرأ ما كتب بعض المستشرقين، فقرأت كتاب درمنجم وكتاب وشنطن إرفنج، ثم انتهزت فرصة وجودي بالأقصر في شتاء سنة 1932 وبدأت أكتب. ولقد ترددت يومئذ في أن أجعل البحث الذي أطالع قرائي به من وضعي أنا خيفة ما قد يقوم به أنصار الجمود والمؤمنون بالخرافات من ضجة تفسد علي ما أريد. لكن ما لقيت من إقبال وتشجيع من طائفة شيوخ المعاهد، وما أبدى لي بعضهم من ملاحظات تدل على العناية بالبحث الذي أقوم به، جعلني أفكر تفكيرا جديا في إنفاذ ما اعتزمت من كتابة حياة محمد على الطريقة العلمية الصحيحة كتابة مفصلة، ودعاني إلى التفكير في أمثال الوسائل لتمحيص السيرة تمحيصا علميا جهد ما أستطيع.
القرآن أصدق مرجع
ولقد تبينت أن أصدق مرجع للسيرة إنما هو القرآن الكريم؛ فإن فيه إشارة إلى كل حادث من حياة النبي العربي يتخذها الباحث منارا يهتدي به في بحثه، ويمحص على ضيائه ما ورد في كتب السنة وما جاء في كتب السيرة المختلفة. وأردت جاهدا أن أقف على كل ما ورد في القرآن متصلا بحياة النبي؛ فإذا معونة صادقة في هذا الباب يقدمها إلي الأستاذ أحمد لطفي السيد الموظف بدار الكتب المصرية، هي مجموعة وافية مبوبة لآيات القرآن المتصلة بحياة من أوحي الكتاب الكريم إليه. وأخذت أدقق في هذه الآيات، فرأيت أن لا بد من الوقوف على أسباب نزولها وأوقات هذا النزول ومناسباته. وأعترف بأني - على ما بذلت في ذلك من جهد - لم أوفق لكل ما أردت منه. فكتب التفسير تشير أحيانا إليه وتهمل هذه الإشارة في أكثر الأحايين. ثم إن كتاب «أسباب النزول» للواحدي، وكتاب «الناسخ والمنسوخ» لابن سلامة، إنما تناولا هذا الموضوع الجليل الجدير بكل تدقيق واستيفاء تناولا موجزا. على أنني وقفت فيهما وفيما رجعت إليه من كتب التفسير على مسائل عدة استطعت أن أمحص بها ما ورد في كتب السيرة، ووجدت فيهما وفي كتب التفسير نفسها أشياء جديرة بمراجعة العلماء المتبحرين في علوم الكتاب والسنة وتحقيقهم إياها من جديد تحقيقا دقيقا.
المشورة الصادقة
ولما تقدم بي البحث بعض الشيء ألفيت المشورة الصادقة تصل إلي من كل صوب، ومن ناحية الشيوخ أكثر من كل ناحية أخرى بطبيعة الحال. وكانت المعونة الكبرى معونة دار الكتب ورجالها الذين أمدوني من ألوان المعونة بما لا يفي الشكر بحسن تقديره. ويكفي أن أذكر أن الأستاذ عبد الرحيم محمود المصحح بالقسم الأدبي بدار الكتب كان يكفيني مئونة الذهاب إلى الدار في كثير من الأحيان ويستعير لي ما أريد استعارته من الكتب مشمولا بعطف مدير الدار وكبار القائمين بالأمر فيها؛ وأن أذكر أني في كل مرة ذهبت إلى الدار كنت أجد أجمل العون في البحث عما أريد البحث فيه من موظفي الدار كبارا وصغارا، من عرفت منهم ومن لم أعرف. ثم إنه كانت تستغلق علي بعض المسائل أحيانا فأفضي إلى من آنس فيه المعرفة من أصدقائي بما استغلق علي فأجد في كثير من الأحيان خير العون. وجدت ذلك غير مرة عند الأستاذ الأكبر محمد مصطفى المراغي، ووجدته عند صديقي الضليع جعفر (باشا) والي الذي أعارني عدة كتب كصحيح مسلم وتواريخ مكة، ودلني على غير مسألة من المسائل وهداني إلى موضعها، وقد أعارني صديقي الأستاذ مكرم عبيد (باشا) كتاب المستشرق السير وليم موير «حياة محمد» وكتاب الأب لامنس «الإسلام». هذا إلى ما وجدت من عون في مؤلفات المعاصرين القيمة ككتاب «فجر الإسلام» للأستاذ أحمد أمين، و«قصص الأنبياء» للأستاذ عبد الوهاب النجار، و«في الأدب الجاهلي» للدكتور طه حسين، و«اليهود في بلاد العرب» لإسرائيل ولفنسن، وغير هذه من كتب المعاصرين كثير ذكرته في بيان المراجع القديمة والحديثة التي استعنت بها على وضع هذا الكتاب.
ولقد كنت كلما ازددت توسعا في البحث أرى مسائل تنجم أمامي وتستدعي التكفير ومزيدا من البحث لحلها. وكما عاونتني كتب السير وكتب التفسير في الاهتداء إلى غاية من تفكيري أطمئن إليها، عاونتني كذلك كتب المستشرقين في الاهتداء إلى غاية أطمئن إليها. على أنني رأيتني مضطرا في كل المواقف لأقصر بحثي في حدود حياة محمد نفسه ما لم أضطر إلى تناول مسائل أخرى متصلة بهذا البحث اضطرارا. ولو أنني أردت أن أبحث كل ما اتصل بهذه الحياة الفياضة العظيمة، لاحتاج الأمر إلى وضع مجلدات عدة في حجم هذا الكتاب. ويحسن أن أذكر أن كوسان دبرسفال وضع ثلاثة مجلدات بعنوان «رسالة في تاريخ العرب»، جعل المجلدين الأولين منها في تاريخ قبائل العرب وحياتها، وجعل الثالث عن محمد وخليفتيه الأولين أبي بكر وعمر. وطبقات ابن سعد تقع في مجلدات كثيرة يتناول جزؤها الأول حياة محمد، وسائر أجزائها حياة أصحابه. ولم يكن غرضي أول ما بدأت البحث ليتجاوز حياة محمد، فلم أرد في أثنائه أن أتركه يتشعب فيحول ذلك بيني وبين الغاية التي إليها قصدت.
في حدود السيرة لا أتعداها
وشيء آخر كان يمسكني في حدود هذه الحياة؛ ذلك روعة جلالها وباهر ضيائها جلالا وضياء يتوارى دونهما كل ما سواهما. فما كان أعظم أبا بكر! وما كان أعظم عمر؛ إذ كان كل منهما في خلافته علما يحجب سواه! وما أشد ما كان للسابقين الأولين إلى صحبة محمد من عظمة ثبتت على الأجيال وهي بعد مما تفاخر به الأجيال. لكن بهؤلاء جميعا كانوا يستظلون أثناء حياة النبي بجلال عظمته ويستضيئون بباهر لألائه. فليس من اليسير على من يبحث في سيرة الرسول أن يدعها لشيء سواها. وهو أشد شعورا بذلك إذا تناول البحث على الطريقة العلمية الحديثة على نحو ما حاولت أن أفعل؛ هذه الطريقة التي تجلو عظمة محمد على نحو يبهر العقل والقلب والعاطفة جميعا، ويغرس فيها من الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها ما لا يختلف فيه المسلم وغير المسلم.
وأنت إذا طرحت جانبا أولئك المتعصبين الحمقى الذين جعلوا النيل من محمد دأبهم كالمبشرين وأشباههم، فإنك واجد هذا الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها في كتب العلماء المستشرقين واضحين جليين. عقد كارليل في كتابه «الأبطال» فصلا عن محمد صور فيه الجذوة الإلهية المقدسة التي أوحت إلى محمد ما أوحت فصور العظمة في جلال قوتها. وموير، وإرفنج، وسبرنجر، وفيل، وغيرهم من المستشرقين والعلماء قد صور كل واحد منهم عظمة محمد تصويرا قويا وإن وقف هذا أو ذاك منهم عند مسائل اعتبرها مآخذ على صاحب الرسالة الإسلامية، لغير شيء إلا أنه لم يمتحنها ولم يمحصها التمحيص العلمي الدقيق، ولأنه اعتمد فيها على ما ورد في بعض كتب السيرة أو كتب التفسير من الروايات المضطربة، متناسيا أن أول كتب السيرة إنما كتب بعد قرنين من عصر محمد دست أثناءهما في سيرته وفي تعاليمه إسرائيليات كثيرة، ووضعت أثناءهما ألوف الأحاديث المكذوبة. ومع أن المستشرقين يقررون هذه الحقيقة، تراهم لا يأبون مع ذلك تناسيها ليقرروا أمورا يعتبرونها صحيحة مع أن أقل التمحيص ينفيها. من ذلك مسألة الغرانيق، ومسألة زيد وزينب، ومسألة أزواج النبي، مما أتيح لي امتحانه وتمحيصه في هذا الكتاب.
الكتاب بداءة البحث
لست مع ذلك أحسبني أوفيت على الغاية من البحث في حياة محمد. بل لعلي أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث في العربية على الطريقة العلمية الحديثة، وأن ما بذلت في هذه السبيل من مجهود لا يخرج هذا الكتاب عن أنه بداءة البحث من ناحية علمية إسلامية في هذا الموضوع الجليل. وإذا كان جماعة من العلماء والمؤرخين قد انقطعوا لبحث عصر من العصور، كما انقطع أولار في فرنسا لبحث عصر الثورة الفرنسية، وكما انقطع غيره من العلماء لبحث عصر أو عصور معينة من التاريخ في مختلف الأمم، فحياة محمد جديرة بأن ينقطع لبحثها على طريقة علمية جامعية أكثر من أستاذ يتخصص فيها ويتوفر عليها. وليس يساورني شك في أن الانقطاع والبحث العلمي، في هذه الفترة القصيرة من حياة بلاد العرب واتصالها بحياة الأمم المختلفة في ذلك العصر، تؤتي نتائجه العالم كله، لا الإسلام والمسلمين وحدهم، خير الثمرات. فهي تجلو أمام العلم كثيرا من المسائل النفسية والروحية فضلا عما تفيض عليه من ضياء في نواحي الحياة الاجتماعية والخلقية والتشريعية لا يزال العلم يتردد أمامها متأثرا بهذا النزاع الديني بين الإسلام والنصرانية، وبهذه المحاولات العقيمة التي يقصد منها إلى «تغريب» الشرقيين أو تنصير المسلمين، مما ثبت على الأجيال إخفاقه واستحالته وسوء أثره في علاقات أجزاء الإنسانية المختلفة بعضها ببعض.
فائدة البحث إنسانية عامة
وأذهب إلى أبعد مما تقدم فأقول: إن هذا البحث جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تتلمسها. وإذا كانت نصرانية الغرب تستكبر أن تجد النور الجديد في الإسلام ورسوله وتشيم هذا النور في ثيوزوفية الهند وفي مختلف مذاهب الشرق الأقصى فإن رجال هذا الشرق من المسلمين واليهود والنصارى جميعا خليقون أن يقوموا بهذه البحوث الجليلة بالنزاهة والإنصاف اللذين يكفلان وحدهما الوصول إلى الحق. فالتفكير الإسلامي - على أنه تفكير علمي الأساس على الطريقة الحديثة في صلة الإنسان بالحياة المحيطة به، وهو من هذه الناحية واقعي بحت - ينقلب تفكيرا ذاتيا حين يتصل الأمر بعلاقة الإنسان بالكون وخالق الكون، ويبدع لذلك في النواحي النفسية والنواحي الروحية آثارا يقف العلم بوسائله حائرا أمامها، لا يستطيع أن يثبتها ولا أن ينفيها، وهو لا يعتبرها حقائق علمية، ثم هي تظل مع ذلك قوام سعادة الإنسان في الحياة ومقومة سلوكه فيها. فما الحياة؟ وما صلة الإنسان بهذا الكون؟ وما حرصه على الحياة؟ وما هي العقائد المشتركة التي تبعث في الجماعات القوة المعنوية التي تضمحل بضعف هذه العقائد المشتركة؟ وما الوجود؟ وما وحدة الوجود؟ وما مكان الإنسان من الوجود ووحدته؟
هذه مسائل خضعت للمنطق التجريدي ووجدت منه أدبا مترامي الأطراف. لكنك تجد حلها في حياة محمد وتعاليمه أدنى لتبليغ الناس سعادتهم من هذا المنطق التجريدي الذي أفنى فيه المسلمون قرونا منذ العهد العباسي، وأفنى فيه الغربيون ثلاثة قرون منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر مما انتهى بالغرب إلى العلم الحديث على نحو ما انتهى بالمسلمين فيما مضى، ثم وقف العلم في الماضي كما أنه مهدد اليوم بالوقوف دون إسعاد الإنسانية. ولا سبيل إلى درك هذه السعادة إلى العود إلى حسن إدراك هذه الصلة الذاتية بالوجود وخالق الوجود في وحدته التي لا تتغير سننها ولا يعتبر للزمان أو المكان فيها إلا وجود نسبي لحياتنا القصيرة. وحياة محمد هي لا ريب خير مثل لدراسة هذه الصلة الذاتية دراسة علمية لمن أراد، ودراسة عملية لمن تؤهله مواهبه أن يحاول هذا الاتصال في مراتب أولية لبعد ما بينه وبين الصلة الإلهية التي أفاء الله على رسوله. وأكبر ظني أن هاتين الدراستين خليقتان، يوم يتاح لهما التوفيق، أن تنقذا عالمنا الحاضر من وثنية تورط فيها على اختلاف عقائده الدينية أو العلمية، وثنية جعلت المال وحده معبودا، وسخرت كل ما في الوجود من علم وفن وخلق ومواهب لعبادته والتسبيح بحمده.
قد يكون هذا التوفيق ما يزال بعيدا. لكن طلائع القضاء على هذه الوثنية التي تتحكم في عالمنا الحاضر، وتوجه الحضارة الحاكمة فيه، واضحة لكل من تتبع سيرة العالم وأحداثه. فلعل هذه الطلائع تتواتر وتقوى دلالتها إذا انجلت أمام العلم تلك المسائل الروحية بالتخصص لدراسة حياة محمد النبي وتعاليمه وعصره والثورة الروحية التي انتشرت في العالم أثرا من آثاره. وإذا أتاحت الدراسة العلمية والدراسة الذاتية لقوى الإنسانية الكمينة مزيدا من اتصال بني الإنسان بحقيقة الكون العليا، كان ذلك الحجر الأول في أساس الحضارة الجديدة.
وهذا الكتاب ليس إلا محاولة بدائية في هذه السبيل كما قدمت. وبحسبي أن يقنع هذا الكتاب الناس بما فيه، وأن يقنع العلماء والباحثين بضرورة الانقطاع والتخصص لبلوغ الغاية من بحث موضوعه. ولو أنه أثمر أيا من هذين الأثرين أو كليهما، لكان ذلك أكبر جزاء أرجو عن المجهود الذي بذلت فيه. والله يجزي المحسنين.
محمد حسين هيكل
تقديم الطبعة الثانية
نفدت طبعة هذا الكتاب الأولى بأسرع من كل ما قدر لها. فقد صدر منها عشرة آلاف نسخة نفد ثلثها بالاشتراك في الكتاب أثناء طبعه. ونفد سائرها خلال ثلاثة أشهر من صدوره، ولقد دل الإقبال على اقتناء هذا الكتاب على عناية القراء بالبحث الذي يحتويه؛ لذلك لم يكن بد من التفكير في إعادة طبعه، وفي إعادة النظر فيه.
ملاحظة على الكتاب
وموضوع الكتاب هو السبب الأول في الإقبال عليه لا ريب. ولعل الطريقة التي عولج الموضوع بها كانت ذات أثر في الإقبال عليه كذلك. وأيا كان السبب فقد سألت نفسي حين فكرت في أمر الطبعة الثانية: أفأعيدها صورة من الطبعة الأولى لا أزيد فيها ولا أنقص منها، أم أرجع إليها بالتنقيح والزيادة والتصحيح فيما تتضح لي ضرورة تصحيحه أو تنقيحه أو الزيادة عليه؟ أشار علي بعض من أقدر مشورتهم أن أجعل الطبعة الثانية صورة من الطبعة الأولى كيما تتحقق المساواة بين الذين يقتنون أيا من الطبعتين، ولكي يتسع لي زمن المراجعة والتنقيح فيما بعد هذه الطبعة الثانية. وكدت آخذ بهذا الرأي. ولو أنني فعلت لكانت هذه الطبعة في أيدي القراء منذ أشهر. غير أني ترددت في الأخذ بهذه المشورة، ثم انتهيت إلى ضرورة التنقيح والزيادة لاعتبارات شتى. وكان أول هذه الاعتبارات بعض ملاحظات تفضل الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي بإبدائها لي حين أطلعته على ما تم طبعه من الكتاب قبل ظهور طبعته الأولى فتفضل بوضع التعريف الذي صدرت الكتاب به ، فلما ظهر الكتاب تفضل بعض الكتاب والعلماء بالتنويه به في الصحف والمجلات وعن طريق الإذاعة، وأبدوا ما عن لهم من الملاحظات عليه. وقد أبديت هذه الملاحظات جميعا بعد الثناء الجم على مجهود بذلته لست أحسبه جديرا بكل هذا التقدير، وأبديت حرصا على ألا تشوب كتابا عن النبي العربي هنة من الهنات ما دام مؤلفه قد وفق في وضعه توفيقا أرضاهم ونال تقديرهم؛ لذلك لم يكن بد من أن أعير هذه الملاحظات ما هي جديرة به من عظيم العناية.
ولعل هذا الرضا والتقدير هما اللذان جعلا طائفة من هذه الملاحظات ترد على مسائل كمالية لا تتصل بجوهر الكتاب ولا بما ورد من الروايات فيه. فمنها ما يرجو أصحابه إيضاح بعض أمور رأوها في حاجة إلى الإيضاح. ومنها ما يرمي إلى مزيد من التدقيق في استعمال حروف الجر، أو إلى اقتراح بعض ألفاظ بدل أخرى يعتقد الذين اقترحوها أنها أدق تعبيرا عن المعنى المقصود، على أن طائفة من الملاحظات انصبت على بعض مباحث الكتاب فدفعتني إلى مزيد من التفكير والمراجعة.
ولشد ما أحرص على أن تكون هذه الطبعة الثانية أدنى إلى إرضاء هؤلاء العلماء جميعا، وإن كنت لا أرى في البحث كله، كما ذكرت في تقديم الكتاب، إلا أنه بداءة بحث في موضوعه باللغة العربية وضع على الطريقة العلمية الحديثة.
ومما أدى بي كذلك إلى تناول الطبعة الأولى بالتنقيح والزيادة، أنني عدت إلى تلاوة الكتاب بعدها. بعد أن وقفت على ما أبدي عليه من ملاحظات لم يغب أكثرها عني أثناء وضع الكتاب، فاقتنعت بضرورة الإفاضة في تمحيص بعض ما وردت الملاحظات عليه لإقناع أصحاب هذه الملاحظات بوجهة نظري وصواب حجتي. وقد هدتني مراجعاتي التي قمت بها لهذه الغاية إلى مواضع للتأمل جديرة بأن يتناولها كل كاتب سيرة النبي العربي. ولئن اغتبطت لأنني تناولت في الطبعة الأولى كل ما أشارت الملاحظات إليه، لأنا اليوم أشد اغتباطا بأن أفيض في بعض المباحث إفاضة أعتبرها ضرورية في هذه الدراسة التمهيدية لحياة أعظم إنسان عرفه التاريخ ، خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام.
وقد حاولت في هذا التقديم لطبعة الكتاب الثانية تمحيص طائفة من الملاحظات التي أبديت على طريقة البحث في الطبعة الأولى. وأضفت في آخر الكتاب فصلين تناولت فيهما أمورا مررت بموضوعها لماما في خاتمة الطبعة الأولى، كما أني نقحت وأضفت في تضاعيف الكتاب ما رأيت تنقيحه أو إضافته بعد الذي هدتني إليه مراجعاتي وتأملاتي، إتماما للبحث وإجابة لأصحاب الملاحظات عن ملاحظاتهم.
أنصار المستشرقين والرد عليهم وما يؤاخذونني به
وفي مقدمة ما أتناوله بالتفنيد رسالة وردت إلي من كاتب مصري ذكر أنها ترجمة عربية لمقال بعث به إلى مجلة المستشرقين الألمانية نقدا لهذا الكتاب. ولم أنشر هذه الرسالة في الصحف العربية لأن بها مطاعن لا سند لها؛ ولذلك تركت لصاحبها أن يتحمل تبعة نشرها إن شاء. ولم أر أن أذكر اسمه في هذا التقديم اقتناعا مني بأنه سيعدل عن نسبتها إليه بعد أن يقرأ تفنيدها. وخلاصة هذه الرسالة أن البحث الذي قمت به في «حياة محمد» ليس بحثا علميا بالمعنى الحديث؛ لأنني اعتمدت فيه على المصادر العربية وحدها، ولم أرجع إلى مباحث المستشرقين الألمان من أمثال «فيل» و«جولدزهر» و«نولدكي» وغيرهم، ولم آخذ بنتائج هذه البحوث؛ ولأني اعتبرت القرآن وثيقة تاريخية لا محل لريبة فيها، مع أن مباحث هؤلاء المستشرقين تدل على أنه حرف وبدل بعد وفاة النبي وفي الصدر الأول للإسلام، واسم النبي بعض ما بدل فيه؛ فقد كان اسمه «قثم» أو «قثامة» ثم أبدل من بعد وصار «محمدا» ليتسنى وضع الآية:
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد . إشارة إلى ما جاء في الإنجيل عن النبي الذي يجيء بعد عيسى. ويضيف الكاتب إلى أقواله هذه أن بحوث المستشرقين دلت كذلك على أن النبي كان يصاب بالصرع، وأن ما كان يسميه الوحي الذي ينزل عليه إنما كان أثرا لنوبات الصرع التي كانت تعتريه، وأن أعراض الصرع كانت تبدو على محمد فكان يغيب عن صوابه، ويسيل منه العرق، وتعتريه التشنجات، وتخرج من فيه الرغوة، فإذا أفاق من نوبته ذكر أنه أوحي إليه، وتلا على المؤمنين به ما يزعم أنه من وحي ربه.
أسباب خطأ المستشرقين
لم أكن لأعنى بهذه الرسالة ولا بتفنيد ما فيها لولا أن كاتبها مصري ومسلم، ولو أنه كان مستشرقا أو مبشرا لتركته ملقى حبله على غاربه، يقول ما تمليه عليه أهواؤه وما تنضح به شهواته، وحسبي ما ذكرت في تقديم الكتاب وفي تضاعيفه إدحاضا لأقوال هؤلاء وأولئك. لكن كاتب هذه الرسالة إنما هو مثل لطائفة من شبابنا ورجالنا المسلمين الذين يتلقون كل ما يقوله المستشرقون بقبول حسن، ويعتبرونه العلم الصحيح المعبر عن الحقيقة الخالصة. وإلى هؤلاء أوجه القول هنا لأحذرهم ما يقع المستشرقون فيه من خطأ. وبعض هؤلاء المستشرقين مخلص في بحثه على رغم خطئه. لكن الخطأ يتسرب إلى بحثه لعدم دقته في إدراك أسرار اللغة العربية تارة، ولما يشوب نفوس طائفة من هؤلاء العلماء من الحرص على هدم مقررات دين من الأديان، أو على هدم مقررات الأديان جميعا، تارة أخرى. وهذا وذاك إسراف كان يجمل بالعلماء أن يجتنبوه. ولقد رأينا مسيحيين دفعهم هذا الإسراف إلى إنكار أن عيسى وجد على التاريخ، ورأينا آخرين تخطوا حدود الإسراف فكتبوا عن جنون عيسى. وإنما دعا إلى هذه النزعة في أوروبا ما بين الكنيسة والدولة من نزاع أدى برجال العلم وبرجال الدين، كل من ناحيته، إلى الحرص على الغلب لاقتناص السلطان والحكم. أما والإسلام بريء من هذا النزاع فليتق الباحثون من أبنائه سلطان هذه الشهوة التي يخضع لها رجال الغرب، والتي تفسد على العلماء بحوثهم أكثر الأمر، ويجب عليهم لذلك أن يأخذوا حذرهم حين يطلعون على ما يصدر عن الغرب من مباحث دينية، وأن يمحصوا كل ما يصوره العلماء على أنه حق. فالكثير منه يتأثر بمقدار غير قليل بهذا الماضي الذي جعل الخصومة متصلة بين رجال الدين ورجال العلم قرونا متوالية.
الاعتماد على كتاب السيرة من المسلمين
وما ورد في رسالة هذا المصري المسلم مما لخصته هنا بالغ الدلالة على وجوب هذا الحذر. فأول ما يأخذه علي أنني اعتمدت على المراجع العربية والإسلامية واتخذتها أساسا لبحثي. ولست أنكر ذلك. على أنني قد رجعت إلى كتب المستشرقين ممن ذكرت في سجل المراجع، لكن المصادر العربية كانت دائما الأساس الأول لهذا البحث الذي قمت به. وهذه المصادر العربية كانت الأساس الأول كذلك لمباحث المستشرقين جميعا. وهذا طبيعي؛ فهذه المصادر - وفي مقدمتها القرآن - هي أول من تحدث عن حياة النبي العربي. فلا جرم أن تكون العمدة والأساس لكل من يريد أن يكتب سيرته بأسلوب العصر وطريقته. و«نولدكي» و«جولدزهر» و«فيل» و«سبرنجر» و«موير» وغيرهم من المستشرقين قد جعلوها عمدتهم في بحثهم كما جعلتها عمدتي في بحثي. وقد أبحت لنفسي في تمحيصها ونقدها ما أباحوه لأنفسهم من حرية، كما أنني لم أغفل بعض ما اعتمدوا عليه من كتب المسيحيين الأقدمين وإن أملاها التعصب الديني للمسيحية ولم يملها النقد العلمي بحال، فإذا لامني لائم لأنني لم أتقيد بالنتائج التي وصل بعض المستشرقين إليها، أو لأنني أبحت لنفسي مخالفتهم ونقدهم، فتلك دعوة إلى الجمود العلمي لا تقل رجعية ولا تأخرا عن أية دعوة إلى الجمود في الميادين العقلية والروحية جميعا. وما أحسب أحدا من المستشرقين أنفسهم يوافق على هذه الدعوة إلى الجمود العلمي، ولو أن أحدهم أقرها لجاز إقرار الدعوة إلى الجمود الديني. وهذا وذاك ما لا أرضاه لنفسي ولا أرضاه لأحد ممن يريدون الاشتغال بالبحوث التاريخية على وجه علمي صحيح. إنما أعمل وأطالب غيري أن يعمل على تمحيص ما يقع عليه من مباحث غيره. فإن اقتنع بها عن بينة وبعد أن يقوم لديه الدليل القاطع عليها فذاك، وإلا فليعمل من ناحيته للوصول إلى الحقيقة حتى يقتنع بأنه وصل إليها. هذا ما أدعو إليه شبابنا ورجالنا المعجبين ببحوث المستشرقين، وهذا ما فعلت؛ ولي أجر المصيب على ما أصبت فيه، ولي عذر الباحث عن الحقيقة مع صدق القصد في توخي السبيل إليها إن أخطأني التوفيق في شيء منه.
المستشرقون والمقررات الدينية
ومن الأدلة على تأثر بعض المستشرقين بحرصهم على هدم المقررات الدينية وإسرافهم في ذلك ما ذهب إليه كاتب الرسالة المصري المسلم من أن مباحث هؤلاء المستشرقين تدل على أن القرآن ليس وثيقة تاريخية لا محل لريبة فيها، وأنه حرف بعد وفاة النبي وفي صدر الإسلام، وأضيفت إليه أثناء ذلك آيات لأغراض دينية أو سياسية. ولست أناقش صاحب الرسالة من ناحية إسلامية فأحاجه، وهو مسلم، بما يقرره الإسلام من أن القرآن كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فهو يذهب مذهب المستشرقين من أن القرآن كتاب وضعه محمد، عن إيمان منه بأن هذا الكتاب وحي الله في رأي طائفة من هؤلاء المستشرقين، وحرصا منه على إثبات رسالته بما يذكر من أن هذا القرآن وحي الله إليه في رأي الآخرين. فلأخاطبه إذن بلغته على أنه من أحرار الفكر الذين لا يريدون أن يتقيدوا إلا بما يثبته العلم إثباتا يقينيا.
فرية تحريف القرآن
هو يعتمد على المستشرقين وما يقولونه. ومن المستشرقين طائفة تزعم بالفعل في أمر القرآن ما نقله عنهم. لكن زعمهم هذا يدل على أنهم إنما تدفعهم إليه أغراض يبرأ منها العلم ولا تخفى على أحد. وحسبك دليلا على ذلك قولهم: إن عبارة
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ، التي وردت في الآية السادسة من سورة الصف، إنما أضيفت بعد وفاة النبي لالتماس الدليل على نبوة محمد ورسالته من الكتب المقدسة السابقة للقرآن، فلو أن الذين قالوا هذا القول من المستشرقين كانوا يخلصون للعلم حقا لما جاءوا إلى مثل هذا التدليل القائم عندهم على أن التوراة والإنجيل كتابان مقدسان بالفعل. فلو أنهم كانوا يريدون العلم للعلم لسووا بين القرآن والكتب المقدسة التي سبقته؛ فإما اعتبروه مقدسا مثلها، فذكره الكتب المقدسة التي عرفها الناس قبله طبيعي لا محل لرفضه، وإما اعتبروا هذه الكتب كما اعتبروا القرآن وقالوا في شأنها ما قالوه في شأنه، وقرروا أن أصحابها وضعوها لأغراض دينية أو سياسية خاصة. ولو أنهم قالوا مثل هذا القول لقضى المنطق بفساد ما ذهبوا إليه من تحريف القرآن لأغراض سياسية أو دينية، فما كان للمسلمين أن يلتمسوا الحجة من هذه الكتب بعد أن اطمأن ملكهم ودانت لهم الإمبراطورية المسيحية كما دان لهم غيرها من أمم الأرض، وبعد أن دخل المسيحيون في الإسلام أفواجا بل أمما كاملة. هذا هو المنطق الذي يقتضيه البحث العلمي النزيه. أما اعتبار التوراة والإنجيل مقدسين، ونفي هذه الصفة عن القرآن فأمر لا يسوغه العلم. وأما القول بتحريفه التماسا للحجة من التوراة والإنجيل فهراء لا يقره التاريخ ولا يرضاه المنطق.
والذين زعموا هذا الزعم الفاسد من المستشرقين هم قلة بين أشد المستشرقين تعصبا. أما كثرتهم فيقرون بأن القرآن الذي نتلوه اليوم هو بعينه القرآن الذي تلاه محمد على المسلمين أثناء حياته، لم يحرف ولم يبدل. وهم يحرصون على أن يذكروا هذا وإن أضافوا إليه من عبارات النقد للنظام الذي جمع القرآن به ولترتيب السور فيه ما لا يدخل تمحيصه في نطاق هذا البحث. وقد تناول المشتغلون بعلوم القرآن من المسلمين أوجه النقد هذه ودفعوها. أما ما نحن الآن في صدده فحسبنا فيه أن نقتطف بعض ما ذكره المستشرقون عنه، لعله يقنع المصري المسلم الذي نناقش ها هنا رسالته، ولعله يقنع الذين يفكرون على شاكلته.
موير ينكر هذه الفرية
وما أورده المستشرقون من ذلك كثير، نختار منه بعض ما كتبه السير وليم موير في كتابه «حياة محمد» ليرى هؤلاء الذين أسرفوا على التاريخ وعلى أنفسهم شدة ما أسرفوا حين اطمأنوا إلى ما قيل عن تحريف القرآن وتبديله. وموير مسيحي شديد الحرص على مسيحيته والدعوة إليها، شديد الحرص لذلك على ألا يدع موضعا لنقد نبي الإسلام وكتابه دون الوقوف عنده ومحاولة دعمه.
الذاكرة العربية
يقولو سير وليم موير، عند كلامه عن القرآن ودقة وصوله إلينا، ما ترجمته: «كان الوحي المقدس أساس أركان الإسلام، فكانت تلاوة ما تيسر منه جزءا جوهريا من الصلوات اليومية عامة أو خاصة، وكان القيام بهذه التلاوة فرضا وسنة يجزى من يؤديهما جزاء دينيا صالحا. ذلك كان جماع الرأي في السنة الأولى ، وهو ما يستفاد كذلك من الوحي نفسه. لذلك وعت القرآن ذاكرة كثرة المسلمين الأولين إن لم يكونوا جميعا. وكان مبلغ ما يستطيع أحدهم تلاوته بعض المميزات الجوهرية في العهد الأول للإمبراطورية الإسلامية. وقد يسرت عادات العرب هذا العمل؛ فقد كانوا ذوي ولع بالشعر عظيم. ولما كانت الوسائل لتحرير ما يفيض عن شعرائهم في غير متناول اليد، فقد اعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم على صفحات قلوبهم. بذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النمو، ثم تناولت القرآن بكل ما أدت إليه يقظة الروح إذ ذاك من حرص وإقبال. ولقد بلغ بعض أصحاب النبي من قوة الذاكرة ودقتها ومن التعلق بحفظ القرآن واستذكاره حدا استطاعوا معه أن يعيدوا بدقة يقينية كل ما عرف منه إلى يوم كانوا يتلونه.»
تحرير القرآن في عهد النبي
على الرغم من هذه القوة التي امتازت بها الذاكرة العربية، فقد كنا في حل من ألا نولي ثقتنا مجموعة ذلك كل مصدرها. لكن لدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد أن أصحاب النبي دونوا أثناء حياته نسخا شتى لأجزاء مختلفة من القرآن، وأن هذه النسخ سجلت القرآن، سجلته كله تقريبا. فقد كانت الكتابة معروفة على وجه عام بمكة قبل نبوة محمد بزمن غير قليل. وكان النبي قد استعمل على تحرير الكتب والرسائل أكثر من واحد من أصحابه بالمدينة. وقد فك إسار الفقراء من أسرى بدر مقابل قيامهم بتعليم أنصار المدينة الكتابة. ومع أن أهل المدينة لم يكونوا مثقفين ثقافة أهل مكة، فقد عرفت مقدرة الكثيرين منهم على الكتابة قبل الإسلام. ومن اليسير مع ثبوت هذه المقدرة على الكتابة، أن نستنبط غير مخطئين أن الآيات التي وعتها الذاكرة بدقة قد سجلتها الكتابة بمثل هذه الدقة.
ثم إنا نعرف أن محمدا كان يبعث إلى القبائل التي تدخل في الإسلام واحدا أو أكثر من أصحابه لتعليمهم القرآن وتفقيههم في الدين. وكثيرا ما نقرأ أن هؤلاء المبعوثين كانوا يحملون معهم أوامر مكتوبة في شأن الدين. ولقد كانوا يحملون ما نزل به الوحي بطبيعة الحال، وخاصة ما اتصل منه بشعائر الإسلام وقواعده، وما يتلى منه أثناء العبادة. والقرآن نفسه ينص على وجوده مكتوبا. وتنص كتب السيرة، حين تذكر إسلام عمر، على وجود نسخة من السورة المتمة للعشرين (سورة طه) في حيازة أخته وأسرتها. وكان إسلام عمر قبل الهجرة بثلاث سنوات أو أربع. فإذا كان الوحي يدون ويتبادل في العصر الأول، حين كان المسلمون قليلين وحين كانوا يسامون العذاب، فمن المقطوع به أن النسخ المكتوبة كثر عددها وتداولها حين بلغ النبي أوج السلطة وحين صار كتابه قانون العرب جميعا.
الرجوع إلى النبي عند الخلاف
كذلك كان شأن القرآن أثناء حياة النبي، وكذلك كان شأنه إلى عام بعد وفاته: بقي مسطورا في قلوب الذين آمنوا به مسجلة أجزاؤه المختلفة في نسخ كانت تزداد كل يوم عددا. وكان لزاما أن يتطابق هذان المصدران تمام التطابق. فقد كان القرآن منظورا إليه، حتى في حياة النبي، برهبة اليقين بأنه كلام الله ذاته. لذلك كان كل خلاف على نصه يرجع فيه إلى النبي نفسه كي يزيله. ولدينا أمثلة من ذلك؛ إذ رجع إلى النبي عمرو بن مسعود وأبي بن كعب. فلما قبض النبي كان يرجع عند الخلاف إلى النصوص المكتوبة، وإلى ذاكرة أصحاب النبي الأقربين وكتاب وحيه.
الجمع الأول للقرآن
فلما فرغ من أمر مسيلمة، في حروب الردة، كانت مذبحة اليمامة قد أتت على كثير من المسلمين ومن بينهم عدد كبير من خير حفاظ القرآن، هنالك ساورت عمر المخاوف في أمر الكتاب ونصوصه وما ربما يعلق بها من ريبة إذا أصاب المقدور من اختزنوه في ذاكرتهم فماتوا جميعا. إذ ذاك توجه إلى الخليفة أبي بكر بقوله: «أخشى أن يستحر القتل كرة أخرى بين حفاظ القرآن في غير اليمامة من المغازي وأن يضيع لذلك كثير منه. والرأي عندي أن تسارع فتأمر بجمع القرآن.» وأقر أبو بكر هذا الرأي، وأفضى برغبته في إنفاذه إلى زيد بن ثابت كبير كتاب النبي وقال: «إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله، فتتبع القرآن فاجمعه.» وإذا كان هذا العمل حدثا غير متوقع فقد اضطرب زيد بادئ الرأي، وخامره الريب في صلاحية الإقدام عليه، بل في مشروعيته. فلم يقم به محمد نفسه ولم يأمر أحدا بالقيام به. على أنه انتهى إلى النزول على ما أبدى أبو بكر وعمر من رغبة ملحة. وجهد في جمع السور وأجزائها من كل جانب، حتى لقد جمع ما كان منها على ورق الشجر وعلى الحجر الأبيض وفي صدور الرجال. ويضيف بعضهم أنه جمع كذلك منها ما كان على الورق وعلى الجلد وعلى عظام الكتف والضلع من الإبل والماعز. وظفرت جهود زيد المتصلة خلال سنتين أو ثلاث بجمع هذه المادة كلها وترتيبها على النحو الذي هي عليه اليوم، وعلى النحو الذي كان زيد يتلو عليه القرآن في حضرة محمد فيما يقولون. فلما كملت النسخة الأولى عهد بها عمر إلى صيانة حفصة ابنته وزوج النبي. وظل هذا الكتاب الذي جمعه زيد قائما طيلة خلافة عمر على أنه النص الصادق الصحيح.
مصحف عثمان
على أن الخلاف لم يلبث أن بدأ في طريقة التلاوة، ناشئا إما عن الخلاف السابق لنسخة زيد، وإما عن تحريف تسرب إلى النسخ التي نقلت عن نسخته. وفزع العالم الإسلامي لذلك أيما فزع. فالوحي الذي نزل من السماء «واحد» فأين الآن وحدته؟ ولقد حارب حذيفة في إرمينية وفي أذربيجان ولاحظ اختلاف القرآن عند السوريين عنه عند أهل العراق، فجزع لتعدد ذلك ولمبلغ ما بينه من خلاف، إذ ذاك فزع إلى عثمان كيما يتدخل «ليقف الناس حتى لا يختلفوا على كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى.» واقتنع الخليفة. وليدفع الضر لجأ كرة أخرى إلى زيد بن ثابت وعززه بثلاثة من قريش، وجيء بالنسخة الأولى من حيازة حفصة، وعرضت القراءات المختلفة من أنحاء الإمبراطورية، وروجعت كلها بأتم عناية للمرة الأخيرة. ولقد كان زيد إذا اختلف مع زملائه القرشيين رجح صوت هؤلاء أن كان التنزيل بلسان قريش، وإن قيل إن الوحي نزل على سبع لهجات مختلفة من لهجات العرب. وأرسلت نسخ من هذا المصحف بعد تمام جمعه إلى جميع الأمصار في الإمبراطورية، وجمع ما بها من سائر النسخ بأمر الخليفة وأحرق. وردت النسخة الأولى إلى حيازة حفصة.
ووصل إلينا مصحف عثمان. وقد بلغت العناية بالمحافظة عليه أنا لا نكاد نجد - بل لا نجد - أي خلاف بين النسخ التي لا عداد لها، والمنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي الفسيحة. ومع ما أدى إليه مقتل عثمان نفسه بعد ربع قرن من وفاة محمد، من قيام شيع مغضبة ثائرة زعزعت - ولا تزال تزعزع - وحدة العالم الإسلامي، فإن قرآنا واحدا قد ظل دائما قرآنها جميعا. وهذا الإسلام منها جميعا لكتاب واحد على اختلاف العصور حجة قاطعة على أن ما أمامنا اليوم إنما هو النص الذي جمع بأمر الخليفة السيئ الحظ. والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل ثلاثة عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته. والقراءات المختلفة قليلة إلى حد يثير الدهشة، وهذا الاختلاف محصور أكثر أمره في نطق الحروف المتحركة أو في مواضع الوقف، وهذه مسائل أبدعت في تاريخ متأخر، فلا مساس لها بمصحف عثمان.
وحدة الإسلام في عهد عثمان
والآن وقد تبين أن القرآن الذي نتلو هو نص مصحف عثمان لم يتغير، فعلينا أن نبحث: أهذا النص هو صورة مضبوطة لما جمع زيد بعد الاتفاق على إزالة ما كان في التلاوة من أوجه خلاف قليلة العدد قليلة الخطر؟ وكل ما لدينا مقنع تمام الإقناع بأن الأمر كذلك. فليس في الأنباء القديمة أو الجديرة بالتصديق ما يلقي على عثمان أية شبهة بأنه قصد إلى تحريف القرآن لتأييد أغراضه. صحيح أن الشيعة ادعوا من بعد أنه أغفل بعض آيات تزكي عليا. لكن العقل لا يسوغ هذا الزعم؛ فلم يكن قد نجم أي خلاف بين الأمويين والعلويين حين أقر مصحف عثمان، بل كانت وحدة الإسلام قائمة حينذاك لا يهددها شيء. ثم إن عليا لم يكن قد صور مطالبه في صورتها الكاملة؛ فلم يكن غرض من الأغراض إذن ليدفع عثمان إلى ارتكاب إثم ينظر إليه المسلمون بعين المقت غاية المقت . ولقد كان عدد كبير ممن وعت قلوبهم القرآن كما سمعوه حين تلاه النبي أحياء حين جمع عثمان المصحف.
فلو أن آيات تزكي عليا كانت قد نزلت لوجدت نصوصها بين يدي أنصاره الكثيرين. وهذان السببان كانا كفيلين بالقضاء على كل محاولة لإغفال هذه الآيات.
يضاف إلى ذلك أن شيعة علي استقلوا بأمرهم بعد وفاة عثمان وبايعوا عليا بالخلافة. أفيقبل العقل أنهم - وقد وصلوا إلى السلطة - يرضون عن قرآن مبتور، ومبتور قصدا للقضاء على أغراض زعيمهم؟! مع ذلك ظلوا يتلون القرآن الذي يتلوه خصومهم، ولم يثيروا أي ظل من الاعتراض عليه؟ بل إن عليا كان قد أمر بأن تنشر نسخ كثيرة منه، ويقال إنه كتب بخط يده عددا منها. صحيح أن الثائرين قد جعلوا من أسباب انتقاضهم أن عثمان جمع القرآن وأمر بإهلاك ما سوى مصحفه من المصاحف واعتراضهم إنما ينصب على إجراءات عثمان لذاتها ويعتبرونها محرمة لا تجوز. لكن لم يشر أحد فيما وراء ذلك إلى تحريف في المصحف أو إبدال؛ فمثل هذا الزعم كان ظاهر الفساد يومئذ؛ وإنما أبدعه الشيعة من بعد لأغراضهم.
دقة مصحف عثمان وكماله
نستطيع أن نستنبط إذن مطمئنين أن مصحف عثمان كان - وما يزال - صورة مضبوطة لما جمعه زيد بن ثابت، مع مزيد في التوفيق بين الروايات السابقة له وبين لهجة قريش، ثم استبعاد سائر القراءات التي كانت منتشرة، في أنحاء المملكة. مع ذلك لا تزال أهم مسألة قائمة أمامنا؛ هذه المسألة هي: هل كان ما جمعه زيد صورة صادقة كاملة لما أوحي إلى محمد؟ والاعتبارات الآتية تبعث اليقين بأنه كان مجموعة صادقة بلغت من حيث إنها كاملة كل ما يمكن بلوغه يومئذ:
أولا:
تم الجمع الأول برعاية أبي بكر. وكان أبو بكر تابعا صادق الإخلاص لمحمد كما كان مؤمنا كامل الإيمان بالمصدر القدسي للقرآن؛ وكان اتصاله الحميم بالنبي خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته، ومظهره في الخلافة مظهر البساطة والحكمة والتنزه عن المطامع، بحيث لا تدع موضعا لأي فرض آخر. وكان إيمانه بأن ما يوحى إلى صاحبه إنما يوحى إليه من الله ذاته، مما يجعل أول أغراضه أن يكفل جمع هذا الوحي كله مطهرا كاملا. ومثل هذا القول يصدق على عمر، وقد تم الجمع في خلافته. وهذا القول يصدق كذلك على المسلمين يومئذ جميعا، لا تفاوت لديهم فيه بين الكاتبين الذين عاونوا على هذا الجمع وبين المؤمن الرقيق الحال الذي يحمل إلى زيد ما عنده من الوحي المكتوب على العظام أو على أوراق الشجر؛ فقد كانوا جميعا تتساوى رغبتهم الصادقة في استظهار العبارات والألفاظ التي تلاها عليهم نبيهم على أنها رسالة من عند الله. وقد كان الحرص على الدقة قائما بشعور الناس جميعا؛ لأنه لم ينغرس في نفوسهم شيء ما انغرس هذا التقديس المرهب لما يعتقدونه كلمة الله. وفي القرآن نذر للذين يفترون على الله الكذب أو يخفون شيئا من وحيه. ولسنا نستطيع أن نصدق أن يجرؤ المسلمون الأولون، في حماستهم الأولى لدينهم وتقديسهم إياه، على التفكير في أمر ذلك مبلغه من مجافاة الإيمان.
ثانيا:
تم الجمع خلال سنتين أو ثلاث سنين بعد وفاة محمد؛ وقد رأينا طائفة من أتباعه يحفظون الوحي كله عن ظهر قلب، وأن كل واحد من المسلمين كان يحفظ طائفة منه، وأن جماعة من القراء كانت تعينهم الدولة وتبعث بهم إلى أنحاء المملكة الإسلامية لإقامة الشعائر ولتفقيه الناس في الدين. من هؤلاء جميعا تكونت حلقة اتصال بين ما تلا محمد من الوحي يوم تلاه وبين ما جمعه زيد. فالمسلمون لم يكونوا صادقي القصد في جمع القرآن كله في مصحف واحد فحسب، بل كانت لديهم كذلك كل الوسائل التي تكفل تحقيق هذا الغرض، وتكفل تحقيق ما اجتمع في الكتاب الذي وضع بين أيديهم بعد جمعه من دقة وكمال.
ثالثا:
ولدينا ضمان أوفى للدقة والكمال. ذلك ما كان موجودا منذ حياة محمد من أجزاء القرآن المكتوبة، والتي كثر لا شك عدد نسخها قبل جمع القرآن. وأكثر الأمر أن هذه النسخ كانت موجودة في حيازة جميع الذين يستطيعون القراءة. أما ونحن نعرف أن ما جمعه زيد قد تداوله الناس وتلوه بعد جمعه مباشرة. فمن المعقول أن نستنبط أنه تناول ما احتوته هذه الأجزاء المكتوبة جميعا واتفق معها؛ لذلك حل محلها بإقرارهم جميعا. فلم يتصل بنا أن الجامعين أغفلوا أجزاء أو آيات أو ألفاظا، أو أن شيئا مما كان موجودا من هذه اختلف عما حواه المصحف الذي جمع. ولو أن شيئا من ذلك كان، للوحظ بلا ريب ولدون في هذه المساند القديمة التي احتوت أدق أعمال محمد وأقواله، والتي لم تغفل منها حتى ما كان قليل الخطر.
رابعا:
محتويات القرآن ونظامه تنطق في قوة بدقة جمعه؛ فقد ضمت الأجزاء المختلفة بعضها إلى بعض ببساطة تامة لا تعمل ولا فن فيها. وهذا الجمع لا أثر فيه ليد تحاول المهارة أو التنسيق. وهو يشهد بإيمان الجامع وإخلاصه لما يجمع؛ فهو لم يجرؤ على أكثر من تناول هذه الآيات المقدسة ووضع بعضها إلى جانب بعض.
والنتيجة التي نستطيع الاطمئنان إلى ذكرها هي أن مصحف زيد وعثمان لم يكن دقيقا فحسب، بل كان - كما تدل الوقائع عليه - كاملا، وأن جامعيه لم يتعمدوا إغفال أي شيء من الوحي. ونستطيع كذلك أن نؤكد - استنادا إلى أقوى الأدلة - أن كل آية من القرآن دقيقة في ضبطها كما تلاها محمد. •••
أطلنا في اقتطاف عبارات «سير وليم موير» كما وردت في مقدمة كتابه «حياة محمد».
1
على أن ما اقتطفناه يغنينا عن ذكر ما كتبه «الأب لامنس» و«هون هامر» ومن يرون هذا الرأي من المستشرقين. هؤلاء جميعا يقطعون بدقة القرآن الذي نتلوه اليوم، وبأنه يحتوي كل ما تلاه محمد على أنه الوحي الذي تلقاه من ربه صادقا كاملا. فإذا ذهبت بعد ذلك قلة من المستشرقين غير مذهبهم وزعموا أن القرآن حرف، غير آبهين لهذه الأدلة العقلية التي ساقها «موير» وكثرة المستشرقين، والتي أخذوها عن التاريخ الإسلامي والعلماء المسلمين، كان ذلك تجنيا على الإسلام لم يمله غير الحقد على الإسلام وعلى صاحب الرسالة الإسلامية. ومهما يبلغ المتجنون من البراعة في صياغة تجنيهم فلن يستطيعوا أن يخلعوا عليه ثوب البحث العلمي النزيه، ولن يستطيعوا أن يخدعوا به من المسلمين أحدا، الله إلا الشبان الذين يتوهمون أن البحث الحر يقتضيهم أن ينكروا ماضيهم، وأن يفتنوا عن الحق بما يزين لهم من الأباطيل وأن يؤمنوا بكل مطعن على هذا الماضي، ولو لم يكن لهذا الطعن ما يسوغه من حقائق العلم والتاريخ.
كنا نستطيع أن نسوق هذه الحجج التي ساقها «السير موير» وغيره من المستشرقين، وأن نأتي بها من التاريخ الإسلامي ومما كتب علماء المسلمين، وأن نردها إلى مراجعها فيها. لكنا آثرنا نقلها عن أحد المستشرقين؛ لنظهر شبابنا المولع بكل آثار الغرب، من غير تمحيص لها، على أن الدقة في البحث العلمي وحسن القصد إلى الحق وحده جديران بهداية من يسلك سبيلهما مخلصا للحقيقة المجردة من كل زيف، وندله على أن واجب المحقق أن يدقق في بحثه حتى يصل من الحقيقة إلى غايته دون تأثر بهوى أو شهوة، ومن غير أن يقف به التقليد أو القصور عن بلوغ هذه الغاية. وقد وفق المستشرقون للحق في بعض الأحيان، وقصر همهم دونه في أحيان أخرى. وكذلك كان أكثرهم في مسائل متصلة بحياة النبي العربي أتيح لنا تمحيصها في هذا الكتاب.
الطريقة الصحيحة في البحث
ويجمل بنا في هذا المقام أن نذكر أن واجب الباحث ألا يثبت مسألة من المسائل وألا ينفيها، قبل أن يصل من تمحيصه وبحثه إلى الاقتناع الذاتي الصحيح بأنه اطمأن كل الطمأنينة إلى الوقوف فيها على الحقيقة كاملة غير مشوبة بشائبة. وشأن المؤرخ في ذلك شأن العالم في الأمور الطبيعية وفي غيرها من العلوم جميعا. وهذا واجبه، تناول كتب المستشرقين أو تناول كتب العلماء المسلمين. وإذا أوجب قصد الحق والمعرفة علينا أن ننقد وأن نمحص ما خلف كتاب العرب والكتاب المسلمون في الطب والفلك والكيمياء وغيرها من العلوم، فننفي منها ما لا يثبت أمام النقد العلمي ونثبت ما تقره قواعد هذا النقد، فقصد الحق والمعرفة يوجب علينا مثل هذه الدقة في أمر التاريخ وإن تعلق بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام. فالمؤرخ ليس ناقلا فحسب. بل هو أيضا ناقد لما ينقل، ممحص إياه لمعرفة ما ينطوي عليه من الحق. والنقد سبيل التمحيص. والعلم والمعرفة أساس هذا النقد والتمحيص.
أحسبنا، بعد هذا التمحيص الذي نقلناه في شأن القرآن ودقته، في حل من إغفال ما جاء في رسالة ذلك المصري المسلم، المؤمن بكل ما يكتب المستشرقون، عن آيات يزعمون أنها أضيفت إلى القرآن أو عن اسم النبي وأنه لم يكن قثم أو قثامة، فهذا كلام لم يمله الحق بل أملاه الهوى الذي أملى دعوى تحريف القرآن.
ونعود إلى تفنيد النقطة الأخيرة من رسالة ذلك المصري المسلم. فهو يذكر أن مباحث المستشرقين دلتهم على أن النبي كان يصاب بالصرع وأن أعراضه كانت تبدو عليه؛ إذ كان يغيب عن صوابه، ويسل منه العرق، وتعتريه التشنجات وتخرج من فمه الرغوة، حتى إذا أفاق من نوبته تلا على المؤمنين به ما يقول إنه وحي الله إليه، حين لم يكن هذا الوحي إلا أثرا من نوبات الصرع.
فرية الصرع
وتصوير ما كان يبدو على محمد في ساعات الوحي على هذا النحو خاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ. فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها؛ ولا يذكر شيئا مما صنع أو حل به خلالها؛ ذلك لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام التعطل. وهذه أعراض الصرع. كما يثبتها العلم، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي العربي أثناء الوحي، بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به، وكان يذكر بدقة غاية الدقة ما يتلقاه وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه. هذا، ثم إن نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الجسمية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه، بل كان كثيرا ما يحدث والنبي في تمام يقظته العادية، وحسبنا أن نشير إلى ما أوردنا في هذا الكتاب عن نزول سورة الفتح عند قفول المسلمين من مكة إلى يثرب بعد عهد الحديبية.
ينفي العلم إذن أن الصرع كان يعتري محمدا؛ ولذلك لم يقل به إلا الأقلون من المستشرقين الذين افتروا على القرآن أنه حرف. وهم لم يقولوا به حرصا على حقيقة يتلمسونها، وإنما قالوا به ظنا منهم أنهم يحطون من قدر النبي العربي في نظر طائفة من المسلمين. أم حسبوا أنهم يلقون بأقوالهم هذه ظلا من الريبة على الوحي الذي نزل عليه، لأنه نزل عليه فيما يزعمون أثناء هذه النوبات؟ إن يكن ذلك فهو الخطأ البين، كما قدمنا، وهو ما ينكره العلم عليهم أشد الإنكار.
الرجوع إلى العلم
ولو أن نزاهة القصد كانت رائد هؤلاء المستشرقين لما حملوا العلم ما ينكره. وهم إنما فعلوا ذلك ليخدعوا به أولئك الذين لا يهديهم علمهم إلى معرفة أعراض الصرع، والذين تمسكهم طمأنينتهم الساذجة إلى أقوال هؤلاء المستشرقين عن سؤال أهل العلم من رجال الطب وعن الرجوع إلى كتبه. ولو أنهم فعلوا لما تعذر عليهم أن يكشفوا عن خطأ هؤلاء المستشرقين خطأ مقصودا أو غير مقصود، ولتبينوا أن النشاط الروحي والعقلي للإنسان يختفي تمام الاختفاء أثناء نوبات الصرع، ويذر صاحبه في حالة آلية محضة يتحرك مثل حركته قبل نوبته، أو يثور إذا اشتدت به النوبة فيصيب غيره بالأذى، وهو أثناء ذلك غائب عن صوابه، لا يدرك ما يصدر عنه ولا ما يحل به، شأنه شأن النائم الذي لا يشعر بحركاته أثناء نومه؛ فإذا انقضى ما به لم يذكر منه شيئا. وشتان ما بين هذا وبين نشاط روحي قوي قاهر يصل صاحبه بالملأ الأعلى عن شعور تام وإدراك يقيني، ليبلغ من بعد ما أوحي إليه. فالصرع يعطل الإدراك الإنساني وينزل بالإنسان إلى مرتبة آلية يفقد أثناءها الشعور والحس. أما الوحي فسمو روحي اختص الله به أنبياءه ليلقي إليهم بحقائق الكون اليقينية العليا كي يبلغوها للناس. وقد يصل العلم إلى إدراك بعض الحقائق ومعرفة سننها وأسرارها بعد أجيال وقرون، وقد يظل بعضها لا يتناوله العلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مع ذلك حقائق يقينية تهتدي قلوب المؤمنين الصادقين إلى حقيقتها، على حين تظل قلوب عليها أقفالها جاهلة إياها لغفلتها عنها.
قصور العلم أحيانا
كنا نفهم أن يقول هؤلاء المستشرقون: إن الوحي ظاهرة نفسية شاذة في تقدير علمنا وما وصل إليه حتى اليوم؛ فمن المتعذر إذن تفسيرها على طريقته لكن هذا القول إنما يدل على أن علمنا - على ما انفسح مداه واتسع أفقه - لا يزال قاصرا عن تفسير كثير من الظاهرات الروحية والنفسية. ولا عيب على العلم في هذا ولا عجب منه؛ فعلمنا ما يزال قاصرا عن تفسير بعض الظاهرات الكونية القريبة منا، وطبيعة الشمس والقمر وغيرهما من الأفلاك والكواكب لا يزال أمر العلم فيها عند الفروض والاستنباطات؛ وهذه الأفلاك جميعا بعض ما تشهده العين المجردة، وما تكشف الآلات المقربة لنا عن كثير من خفاياها. وإلى قرن مضى كانت مخترعات كثيرة تعتبر بعض إبداع الخيال فلا سبيل إلى أن تتجسد أمامنا، وها هي ذي تجسدت وصرنا نحسبها من البسائط. والظاهرات الروحية والنفسية هي اليوم موضع ملاحظة العلماء، لكنها لم تخضع بعد لسلطان العلم كي يستنبط قوانينها الثابتة. وكثيرا ما نقرأ عن أمور شهدها العلماء وأثبتوها ثم أثبتوا معها أنهم لا يجدون لها في السنن الكونية التي استنبطها العلم تأويلا تطمئن إليه قواعده. فعلم النفس ما يزال بوجه عام، غير ثابت السنن في كثير من الشئون التي تعرض له. فإذا كان هذا واقعا في الحياة العادية، كان البدار إلى محاولة تفسير ظاهرات الحياة جميعها على الطريقة العلمية محاولة عقيمة وإسرافا معيبا.
ولقد كان الوحي بعض ما شهد المسلمون أثناء حياة محمد، وكان القرآن كلما ذكره لهم زادهم به إيمانا. وكان منهم أذكياء غاية الذكاء، وكان منهم يهود ونصارى طال الجدال بينهم وبين النبي العربي، ثم آمنوا برسالته ولم ينكروا عليه من أمر الوحي شيئا. ولقد حاول قوم من قريش أن يتهموه بالسحر والجنون ثم أقروا أنه ليس بساحر ولا بمجنون وتابعوه وآمنوا بما جاء به. أما وذلك ثابت يقينا، فما يأباه العلم وتتنزه عنه قواعده إنما هو إنكار حدوث الوحي، والحط من قدر صاحبه ونعته بأوصاف ينكرها العلم ولا يقرها. والعالم النزيه القصد إلى الحق لا يستطيع أكثر من أن يقرر أن ما وصل إليه العلم حتى هذا الزمان يقصر دون تفسير الوحي على الطريقة العلمية، ولكنه لا يمكنه أن ينكر بحال من الأحوال حدوث ظاهرات هذا الوحي مما وصف أصحاب النبي وكتاب الصدر الأول للإسلام، فإن أنكرها وحاول تأويلها واتخذ العلم باطلا وسيلة إلى ذلك كان مبطلا متعنتا. والتعنت والعلم لا يتفقان.
الطعن في محمد عجز عن الطعن في رسالته
ولئن دل هذا العنت على شيء لعلى شدة حرص أصحابه على التشكيك في الإسلام، وهم لم يستطيعوا الطعن على هذا الدين وقد رأوا دينا بلغ غاية السمو مع بساطة ويسر هما مصدر قوته؛ لذلك لجئوا إلى حجة العاجز حين يدع الأثر العظيم لا يعرض له بمطعن لأن المطاعن لا ترقى إليه، فهو يتناول من صدر هذا الأثر عنه أو كان وسيلته إلى الناس فيجعله هدف مطاعنه، وهذا عجز لا يلجأ إليه عالم، وهو بعد مناقض لقانون الطبيعة الإنسانية. ففي طبيعة الناس أو يعنوا بالآثار لذاتها، وأن يستمتعوا بثمراتها دون بحث لا طائل تحته في مصدرها ووسيلة حدوثها ونموها. وهم لذلك لا يعنون أنفسهم بالبحث في أصل الشجرة التي أنبتت الثمرة التي تعجبهم، ولا في السماد الذي أدى إلى ازدهارها، ما داموا لا يفكرون في غرس شجرة مثلها أو شجرة أشهى منها ثمرا. وهم حين يبحثون في فلسفة «أفلاطون» أو مسرحيات «شكسبير» أو عن «رفائيل» لا يتلمسون المطاعن في حياة هؤلاء العظماء عنوان مجد الإنسانية وفخارها حين لا يجدون على هذه الآثار مطعنا، فإذا تلمسوا المطاعن التي لا سند لها من الحق، لم يبلغوا من ذلك غايتهم وإن كشفوا عن سوء رأي وحقد يسقط حجتهم ويحول دون الاستماع لهم. ولن يغير من ذلك أن يفرغ هذا الحقد في قالب العلم؛ فالحقد لا يعرف الحقيقة. وكبرت الحقيقة أن يكون الحقد لها مصدرا. وهذا شأن مطاعن أولئك المستشرقين على النبي العربي خاتم المرسلين؛ ولذلك هوت مطاعنهم إلى الحضيض.
فرغت الآن من تفنيد رأي أولئك المستشرقين الذين استندت إليهم رسالة ذلك المصري المسلم، وأقمت الدليل على فساده، فلأنتقل إلى طائفة أخرى من الملاحظات التي أبداها بعض المشتغلين بالعلوم الدينية من المسلمين بعد ظهور الطبعة الأولى.
وأكبر ظني ألا تتكرر أمثال هذه المطاعن الوضيعة التي يأباها العلم وينكرها. فربما كان لهؤلاء المستشرقين من العذر عن إسرافهم من قبل أنهم كانوا يحسبون أنهم يكتبون للأوروبيين المسيحيين، وأنهم كانوا يقومون لذلك بواجب قومي أو بواجب ديني تمليه عليهم عقيدتهم وتدفعهم إلى اتخاذ العلم بغيا وسيلتهم إلى أدائه. أما اليوم، وقد توثقت أسباب الاتصال بالبرق والإذاعة، وبعد أن وثقت الصحافة والطباعة بين أجزاء العالم، فقد أصبح ما ينشر وما يقال في أوروبا أو في أمريكا يعرف ليومه أو لساعته في بلاد الشرق جميعا. فواجب على الذين يريدون الاضطلاع برسالة المعرفة والحقيقة أن ينزعوا عن عيونهم وعن قلوبهم غشاوة الحواجز القومية أو الجنسية أو الدينية، وأن يقدروا أن ما يقولونه أو يكتبونه سرعان ما يصل علمه إلى الناس جميعا، فيتناولونه في مختلف بلاد الأرض بالنقد والتمحيص. فلتكن الحقيقة غير المقيدة بأي قيد هي رائدنا جميعا. ولنوجه كل همنا إلى أن نربط ما بين ماضي الإنسانية ومستقبلها، على أنها وحدة كبرى لا تفرق بينها القوميات ولا الجنسيات ولا الأديان برابطة ترمي إلى تحقيق أسمى غاية تطلعت إليها الإنسانية منذ نشأتها، رابطة الإخاء الحر في ظل الحق والجمال، فتلك وحدها هي الرابطة التي تكفل هداية الإنسانية في سيرها الحثيث نحو السعادة والكمال.
أصحاب الملاحظات من المشتغلين بالشئون الإسلامية
بينا يأخذ علينا غلاة المصدقين لما أسرف فيه المستشرقون أنا نعتمد على المصادر العربية ونستند إلى ما ورد فيها، إذ بعض المشتغلين بالعلوم الدينية الإسلامية يأخذون علينا أننا نرجع إلى أقوال المستشرقين ولا نأخذ بكل ما سجلته كتب السيرة وما روته كتب الحديث متصلا بسيرة النبي العربي، وأننا لا ننهج نهج هذه الكتب.
وعلى هذا الأساس أبدى بعضهم ملاحظات في أكثرها رفق ومجادلة بالتي هي أحسن ابتغاء الوصول إلى الحق، وفي بعضها عنت أو جهل لا يرضى أيهما لنفسه من أوتي حظا من العلم. أما الذين جادلوا في رفق فتنصرف أكثر ملاحظاتهم إلى أننا لم نذكر ما ورد في كتب السيرة والحديث من المعجزات، بل قلنا في خاتمة الطبعة الأولى: فحياة محمد حياة إنسانية بلغت أسمى ما يستطيع إنسان أن يبلغ. ولقد كان حريصا على أن يقدر المسلمون أنه بشر مثلهم يوحى إليه، حتى كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة غير القرآن، ويصارح أصحابه بذلك.
وقلنا عند الكلام عن قصة شق الصدر: إنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكرين من المسلمين إلى هذا الموقف من ذلك الحادث أن حياة محمد كانت كله حياة إنسانية سامية، وأنه لم يلجأ في إثبات رسالته إلى ما لجأ من سبقه من أصحاب الخوارق. وهم في هذا يجدون من المؤرخين العرب والمسلمين سندا حين ينكرون من حياة النبي العربي كلها ما لا يدخل في معروف العقل، ويرون ما ورد من ذلك غير متفق مع ما دعا القرآن إليه من النظر في خلق الله وأن سنة الله لن تجد لها تبديلا، غير متفق مع تعيير القرآن للمشركين أنهم لا يفقهون؛ أن ليست لهم قلوب يعقلون بها. ومن هؤلاء المجادلين في رفق من يأخذ علينا أننا أوردنا مطاعن المستشرقين على النبي مقدمة للرد عليها؛ وإيراد هذه المطاعن لا يتفق مع ما يجب في نظرهم، للنبي عليه السلام من إكبار وإكرام.
الصلاة على النبي
أما الذين لجئوا إلى العنت فقد ظهروا قبل أن تظهر طبعة الكتاب الأولى، وقبل أن يجمع هذا البحث في كتاب، وأشد ما استطاعوا أن يأخذوه علي أنني جعلت عنوان بحثي «حياة محمد» من غير أن أردف هذا العنوان بالصلاة والسلام على رسول الله، وإن ذكرتها غير مرة في غضون البحث. وكنت أحسبهم يرجعون عن عنتهم بعد أن زينت عنوان الطبعة الأولى بالآية الكريمة:
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما
2
وبعد أن تناول الكتاب السيرة على الطريقة التي تناولها بها. لكنهم أصروا على ملاحظتهم، فدلوا بذلك على تعنتهم وعلى جهلهم مع ذلك بحقائق الإسلام اكتفاء منهم باتباع ما وجدوا عليه آباءهم.
ونبدأ بدفع هذه الملاحظة الخاطئة آملين ألا يعود أصحابها وألا يعود غيرهم إلى إبدائها على أي كتاب يظهر، وإنما ندفعها بالرجوع إلى كتب الأئمة من علماء المسلمين حتى يعرف الناس جميعا سمو الإسلام فوق القيود اللفظية ويقدروا قيمة الحديث: «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.» فقد ذكر أبو البقاء في «كلياته» أن «كتابة الصلاة في أوائل الكتب قد حدثت في أثناء الدولة العباسية، ولهذا وقع كتاب البخاري وغيرها عاريا عنها.» وكثرة الأئمة على أن الصلاة على النبي يكفي أن يذكرها المرء مرة واحدة في حياته. قال ابن نجيم في «البحر الرائق»: «وأما موجب الأمر في قوله تعالى:
صلوا عليه
فهو افتراضها في العمر مرة واحدة في الصلاة أو خارجها؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وهذا بلا خلاف. والخلاف بين الشافعي وغيره على وجوب الصلاة على النبي أثناء الصلاة لا خارجها. والصلاة هي الدعاء: ومعناها في الآية أن يترحم الله على النبي ويسلم.» هذا ما أورده علماء المسلمين وأئمتهم في هذا الموضوع. وهو يدل على إسراف الذين يزعمون وجوب الصلاة على النبي كلما ذكر اسمه وكلما كتب، وعلى خطئهم خطأ ما كانوا يقعون فيه إذا عرفوا ما قدمنا وأن كبار المحدثين لم يكونوا يكتبون الصلاة في أوائل الكتب.
دفع المطاعن وطريقته
أما الذين قالوا بأن مقام النبي الكريم يوجب عدم ذكر مطاعن المستشرقين والمبشرين عليه مقدمة للرد عليها، فلا سند لهم في قولهم هذا إلا عاطفة إسلامية يحمدون عليها؛ أما من الناحيتين العلمية والدينية فلا سند لهم، والقرآن الكريم يذكر ما كان يقول المشركون عن النبي ويدفعه بالحجة البالغة. هذا، وأدب القرآن أقوم أدب وأسماه؛ فهو يذكر اتهام قريش محمدا بالسحر والجنون، وهو يقول:
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .
3
وهو يجري في ذلك بالشيء الكثير. ثم إن الحجة لا تدفع علميا إلا إذا ذكرت ودونت بأمانة ودقة. ولقد قصدت من هذا الكتاب إلى البحث العلمي توخيا للحقيقة العلمية وحدها. وقصدت به إلى أن يقرأه المسلمون وغير المسلمين آملا أن أقنعهم جميعا بهذه الحقيقة العلمية. ولا تبلغ هذه الغاية إلا إذا كان الباحث نزيها في حرصه على الحقيقة، لا يتقيد باعتبار غير هذا الحرص، ولا يتردد في الاعتراف بالحق أيا كان مصدره.
كتب السيرة وكتب الحديث
ونعود إلى المأخذ الأول، الذي أخذه علي بعض المشتغلين بالعلوم الدينية الإسلامية في رفق ومجادلة بالتي هي أحسن. ذلك قولهم إنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة وكتب الحديث، ولم أنهج في التعبير عن مختلف الحوادث نهجها. ولقد كان يكفيني ردا على هذا أنني أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية الحديثة وأكتبه بأسلوب العصر، وأنني أفعل ذلك لأنه الوسيلة الصالحة في نظر المعاصرين لكتابة التاريخ وغير التاريخ من العلوم والفنون. وما كان لي، وذلك شأني، أن أتقيد بنهج الكتب القديمة وأساليبها، وبين هذين وبين النهج والأساليب في عصرنا الحاضر بون عظيم، أيسره أن النقد في الكتب القديمة لم يكن مباحا بالقدر الذي يباح به اليوم، وأن كثرة الكتب القديمة كانت تكتب لغاية دينية تعبدية، على حين يتقيد كتاب العصر الحاضر بالنهج العلمي والنقد العلمي. كان يكفيني هذا تسويغا للطريقة التي عالجت بها بحثي ودفعا لكل اعتراض عليه، لكني رأيت من الخير أن أتبسط بعض الشيء في بيان الأسباب التي دعت المفكرين من أئمة المسلمين فيما مضى، وتدعوهم اليوم، كما تدعو كل باحث مدقق، إلى عدم الأخذ جزافا بكل ما ورد في كتب السيرة وفي كتب الحديث، وإلى التقيد بقواعد النقد العلمي تقيدا يعصم من الزلل ما استطاع الإنسان أن يعصم نفسه منه.
الخلاف بين هذه الكتب
وأول هذه الأسباب ما بين هذه الكتب من خلاف في رواية الكثير من الأمور المنسوبة إلى النبي العربي منذ مولده إلى وفاته؛ فقد لاحظ الذين درسوا هذه الكتب أن ما روته من أنباء الخوارق والمعجزات ومن كثير غيرها من الأنباء، كان يزيد وينقص دون مسوغ إلا اختلاف الأزمان التي وضعت هذه الكتب فيها. فقديمها أقل رواية للخوارق من متأخرها. وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقل بعدا عن مقتضى العقل مما ورد في كتب المتأخرين. وهذه سيرة ابن هشام أقدم السير المعروفة اليوم تغفل كثيرا مما ذكره أبو الفداء في تاريخه، ومما ذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء، ومما ذكر في كتب المتأخرين جميعا. وكذلك الشأن في كتب الحديث واختلافها؛ فبعضها يروي قصة من القصص، وبعضها يغفلها وبعضها يضعفها. فلا بد للباحث في هذه الكتب جميعا بحثا علميا أن يضع مقياسا يعرض عليه ما اختلفت فيه وما اتفقت عليه. فما صدقه هذا المقياس أقره الباحث، وما لم يصدقه وضعه موضع التمحيص إذا كان مما يقبل التمحيص.
وقد أخذ السلف بهذه الطريقة في بعض الأمور وأغفلوها في بعضها. من ذلك قصة الغرانيق التي تذهب إلى أن النبي لما ضاق ذرعا بسادات قريش تلا عليهم سوة النجم، حتى إذا بلغ منها قوله تعالى:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى
4
قرأ: «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.» ثم مضى في قراءة السورة إلى آخرها وسجد فسجد المسلمون والمشركون معه، هذه القصة رواها ابن سعد في طبقاته الكبرى ولم يعرض لها بنقد، ووردت في الصحيح من بعض كتب الحديث مع اختلاف في الرواية عن الغرانيق. أما ابن إسحاق فروى هذه القصة وقال: إنها من وضع الزنادقة. وذكرها ابن كثير في كتاب «البداية والنهاية في التاريخ» فقال: «ذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها في موضعها إلا أن أصل القصة في الصحيح.» ثم ذكر حديثا عن البخاري في أمرها وأردفه بقوله: «انفرد به البخاري دون مسلم.» أما أنا فلم أتردد في نفي القصة من أساسها والاتفاق مع ابن إسحاق في أنها من وضع الزنادقة؛ وسقت في تفنيدها أدلة لم أكتف فيها بما في هذه القصة من نقض ما للرسل من عصمة في تبليغ رسالات ربهم، بل استعنت فيها كذلك بقواعد النقد العلمي الحديث.
العصر الذي كتبت فيه
وسبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف ونقده نقدا دقيقا على الطريقة العلمية، أن أقدمها كتب بعد وفاة النبي بمائة سنة أو أكثر، وبعد أن فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية كانت اختلاق الروايات والأحاديث بعض وسائلها إلى الذيوع والغلب؛ فما بالك بالمتأخر مما كتب في أشد أزمان التقلقل والاضطراب؟ وقد كانت المنازعات السياسية سببا فيما لقيه الذين جمعوا الحديث ونفوا زيفه ودونوا ما اعتقدوه صحيحا منه من جهد وعنت أدى إليهما حرص هؤلاء الجامعين على الدقة في التمحيص حرصا لا يتطرق إليه ريب.
ويكفي أن يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاق وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية لجمع الحديث وتمحيصه، وما رواه بعد ذلك من أنه ألفى الأحاديث المتداولة تربي على ستمائة ألف حديث لم يصح لديه منها أكثر من أربعة آلاف، وهذا معناه أنه لم يصح لديه من كل مائة وخمسين حديثا إلا حديث واحد. أما أبو داود فلم يصح لديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف وثمانمائة. وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الحديث، وكثير من هذه الأحاديث التي صحت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم من العلماء انتهى بهم إلى نفي الكثير منها، كما كان الشأن في مسألة الغرانيق. فإذا كان ذلك شأن الحديث، وقد جهد فيه جامعوه الأولون ما جهدوا، فما بالك بما ورد في المتأخر من كتب السيرة؟ وكيف يستطاع الأخذ به دون التدقيق العلمي في تمحيصه؟!
أثر المنازعات السياسية الإسلامية
والواقع أن المنازعات السياسية التي حدثت بعد الصدر الأول من الإسلام أدت إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييدا لها. فلم يكن الحديث قد دون إلى عهد متأخر من عصر الأمويين. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بجمعه، ثم لم يجمع إلا في عهد المأمون بعد أن أصبح «الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.» على قول الدارقطني. لعل الحديث لم يجمع في الصدر الأول من الإسلام لما كان يروى عن النبي أنه قال: «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ومن كتب شيئا غير القرآن فليمحه.»
جمع الحديث
على أن أحاديث النبي كانت متداولة على الألسن من يومئذ، وكانت الروايات تختلف فيها. ولقد أراد عمر بن الخطاب أثناء خلافته أن يتدارك الحال في ذلك بأن يكتب السنن؛ فاستفتى أصحاب النبي في ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها. فطفق عمر يستخير الله شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له
5
فقال: «إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا.» وعدل عن كتابتها، وكتب في الأمصار عنها: «من كان عنده شيء فليمحه.» وظلت الأحاديث بعد ذلك تتوالد وتتداول، حتى جمع ما صح لدى الجامعين منها في عهد المأمون.
القياس الصحيح للحديث
ومع ما أبداه جامعو الحديث مع حرص على الدقة لا ريب فيه، فقد جرح بعض العلماء كثيرا من الأحاديث التي أثبتها جامعوها على أنها صحيحة. قال النووي في شرح مسلم: «استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه.» ذلك أن الجامعين قد جعلوا مقياس السند والثقة بالرواية أساسهم في قبول الحديث أو رفضه؛ وهو مقياس له قيمته؛ لكنه وحده غير كاف. وعندنا أن خير مقياس يقاس به الحديث، وتقاس به سائر الأنباء التي ذكرت عن النبي، ما روي عنه عليه السلام أنه قال: «إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله ... فما وافقه فمني، وما خالفه فليس عني.» وهذا مقياس دقيق أخذ به أئمة المسلمين منذ العصور الأولى. وما زال المفكرون منهم يأخذون به إلى يومنا الحاضر. قال ابن خلدون: «وإنني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن وإن وثقوا رجاله؛ فرب راو يوثق للاغترار بظاهر حاله وهو سيئ الباطن. ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها ، كما تنتقد من جهة سندها، لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض. وقد قالوا إن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو البرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.» وهذا المقياس الذي جاء في حديث النبي، والذي ذكره ابن خلدون فيما تقدم، يتفق مع قواعد النقد العلمي الحديث أدق اتفاق.
ومن الحق أن المسلمين قد بلغ اختلافهم بعد وفاة النبي حدا دعا الدعاة فيهم إلى اختلاق الآلاف المؤلفة من الأحاديث والروايات. ومنذ قتل أبو لؤلؤة غلام المغيرة عمر بن الخطاب، ومنذ تولى عثمان بن عفان الخلافة بدأت الخصومة التي كانت بين بني هاشم وبني أمية قبل رسالة النبي العربي تظهر من جديد. فلما قتل عثمان وقامت الحرب الأهلية بين المسلمين وخاصمت عائشة عليا وأيد عليا من أيد، بدأت الأحاديث الموضوعة تكثر إلى حد أنكره علي بن أبي طالب، حتى روي عنه أنه قال: «ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا ما في القرآن وما في هذه الصحيفة أخذتها من رسول الله فيها فرائض الصدقة.» على أن ذلك لم يقف رواة الحديث عن روايته، ولم يقف قوما عن وضع الحديث لهوى يدعون الناس إليه، أو لفضائل يزعمون أن الناس أحرص على اتباعها حين ينسب إلى رسول الله حديثها.
فلما استتب الأمر لبني أمية جعل المحدثون المتصلون ببني أمية يضعفون ما يروى عن علي بن أبي طالب وفضائله، في حين جعل أنصار علي وأهل بيت النبي يزيدون في هذه الأحاديث ويحاولون إذاعتها بكل الوسائل، كما جعلوا يعرضون عما يروى عن عائشة أم المؤمنين. ومن طريف ما يروى في ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي سعد إسماعيل بن المثنى الإستراباذي؛ إذ كان يعظ بدمشق فقام إليه رجل فسأله عن قول النبي: أنا مدينة العلم وعلي بابها. فأطرق إسماعيل لحظة ثم رفع رأسه وقال: نعم، لا يعرف هذا الحديث عن النبي إلا من كان صدرا في الإسلام، إنما قال النبي: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها. وقد سر الحاضرون بذلك وطلبوا إلى إسماعيل أن يذكر لهم إسناده فاغتم لعجزه. وكذلك كانت الأحاديث تلفق لأغراض سياسية ولأهواء عاجلة. وقد كثرت هذه الأحاديث الموضوعة كثرة راعت المسلمين، لمنافاة الكثير منها لما في كتاب الله. ولم تنجح المحاولات التي بذلت لوقفها في زمن الأمويين. فلما كانت الدولة العباسية، وجاء المأمون بعد قرابة قرنين من وفاة النبي كان قد أذيع من هذه الأحاديث الموضوعة عشرات الألوف ومئاتها، وكان بينها من التضارب وفيها من التهافت ما لا يخطر بالبال.
جامعو الحديث في عهد المأمون
إذ ذاك قام الجامعون بجمع الحديث وتولى كتاب السيرة كتابتها. فقد عاش الواقدي وابن هشام والمدائني وكتبوا كتبهم أيام المأمون. وما كان لهم ولا لغيرهم أن ينازعوا الخليفة في آرائه مخافة ما يحل بهم. لذلك لم يطبقوا، بما يجب من الدقة، هذا المقياس الذي روي عن النبي عليه السلام من وجوب عرض ما يروى عنه على القرآن، فما وافق القرآن فمن الرسول وما خالفه فليس عنه.
ولو أن هذا المقياس طبق بما يجب من دقة لتغير بعض ما كتب هؤلاء الأعلام، فالنقد العلمي على الطريقة الحديثة لا يختلف عن هذا المقياس في شيء ... لكن أحوال العصر اقتضت هؤلاء الأعلام أن يطبقوا هذا المقياس على طائفة مما كتبوا ثم لا يطبقونه على طائفة أخرى. وقد ورث المتأخرون عن السلف هذه الطريقة في كتابة السيرة لاعتبارات غير اعتباراتهم. ولو أنهم أنصفوا التاريخ لطبقوا الحديث على سيرة النبي العربي في جملتها وفي تفصيلها، دون استثناء لأي نبأ روي عنها لا يتفق مع ما ورد في القرآن الكريم؛ فما لم يكن مما تجري به سنة الكون ولم يرد ذكره في كتاب الله لم يثبتوه وما كان مما تجري به سنة الكون محصوه، ثم أثبتوا منه ما ثبت لديهم بالدليل اليقيني، وتركوا ما لم يقم الدليل عليه.
وقد أخذ بهذا الرأي جماعة من كبار الأئمة من سلف المسلمين ، وتابعهم عليه أئمة الإسلام إلى يومنا هذا. قال الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي في التعريف بهذا الكتاب ما يأتي: لم تكن معجزة محمد القاهرة إلا في القرآن، وهي معجزة عقلية. وما أبدع قول البوصيري:
لم يمتحنا بما تعيا العقول به
حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
وقال المرحوم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار (في عددها الذي صدر في 3 من مايو سنة 1935)؛ ردا على الذين اعترضوا على كتابنا هذا، ما نصه: «أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل أو أكثره مسألة المعجزات أو خوارق العادات. وقد حررتها في كتاب الوحي المحمدي من جميع مناحيها ومطاويها في الفصل الثاني وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس، بما أثبت به أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد بالذات ونبوة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة؛ لأنها موجودة في زماننا ككل زمان مضى، وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل، وبينت سبب هذا الافتتان والفروق بين ما يدخل منها في عموم السنن الكونية والروحية وغيره.»
وقال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في أول كتاب (الإسلام والنصرانية): «فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري؛ فلا يدهشك بخارق العادة، ولا يغشى بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية. وقد اتفق المسلمون، إلا قليلا ممن لا يعتد برأيهم فيه، على أن الاعتقاد بالله مقدم على الاعتقاد بالنبوات، وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله. فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل، ولا من الكتب المنزلة؛ فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله. وبأنه يجوز أن ينزل كتابا أو يرسل رسولا.»
وأكبر ظني أن الذين كتبوا السيرة كانوا يؤثرون هذا الرأي ، لولا أحوال العصر أيام المتقدمين، ولولا أن ظن المتأخرون في ذكر ما لم يرد به القرآن من خوارق ومعجزات ما يزيد الناس إيمانا على إيمانهم؛ لذلك حسبوا أن ذكر هذه المعجزات ينفع ولا يضر، ولو أنهم عاشوا إلى زماننا هذا، ورأوا كيف اتخذ خصوم الإسلام ما ذكروه منها حجة على الإسلام وعلى أهله، لالتزموا ما جاء به القرآن، ولقالوا بما قال به الغزالي ومحمد عبده والمراغي وسائر المدققين من الأئمة. ولو أنهم عاشوا في زماننا هذا، ورأوا كيف تزيغ هذه الروايات قلوبا وعقائد بدلا من أن تزيدها إيمانا وتثبيتا لكفاهم ذكر ما في كتاب الله من آيات بينات وحجج دامغة.
الروايات التي لا يقرها العقل والعلم
أما ومضرة الروايات التي لا يقرها العقل والعلم قد أصبحت واضحة ملموسة، فمن الحق على كل من يعرض لهذه الأمور أن يراعي جانب الدقة العلمية في تمحيصها خدمة للحق وخدمة للإسلام ولتاريخ النبي العربي، وتمهيدا لما يجلوه البحث في هذا التاريخ العظيم من حقائق تنير أمام الإنسانية سبيلها إلى حضارتها الصحيحة.
القرآن والمعجزات
ولو أننا عرضنا كثيرا من الأمور التي ترويها كتب السيرة وكتب الحديث على ما في القرآن لما وسعنا إلا أن نأخذ برأي الأئمة المدققين، فقد كان أهل مكة يطلبون إلى النبي أن يجري ربه على يديه المعجزات إذا أرادهم أن يصدقوه، فنزل القرآن يذكر ما طلبوا ويدفعه بحجج مختلفة. قال تعالى:
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .
6
وقال تعالى:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون * ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون .
7
ولم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة، على اختلاف عصورهم، برسالة محمد إلا القرآن الكريم. هذا مع أنه ذكر المعجزات التي جرت بإذن الله على أيدي من سبق محمدا من الرسل، كما أنه جرى بالكثير مما أفاء الله على محمد وما وجه إليه الخطاب فيه. وما ورد في الكتاب عن النبي العربي لا يخالف سنة الكون في شيء.
المعجزة الكبرى
أما وذلك ما يجري به كتاب الله وما يقتضيه حديث رسول الله، فأي داع دعا طائفة من المسلمين فيما مضى ويدعو طائفة منهم اليوم إلى إثبات خوارق مادية للنبي العربي؟ إنما دعاهم إلى ذلك أنهم تلوا ما جاء في القرآن عن معجزات من سبق محمدا من الرسل، فاعتقدوا أن هذا النوع من الخوارق المادية لازم لكمال الرسالة فصدقوا ما روي منها وإن لم يرد في القرآن، وظنوا أنها كلما ازداد عددها كانت أدل على هذا الكمال وأدعى إلى أن يزداد الناس بالرسالة إيمانا. ومقارنة النبي العربي بمن سبقه من الرسل مقارنة مع الفارق. فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو مع ذلك أول رسول بعثه الله للناس كافة ولم يبعثه إلى قومه وحدهم ليبين لهم. لذلك أراد الله أن تكون معجزة محمد معجزة إنسانية عقلية، لا يستطيع الإنس والجن الإتيان بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. هذه المعجزة هي القرآن وهي أكبر المعجزات التي أذن الله بها. وقد أراد جل شأنه منها أن تثبت رسالة نبيه بالحجة البينة والدليل الدامغ، وأراد لدينه أن ينتصر بفضل منه في حياة رسوله، ليرى الناس في انتصاره قوة سلطانه، ولو أراد الله أن تكون المعجزة المادية وسيلة إلى اقتناع من نزل الإسلام على رسوله بينهم، لكانت ولذكرها في كتابه. لكن من الناس من لا يصدقون إلا ما يقره العقل؛ لذلك كانت الوسيلة إلى إقناع الناس كافة برسالة محمد أوثق ما تكون اتصالا بقلوبهم وعقولهم، فجعل الله القرآن، حجته البالغة، معجزة النبي الأمي إليهم، وجعل انتصار دينه وقوة الإيمان به آتيين من طريق الدليل اليقيني والاقتناع الصادق، والدين الذي يقوم على هذا الأساس أدعى إلى أن يؤمن الناس جمعيا به، على مر العصور واختلاف الأمم وتباين اللغات.
ولو أن أمة غير مسلمة آمنت اليوم بهذا الدين ولم تحتج إلى التصديق بمعجزة غير القرآن لتؤمن، لما طعن ذلك في إيمانها ولا نقص من إسلامها. فما دام الوحي لم ينزل بها فلا جناح على من يؤمن بالله ورسوله أن يجعل ما يتصل به من أمرها محل تمحيص؛ فما ثبت بالحجة اليقينية أخذ به، وما لم يثبت بها فله فيه رأيه، ولا تثريب عليه. فالإيمان بالله وحده لا شريك له لا يحتاج إلى معجزة؛ ولا يحتاج إلى أكثر من النظر في هذا الكون الذي خلقه الله. والشهادة برسالة محمد، الذي دعا الناس بأمر ربه إلى هذا الإيمان وجنبهم ما يزيغ قلوبهم عنه، لا تحتاج إلى معجزة غير القرآن، ولا تحتاج إلى أكثر من تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه.
الإيمان عند أئمة المسلمين
ولو أن أمة غير مسلمة آمنت اليوم بهذا لدين من غير حاجة إلى التصديق بمعجزة غير القرآن، لكان الذين آمنوا من أبنائها أحد رجلين: رجل لم يتلجلج قلبه ولم يتعثر فؤاده، بل هداه الله إلى الإيمان أول ما دعي إليه، كما هدى أبا بكر، فآمن وصدق من غير تردد، وآخر لم يلتمس إيمانه فيما وراء سنة الكون من خوارق، بل التمسه في خلق هذا الكون الفسيح الأرجاء الذي يقصر تصورنا دون إدراك حدوده في الزمان أو في المكان، وتجري أموره مع ذلك على سنن لا تحويل لها ولا تبديل، فاهتدى من سنة الله في الكون إلى بارئه ومصوره. سواء عند هذين أكانت الخوارق أم لم تكن، بل هما لا يفكران في هذه الخوارق إلا على أنها من آيات فضل الله. ومثل هذا الإيمان يراه الكثيرون من أئمة المسلمين مثلا أسمى في الإيمان، ويذهب بعضهم كذلك إلى أن الإيمان الصحيح يجب ألا يكون مصدره خوفا من عقاب الله أو طمعا في ثوابه، بل يجب أن يكون إيمانا خالصا بالله وفناء تاما فيه. إليه يرجع الأمر كله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المؤمنون في حياة النبي
مثل الذين يؤمنون اليوم بالله ورسوله من غير أن تحملهم المعجزات على الإيمان، كمثل الذين آمنوا بالله ورسوله في حياة النبي العربي. فلم يذكر التاريخ أن المعجزات حملت أحدا منهم على أن يؤمن؛ بل كانت حجة الله البالغة عن طريق الوحي على لسان نبيه، وكانت حياة النبي، في سموها البالغ غاية السمو، هي التي دعت إلى الإيمان من آمن منهم. وإن كتب السيرة جميعا لتذكر أن طائفة من الذين آمنوا برسالة محمد قبل الإسراء قد ارتدت عن إيمانها حين ذكر النبي أن الله أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله. ولم يؤمن سراقة بن جعشم، لما اتبع محمدا حين هجرته إلى المدينة ليأتي أهل مكة به حيا أو ميتا طمعا في مالهم، على رغم ما روت كتب السيرة من معجزة الله في سراقة وفي جواده. ولم يذكر التاريخ أن مشركا آمن برسالة محمد لمعجزة من المعجزات، كما آمن سحرة فرعون لما لقفت عصا موسى ما صنعوا.
الغرانيق وتبوك
ثم إن ما ورد في كتب السيرة والحديث عن المعجزات قد اختلف فيه أحيانا. وقد كان على الرغم من ثبوته في كتب الحديث موضع النقد أحيانا أخرى، وقد أشرنا إلى مسألة الغرانيق في هذا التقديم وذكرناها مفصلة في الكتاب. وقصة شق الصدر قد وقع الاختلاف فيها على ما روته حليمة ظئر النبي عنها لأمه، كما وقع على الزمن الذي حدثت فيه من سن محمد وما روت كتب السيرة وكتب الحديث عن قصة زيد وزينب مردود من أساسه، للأسباب التي أبديناها عند الكلام عن هذه القصة في أثناء الكتاب. وقد وقع مثل هذا الاختلاف على ما حدث أثناء مسيرة جيش العسرة إلى تبوك: فقد روى مسلم في صحيحه عن معاذ بن جبل أن النبي قال لمن سار معه إلى تبوك: إنكم ستأتون إن شاء الله غدا عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار: فمن جاء منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء. قال: فسألهما رسول الله: هل مسستما من مائها شيئا! قالا: نعم؛ فسبهما النبي وقال لهما ما شاء الله أن يقول. قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء. قال: وغسل رسول الله فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر - أو قال غزير، شك أبو علي أيهما قال - حتى استقى الناس. ثم قال: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا.»
8
فأما كتب السيرة فتروي قصة تبوك على صورة أخرى لا يرد فيها ذكر المعجزة، وإنما تجري فيها الرواية على نحو غير ما ورد في صحيح مسلم. من ذلك ما رواه عنها ابن هشام إذ قال: «قال ابن إسحاق: فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله فدعا رسول الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد عن رجال من بني عبد الأشهل، قال: قلت لمحمود: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم! والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفي عشيرته ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك. ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله حيث سار؛ فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان ودعا رسول الله حين دعا فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس قالوا: أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شيء؟ قال: سحابة مارة.»
وهذا الاختلاف في الوقائع يجعل تأكيدها والقطع بها أمرا غير ميسور في نظر العلم. ويقتضي الذين يمحصونها ألا يقفوا عند القول بالراجح والمرجوح قولا لا يثبت إحدى الروايتين ولا ينفي الأخرى؛ وأقل ما يجب عليهم إذا لم تثبت الرواية عندهم أن يغفلوها؛ فإذا عثر غيرهم من بعد على الأدلة اليقينية عليها فذاك، وإلا بقيت غير ثابتة ثبوتا علميا.
طريقتي في البحث
هذه هي الطريقة التي جريت عليها منذ بدأت هذا البحث في حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية. وأنا منذ اعتزمت القيام بهذه الدراسة إنما أردتها دراسة علمية على الطريقة الحديثة خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده. ذلك ما قلت في تقديم هذا الكتاب، كما رجوت في خاتمة طبعته الأولى أن أكون قد وفقت لتحقيق ما قصدت إليه، وأن يكون البحث قد تم بحثا علميا لوجه الحقيقة العلمية وحدها، وأن أكون قد مهدت به السبيل إلى مباحث في موضوعه أكثر استفاضة وعمقا، تجلو أمام العلم من المسائل النفسية والروحية ما يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تلتمسها. وما أشك أن التعمق في البحث يكشف عن أسرار كثيرة ظن الناس زمنا أن لا سبيل إلى تعليلها، ثم إذا مباحث علم النفس تفسرها وتجلوها واضحة للمتعقلين. وكلما وقعت الإنسانية على أسرار الكون الروحية والنفسية ازدادت صلة بالكون، وازدادت سعادة بهذه الصلة؛ كما أنها ازدادت استمتاعا بما في الكون لما ازدادت اتصالا بأسرار القوة والحركة الكمينة فيه حين عرفت الكهربا والأثير.
من أجل ذلك كان خليقا بكل من يتصدى للبحث في مثل هذا الموضوع أن يتوجه به إلى الإنسانية كلها لا إلى المسلمين وحدهم. فليست الغاية الصحيحة منه دينية محضة كما قد يظن بعضهم، بل الغاية الصحيحة منه أن تعرف الإنسانية كيف تسلك سبيلها إلى الكمال الذي دلها محمد على طريقه، وإدراك هذه الغاية غير ميسور إذا لم يهتد الإنسان إلى هذه السبيل بمنطق عقله ونور قلبه. راضي النفس بهذا المنطق، منشرح الصدر إلى هذا النور؛ لأن مصدرهما المعرفة الصحيحة والعلم الصحيح. فالتفكير الذي لا يعتمد على المعرفة الدقيقة ولا يتقيد مع ذلك بالطرائق العلمية، كثيرا ما يعرض صاحبه لأن يخطئ ويكبو، وكثيرا ما ينأى لذلك به عن محجة الحق، فطبيعتنا الإنسانية تجعل تفكيرنا يتأثر بمزاجنا تأثرا عظيما، وكثيرا ما يختلف المتساوون علما في تفكيرهم لغير سبب إلا اختلاف أمزجتهم مع إخلاصهم جميعا في القصد والغاية. فمن الناس العصبي المزاج الحاد التفكير، السريع إلى الاندفاع فيه. ومنهم الصوفي النزعة، الرواقي المزاج، الزاهد في المادة وآثارها، ومنهم المادي الهوى، المتأثر بماديته تأثرا يحول بين تفكيره وبين ما يحسه من قوى تحيط به هي التي تسيطر على المادة. وغير هؤلاء كثيرون تختلف أمزجتهم ويختلف لذلك نظرهم إلى الأمور وتقديرهم إياها. وهذا الاختلاف نعمة كبرى على الإنسانية في ميادين الفن وفي الحياة العلمية، لكنه نقمة على العلم وعلى التفكير القائم على أساسه ابتغاء أمثال الحياة العليا لخير الإنسانية جمعاء. ودراسة التاريخ يجب أن تكون غايتها نشدان الأمثال العليا من حقائق الحياة، ويجب لذلك أن يتجنب من يدرس التاريخ سلطان الهوى وحكم المزاج. ولا سبيل إلى تجنبها إلا أن يتقيد الإنسان بالطريقة العلمية أدق التقيد، وألا يجعل من العلم والبحوث العلمية في التاريخ أو غير التاريخ مطية لإثبات هوى من أهوائه أو نزوة من نزوات مزاجه.
بحوث المستشرقين
ولقد تأثر كثير من المستشرقين في بحوثهم التي صيغت صيغة العلم بأهواء أمزجتهم، وكذلك فعل كثيرون من كتاب المسلمين، وأعجب الأمر في هؤلاء وأولئك أن يتخذ كل مما تزينه نزوات مزاج الآخر من الوقائع ما يقيمه أساسا لكتابة يزعمها علمية ابتغى بها وجه الحق، في حين هو يتأثر فيها بمزاجه وبهواه أشد التأثر. ودليل ذلك لو كلف نفسه بعض الجهد في تمحيص ما كتب الآخر تمحيصا نزيها لتداعت أمام نظره الوقائع التي أبدعها خيال صاحبه. ولو أنه فعل وتجرد جهد طاقته من هوى نفسه، وتحصن بقواعد العلم وطرائقه، لكانت كتابته أبقى في النفوس أثرا على خلاف الكتابة التي يدفع إليها الهوى. وقد حاولت أن أبين شيئا من أخطاء هؤلاء وأولئك في هذا التقديم للطبعة الثانية، متوخيا في ذلك ما اقتضاه المقام من إيجاز غاية الإيجاز. ولعلي وفقت لبعض ما قصدت إليه من نزاهة وإنصاف.
ليس من اليسير أن يقوم المستشرقون في بحوثهم الإسلامية بكل هذه الدقة وهذا الإنصاف، مهما تحسن نيتهم ومهما يتحروا الدقة العلمية. فعسير عليهم أن يحيطوا بكل أسرار اللغة العربية وإن أحاطوا بعلومها. ثم إنهم متأثرون بالنصرانية الأوروبية تأثرا يجعل أكثرهم ينظرون إلى الأديان نظرة تملؤها الريبة، ويجعل الأقلين المستمسكين بمسيحيتهم يتأثرون بما كان بين المسيحية والعلم من نضال، فيخضعون في بحوثهم الإسلامية لمثل ما خضع له أمثالهم في بحوثهم المسيحية أو في بحوثهم الدينية بوجه عام، أقصد التأثر بهذا النضال الهدام. وهذا أمر لا يعاب به المستشرقون المنصفون؛ فلن يستطيع أحد من الناس أن يتحرر من حكم بيئته الزمانية والمكانية. لكنه يجعل بحوثهم في الأمور الإسلامية تشوبها شوائب تنأى عن الحق ولو بمقدار. ومن شأن ذلك أن يلقي على عاتق العلماء من أهل البلاد الإسلامية، سواء منهم المشتغلون بالعلوم الدينية والمشتغلون بغيرها من العلوم، هذا العبء الجليل العظيم؛ عبء القيام بهذه المباحث الإسلامية بدقة ونزاهة في حدود الطريقة العلمية، فإذا هم فعلوا مستعينين بمعرفتهم أسرار اللغة العربية والحياة العربية، فسيكون لبحوثهم من الأثر أن تعدل بالمستشرقين، أو ببعضهم على الأقل، عن كثير من الآراء، وتقنعهم بالنتائج التي وصل إليها علماء البلاد الإسلامية عن طمأنينة نفس وطيب خاطر.
المسلمون وهذه البحوث
وليس الوصول إلى هذه النتائج بالأمر الهين؛ فهو يحتاج إلى جلد ومثابرة في البحث والموازنة والتفكير الحر، لكنه ليس كذلك بالأمر المستحيل ولا بالأمر العسير. وهو بعد أمر جليل الخطر عظيم الأثر في مستقبل الإسلام وفي مستقبل الإنسانية كلها. وعندي أن القيام به على وجه صالح يقتضي التفريق بين فترتين مختلفتين من تاريخ الإسلام: أولاهما من بدء الإسلام إلى مقتل عثمان. والثانية من مقتل عثمان إلى أن أقفل باب الاجتهاد؛ ففي الفترة الأولى بقي اتفاق المسلمين تاما؛ لم تغير منه روايات الاختلاف على الخلافة، ولا غيرت منه حروب الردة ولا فتح المسلمين للبلاد التي فتحوا. أما بعد مقتل عثمان فقد دب الخلاف بين المسلمين وقامت الحروب الأهلية بين علي ومعاوية، واستمرت الثورات، ظاهرة تارة وخفية أخرى، ولعبت الأهواء السياسية دورا خطيرا في الحياة الدينية نفسها. وحسب الإنسان، ليقدر هذا الخلاف، أن يوازن بين المبادئ التي ينطوي عليها خطاب أبي بكر بعد بيعته حين يقول: «أما بعد، أيها الناس، فإن قد وليت عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.» وخطاب المنصور العباسي بعد تسنمه ذروة العرش إذ يقول: «أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته، وأعطيه بإذنه؛ فقد جعلني الله عليه قفلا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني ...» حسب الإنسان أن يوازن بين هذين الخطابين ليرى مدى التغير العظيم في القواعد الأساسية للحياة الإسلامية في أقل من قرنين، تغيرا نقلها من الشورى بين المسلمين إلى الحكم المطلق المستمد من الحق المقدس.
ولقد كانت هذه الثورات، وما أدت إليه من انقلاب بعد آخر في أسس الحكم سبب ما آل إليه أمر الدولة الإسلامية من بعد من انحلال وتقهقر. ومع ازدهار الإسلام والحضارة الإسلامية قرنين كاملين بعد مقتل عثمان، ومع ما نشط إليه الإسلام من فتح الممالك وتدويخ الملوك على يد المغول وعلى يد السلاجقة بعد الانحلال الأول، فإن الفترة الأولى التي انتهت بمقتل عثمان هي التي تقررت فيها القواعد الصحيحة للحياة الإسلامية العامة؛ وهي لذلك وحدها التي يمكن الاعتماد الثابت اليقيني على ما وقع فيها لمعرفة هذه القواعد الصحيحة. أما فيما بعد هذه الفترة، فإنه - على الرغم من ازدهار العلم والمعرفة أيام الأمويين، وخاصة أيام العباسيين - قد اندست يد العبث بهذه القواعد الأساسية الصحيحة لتقيم مقامها قواعد تتنافى في كثير من الأحيان مع روح الإسلام، تحقيقا لأغراض سياسية شعوبية في أكثر أمرها. وقد كان الأعاجم وكان الذين تظاهروا بالإسلام من اليهود والنصارى هم الذين روجوا لهذه القواعد الجديدة، غير متورعين في تأييدها عن اختراع الأحاديث ونسبتها إلى النبي عليه السلام، ولا عن ادعاء أشياء على الخلفاء الأولين لا تتفق مع سيرتهم ولا تلتئم مع مزاجهم.
هذه الفترة الأخيرة لا يمكن الاعتماد على ما دون فيها اعتمادا علميا دون تمحيصه ونقده، أدق التمحيص والنقد، بغير تأثر بالأهواء أو بنزعات المزاج الذاتي. وأول ما يجب من ذلك أن نرد مما وقع الخلاف عليه فيها كل ما لا يتفق مع القرآن، وإن نسب ما وقع عليه الخلاف إلى النبي العربي. أما صدر الإسلام الأول إلى مقتل الخليفة الثالث فيمكن الاعتماد على ما يروى مباشرة عنه، ويمكن لذلك أن يتخذ أيضا أساسا لتمحيص ما جاء بعده. وإني لأحسبنا إذا فعلنا هذا كله بدقة علمية، قديرين على أن نرسم صورة صادقة من قواعد الإسلام الصحيحة ومن الحياة الإسلامية الأولى؛ هذه الحياة العقلية والروحية التي بلغت من القوة والسمو مبلغا دفع عرب البادية من أهل شبه الجزيرة لينتشروا في الأرض خلال بضعة عقود من السنين كي يقيموا في مختلف الممالك أسمى المبادئ الإنسانية التي عرفها التاريخ. ولو أننا نجحنا في هذا لكشفنا أمام الإنسانية أفقا تصعد منه إلى معرفة أسرار الكون النفسية والروحية، وتتصل به عن طريق هذه المعرفة اتصالا يهيئ للإنسانية أسباب نعمتها وسعادتها، كما أنها ازدادت استمتاعا بما في الكون حين ازدادت اتصالا بأسرار القوة والحركة الكمينة فيه بعد أن عرفت الكهربا والأثير. ولو أننا نجحنا في هذا لكان للإسلام من الفضل على الإنسانية اليوم ما كان له في الصدر الأول، حين خرج به العرب من شبه الجزيرة لينشروا مبادئه السامية في العالم كله.
وفي مقدمة ما يجب علينا من ذلك، خدمة للحقيقة وللإنسانية، أن نتعمق في دراسة سيرة النبي العربي تعمقا يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تنشدها. والقرآن أصدق مرجع لهذه الدراسة؛ فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل ولا تعلق به الريبة، وهو الكتاب الذي بقي ثلاثة عشر قرنا، وسيبقى أبد الدهر معجزة الحياة في طهارة نصوصه، مصداقا لقوله تعالى:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ،
9
كما كان وسيبقى معجزة محمد القائمة منذ أوحاه الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فكل ما تعلق بسيرة محمد يجب أن يعرض على القرآن، فما وافقه كان حقا، وما لم يوافقه لم يكن بحق. وقد حاولت من ذلك في هذا البحث البدائي جهد طاقتي. فلما عدت إليه بعد طبعة هذا الكتاب الأولى شكرت لله توفيقه ورجوته أن يهيئ لمتابعة التعمق فيه تعمقا علميا من يحبوه هدايته، ويمده بتسديده.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير .
تقديم الطبعة الثالثة1
لا تختلف هذه الطبعة الثالثة عن الطبعة الثانية في شيء اللهم إلا في بعض ألفاظ غيرت أو نقحت لمزيد من الدقة في الضبط العربي، أو شدة في الحرص على وضوح المقصود منها. وما حدث من ذلك قليل لا يكاد يحسه إلا من أراد الموازنة اللفظية بين الطبعتين. ولن يجد من يكلف نفسه هذه المئونة أي غناء فيها. ولم يكن الشعور بكمال الكتاب بعد طبعته الثانية هو الذي عدل بي عن تناول ما فيه بالتنقيح أو بالزيادة في هذه الطبعة الثالثة، فأنا لا أفتأ أكرر ما قلته، في مقدمة الطبعة الأولى، من أن هذا الكتاب لا يخرج عن أنه بداءة البحث من ناحية علمية إسلامية في موضوعه الجليل. ولكنني فصلت كثيرا مما يتصل بهذا الموضوع في كتابي «في منزل الوحي» على أثر أدائي فريضة الحج، وسيري في أثر الرسول بالحجاز وتهامة؛ فلم يكن لي أن أعود لأجمل ها هنا ما فصلته هناك. ثم إنني شغلت بعد ظهور «في منزل الوحي» عن متابعة البحث في سيرة الرسول وتعاليمه وسيرة أصحابه وخلفائه، مما كنت قد شغلت به في السنوات الثماني الأخيرة، فلم تتح لي الفرصة ولم يتح لي من فسحة الوقت ما أفصل به ما أجملت في خاتمة الطبعة الثانية. ولعل الله يوقفني فأعود من بعد إلى هذا التفصيل في كتاب مستقل. وأحسب القارئ يشاركني في هذا الدعاء بعد أن يتم تلاوة المبحثين اللذين يكونان هذه الخاتمة.
وإني ليسعدني أن أختم هذا التقديم للطبعة الثالثة بشكر الله على ما لقي هذا الكتاب من تقدير الذين اطلعوا عليه من المسلمين وغير المسلمين، ومن تنويه طائفة من الكتاب والمؤلفين في الشرق والغرب به في تقديم كتبهم وفي تضاعيف هذه الكتب. وأكبر أملي في وجهه الكريم أن ييسر لمتابعة هذا البحث من يصل به إلى غايته، ومن يخدم الحق بذلك خدمة كبرى.
الفصل الأول
بلاد العرب قبل الإسلام
(مهد الحضارة الأولى - اليهودية والمسيحية - الفرق المسيحية وتناحرها - مجوسية فارس - شبه جزيرة العرب - طريقا القوافل فيها - اليمن وحضارتها - بقاء شبه الجزيرة على الوثنية) ***
ما يزال البحث في تاريخ الحضارة الإنسانية وأين كان منشؤها متصلا إلى عصرنا الحاضر. وكان هذا البحث قد استقر زمانا طويلا عند القول بأن مصر كانت مهد هذه الحضارة منذ أكثر من ستة آلاف سنة مضت، وأن ما قبل هذا الزمن يرجع إلى عصور ما قبل التاريخ؛ ولذلك يتعذر الكشف عنه بطريقة علمية صحيحة. أما اليوم فقد عاد علماء الآثار ينقبون في العراق وفي سوريا يريدون الوقوف على أصل الحضارة الآشورية والحضارة الفينيقية، وتحقيق العصر الذي ترجع هاتان الحضارتان إليه: أهو سابق عصر الحضارة المصرية الفرعونية مؤثر فيها، أم هو لاحق عصر هذه الحضارة متأثر بها؟
ومهما يسفر تنقيب علماء الآثار عنه، في هذه الناحية من نواحي التاريخ، فهو لا يغير شيئا من حقيقة لم يكشف التنقيب في آثار الصين والشرق الأقصى عما يخالفها؛ هذه الحقيقة هي أن مهد حضارة الإنسان الأولى، في مصر كان أو في فينيقيا أو في آشور، كان متصلا بالبحر الأبيض المتوسط ؛ وأن مصر كانت أقوى المراكز التي أصدرت الحضارة الأولى إلى اليونان وإلى رومية؛ وأن حضارة عالمنا، في هذا العصر الذي نعيش فيه، ما تزال وثيقة الصلة بتلك الحضارة الأولى؛ وأن ما قد يكشف البحث عنه في الشرق الأقصى من تاريخ الحضارة في تلك الأقطار لم يكن له في عصر ما أثر بين في توجيه الحضارات الفرعونية والآشورية والإغريقية، ولم يغير من اتجاه تلك الحضارات وتطورها إلى أن اتصلت بها حضارة الإسلام، فأثرت فيها وتأثرت بها وتفاعلت وإياها تفاعلا كانت الحضارة العالمية التي تخضع الإنسانية اليوم لسلطانها بعض أثره.
وقد ازدهرت تلك الحضارات، التي انتشرت على شواطئ البحر الأبيض أو على مقربة منه في مصر وآشور واليونان منذ ألوف السنين، ازدهارا ما يزال حتى اليوم موضع دهشة العالم وإعجابه. ازدهرت في العلم والصناعة والزراعة والتجارة وفي الحرب وفي كل نواحي النشاط الإنساني. على أن الأصل الذي كانت تصدر تلك الحضارات عنه وكانت تستمد قوتها منه كان أصلا دينيا دائما. حقا إن هذا الأصل اختلف ما بين التثليث المصري القديم مصورا في أوزوريس وإيزيس وهورس مشيرا إلى وحدة الحياة في بلاها وتجددها وإلى اتصال خلد الحياة من الآباء إلى الأبناء، وما بين الوثنية اليونانية في تصويرها للحق والخير والجمال تصويرا مستمدا من مظاهر الكون الخاضعة للحس، كما اختلف من بعد ذلك اختلافا هوى بهذا التصوير في عصور الانحلال المختلفة إلى دنيا المراتب؛ لكنه بقي دائما أصل هذه الحضارات التي شكلت مصاير العالم، كما أنه قوي الأثر في حضارة هذا العصر الحاضر، وإن حاولت هذه الحضارة أن تتخلص منه وتقف في وجهه وقوفا ما يزال الحين بعد الحين يستدرجها إليه. ومن يدري؟! لعله سيدمجها فيه في مستقبل قريب أو بعيد مرة أخرى.
في هذه البيئة التي استندت حضارتها منذ ألوف السنين إلى أصل ديني، نشأ أصحاب الرسالة بالأديان المعروفة حتى اليوم. في مصر نشأ موسى، وفي حجر فرعون تربي وهذب وعلى يد كهنته ورجال الدين من أهل دولته عرف الوحدة الإلهية وعرف أسرار الكون. فلما أذن الله له في هداية قومه ببلد كان فرعون يقول لأهله: «أنا ربكم الأعلى.» وقف يجادل فرعون وسحرته، حتى اضطر آخر الأمر فهاجر ومعه بنو إسرائيل إلى فلسطين. وفي فلسطين نشأ عيسى روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم. فلما رفع الله عيسى ابن مريم إليه. قام الحواريون من بعده يدعون إلى المسيحية التي دعا إليها. ولقي الحواريون ومن اتبعهم أشد العنت؛ حتى إذا أذن الله للمسيحية أن تنتشر حمل علمها عاهل الروم صاحبة السيادة على العالم يومئذ، فدانت الإمبراطورية الرومانية بدين عيسى؛ وانتشرت المسيحية في مصر والشام واليونان، وامتدت من مصر إلى الحبشة، وظلت من بعد قرونا يزداد سلطانها توطدا، ويستظل بلوائها كل من استظل بلواء الروم وكل من طمع في مودتها وفي حسن العلاقة بها.
تجاه المسيحية التي انتشرت في ظل لواء الروم ونفوذها وقفت مجوسية الفرس تؤازرها قوى الشرق الأقصى وقوة الهند المعنوية. وقد ظلت آشور وظلت مدنية مصر الممتدة في فينيقيا عصورا طويلة حائلة دون انتطاح عقائد الغرب والشرق وحضارتيهما. على أن دخول مصر وفينيقيا في المسيحية أذاب هذا الحائل ووقف مسيحية الغرب ومجوسية الشرق وجها لوجه. وقد ظل الشرق والغرب عصورا متصلة وفي نفس كل من الهيبة لدين الآخر ما أقام مكان ذلك الحائل الطبيعي الأول حائلا آخر معنويا، اقتضى كلتا قوتيه أن توجه جهودها وغزواتها الروحية في ناحيتها، وألا تفكر في دعوة الأخرى إلى عقيدتها أو حضارتها، مع ما اتصل بينهما على مر القرون من حروب. ومع أن فارس انتصرت على الروم وحكمت الشام ومصر ووقفت على أبواب بزنطية، لم يفكر ملوكها في نشر المجوسية أو إحلالها محل النصرانية. بل احترم الغزاة عقائد المحكومين، وعاونوهم على تشييد ما خربت الحرب من معابدهم، وتركوا لهم الحرية في إقامة شعائرهم. وكل ما صنع الفرس أن أخذوا الصليب الأعظم وأبقوه عندهم، حتى دارت دائرة الحرب عليهم واسترده الروم منهم، وكذلك ظلت غزوات الغرب الروحية في الغرب، وغزوات الشرق في الشرق؛ وبذلك كان الحائل المعنوي في مثل منعة الحائل الطبيعي، وكفل تكافؤ القوتين من الناحية الروحية عدم تصادمهما.
وظلت الحال كذلك إلى القرن السادس المسيحي. وفي هذه الأثناء اشتدت المنافسة بين رومية وبزنطية. أما رومية، التي أظلت أعلامها ربوع أوروبا إلى الغال وإلى السلت في إنكلترا أجيالا عدة، والتي فاخرت العالم - وما زالت تفاخره - بعهد يوليوس قيصر، فقد بدأ مجدها ينزوي رويدا رويدا، حتى انفردت بزنطية بالسلطان وأصبحت وارثة الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف. وبلغ من انحلال رومية من بعد أن أغار الفندال الهمج عليها وأخذوا بأيديهم مقاليد حكمها. وكان لهذه الأحداث أثرها الطبيعي في المسيحية التي نشأت في أحضان رومية، وذاق الذين آمنوا بعيسى أكبر تضحياتهم هولا في ظلالها.
بدأت هذه المسيحية تتعدد مذاهبها وينقسم كل مذهب على توالي الزمن فرقا وأحزابا؛ وسار لكل شيعة في أوضاع الدين وأسسه رأي يخالف رأي الشيعة الأخرى. وتنكرت هذه الطوائف بعضها لبعض بسبب خلافها في الرأي تنكرا أنتج العداوة الشخصية التي تلمسها حيثما دب الضعف الخلقي والذهني إلى النفوس فجعلها سريعة إلى الخوف، سريعة لذلك إلى التعصب الأعمى والجمود القتال. كان من بين صفوف طوائف المسيحية في تلك الأزمان من ينكرون أن لعيسى جسدا يزيد على طيف يتبدى به للناس. وكان من بينها من يزاوجون بين شخصه ونفسه زواجا روحيا يحتاج إلى كثير من كد الخيال والذهن لتصوره، وغير هؤلاء وأولئك من كانوا يعبدون مريم، على حين كان ينكر غيرهم بقاءها عذراء بعد وضع المسيح. وكذلك كان الجدل بين أتباع عيسى جدل أيام الانحلال في كل أمة وعصر: يقف عند الألفاظ والأعداد، يسبغ على كل لفظ وكل عدد من المعاني، ويضفي عليه من الأسرار، ويحيطه من ألوان الخيال، بما يعجز عنه المنطق ولا تسيغه إلا سفسطة الجدل العقيم.
قال أحد رهبان الكنيسة: «كانت أطراف المدينة جميعا ملأى بالجدل، ترى ذلك في الأسواق، وعند باعة الملابس، وصيارفة النقود، وباعة الأطعمة، فأنت تريد أن تبدل قطعة من ذهب فإذا بك في جدل عما خلق وعما لم يخلق! وأنت تريد أن تقف على ثمن الخبز فيجيبك من تسأله: الأب أعظم من الابن والابن خاضع له. وأنت تسأل عن حمامك وهل ماؤه ساخن، فيجيبك غلامك: لقد خلق الابن من العدم.»
على أن هذا الانحلال الذي طرأ على المسيحية فجعلها أحزابا وشيعا، لم يكن ذا أثر قوي في كيان الإمبراطورية الرومانية السياسي؛ بل ظلت هذه الإمبراطورية قوية متماسكة، وظلت هذه الفرق تعيش في كنفها في نوع من النضال لم يتعد الجدل الكلامي ولم يتعد المؤتمرات اللاهوتية التي كانت تعقد لتبت في مسألة من المسائل فلا يكون لقرار طائفة ما من السلطان ما يلزم الطوائف أو الفرق الأخرى. وأظلت الإمبراطورية هذه الفرق جميعا بحمايتها، ومدت لها جميعا في حرية الجدل بما زاد في سلطان الإمبراطور المدني من غير أن يضعف من هيبته الدينية. فقد كانت كل فرقة تعتمد على عطفه عليها، بل تذهب إلى الزعم بأنها تعتمد على تأييده إياها، وهذا التماسك في كيان الإمبراطورية هو الذي طوع للمسيحية أن يظل انتشارها في مسيره، وأن تصل من مصر الرومانية إلى الحبشة المستقلة المحالفة للروم فتجعل لحوض البحر الأحمر من المكانة ما لحوض البحر الأبيض، وأن تنتقل من الشام وفلسطين، حيث دان بها أهلها ودان بها العرب الغساسنة الذين هاجروا إليها، إلى شاطئ الفرات ليدين بها أهل الحيرة ويؤمن بها اللخميون والمناذرة الذين ارتحلوا من جدب الصحراء وباديتها ليستقروا في هذه المدائن الخصبة العامرة وليكونوا مستقلين زمنا لتحكمهم الفرس المجوسية من بعده.
ولقد أصاب المجوسية في الفرس من أسباب الانحلال في هذه الأثناء ما أصاب المسيحية في الإمبراطورية الرومانية. وإذا كانت عبادة النار قد ظلت الظاهرة المجوسية البادية للعيان، فإن آلهة الخير والشر وأتباعها قد انقسمت كذلك عند المجوس فرقا وطوائف، وليس ها هنا مكان عرضها. مع ذلك ظل كيان الفرس السياسي قويا، لم يؤثر فيه هذا الجدل الديني حول صور الآلهة والأفكار المطلقة التي ترتسم وراء هذه الصور. واحتمت الفرق الدينية المختلفة بعاهل الفرس الذي أظلها جميعا بلوائه، والذي ازداد باختلافها قوة على قوة، إذ جعل من اختلافها وسيلة لضرب بعضها ببعض كلما خيف أن تقوى شوكة إحداها على حساب الملك أو على حساب الفرق الأخرى.
هاتان القوتان المتقابلتان: قوة المسيحية وقوة المجوسية، قوة الغرب وقوة الشرق، ومعهما الدويلات المتصلة بهما والخاضعة لنفوذهما، كانتا في أوائل القرن السادس الميلادي تحيطان بشبه جزيرة العرب. لقد كان لكل واحدة منهما مطامع في الاستعمار والتوسع. وكان رجال الدين في كلتيهما يبذلون الجهود لنشر الدعوة إلى العقيدة التي يؤمنون بها؛ مع ذلك ظلت شبه الجزيرة وكأنها واحة حصينة آمنة من الغزو إلا في بعض أطرافها، آمنة من انتشار الدعوة الدينية، مسيحية أو مجوسية، إلا في قليل من قبائلها. وهذه ظاهرة قد تبدو في التاريخ عجيبة، لولا ما يفسرها من موقع بلاد العرب ومن طبيعتها، وما للموقع والطبيعة من أثر في حياة أهلها وفي أخلاقهم وميولهم ونزعاتهم.
فشبه جزيرة العرب مستطيل غير متوازي الأضلاع، شماله فلسطين وبادية الشام، وشرقه الحيرة ودجلة والفرات وخليج فارس، وجنوبه المحيط الهندي وخليج عدن، وغربه بحر القلزم «البحر الأحمر». فهو إذن حصين بالبحر من غربه وجنوبه، وحصين بالصحراء من شماله، وبالصحراء وخليج فارس من شرقه. وليست هذه المناعة هي وحدها التي عصمته من الغزو الاستعماري أو الغزو الديني، بل عصمه كذلك ترامي أطرافه، فطول شبه الجزيرة يبلغ أكثر من ألف كيلومتر وعرضه يبلغ نحو الألف من الكيلومترات وعصمه أكثر من هذا جدبه جدبا صرف عين كل مستعمر عنه. فليس في هذه الناحية الفسيحة من الأرض نهر واحد، وليست لأمطارها فصول معروفة يمكن الاعتماد عليها وتنظيم الصناعة إياها. وفيما خلال اليمن الواقعة جنوب شبه الجزيرة والممتازة بخصب أرضها وكثرة نزول المطر فيها، فسائر بلاد العرب جبال ونجود وأودية غير ذات زرع وطبيعة جرداء لا تيسر الاستقرار ولا تجلب الحضارة، وهي لا تشجع على حياة غير حياة البادية وما تقضي به من الارتحال الدائم واتخاذ الجمل سفينة للصحراء، وانتجاع مراعي الإبل، والاستقرار عندها ريثما تأتي الإبل عليها، ثم الارتحال من جديد انتجاعا لمرعى جديد. وهذه المراعي ينتجعها بدو شبه الجزيرة إنما تدور حول عين من العيون، تتفجر عن ماء المطر الذي يتسلل خلال أرض البلاد الحجرية، فينبت تفجره الخضرة المنتشرة ها هنا وهناك في واحات تحيط بهذه العيون.
طبيعي في بلاد هذه حالها أن تكون كصحراء إفريقية الكبرى لا يقيم بها مقيم، ولا تعرف الحياة الإنسانية إليها سبيلا، وطبيعي ألا يكون لمن يحل بهذه الصحراء غرض أكثر من ارتيادها والنجاة بنفسه منها، إلا في هذه النواحي القليلة التي تنبت الكلأ والمرعى. وطبيعي أن تظل هذه النواحي مجهولة من الناس لقلة من يغامر بحياته لارتيادها. وقد كانت بلاد العرب فيما سوى اليمن مجهولة بالفعل من أهل تلك العصور القديمة.
لكن موقعها أنجاها من الإقفار وأمسك عليها أهلها. ففي تلك العصور القديمة لم يكن الناس قد أمنوا البحر ليتخذوه مركبا لتجارتهم أو لأسفارهم. وما تزال أمثال العرب تحت أنظارنا تنبئنا بما كان من خوف الناس البحر كخوفهم الموت، فلم يكن بد إذن للاتجار من أن تجد التجارة لها وسيلة انتقال غير هذا المركب الخطر المخوف. وكان أهم انتقال التجارة يومئذ بين الشرق والغرب: بين الروم وما وراءها، والهند وما وراءها. وكانت بلاد العرب طريق هذه التجارة التي كانت تجتاز إليها عن طريق مصر أو عن طريق الخليج الفارسي متخطية البوغاز الواقع على مدخل خليج فارس. فكان طبيعيا إذن أن يكون بدو شبه جزيرة العرب هم أمراء الصحراء كما أصبح رجال السفن في العصور التي تلت والتي طغى الماء فيها على اليابسة هم أمراء البحر.
وكان طبيعيا إذن أن يرسم أمراء الصحراء هؤلاء طرق القوافل من أنحائها فيما لا يخاف خطره، كما يرسم رجال البحر خطوط سير السفن بعيدة عن شعاب البحر ومخاطره. يقول هيرن: «لم يكن طريق القافلة شيئا متروكا للاختيار بل كان مقررا بالعادة. ففي هذه المراحل الفسيحة من الصحراء الرملية التي كان رجال القوافل يجتازونها، حبت الطبيعة المسافر بضعة أماكن مبعثرة في جدب البادية يتخذها موئلا لراحته. وهناك، في ظلال أشجار النخيل وإلى جانب المياه العذبة التي تجري من حولها، يستطيع التاجر ودابة حمله أن ينهلا من صيبها ما أحوجهما إليه العنت الذي لقيا. وأصبحت منازل الراحة هذه مستودعات للتجارة، وصار بعضها مقاما للهياكل والمحاريب، يتابع التاجر في حمايتها تجارته، ويلجأ الحاج إليها لالتماس العون منها.»
1
كانت شبه الجزيرة تموج بطرق القوافل. وكان منها طريقان رئيسيان. فأما أحدهما فيتاخم الخليج الفارسي، ويتاخم دجلة، ويقتحم بادية الشام إلى فلسطين؛ ويصح لمجاورته حدود البلاد الشرقية أن يسمى طريق الشرق. وأما الآخر فيتاخم البحر الأحمر؛ ويصح لذلك أن يسمى طريق الغرب، وعن هذين الطريقين كانت تنتقل مصنوعات الغرب إلى الشرق ومتاجر الشرق إلى الغرب، وكانت تجبى إلى البادية أسباب الرخاء والرفاهية. على أن ذلك لم يزد أهل الغرب معرفة بهذه البلاد التي تجتازها تجارتهم. فقد كان الذين يعبرونها من أهل الشرق والغرب قليلين؛ لما في عبورها من مشقة لا يحتملها إلا الذين اعتادوها منذ نعومة أظفارهم، والمجازفون الذين يستهينون بالحياة، حتى أضاعها كثير منهم في هذه المهامه والفدافد عبثا. وما احتمال رجل اعتاد بلهنية الحضر لوعثاء هذه الجبال الجرداء التي تفصل تهامة بينها وبين شاطئ البحر الأحمر بفاصل ضيق؛ فإذا بلغها المسافر في تلك الأيام، التي لم تعرف غير الجمل مطية للسفر، ظل يصعد بين قممها حتى تقذفه إلى هضاب نجد الصحراوية القليلة الغناء؟! وما احتمال رجل اعتاد النظام السياسي الذي يكفل للناس جميعا طمأنينتهم لعنت هذه البادية التي لا يعرف أهلها نظاما سياسيا بل تعيش كل قبيلة، بل كل أسرة، بل كل فرد وليس ما ينظم علاقته بغيره إلا روابط عصبية الأسرة والقبيلة، أو قوة الحلف، أو حمى الجوار يرجو الضعيف به رعاية قوي إياه؟! فقد كانت حياة البادية في كل العصور حياة خارجة على كل نظام عرفه الحضر، مطمئنة إلى العيش في حمى مبادئ القصاص، ودفع العدوان بالعدوان، واغتيال الضعيف ما لم يجد من يجيره. وليست هذه بالحياة التي تشجع على التطلع إلى استكناه أخبارها والتحقق من تفاصيل نظمها. لذلك ظلت شبه الجزيرة مجهولة عند سائر العالم يومئذ ، إلى أن أتاحت لها الأقدار، بعد ظهور محمد عليه الصلاة والسلام فيها، أن يقص أخبارها من نزح عنها من أهلها، وأن يقف العالم على كثير مما كان العالم من قبل ذلك في أتم الجهل به.
لم يند من بلاد العرب عن جهالة العالم سوى اليمن وما جاورها من البلاد المتاخمة للخليج الفارسي. وليس يرجع ذلك إلى متاخمتها الخليج الفارسي أو المحيط الهندي أو البحر وكفى، ولكنه يرجع قبل ذلك وأكثر منه إلى أنها لم تكن كسائر شبه الجزيرة صحراوية جرداء لا تلفت العالم ولا تجعل لدولة من صداقتها فائدة ولا لمستعمر فيها مطمعا. بل كانت على الضد من ذلك موطن خصب في الأرض ومطر منتظم الفصول في تهتانه، ومن ثم موطن حضارة مستقرة ذات مدائن عامرة ومعابد قوية على نضال الزمان. وكان سكانها من بني حمير ذوي فطنة وذكاء وعلم هداهم إلى حسن الاستفادة من الأمطار حتى لا تتسرب إلى البحر فوق الأرض المنحدرة إلى ناحيته؛ ولذلك أقاموا سد مأرب، فحولوا اتجاه المياه الطبيعي تحويلا تقتضيه حياة الحضارة والاستقرار، فقد كانت الأمطار، إلى أن أقيم هذا السد، تنزل بجبال اليمن المرتفعة، ثم تنحدر في أودية واقعة إلى شرق مدينة مأرب، وكانت في انحدارها الأول تنزل بين جبلين يقومان عن جانب هذه الأودية يفصل بينهما أربعمائة متر تقريبا؛ فإذا بلغت مأرب انفرج الوادي انفراجا تضيع المياه فيه كما تضيع في منطقة السدود بأعالي النيل. فلما هدى العلم والذكاء أهل اليمن إلى إقامة سد مأرب شيد بالحجر عند مضيق الوادي، وجعلت له فتحات يمكن تصريف المياه منها وتوزيعها إلى حيث يشاء الناس لتروي الأرض وتزيدها خصبا وإثمارا.
وإن ما كشف وما يزال يكشف عنه حتى اليوم من آثار هذه الحضارة الحميرية في اليمن ليدل على أنها بلغت في بعض العصور مكانا محمودا، وأنها ثبتت لقسوة الزمان في عصور قسا على اليمن فيها الزمان.
على أن هذه الحضارة وليدة الخصب والاستقرار جلبت على اليمن من الأذى ما منع الجدب منه أواسط شبه الجزيرة . فقد ظل ملك اليمن في بني حمير يتوارثونه حينا ويثب عليه حميري من الشعب حينا آخر حتى ملكهم ذي نواس الحميري. وكان ذو نواس هذا ميالا إلى دين موسى، راغبا عن الوثنية التي تورط فيها قومه، وكان قد أخذ هذا الدين عن اليهود الذين هاجروا إلى اليمن وأقاموا بها. وذو نواس الحميري هذا هو - فيما يذكر المؤرخون - صاحب قصة أصحاب الأخدود التي نزل فيها قوله تعالى:
قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد
2
وخلاصة هذه القصة أن رجلا صالحا من أتباع عيسى يدعى قيميون، كان قد هاجر من بلاد الروم واستقر بنجران، فاتبعه أهلها لما رأوا صلاحه وظل عددهم يزداد حتى استفحل أمرهم. فلما نمى خبرهم إلى ذي نواس سار إلى نجران، ودعا أهلها إلى الدخول في اليهودية أو يقتلوا. فلما أبوا شق لهم أخدودا أوقد فيه النار ثم ألقى بهم فيها، ومن لم يمت بالنار قتل بالسيف ومثله به. وقد هلك منهم، على رواية كتب السيرة، عشرون ألفا.
ثم إن أحد هؤلاء النصارى فر من القتل من ذي نواس وسار حتى أتى قيصر الروم جوستنيان فاستنصره على ذي نواس. ولما كانت الروم بعيدة عن اليمن كتب القيصر إلى النجاشي ليأخذ بالثأر من ملك اليمن. ويومئذ (في القرن السادس الميلادي) كانت الحبشة والنجاشي على رأسها في ذروة مجدها تجري بأمرها على البحار تجارة واسعة، ويمخر لها العباب أسطول قوي
3
يجعلها تتسلط بنفوذها على ما حاذاها من البلاد؛ وكانت حليفة الإمبراطورية البزنطية ورافعة علم المسيحية على البحر الأحمر، كما كانت بزنطية رافعة علمها على البحر الأبيض. فلما بلغت النجاشي رسالة القيصر بعث مع اليمني، الذي حمل إليه هذه الرسالة، جيشا جعل على رأسه وفي جنده أبرهة الأشرم. وغزا أرياط اليمن وملكها باسم عاهل الحبشة وظل على حكمها حتى قتله أبرهة وتولى الأمر مكانه. وأبرهة هذا هو صاحب الفيل، وهو الذي غزا مكة ليهدم الكعبة فأخفق، على نحو ما سيرى القارئ في الفصل الآتي.
4
وملك أبناء أبرهة اليمن من بعده وفشا فيها استبدادهم. فلما طال على الناس البلاء خرج سيف بن ذي يزن الحميري حتى قدم على ملك الروم، فشكا إليه ما هم فيه، وسأله أن يبعث إليهم من الروم من يكون له ملك اليمن. لكن حلف القيصر والنجاشي حال دون سماعه شكاية ابن ذي يزن؛ فخرج من عند القيصر حتى أتى النعمان بن المنذر، وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق.
فلما دخل النعمان على كسرى أبرويز دخل سيف بن ذي يزن معه. وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه وقد جمع فيه أجزاء عرش دارا. وكان موشاة بصور نجوم المجرة. فإذا كان في مشتاه وضعت هذه الأجزاء يحيط بها ستار من أنفس الفراء تتدلى أثناءه ثريات من فضة وأخرى من ذهب، ملئت بالماء الفاتر ونصب فوقها تاجه العظيم، يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة مشدودا إلى السقف بسلسلة من ذهب. وكان يلبس نسيج الذهب ويتشح بحلي الذهب؛ فما يلبث من يدخل إلى مجلسه أن تأخذه هيبته حين يراه. وكذلك كان شأن سيف بن ذي يزن. فلما تطامن وسأله كسرى عن أمره وما جاء فيه قص عليه أمر الحبشة وظلمها اليمن. وتردد كسرى بادي الرأي، ثم بعث معه جيشا على رأسه وهرز من خير بيوت فارس وأكثرها فروسية وشجاعة. وتغلب الفرس وأجلوا الحبشان عن اليمن بعد أن ملكوها اثنتين وسبعين سنة. وظلت اليمن في حكم فارس حتى كان الإسلام ودخلت سائر البلاد العربية في دين الله وفي الإمبراطورية الإسلامية.
على أن الأعاجم الذين تولوا أمر اليمن لم يكونوا خاضعين مباشرة لسلطان ملك فارس. وكان الأمر كذلك بنوع خاص بعد أن قتل شيرويه أباه كسرى أبرويز وقام في الملك مقامه؛ فقد خيل إليه في غرارته أن العوالم تسير على هواه، وأن ممالك الأرض تعمل لملء خزانته ولتزيد فيما أغرق فيه نفسه من نعيم. ثم إن هذا الملك الشاب انصرف عن كثير من شئون الملك إلى متعه وملذاته؛ فكان يخرج للصيد في ترف لم تسمع بمثله أذن: كان يخرج يحيط به الشبان الأمراء في ثياب حمر وصفر وبنفسجية ومن حولهم حملة البزاة والخدم يمسكون الفهود الأليفة بالكمامات: والعبيد حملة الطيب ومطاردو الذباب والموسيقيون. وليشعر نفسه في قر الشتاء ببهاء الربيع، كان يجلس وحاشيته على بساط فسيح صورت عليه طرق المملكة ومزارعها وفيها الأزهار المختلفة الألوان من ورائها الأحراش والغابات الخضر والأنهار ذات اللون الفضي، ومع ما كان من انصراف شيرويه إلى مسراته، ظلت فارس محتفظة بمجدها، وظلت المنافس القوي لسلطان بزنطية ولانتشار المسيحية، وإن آذن اعتلاء شيرويه عرشها بأفول هذا المجد ومهد للمسلمين من بعد غزوها ونشر الإسلام فيها.
هذا النزاع الذي كانت اليمن مسرحه منذ القرن الرابع المسيحي كان عميق الأثر في تاريخ شبه جزيرة العرب من جهة توزيع سكانها: فلقد قيل إن سد مأرب الذي غير الحميريون الطبيعة به لفائدة بلادهم، قد طغى عليه سيل العرم فحطمه؛ لأن هذه المنازعات المستمرة صرفت الناس وصرفت الحكومات المتعاقبة عن تعهده والاستمرار في تقويته، فضعف فلم يقو على صد هذا السيل. وقيل: إن ملك الروم لما رأى اليمن موطن نزاع بينه وبين فارس، وأن تجارته مهددة من جراء هذا النزاع، جهز أسطولا يشق البحر الأحمر ما بين مصر وبلاد الشرق البعيدة ليجلب التجارة التي تحتاج إليها بزنطية، ويستغني بذلك عن طريق القوافل. ويذكر المؤرخون واقعة يتفقون عليها ويختلفون في السبب الذي أدى إليها. هذه الواقعة هي هجرة أزد اليمن إلى الشمال؛ فكلهم يقول بهذه الهجرة، وإن نسبها بعضهم إلى إقفار كثير من مدائن اليمن بسبب اضمحلال التجارة التي كانت تمر بها، وعزاها آخرون إلى انقطاع سد مأرب واضطرار كثير من القبائل إلى الهجرة مخافة الهلاك. وأيا ما كانت الحقيقة فهذه الهجرة هي السبب في اتصال اليمن بسائر العرب، اتصال نسب واختلاط ما يزال الباحثون يحاولون اليوم تحديده.
إذا كان النظام السياسي قد اضطرب في اليمن على نحو ما رأيت بسبب الظروف التي مرت بلاد الحميريين بها، والغزوات التي كانت تلك البلاد ميدانا لها، فقد كان هذا النظام السياسي غير معروف في سائر بلاد شبه الجزيرة. وكل نظام يمكن أن يوصف بأنه نظام سياسي، على المعنى الذي نفهمه نحن اليوم أو الذي كانت الأمم المتحضرة تفهمه في تلك الأيام، كان مجهولا في ربوع تهامة والحجاز ونجد وتلك المساحات الشاسعة التي منها كانت تتكون بلاد العرب. فقد كان أبناؤه، كما لا يزال أكثرهم حتى اليوم، أهل بادية لا يألفون الحضر، ولا يطيب لهم المقام ولا الاستقرار بأرض، ولا يعرفون غير دوام الارتحال والنقلة طلبا للمرعى وإرضاء لهوى نفوسهم التي لم تعرف غير حياة البادية ولا تطيق حياة غيرها. وأساس حياة البادية، حيث وجدت من بقاع الأرض، إنما هي القبيلة. والقبائل الدائمة التجول والترحال لا تعرف قانونا كالذي نعرف، ولا تخضع لنظام كالذي نخضع له، ولا تصبر على ما دون الحرية كاملة للفرد وللأسرة وللقبيلة كلها. وأهل الحضر يرضون النزول باسم النظام عن جانب من حريتهم للمجموع أو للحاكم المطلق مقابل ما ينعمون به من طمأنينة ورخاء.
أما رجل البادية الزاهد في الرخاء، البرم بطمأنينة الاستقرار، فلا يخدعه عن شيء من حريته الكاملة رجاء فيما يفرح به أهل المدن من جاه أو مال، ولا يرضى بما دون المساواة الكاملة بينه وبين أفراد قبيلته جميعا وبين قبيلته وغيرها من القبائل. وإنما ينتظم حياته ما ينتظم سائر الخلق من حب البقاء والحرص عليه والدفاع عنه، على أن يكون ذلك كله متفقا مع قواعد الشرف التي تمليها عليه حياة البادية الحرة؛ لذلك لم يكن أهل هذه البادية يقيمون على ضيم يراد بهم، بل كانوا يدفعونه بقوتهم، فإن لم يستطيعوا دفعه تخلوا عن مواطنهم وارتحلوا عن شبه الجزيرة كلها إذا لم يكن من هذا الارتحال بد. ولذلك لم يكن شيء أيسر عند هذه القبائل من القتال إذا نبت خلاف لم يتيسر في ظلال قواعد الكرامة والمروءة والشرف والفصل فيه.
من ثم نجمت في كثير من هذه القبائل خلال الكرم والشجاعة والنجدة وحماية الجار والعفو عند المقدرة، وما إلى هذه من خلال تقوى في النفس كلما قاربت حياة البادية، وتضعف وتضمحل فيها كلما أوغلت في أسباب الحضارة. لذلك ولما قدمنا من أسباب اقتصادية، لم تطمع بزنطية، ولا طمعت فارس، فيما سوى اليمن من بلاد شبه الجزيرة التي لم تكن لتخضع، لأنها تؤثر على الخضوع هجرة الوطن، ولأن أفرادها وقبائلها لا يدينون بالطاعة لنظام قائم ولا لهيئة حاكمة تتسلط عليهم.
ولقد أثرت هذه الطبائع البدوية، إلى حد كبير، في البلاد القليلة الصغيرة التي نشأت في أنحاء شبه الجزيرة بسبب تجارة القوافل على نحو ما قدمناه، والتي يأوي إليها التجار يقطعون عندها متاعب رحلاتهم المضنية، ويجدون بها هياكل عبادة يشكرون فيها الآلهة أن منت عليهم بالنجاة من أخطار الفلوات، وأن جلبت تجارتهم سالمة إلى حيث وصلوا. من هذه البلاد مكة والطائف ويثرب، وأشباهها من الواحات المنتثرة بين الجبال أو خلال رمال الصحراء. تأثرت هذه البلاد بطبائع البادية؛ فكانت أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة في نظام قبائلها وطوائفها، وفي أخلاق أهلها وعاداتهم وفي شدة نفورهم من كل حد لحريتهم، وإن أكرهتهم حياة الاستقرار على نوع من الحياة غير ما اعتاد أهل البادية. وسترى شيئا من تفصيل ذلك عند الكلام في الفصول الآتية عن مكة وعن يثرب.
هذه البيئة الطبيعية وما ترتب عليها من هذه الأحوال الخلقية والسياسية والاجتماعية كان لها أثر مشابه في الحال الدينية. فهل تأثرت اليمن - بطبيعة اتصالها بمسيحية الروم ومجوسية الفرس - بهذين الدينين وأثرت بهما في سائر بلاد شبه الجزيرة؟ هذا ما يتبادر إلى الذهن؛ وهو كذلك بنوع خاص في أمر المسيحية. فالمبشرون بدين عيسى كان لهم في ذلك العصر ما لهم اليوم من نشاط في الدعوة إلى دينهم والتبشير به. وفي طبيعة حياة البادية من تحريك المعاني الدينية في النفس ما ليس في طبيعة حياة الحضر. في حياة البادية يتصل الإنسان بالكون ويحس لا نهاية الكون في مختلف صورها، ويشعر بضرورة تنظيم ما بينه وبين الوجود في لا نهايته . أما رجل الحاضر فمحجوب عن اللانهاية بمشاغله، محجوب عنها بحماية الجماعة إياه لقاء نزوله للجماعة عن جانب من حريته. وإذعانه لسلطان الحاكم كي ينال حمايته يقصر به عن الاتصال بما وراء الحاكم من القوى الطبيعية القوية الأثر في الحياة، ويضعف لذلك عنده روح الاتصال بعناصر الطبيعة المحيطة به. ولا شيء من ذلك يحول بين رجل البادية والمعاني الدينية التي تحركها حياة البادية في النفس.
ترى هل أفادت المسيحية الجمة النشاط منذ عصورها الأولى من هذه الظروف كلها في سبيل ذيوعها وانتشارها؟ ربما انتهى الأمر إلى ذلك لولا أمور أخرى حالت دونه، وأبقت بلاد العرب كلها واليمن معها على الوثنية دين آبائها وأجدادها، إلا قليلا كان من القبائل التي لانت للدعوة المسيحية.
فقد كانت أقوى مظاهر الحضارة العالمية في ذلك العصر تحيط، كما رأيت، بحوضي البحر الأبيض «بحر الروم» والبحر الأحمر «بحر القلزم». وكانت المسيحية واليهودية تتجاوران في ذلك المحيط تجاورا إلا يكن فيه عداء ظاهر فليست فيه مودة ظاهرة. وكان اليهود إلى يومئذ، كما لا يزالون، يذكرون ثورة عيسى بهم وخروجه على دينهم. فكانوا يعملون في الخفية ما استطاعوا لصد تيار المسيحية التي أخرجتهم من أرض المعاد، والتي استظلت بلواء الروم في إمبراطوريتها الفسيحة المترامية الأطراف. وكان لليهود في بلاد العرب جاليات كبيرة يقيم أكثرها في اليمن وفي يثرب.
ثم كانت مجوسية الفرس تقف في وجه القوات المسيحية حتى لا تعبر الفرات إلى فارس، وتؤيد بقوتها المعنوية أوضاع الوثنية حيثما وجدت الوثنية. وكان سقوط رومية وزوال سلطانها بعد انتقال عاصمة حضارة العالم إلى بزنطية وما تلا ذلك من بوادر التحلل، قد أكثر الشيع في المسيحية كثرة جعلتها - كما قدمنا - تتناحر وتقتتل وتهوي من عليا مراتب الإيمان إلى الجدل في الصور والألفاظ وفي مبلغ قدس مريم وتقدمها على ابنها المسيح أو تقدمه عليها. جدلا هو النذير أنى وجد بتدهور ما يجري في شأنه وما يحتدم من أجله؛ ذلك بأنه يذر اللب ويأخذ بالقشور، ويظل يكدس من هذه القشور فوق اللب ما يخفيه وما يجعل من المحال على الناس إدراكه أو اختراق حجب القشور إليه.
وقد كان ما يحتدم جدل نصارى الشام حوله غير ما يحتدم جدل أهل الحيرة أو أهل الحبشة حوله. ولم يكن اليهود بطبيعة صلتهم بالنصارى ليعملوا على تهدئة هذا الجدل أو التسكين من حدته. لذلك كان طبيعيا أن يظل العرب الذين يتصلون بنصارى الشام وبنصارى اليمن في رحلتي الشتاء والصيف وبمن يفدون عليهم من نصارى الحبشة بعيدين عن أن ينتصروا لفريق على فريق مطمئنين إلى وثنيتهم التي ولدوا فيها وتابعوا آباءهم عليها. ولذلك ظلت عبادة الأصنام مزدهرة عندهم، حتى امتد شيء من أثرها إلى جيرانهم نصارى نجران ويهود يثرب الذين تسامحوا في أمرها ثم احتملوها ثم اطمأنوا إليها، أن كانت من صلات التجارة الحسنة بينهم وبين هؤلاء العرب الذين يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى.
ولعل تناحر الفرق المسيحية لم يكن وحده السبب في إصرار العرب على وثنيتهم؛ فقد كانت الوثنيات المختلفة ما تزال لها بقايا في الأمم التي انتشرت المسيحية فيها. كانت الوثنية المصرية والوثنية الإغريقية ما تزالان تتبديان من خلال المذاهب المختلفة، ومن خلال بعض المذاهب المسيحية نفسها، وكانت مدرسة الإسكندرية وفلسفتها ما تزال ذات أثر، إن يكن أقل كثيرا مما كان في عهد البطالسة وفي أول العهد المسيحي، فقد كان على كل حال ما يزال متغلغلا في النفوس، وما يزال منطقه البراق المظهر، وإن يكن سفسطائي الجوهر، يغري الوثنية المتعددة الآلهة، القريبة بآلهتها إلى سلطان الإنسان، المحببة لذلك إليه. وأكبر ظني أن هذا هو ما يشد النفوس الضعيفة إلى الحرص على الوثنية في كل الأزمان، وفي زماننا هذا. فالنفوس الضعيفة أعجز من أن تسمو حتى تتصل بالوجود كله كيما تدرك وحدته ممثلة فيما هو أسمى من كل ما في الوجود، ممثلة في الله ذي الجلال. وهي لذلك تقف عند مظهر من مظاهر هذا الوجود كالشمس أو كالقمر أو كالنار، ثم تضعف عن السمو إلى تصور ما يدل هذا المظهر عليه من وحدة الوجود.
هذه النفوس الضعيفة تكتفي بوثن يتمثل لها في معنى مبهم وضيع من الوجود ووحدته ، فتتصل بهذا الوثن وتخلع عليه من صور التقديس ما لا نزال نراه في بلاد العالم جميعا، مع ما يزعم هذا العالم من تقدم في العلم وسمو في الحضارة. من ذلك ما يراه الذين يزورون كنيسة القديس بطرس رومية؛ فهم يرون قدم التمثال المقام بها للقديس تبريها قبلات عباده المؤمنين، ثم تضطر الكنيسة إلى تغييرها كلما انبرت. وما نحسبنا ونحن نرى ذلك إلا نلتمس العذر لأولئك الذين لما يكن الله قد هداهم إلى الإيمان، والذين كانوا يرون تناحر جيرانهم النصارى وبقاء أوضاع الوثنية بينهم، حتى يقيمون على عبادة الأوثان التي كان يعبد آباؤهم. وكيف لا نعذرهم وهذه الأوضاع متأصلة في العالم باقية بقاء لم ينقطع حتى اليوم وما أحسبه ينقطع أبدا؛ بقاء يفسر هذه الوثنية التي يرتضيها المسلمون اليوم في دينهم، وهو الذي جاء حربا على الوثنية، وهو الذي قضى على كل عبادة غير عبادة الله ذي الجلال.
ولقد كانت للعرب في عبادة الأوثان أفانين شتى يصعب على باحث اليوم أن يحيط بها. فقد حطم النبي الأصنام وأمر أصحابه بتحطيمها حيثما ثقفوها؛ وتناهى المسلمون عن التحدث عنها بعد أن عفوا على آثارها وأزالوا من الوجود في التاريخ وفي الأدب كل ما يتصل بها. على أن ما ورد من ذكرها في القرآن وما تناقلته الروايات في القرن الثاني للهجرة عنها، بعد إذ أمن المسلمون فتنتها. ينبئ عما كان لها قبل الإسلام من جليل المكانة وما كانت عليه من مختلف الصور، ويدل على أنها كانت تتفاوت في درجات التقديس. وقد كان لكل قبيلة صنم تدين له بالعبادة. وكانت هذه المعبودات الجاهلية تختلف ما بين الصنم والوثن والنصب؛ فالصنم ما كان على شكل الإنسان من معدن أو خشب والوثن ما كان على شكله من حجر. أما النصب فصخرة ليست لها صورة معينة، تجرى عليها قبيلة من القبائل أوضاع العبادة، لما تزعمه من أصلها السماوي أن كانت حجرا بركانيا أو ما يشبهه. ولعل أدق الأصنام صنعا ما كان لأهل اليمن. ولا عجب فحظهم من الحضارة لم يعرف أهل الحجاز ولا عرفه أهل نجد وكندة. على أن كتب الأصنام لا تشير بالدقة إلى شيء من صور هذه الأصنام إلا ما قيل عن هبل من أنه كان من العقيق على صورة الإنسان، وأن ذراعه كسرت فأبدله القرشيون منها ذراعا من ذهب. وهبل كان كبير آلهة العرب وساكن الكعبة بمكة، فكان الناس يحجون إليه من كل فج عميق.
ولم يكن العرب ليكتفوا بهذه الأصنام الكبرى يقدمون إليها صلواتهم وقرابينهم، بل كان أكثرهم يتخذ له صنما أو نصبا في بيته، يطوف به حين خروجه وساعة أوبته، ويأخذه معه عند سفره إذا أذن له هذا الصنم في السفر.
وهذه الأصنام جميعا، سواء منها ما كان بالكعبة أو حولها وما كان في مختلف جهات بلاد العرب وبين مختلف قبائلها، كانت تعتبر الوسيط بين عبادها وبين الإله الأكبر. وكان العرب لذلك يعتبرون عبادتهم إياها زلفى يتقربون بها إلى الله وإن كانوا قد نسوا عبادة الله لعبادتهم هذه الأصنام.
ومع أن اليمن كانت أرقى بلاد شبه الجزيرة كلها حضارة بسبب خصبها وحسن تنظيم انحدار المياه إلى أرضها، لم تكن مع ذلك مطمح النظر لأهل هذه البلاد الصحراوية المترامية الأطراف، ولم يكن إلى معابدها حجهم؛ وإنما كانت مكة وكانت كعبتها بيت إسماعيل مثابة الحاج، إليها كانت تشد الرحال وتشخص الأبصار، وفيها أكثر من كل جهة سواها كانت ترعى الأشهر الحرم. لذلك ولمركزها الممتاز في تجارة العرب كلها، كانت تعتبر عاصمة شبه الجزيرة. ثم أراد القدر من بعد أن تكون مسقط رأس محمد النبي العربي، فتكون بذلك متجه نظر العالم على توالي القرون، ويظل لبيتها العتيق تقديسه، وتبقى لقريش فيها المكانة السامية، وإن ظلت وظلوا جميعا أدنى إلى خشونة البداوة التي كانوا عليها منذ عشرات القرون.
الفصل الثاني
مكة والكعبة وقريش
(موقع مكة - إبراهيم وإسماعيل - قصة الذبح والفداء - زمزم - زواج إسماعيل من جرهم - بناء الكعبة - ولاية جرهم أمر مكة - قصي وأولاده - اجتماع أمر مكة لقصي القرشي - هاشم وعبد المطلب - وظائف مكة الزمنية والدينية - الحج إلى الكعبة - قصة أبرهة والفيل - عبد الله بن عبد المطلب - قصة فدائه) ***
في وسط طريق القوافل المحاذي للبحر الأحمر ما بين اليمن وفلسطين، تقوم عدة سلاسل من الجبال تبعد نحو الثمانين كيلومترا من الشاطئ. وهي تحيط بواد غير فسيح، تكاد تحصره لولا منافذ ثلاثة، يصله أحدها بطريق اليمن، ويصله الثاني بطريق قريب من البحر الأحمر «بحر القلزم» عند مرفأ جدة، ويصله الثالث بالطريق المؤدي إلى فلسطين. في هذا الوادي المحصور بين الجبال تقوم مكة. ومن العسير معرفة تاريخ قيامها. وأكثر الظن أنه يرجع إلى ألوف من السنين خلت. والثابت أن واديها اتخذ من قبل أن تبنى موئلا لراحة رجال القوافل، بسبب ما كان به من بعض العيون، وأن رجال القوافل هؤلاء كانوا يجعلون منها مضارب لخيامهم، سواء منهم القادمون من ناحية اليمن قاصدين فلسطين والقادمون من فلسطين متجهين إلى اليمن. والراجح أن إسماعيل بن إبراهيم أول من اتخذها مقاما وسكنا، بعد أن كانت مجرد محلة للقوافل وسوقا للتجارة يقع فيها التبادل بين الآتين من جنوب الجزيرة والمنحدرين من شمالها.
وإذا كان إسماعيل أول من اتخذ مكة مقاما وسكنا، فإن تاريخها فيما قبل ذلك غامض كل الغموض. وربما أمكن القول بأنها اتخذت مقاما للعبادة قبل أن يجيء إسماعيل إليها ويقيم بها. وقصة مجيئه إليها تدعونا إلى أن نلخص قصة أبيه إبراهيم عليهما السلام. فقد ولد إبراهيم بالعراق لأب نجار كان يصنع الأصنام ويبيعها من قومه من يعبدونها. فلما شب إبراهيم ورأى الأصنام يصنعها أبوه، ثم رأى قومه من بعد ذلك كيف يعبدونها وكيف يخلعون على هذه القطع من الخشب التي مرت بين يديه ويدي أبيه كل ذلك التقديس، ساوره الشك في أمرها، وسأل أباه كيف يعبدها وهي من صنع يده؟!
وتحدث إبراهيم بذلك إلى الناس؛ فاهتم أبوه لأمره مخافة ما يجره من بوار تجارته. لكن إبراهيم كان يحترم عقله، ويريد أن يحمل الناس بالحجة على الاقتناع برأيه؛ فانتهز غفلة الناس فذهب إلى هذه الآلهة فكسرها إلا كبيرها، فلما جيء به على أعين الناس قيل له:
أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون .
1
وإنما فعل إبراهيم هذا بعد إذ فكر في ضلال عبادة الأصنام وفيمن تجب له العبادة:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين .
2
ولم ينجح إبراهيم في هداية قومه، بل كان جزاؤه منهم أن ألقوه في النار وأنجاه الله منها، ففر إلى فلسطين مستصحبا معه زوجه سارة. ومن فلسطين ارتحل إلى مصر. وبها يومئذ ملوك العماليق «الهكسوس»؛ وكانت سارة جميلة وكان الملوك الهكسوس يأخذون الجميلات المتزوجات؛ فأظهر إبراهيم أن سارة أخته خشية أن يقتله الملك ليتخذها له زوجا. وأراد الملك اتخاذها زوجا، فرأى في المنام أنا ذات بعل، فردها إلى إبراهيم بعد أن عاتبه وأعطاه هدايا من بينها جارية تدعى هاجر. ولما كانت سارة قد سلخت السنين الطوال مع إبراهيم ولم تلد، دفعته ليدخل بهاجر، فدخل بها، فلم تبطئ أن ولدت له إسماعيل. وبعد أن شب إسماعيل وترعرع حملت سارة وولدت إسحاق.
يختلف الرواة ها هنا في مسألة إقدام إبراهيم على ذبح إسماعيل والفداء، وهل كانت قبل ميلاد إسحاق أو بعده، وهل كانت بفلسطين أو بالحجاز.
وإن مؤرخي اليهود ليذهبون إلى أن الذبيح إنما كان إسحاق لا إسماعيل. وليس ها هنا مقام تمحيص هذا الخلاف. وفي رأي الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار في كتاب «قصص الأنبياء» أن الذبيح هو إسماعيل. ودليله من التوراة نفسها أن الذبيح وصف فيها بأنه ابن إبراهيم الوحيد، وكان إسماعيل هو الابن الوحيد إلى أن ولد إسحاق. فلما ولدت سارة لم يبق لإبراهيم ابن وحيد أن كان له إسماعيل وإسحاق. والتسليم بهذه الرواية يقتضي أن تكون قصة الذبح والفداء بفلسطين. وكذلك يكون الأمر إذا كان الذبيح إسحاق؛ فقد ظل إسحاق مع أمه سارة بفلسطين ولم يذهب إلى الحجاز. فأما الرواية التي تذهب إلى أن الذبح والفداء إنما كان فوق منى فتجعل الذبيح إسماعيل. ولم يرد في القرآن ذكر لاسم الذبيح مما جعل المؤرخين المسلمين يختلفون فيه.
وقصة الذبح والفداء أن إبراهيم رأى في منامه أن الله يأمره بأن يقدم ابنه قربانا فيذبحه؛ فسار وابنه في الصباح،
فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم .
3
وتصور بعض الروايات هذه القصة تصويرا شعريا تدعونا روعته أن نقصه هنا وإن لم يقتض الحديث عن مكة قصصه؛ ذلك أن إبراهيم لما رأى في المنام أنه يذبح ابنه وتحقق أن ذلك أمر ربه، قال لابنه؛ يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى هذه الهضبة لنحتطب لأهلنا. وفعل الغلام وتبع والده، فتمثل الشيطان رجلا. فجاء أم الغلام فقال لها: أتدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب به يحتطب لنا من هذا الشعب. قال الشيطان: والله ما ذهب به إلا ليذبحه. قالت الأم: كلا. هو أشفق به وأشد حبا له. قال الشيطان: إنه يزعم أن الله أمره بذلك، فأجابت الأم: إن كان الله قد أمره بذلك فليطع أمر ربه. فانصرف الشيطان خاسئا، ثم لحق بالابن وهو يتبع أباه، وألقى إبليس عليه ما ألقى على أمه، وأجاب الابن بما أجابت هي به. فأقبل الشيطان على إبراهيم يذكر له أن المنام الذي رأى خدعة من الشيطان ليذبح ابنه ثم يندم ولات ساعة مندم، فصرفه إبراهيم ولعنه. فنكص إبليس على عقبيه خزيان محنقا أن لم ينل من إبراهيم ولا من زوجه ولا من ابنه ما أراد أن ينال منهم .
ثم إن إبراهيم أفضى إلى ابنه برؤياه وسأله رأيه في الأمر. قال: يا أبت افعل ما تؤمر. ثم قال في رواية القصة الشعرية: يا أبتاه! إذا أردت ذبحي فاشدد وثاقي لئلا يصيبك شيء من دمي فينقص أجري. وإن الموت لشديد، ولا آمن أن أضطرب عنده إذا وجدت مسه، فاشحذ شفرتك حتى تجهز علي. فإذا أنت أضجعتني لتذبحني فاكببني على وجهي ولا تضجعني لجنبي، فإني أخشى إن أنت نظرت إلى وجهي أن تدركك الرقة فتحول بينك وبين أمر ربك في. وإن رأيت أن ترد قميصي إلى أمي فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني فافعل. قال إبراهيم: نعم العون يا بني أنت على أمر الله! ثم إنه هم بالتنفيذ، فشد كتاف الغلام وتله للجبين ليقتله، فنودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وافتدي بكبش عظيم وجده إبراهيم على مقربة منه فذبحه وحرقه.
هذه قصة الذبح والفداء. وهي قصة الإسلام لأمر الله غاية الإسلام، والتسليم لقضائه كل التسليم.
وشب إسحاق إلى جانب إسماعيل، وتساوى عطف الأب على الاثنين، فأغضب ذلك سارة أن رأت هذه التسوية بين ابنها وابن هاجر أمتها غير لائقة بها. وأقسمت لا تساكن هاجر ولا ابنها حين رأت إسماعيل يضرب أخاه. وأحس إبراهيم أن العيش لن يطيب وهاتان المرأتان في مكان واحد. عند ذلك ذهب بهاجر وبابنها ميمما الجنوب حتى وصل إلى الوادي الذي تقوم مكة اليوم به. وكان هذا الوادي - كما قدمنا - مضرب خيام القوافل في الأوقات التي تفصل فيها القوافل من الشام إلى اليمن، أو من اليمن إلى الشام، ولكنه كان فيما خلا ذلك أشد أوقات السنة خلاء أو يكاد. وترك إبراهيم إسماعيل وأمه وترك لهما بعض ما يتبلغان به. واتخذت هاجر عريشا أوت إليه مع ابنها ... وعاد إبراهيم أدراجه من حيث أتى. فلما نفد الماء والزاد جعلت هاجر تجيل طرفها فيما حولها فلا ترى شيئا. فجعلت تهرول حتى نزلت الوادي تلتمس ماء وهي - فيما يقولون - لا تنفك في هرولتها بين الصفا والمروة، حتى إذا أتمت السعي سبعا عادت إلى ولدها وقد ملكها اليأس فألفته قد فحص الأرض بقدمه فنبع الماء من الأرض فارتوت وأروت إسماعيل معها. وحبست الماء عن السيل حتى لا يضيع في الرمال، وأقام الغلام وأمه ترد عليهم العرب أثناء رحلاتهم، فينالان من الخير ما يكفيهم أسباب العيش إلى أن تمر بهم قوافل أخرى.
استهوت زمزم وماؤها المتفجر بعض القبائل للمقام على مقربة منها. وجرهم أولى القبائل التي أقامت والتي يقول بعض الرواة إنها كانت هناك قبل أن تجيء هاجر وابنها، على حين تذهب روايات أخرى إلى أنها لم تقم إلا بعد أن تفجرت زمزم وجعلت العيش في هذا الوادي الأجرد مستطاعا. وشب إسماعيل وتزوج فتاة من جرهم، وأقام وإياها مع الجرهميين في هذا المكان الذي شيد به البيت الحرام، وقامت مكة بعد ذلك من حوله. ويذكرون أن إبراهيم استأذن سارة يوما في زيارة إسماعيل وأمه فأذنت له فذهب. فلما سأل عن بيت إسماعيل وعرفه قال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد ما نعيش به. فسألها أعندها ضيافة من طعام أو شراب؟ فأجابت بأن ليس عندها شيء، فانصرف إبراهيم بعد أن قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام وقولي له: غير عتبة بيتك، فلما أخبرت إسماعيل بما ذكر أبوه سرحها وتزوج جرهمية أخرى بنت مضاض بن عمرو. قد أكرمت وفادة إبراهيم لما جاء بعد ذلك بزمن. فلما انصرف طلب إليها أن تقرئ زوجها السلام وتقول له: الآن استقامت عتبة بيتك. وولد لإسماعيل من هذا الزواج اثنا عشر ولدا، هم آباء العرب المستعربة، وهم العرب الذين ينتمون من ناحية خئولتهم في جرهم إلى العرب العاربة أبناء يعرب بن قحطان؛ فأما أبوهم إسماعيل بن إبراهيم فيمت من ناحية أمومته إلى مصر بأوثق نسب، ومن ناحية أبوته إلى العراق وإلى فلسطين وإلى حيث نزل إبراهيم من أرض الله.
هذه القصة من قصص التاريخ يكاد ينعقد الإجماع على جملتها من ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى مكة وإن وقع خلاف على التفاصيل. والذين يعرضون لتفاصيل حوادثها بالنقد يروونها على أن هاجر ذهبت بإسماعيل إلى الوادي الذي به مكة اليوم، وكانت به عيون أقامت جرهم عندها، فنزلت هاجر منهم أهلا وسهلا لما جاء إبراهيم بها وبابنها. فلما شب إسماعيل تزوج جرهمية ولدت له أولاده، وكان لهذا التلاقح بين إسماعيل العبري المصري وبين هؤلاء العرب ما جعل ذريته على جانب من العزم وقوة البأس والجمع بين فضائل العرب والعبريين والمصريين. أما ما ورد عن حيرة هاجر لما نضب الماء منها، وعن سعيها سبعا بين الصفا والمروة، وعن زمزم وكيف نبع الماء منها، فموضع شك عندهم.
ويرتاب وليم موير في ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز، وينفي القصة من أساسها، ويذكر أنها بعض الإسرائيليات ابتدعها اليهود قبل الإسلام بأجيال ليربطوا بها بينهم وبين العرب بالاشتراك في أبوة إبراهيم لهم أجمعين، أن كان إسحاق أبا لليهود. فإذا كان أخوه إسماعيل أبا العرب فهم إذن أبناء عمومة توجب على العرب حسن معاملة النازلين بينهم من اليهود، وتيسر لتجارة اليهود في شبه الجزيرة. ويستند المؤرخ الإنكليزي في رأيه هذا إلى أن أوضاع العبادة في بلاد العرب لا صلة بينها وبين دين إبراهيم لأنها وثنية مغرقة في الوثنية، وكان إبراهيم حنيفا مسلما. ولسنا نرى مثل هذا التعليل كافيا لنفي واقعة تاريخية؛ فوثنية العرب بعد موت إبراهيم وإسماعيل بقرون كثيرة لا تدل على أنهم كانوا كذلك حين جاء إبراهيم إلى الحجاز وحين اشترك وإسماعيل في بناء الكعبة. ولو أنها كانت وثنية يومئذ لما أيد ذلك سير موير؛ فقد كان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام، وحاول هو هدايتهم فلم ينجح. فإذا دعا العرب إلى مثل ما دعا إليه قومه فلم ينجح وبقي العرب على عبادة الأوثان لم يطعن ذلك في ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى مكة. بل إن المنطق ليؤيد رواية التاريخ. فإبراهيم الذي خرج من العراق فارا من أهله إلى فلسطين وإلى مصر، رجل ألف الارتحال وألف اجتياز الصحاري؛ والطريق ما بين فلسطين ومكة كان مطروقا من القوافل منذ أقدم العصور؛ فلا محل إذن للريبة في واقعة تاريخية انعقد الإجماع على جملتها.
والسير وليم موير والذين ارتأوا في هذه المسألة رأيه يقولون بإمكان انتقال جماعة من أبناء إبراهيم وإسماعيل بعد ذلك من فلسطين إلى بلاد العرب واتصالهم وإياهم بصلة النسب. وما ندري، وهذا الإمكان جائز عندهم في شأن أبناء إبراهيم وإسماعيل، كيف لا يكون جائزا في شأن الرجلين بالذات؟! وكيف لا يكون ثابتا قطعا ورواية التاريخ تؤكده؟! وكيف لا يكون بحيث لا يأتيه الريب وقد ذكره القرآن وتحدثت به بعض الكتب المقدسة الأخرى؟!
ورفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت الحرام.
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا .
4
ويقول تعالى:
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود * وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير * وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
5
كيف رفع إبراهيم البيت مثابة للناس وأمنا، ليتوجه الناس فيه إلى الله مؤمنين به وحده، ثم أصبح من بعد ذلك موئل الأصنام وعبادتها؟ وكيف كانت أوضاع العبادة تؤدى فيه بعد إبراهيم وإسماعيل، وفي أية صورة كانت تؤدى؟ ومتى تغيرت هذه الأوضاع وتغلبت عليها الوثنية؟ هذا ما لا يحدثنا التاريخ المعروف عنه، وكل ما هنالك فروض يحسبها أصحابها تصف ما كان واقعا. فالصابئون من عباد النجوم كان لهم سلطان كبير في بلاد العرب. وقد كان هؤلاء - فيما يقولون - لا يعبدون النجوم لذاتها، وإنما كانوا في بداءة أمرهم يعبدون الله وحده. ويعظمون النجوم على أنها مظاهر خلقه وقدرته. ولما كانت كثرة الناس الكبرى أقصر من أن يحيط ذهنها بمعنى الألوهية السامي، فقد اتخذوا من النجوم آلهة. وكانت بعض الأحجار البركانية يخال الناس أنها ساقطة من السماء منحدرة لذلك من بعض النجوم؛ ومن ثم اتخذت أول أمرها مظاهر لهذه الآلهة الرفيعة وقدست بهذه الصفة، ثم قدست لذاتها، ثم كانت عبادة الأحجار، ثم بلغ من إجلالها أن كان العربي لا يكفيه أن يعبد الحجر الأسود بالكعبة، بل يأخذ معه في أسفاره أي حجر من أحجار الكعبة يصلي إليه ويستأذنه في الإقامة والسفر، ويؤدي إليه كل ما يؤدى للنجوم وخالق النجوم من أوضاع العبادة. وعلى هذا النحو استقرت الوثنية وقدست التماثيل وقربت لها القرابين.
هذه صورة يصورها بعض المؤرخين لتطور الأمر في بلاد العرب من بناء إبراهيم البيت لعبادة الله، وكيف آل أمره بعد ذلك فصار مستقر الأصنام. وقد ذكر هيرودوت، أبو التاريخ المكتوب، عبادة اللات في بلاد العرب، وذكر ديودور الصقلي بيت مكة الذي يعظمه العرب؛ فدل ذلك على قدم الوثنية في شبه الجزيرة، وعلى أن دين إبراهيم لم يستقر فيها طويلا.
ولقد قام في هذه القرون أنبياء دعوا قبائلهم في بلاد العرب إلى عبادة الله وحده، فرفض العرب وأصروا على وثنيتهم: قام هود فدعا عادا - وكانت تقيم في شمال حضرموت - إلى عبادة الله وحده؛ فما آمن به إلا قليل؛ فأما كثرة قومه فاستكبروا وقالوا له:
يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين .
6
وأقام هود يدعوهم السنين، فلا تزيدهم دعوته إلا عتوا في الأرض واستكبارا. وقام صالح يدعو للإيمان ثمود، وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى في الجنوب الشرقي من أرض مدين القريبة من خليج العقبة؛ ولم تثمر دعوة صالح ثمود أكثر مما أثمرت دعوة هود عادا. وقام شعيب في شعب مدين، وكانوا بالحجاز، يدعوهم إلى الله، فلم يسمعوا له فهلكوا ونزل بهم ما نزل بعاد وثمود، وغير هؤلاء من الأنبياء قص القرآن قصصهم ودعوتهم قومهم لعبادة الله وحده، واستكبار قومهم وإقامتهم على عبادة الأوثان وعلى التوجه بقلوبهم لأصنام الكعبة وحجهم إليها كل عام من كل صوب وحدب في بلاد العرب. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
7
أفكانت تحيط بالكعبة منذ إنشائها مناصب كالتي تولاها قصي بن كلاب في منتصف القرن الخامس الميلادي حين اجتمع له ملك مكة؟ فقد اجتمعت لقصي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والقيادة. والحجابة سدانة البيت؛ أي تولي مفاتيحه. والسقاية إسقاء الحجيج الماء العذب الذي كان عزيزا بمكة، وإسقاؤهم كذلك نبيذ التمر. والرفادة إطعام الحاج جميعا. والندوة رياسة الاجتماع كل أيام العام، واللواء راية يلوونها على رمح وينصبونها علامة للعسكر إذا توجهوا إلى عدو. والقيادة إمارة الجيش إذا خرجوا إلى حرب، وكانت هذه المناصب كلها معتبرة في مكة وكأنها تحيط بالكعبة متجه أنظار العرب جميعا في عبادتهم. وأحسبها لم تنبت كلها دفعة واحدة منذ أقيم البيت، بل نشأت الواحدة تلو الأخرى مستقلا بعضها عن الكعبة ومكانتها الدينية، متصلا بعضها بالكعبة من طبعه.
لم تكن مكة حين بناء الكعبة - على خير ما يمكن أن يصوره خيالنا - لتزيد على قبائل من العماليق ومن جرهم، فلما استقر بها إسماعيل ورفع قواعد البيت مع أبيه إبراهيم اقتضى تطور مكة، لتصير حضرا أو ما يشبه الحضر، زمانا طويلا، ونقول: ما يشبه الحضر أن ظلت مكة وما تزال وفي طباع أهلها بقايا متخلفة من معاني البداوة الأولى. ولا يأبى بعض المؤرخين أن يذكر أنها ظلت على بداوتها إلى أن اجتمع أمرها لقصي في منتصف القرن الخامس للميلاد، وعسير أن نتصور بقاء بلد له ما لمكة وبيتها العتيق من التقديس في حالة البادية، مع ما يثبت التاريخ من أن أمر البيت بقي بعد إسماعيل في يد جرهم أخوال بنيه أجيالا متعاقبة أقاموها حوله، ومع أن مكة كانت ملتقى طرق القوافل إلى اليمن وإلى الحيرة وإلى الشام وإلى نجد، كما كانت تتصل من البحر الأحمر القريب منها بتجارة العالم - عسير أن نتصور بقاء بلد له هذه المكانة من غير أن يدنيه اتصاله بالعالم من مراتب الحضارة. فمن الحق لذلك أن نقدر أن مكة - وقد دعاها إبراهيم بلدا ودعا الله له أن يكون آمنا مطمئنا - قد عرفت حياة الاستقرار أجيالا طويلة قبل قصي.
وظل أمر مكة لجرهم بعد أن غلبوا العماليق عليها إلى عهد مضاض بن عمرو بن الحارث. وقد راجت تجارة مكة خلال هذه الأجيال رواجا أمر مترفيها وجعلوا ينسون أنهم بواد غير ذي زرع وأنهم في حاجة لذلك إلى الدأب المتصل واليقظة الدائمة. وبلغ من نسيانهم أن نضب ماء زمزم وأن فكر عرب خزاعة في الوثوب إلى مناصب الأمر في البلد الحرام.
ولم يجد تحذير مضاض قومه عاقبة ما انغمسوا فيه من ترف، وأيقن أن الأمر زائل عنه وعنهم؛ فعمد إلى زمزم فأعمق حفرها، وإلى غزالتين من ذهب كانتا بالكعبة مع طائفة من الأموال التي كانت تهدى إلى البيت الحرام فدفعها بقاع البئر وأهال الرمال عليها، آملا أن يعود له الأمر يوما فيفيد من الكشف عنها، وخرج ومعه بنو إسماعيل من مكة. ووليت خزاعة أمرها. وظلت تتوارثه حتى آل إلى قصي بن كلاب الجد الخامس للنبي.
وكانت أم قصي فاطمة بنت سعد بن سهل قد تزوجت من كلاب فولدت له زهرة وقصيا. ثم هلك كلاب وقصي طفل في المهد. وتزوجت فاطمة من ربيعة بن حرام؛ فرحل بها إلى الشام وهناك ولدت له دراجا. وكبر قصي وهو لا يعرف لنفسه أبا غير ربيعة. ووقع بينه وبين آل ربيعة شر فعيروه أنه في جوارهم وأنه ليس منهم. وشكا قصي إلى أمه ما عير إياه، فقالت: يا بني إنك والله لأكرم منهم أبا، أنت ابن كلاب بن مرة، وقومك بمكة عند البيت الحرام.
وقدم قصي مكة وأقام بها، وعرف عنه فيها من الجد وحسن الرأي ما جعله موضع احترام أهلها وأهله فيها. وكانت سدانة البيت في خزاعة لحليل بن حبشية، وكان رجلا ثاقب النظر حسن التقدير؛ فما لبث حين خطب قصي إليه ابنته حبى أن رحب به وزوجه منها. واستمر دأب قصي في السعي والتجارة، فكثرت أمواله كما كثر أولاده وعظم بين قومه شرفه. ومات حليل بعد أن أوصى بمفتاح البيت الحرام لحبى زوج قصي، واعتذرت حبى عن ذلك وجعلت المفتاح لأبي غبشان الخزاعي. وكان أبو غبشان سكيرا، فأعوزه الشراب يوما فباع مفتاح البيت قصيا بزق خمر. وقدرت خزاعة ما يصيب مكانتها بمكة إذا بقيت سدانة الكعبة لقصي بعد أن كثر ماله وبعد أن بدأت قريش تجتمع حوله، فأنكروا أن يكون لغيرهم منصب من المناصب المتصلة بالبيت الحرام. واستنفر قصي قريشا، ورأت بعض القبائل أنه أحكم المقيمين بمكة وأعظمهم قدرا فانضموا له وأجلوا خزاعة عن مكة، واجتمعت مناصب البيت كلها لقصي، وأقر القوم له بالملك عليهم.
وذهب البعض - كما قدمنا - إلى أن مكة لم يكن بها بناء غير الكعبة إلى أن تولى قصي أمرها. ويعللون ذلك بأن خزاعة وجرهما قبلها لم يريدوا أن يكون إلى جوار بيت الله بيت غيره، وأنهم لم يكونوا يقيمون ليلهم بالحرم بل يذهبون إلى الحل. ويضيف هذا البعض أن قصيا لما تم له أمر مكة جمع قريشا وأمرهم أن يبنوا بها، وابتدأ هو فبنى دار الندوة يجتمع فيها كبراء أهل مكة تحت إمرته ليتشاوروا في أمور بلدهم. فقد كان من عادتهم ألا يتم أمر إلا باتفاقهم؛ فلم تكن تنكح امرأة ولا يتزوج رجل إلا في هذه الدار. وبنت قريش بأمر قصي حول الكعبة دورها، وتركوا مكانا كافيا للطواف بالبيت، وتركوا بين كل بيتين طريقا ينفذ منه إلى المطاف.
كان عبد الدار أكبر أبناء قصي، ولكن أخاه عبد مناف كان قد تقدم عليه أمام الناس وقد شرف فيهم. فلما كبر قصي وضعف بدنه ولم يبق قادرا على تولي أمور مكة جعل الحجابة لعبد الدار وسلم إليه مفتاح البيت، كما أعطاه السقاية واللواء والرفادة. وكانت الرفادة قسطا تخرجه قريش كل عام من أموالها فتدفعه إلى قصي يصنع منه في موسم الحج طعاما ينال منه من الحاج من لم يكن ذا سعة ولا زاد. وكان قصي أول من فرض الرفادة على قريش حين جمعهم واعتز بهم وأخرج وإياهم خزاعة من مكة. فرضها عليهم وقال لهم: «يا معشر قريش! إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل حرمه، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الأضياف بالكرامة ، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم.»
وتولى عبد الدار مناصب الكعبة كأمر أبيه وتولاها أبناؤه من بعده. لكن أبناء عبد مناف كانوا أشرف في قومهم وأعظم مكانة: لذلك أجمع هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل بنو عبد مناف على أن يأخذوا ما بأيدي أبناء عمومتهم، وتفرق رأي قريش: تنصر طائفة هؤلاء وأخرى أولئك. وعقد بنو عبد مناف حلف المطيبين؛ لأنهم غمسوا أيديهم في طيب جاءوا به إلى الكعبة وأقسموا لا ينقضون حلفهم. وعقد بنو عبد الدار حلف الأحلاف. وكان هؤلاء وأولئك يوشكون أن يقتتلوا في حرب تذيب قريشا لولا أن تداعى الناس إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تبقى الحجاجة واللواء والندوة لبني عبد الدار. ورضي الفريقان بذلك، وظل الأمر عليه إلى أن جاء الإسلام.
وكان هاشم كبير قومه، وكان ذا يسار، فولي السقاية والرفادة، ودعا قومه إلى مثل ما دعاهم إليه قصي جده. دعاهم إلى أن يخرج كل منهم من ماله ما ينفقه هو في إطعام الحاج أثناء الموسم. فزوار بيت الله وحجاجه هم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيف الله. وكذلك كان يطعم الحاج جميعا حتى يصدروا عن مكة.
لم يقف أمر هاشم عند هذا، بل اتصل بره وكرمه بأهل مكة أنفسهم. أصابتهم سنة،
8
فجاء لهم من الطعام وثرد لهم الثريد بما جعلهم ينظرون من جديد إلى الحياة بوجه باسم. وهاشم هو كذلك الذي سن رحلتي الشتاء والصيف: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، وبهذه المظاهر كلها ازدهرت مكة وسمت مكانتها في أنحاء شبه الجزيرة جميعا، واعتبرت العاصمة المعترف بها. وطوع هذا الازدهار لأبناء عبد مناف أن يعقدوا مع جيرانهم معاهدات أمن وسلام: عقد هاشم بنفسه مع الإمبراطورية الرومانية ومع أمير غسان معاهدة حسن جوار ومودة، وحصل من الإمبراطورية على الإذن لقريش بأن تجوب الشام في أمن وطمأنينة. وعقد عبد شمس معاهدة تجارية مع النجاشي، كما عقد نوفل والمطلب حلفا مع فارس ومعاهدة تجارية مع الحميريين في اليمن. وكذلك ازدادت مكة منعة جاه كما ازدادت يسارا، وبلغ أهلها من المهارة في التجارة أن أصبحوا لا يدانيهم فيها مدان من أهل عصرهم. وكانت القوافل تجيء إليها من كل صوب وتصدر عنها في رحلتي الشتاء والصيف، وكانت الأسواق تنصب فيما حولها لتصريف هذه التجارة فيها؛ ولذلك مهر أهلها في النسيئة والربا وفي كل ما يتصل بالتجارة من أسباب المعاملات.
وظل هاشم تتقدم به السن وهو في مكانته على رياسة مكة لا يفكر أحد في منافسته، حتى خيل لابن أخيه أمية بن عبد شمس أنه قد بلغ مكانا يسوغ له هذه المنافسة، لكنه لم يقدر وغلب على أمره، وبقي الأمر لهاشم. وترك أمية مكة إلى الشام عشر سنوات كاملة. وإن هاشما لفي رحلته يوما عائدا من الشام مارا بيثرب إذ رأى امرأة ذات شرف وحسب تطل على قوم يتجرون لها؛ تلك سلمى بنت عمرو الخزرجية. وقد أعجب هاشم بها، وسأل: أهي في عصمة رجل؟ فلما عرف أنها مطلقة وأنها لا ترضى زوجا إلا أن تكون عصمتها بيدها، خطبها إلى نفسها فرضيت لعلمها بمكانته من قومه. وأقامت معه بمكة زمنا عادت بعده إلى المدينة حيث ولدت ولدا دعته شيبة ظل في حضانتها بيثرب.
خريطة مكة المكرمة.
ومات هاشم بعد سنين من ذلك بغزة أثناء إحدى رحلات الصيف، فخلفه أخوه المطلب في مناصبه. وكان المطلب أصغر من أخيه عبد شمس، ولكنه كان ذا شرف في القوم وفضل. وكانت قريش تسميه «الفيض» لسماحته وفضله. وطبيعي، وذلك مكان المطلب من قومه، أن تبقى الأمور تسير سيرتها مطمئنة هانئة.
وفكر المطلب يوما في ابن أخيه هاشم، فذهب إلى يثرب وطلب إلى سلمى أن تدفع إليه الفتى وقد بلغ أشده. وأردف المطلب الفتى على بعيره ودخل به مكة، فظنته قريش عبدا له جاء به؛ فتصايحت: عبد المطلب. قال المطلب، ويحكم، إنما هو ابن أخي هاشم قدمت به من يثرب. على أن هذا اللقب غلب على الفتى فدعي به ونسي الناس اسم شيبة الذي دعي به منذ ولد.
وأراد المطلب أن يرد على ابن أخيه أموال هاشم، لكن نوفل أبى ووضع يده عليها. فلما اشتد ساعد عبد المطلب استعدى أخواله بيثرب على عمه كي يردوا عليه حقه. وأقبل ثمانون فارسا من خزرج يثرب لنصرته، فاضطر نوفل إلى رد ماله إليه. وقام عبد المطلب في مناصب هاشم، له السقاية والرفادة من بعد عمه المطلب. وقد لقي في القيام بهذين المنصبين، وبالسقاية بنوع خاص، شيئا غير قليل من المشقة؛ فقد كان يومئذ وليس له من الأبناء إلا ولده الحارث. وكانت سقاية الحاج يؤتى بها، منذ نضبت زمزم، من آبار عدة مبعثرة حول مكة، فتوضع في أحواض إلى جوار الكعبة. وكانت كثرة الولد عونا على تيسير هذا العمل والإشراف عليه. أما وقد ولي عبد المطلب السقاية والرفادة وليس له ولد إلا الحارث فقد عناه الأمر وطال فيه تفكيره.
وكانت العرب ما تفتأ تذكر زمزم التي طمها مضاض بن عمرو الجرهمي منذ قرون خلت، وتتمنى لو أنها كانت لا تزال باقية. وكان عبد المطلب بطبيعة مركزه أكثرهم تفكيرا في هذا الأمر وأشدهم تمنيا أن يكون. ولقد ألح الرجاء به حتى كان يهتف به الهاتف أثناء نومه يحضه على أن يحفر البئر التي تفجرت تحت أقدام جده إسماعيل. وألح الهاتف يدله على مظان وجودها؛ وألح هو باحثا عن زمزم حتى اهتدى إليها بين الوثنين إساف ونائلة. وجعل يحفر مستعينا بابنه الحارث حتى نبع الماء وظهرت غزالتا الذهب وأسياف مضاض الجرهمي، وأرادت قريش أن تشارك عبد المطلب في البئر وفيما وجد فيها. فقال لهم: لا! ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم: نضرب عليها بالقداح؛ نجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له؛ فارتضوا رأيه. ثم أعطوا القداح صاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل في جوف الكعبة، فتخلف قدحا قريش وخرجت الأسياف لعبد المطلب والغزالتان للكعبة، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب غزالتي الذهب حلية للبيت الحرام. وأقام عبد المطلب في سقاية الحاج بعد أن يسرتها زمزم له.
وأحس عبد المطلب قلة حوله في قومه لقلة أولاده، فنذر إن ولد له عشرة بنين ثم بلغوا معه أن يمنعوه من مثل ما لقي حين حفر زمزم لينحرن أحدهم لله عند الكعبة. وتوافى بنوه عشرة آنس فيهم المقدرة على أن يمنعوه؛ فدعاهم إلى الوفاء بنذره فأطاعوه. وفي سبيل هذا الوفاء كتب كل واحد من الأبناء اسمه على قدح، وأخذها عبد المطلب وذهب بها إلى صاحب القداح عند هبل في جوف الكعبة. وكانت العرب كلما اشتدت بها الحيرة في أمر لجأت إلى صاحب القداح كي يستفتي لها كبير الآلهة الأصنام عن طريق القداح. وكانت عبد الله بن عبد المطلب أصغر أبنائه وأحبهم لذلك إليه. فلما ضرب صاحب القداح القداح التي عليها أسماء هؤلاء الأبناء ليختار هبل من بينها من ينحره أبوه، خرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد المطلب الفتى بيده وذهب به لينحره حيث كانت تنحر العرب عند زمزم بين إساف ونائلة. إذ ذاك قامت قريش كلها من أنديتها تهيب به أن لا يفعل، وأن يلتمس عن عدم ذبحه عند هبل عذرا. وتردد عبد المطلب لدى إلحاحهم. وسألهم ما عساه يفعل لترضى الآلهة؟ قال المغيرة بن عبد الله المخزومي: إن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وتشاور القوم، واستقر رأيهم على الذهاب إلى عرافة بيثرب لها في مثل هذه الأمور رأي. وجاءوا العرافة، فاستمهلتهم إلى الغد ثم قالت لهم كم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل. قالت: فارجعوا إلى بلادكم ثم تقربوا وقربوا عشرا من الإبل ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم. وقبلوا، وجعلت القداح تخرج على عبد الله فيزيدون في الإبل حتى بلغت مائة، عند ذلك خرجت القداح على الإبل. فقالت قريش لعبد المطلب، وكان أثناء ذلك كله واقفا يدعو ربه: قد رضي ربك يا عبد المطلب. قال عبد المطلب: لا والله ، حتى أضرب عليها ثلاث مرات. وفي المرات الثلاث خرجت القداح على الإبل؛ فاطمأن عبد المطلب إلى رضاء ربه ونحرت الإبل، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.
بذلك تجري كتب السيرة فتصف طرفا من عادات العرب وعقائدهم وأوضاع هذه العقائد، وتدل في الوقت نفسه على ما بلغت مكة في بلاد العرب من مقام كريم ببيتها الحرام. ويروي الطبري - استدلالا على قصة الفداء هذه - أن امرأة من المسلمين نذرت إن فعلت كذا لتنحرن ابنها، وفعلت ذلك الأمر، ثم ذهبت إلى عبد الله بن عمر فلم ير في فتياها شيئا، فذهبت إلى عبد الله بن العباس فأفتاها بأن تنحر مائة من الإبل، كما كان الأمر في فداء عبد الله بن عبد المطلب، فلما عرف ذلك مروان والي المدينة أنكره، وقال: لا نذر في معصية.
أدت مكانة مكة ومقام بيتها الحرام إلى إقامة بعض البلاد البعيدة معابد فيها لعلها تصرف الناس عن مكة وعن بيتها. فأقام الغساسنة بيتا بالحيرة. وأقام أبرهة الأشرم بيتا باليمن. فلم يغن ذلك العرب عن بيت مكة ولا هو صرفهم عن البلد الحرام. وقد عني أبرهة بزخرفة بيت اليمن غاية العناية، وجلب له من فاخر الأثاث ما خيل إليه معه أنه صارف العرب وصارف أهل مكة أنفسهم إليه. فلما رأى العرب لا تتجه إلا إلى البيت العتيق، ورأى أهل اليمن يدعون البيت الذي بني يعتبرون حجهم مقبولا إلا بمكة، لم يجد عامل النجاشي وسيلة إلا هدم بيت إبراهيم وإسماعيل. وتهيأ للحرب في جيش لجب من الحبشة تقدمه على فيل عظيم ركبه. وسمعت العرب بذلك. فخافت العاقبة، وعظم عليها أن يقدم رجل حبشي على هدم بيت حجهم ومقام أصنامهم. وهب رجل، كان من أشراف أهل اليمن وملوكها يدعى ذا نفر، فاستنفر قومه ومن أجاب من غيرهم من العرب لمقاتلة أبرهة وصده عما يريد من هدم بيت الله. لكنه لم يستطع أن يثبت لأبرهة بل هزم وأخذ أسيرا. وهزم كذلك نفيل بن حبيب الخثعمي حين جمع قومه من قبيلتي شهران وناهس وأخذ كذلك أسيرا، فأقام نفسه دليلا لأبرهة وجيشه، فلما نزل أبرهة الطائف كلمه أهلها بأن بيتهم ليس هو البيت الذي يريد، إنما هو بيت اللات، وبعثوا معه من يدلهم على مكة.
فلما اقترب أبرهة من مكة بعث رجلا من الجيش على فرسان له، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وبينها مائة بعير لعبد المطلب بن هاشم. وهمت قريش ومن معهم من أهل مكة بقتاله، ثم رأوا أن لا طاقة لهم به، وبعث أبرهة رجلا من رجاله يدعى حناطة الحميري سأل عن سيد مكة، فذهبوا به إلى عبد المطلب بن هاشم، فأبلغه رسالة أبرهة إليه، أنه لم يأت لحرب وإنما جاء لهدم البيت؛ فإن لم تحاربه مكة فلا حاجة به لدماء أهلها. فلما ذكر له عبد المطلب أنهم لا يريدون حربا سار به حناطة ومع عبد المطلب بعض أبنائه وبعض كبراء مكة حتى بلغوا معسكر الجيش. وأكرم أبرهة وفادة عبد المطلب وأجابه إلى رد إبله إليه. لكنه أبى إباء تاما كل حديث في أمر الكعبة ورجوعه عن هدمها، ورفض ما عرض عليه وفد مكة من النزول له عن ثلث ثروة تهامة. وعاد عبد المطلب وقومه إلى مكة؛ فنصح للناس أن يخرجوا منها إلى شعاب الجبل خيفة أبرهة وجيشه حين يدخلون البلد الحرام لهدم البيت العتيق.
وكانت ليلة ليلاء تلك التي فكر فيها القوم في هجر بلدهم وما هو نازل به وبهم. ذهب عبد المطلب ومعه نفر من قريش فأخذ حلقة باب الكعبة وجعل يدعو ويدعون يستنصرون آلهتهم على هذا المعتدي على بيت الله. فلما انصرفوا وخلت مكة منهم وآن لأبرهة أن يوجه جيشه ليتم ما اعتزم فيهدم البيت ويعود أدراجه إلى اليمن، كان وباء الجدري قد تفشى بالجيش وبدأ يفتك به؛ وكان فتكه ذريعا لم يعهد من قبل قط. ولعل جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر، وأصابت العدوى أبرهة نفسه، فأخذه الروع وأمر قومه بالعودة إلى اليمن. وفر الذين كانوا يدلون على الطريق ومات منهم من مات. وكان الوباء يزداد كل يوم شدة ورجال الجيش يموت منهم من يموت كل يوم بغير حساب. وبلغ أبرهة صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض، فلم يقم إلا قليلا حتى لحق بمن مات من جيشه. وبذلك أرخ أهل مكة بعام الفيل هذا، وخلده القرآن بذكره:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول .
9
زاد هذا الحادث الفذ العجيب في مكانة مكة الدينية، وزاد تبعا لذلك في مكانتها التجارية، وزاد أهلها انصرافا عن التفكير في شيء غير الاحتفاظ بتلك المكانة الرفيعة الممتازة ومحاربة من يحاول الانتقاص منها أو الاعتداء عليها.
وزاد المكيين حرصا على مكانة مدينتهم ما كانت تتيحه لهم من رخاء وترف على أوسع صورة يستطيع الذهن تصورها للترف في هذه الجهة الصحراوية البلقع الجرداء. فقد كان لأهلها غرام بالنبيذ أي غرام، وكانوا يجدون في النشوة به نعيما أي نعيم! نعيما يسر لهم أن يطلقوا لشهواتهم أعنتها، وأن يجدوا في الجواري والعبيد الذين يتجرون فيهم والذين يشترونهم متعا تغريهم بالمزيد منها، ويغريهم ذلك بالحرص على حريتهم وحرية مدينتهم، وباليقظة للذود عن هذه الحرية ودفع كل معتد أثيم تحدثه نفسه بالعدوان عليها.
ولم يكن شيء أشهى إليهم من أن يجعلوا سمرهم وشرابهم في سرة المدينة حول بناء الكعبة. وهناك إلى جانب ثلاثمائة صنم أو تزيد، لكل قبيلة من قبائل العرب بينها صنم أو أكثر، كان أكابر قريش والمقدمون من أهل مكة يجلسون؛ يقص كل منهم أمر ما اتصل به من أخبار البادية واليمن وجماعة المناذرة في الحيرة والغساسنة في الشام مما ترد به القوافل أو يتناقله سكان البادية. وكان ذلك يصل إليهم على سبيل الرواية تتناقلها قبيلة عن قبيلة، وكأن كل قبيلة لها مذيع وملتقط لاسلكي يتلقى الأنباء ويذيعها. يقص كل ما اتصل به من أخبار البادية ويروي روايات جيرانه وأصحابه ويشرب نبيذه ويعد نفسه بعد سمر الكعبة لسمر أكثر إشباعا لأهوائه وإمتاعا لشهواته.
وتطل الأصنام بعيونها الحجرية على مجالس السمر هذه، وللسامرين فيها من الحماية أن جعلت الكعبة بيتا حراما ومكة بلد آمنا، وللأصنام على السامرين ألا يدخل مكة كتابي إلا أن يكون أجيرا لا يتحدث بشيء من أمر دينه ومن أمر كتابه؛ ولذلك لم تكن ثمة جاليات من اليهود كما كانت بيثرب، ولا من النصارى كما كانت بنجران. بل كانت كعبتها قدس أقداس الوثنية تحميها من كل مجدف في أمرها، وتحتمي بها من العدوان عليها. وكذلك استقلت مكة بنفسها كما كانت تستقل قبائل العرب بنفسها، ولا ترضى لغيرها عليها سلطانا، ولا ترضى من استقلالها بديلا ولا تعنى من الحياة بغير هذا الاستقلال في حمى أوثانها؛ لا تضار قبيلة قبيلة أخرى، ولا تفكر طائفة من القبائل في الارتباط لتكون جماعة قوية لها ما للروم أو للفرس من مطامع في السيادة والغزو، ومن ثم ظلت القبائل جميعا ولا كيان لها غير كيان البداوة تنتجع في ظلاله المرعى، وتعيش في كنفه عيشا خشنا، يحببه إليها ما فيه من استقلال وحرية وأنفة وفروسية.
وكانت منازل أهل مكة تحيط بدارة الكعبة، تقترب منها أو تبتعد عنها تبعا لما لكل أسرة وفخذ من جلال خطر وجليل مقام؛ فكان القرشيون أقربهم إليها دارا وأكثرهم بها اتصالا، كما كانت لهم سدانتها وسقاية زمزم وكل ألقاب التشريف الوثنية التي قامت في سبيلها حروب، وانعقدت من أجلها أحلاف، وضعت من أجلها بين القبائل معاهدات صلح كانت تحفظ في الكعبة تسجيلا لها، وإشهادا لآلهتهم على ما فيها حتى تنزل غضبها بمن يخل بتعهداتها. وفيما وراء منازل قريش كانت تجيء منازل القبائل التي تليها في الخطر، ثم تلي هذه منازل من دونهم، حتى تكون منازل العبيد والخلعاء المستهترين. وكان النصارى واليهود بمكة عبيدا. كما قدمنا، فكان مقامهم بهذه المنازل البعيدة عن الكعبة المتاخمة للصحراء؛ ولذلك كان ما يتحدثون به من قصص دينية عن النصرانية واليهودية بعيدا عن أن يتصل بسمع أمجاد قريش وأشراف أهل البلد الحرام. وأتاح لهم بعده أن يصموا دونه آذانهم. كما جعله بحيث لا يشغل بالهم، وهم قد كانوا يسمعون مثله أثناء رحلاتهم كلما مروا بدير من الأديار أو صومعة من الصوامع.
على أن ما بدأ يقال يومئذ عن نبي يظهر بين العرب قد أخذ يقض بعض المضاجع. ولقد عتب أبو سفيان يوما على أمية بن أبي الصلت كثرة تكريره لما يذكره الرهبان من هذا الأمر. وربما كان من حق أبي سفيان يومئذ أن يقول لصاحبه: إن هؤلاء الرهبان إنما يتحدثون من ذلك بما يتحدثون لأنهم في جهل من أمر دينهم. فهم في حاجة إلى نبي يدلهم عليه؛ أما ونحن نتخذ الأصنام ليقربونا إلى الله زلفى فلا حاجة بنا إلى شيء من هذا؛ ويجب علينا أن نحارب كل حديث من مثله. كان من حقه أن يقول هذا؛ لأنه في تعصبه لمكة ووثنيتها لم يكن يقدر أن ساعة الهدى بالباب، وأن نبوة محمد عليه السلام اقتربت، وأن من بلاد العرب الوثنية المتدابرة سيضيء العالم كله نور التوحيد وكلمة الحق.
وكان عبد الله بن عبد المطلب فتى وسيما جميل الطلعة. وكان أوانس مكة ونساؤها معجبات لذلك به، وزادهن به إعجابا حديث الفداء والمائة من الإبل التي لم يرض هبل بما دونها فداء له، لكن القدر كان قد أعد عبد الله لأكرم أبوة عرفها التاريخ، وأعد آمنة بنت وهب لتكون أما لابن عبد الله؛ لذلك تزوجها ولم تك إلا أشهر بعد زواجه منها حتى مات، لم ينجه من الموت فداء أيا كان نوعه. وبقيت آمنة من بعد لتلد محمدا ولتموت وما يزال طفلا.
ونضع أمام نظر القارئ رسما توضيحيا لشجرة النسب النبوي مبينا عليها أقرب التواريخ لميلاد أصحابها.
الفصل الثالث
محمد: من ميلاده إلى زواجه
(زواج عبد الله من آمنة - وفاة عبد الله - مولد محمد - رضاعه في بني سعد - قصة الملكين - مقامه خمس سنوات بالبادية - موت آمنة - كفالة عبد المطلب إياه - موت عبد المطلب - كفالة أبي طالب إياه - خروجه إلى الشام في الثانية عشرة من عمره - حرب الفجار - رعيه الغنم - خروجه في تجارة خديجة إلى الشام - زواجه بخديجة) ***
كان عبد المطلب قد جاوز السبعين أو ناهزها حين حاول أبرهة مهاجمة مكة وهدم البيت العتيق. وكان ابنه عبد الله في الرابعة والعشرين من سنه. فرأى أن يزوجه، فاختار له آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة سيد بني زهرة إذ ذاك سنا وشرفا. وخرج به حتى أتى منازل بني زهرة ودخل وإياه عند وهب وخطب إليه ابنته. ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه إنما ذهب إلى أهيب عم آمنة؛ لأن أباها كان هلك وكانت هي في كفالة عمها. وفي اليوم الذي تزوج عبد الله فيه من آمنة تزوج عبد المطلب من ابنة عمها هالة، فأولدها حمزة عم النبي وضريبه في سنه.
وأقام عبد الله مع آمنة في بيت أهلها ثلاثة أيام، على عادة العرب حين يتم الزواج في بيت العروس. فلما انتقل وإياها إلى منازل بني عبد المطلب لم يقم معها طويلا، إذ خرج في تجارة إلى الشام، وتركها حاملا، وتختلف الروايات في أمر عبد الله وهل تزوج غير آمنة، وهل عرضت عليه نساء غيرها أنفسهن. والوقوف لتقصي أمثال هذه الروايات لا غناء فيه. وكل ما يمكن الاطمئنان إليه أن عبد الله كان شابا وسيما قويا؛ فلم يكن عجبا أن تطمع غير آمنة في الزواج منه. فلما بنى بها تقطعت بغيرها أسباب الأمل ولو إلى حين. ومن يدري، لعلهن قد انتظرن أوبته من رحلته إلى الشام ليكن زوجات له مع آمنة. ومكث عبد الله في رحلته هذه الأشهر التي يقتضيها الذهاب إلى غزة والعود منها، ثم عرج على أخواله بالمدينة يستريح عندهم من وعثاء السفر ليقوم بعد ذلك في قافلة إلى مكة؛ لكنه مرض عند أخواله فتركه رفاقه؛ حتى إذا بلغوا مكة أخبروا أباه بمرضه. ولم يلبث عبد المطلب حين سمع منهم أن أوفد الحارث أكبر بنيه إلى المدينة ليعود بأخيه بعد إبلاله. وعلم الحارث حين بلغ المدينة أن عبد الله مات ودفن بها بعد شهر من مسير القافلة إلى مكة، فرجع أدراجه ينعى أخاه إلى أهله ويثير من قلب عبد المطلب ومن قلب آمنة هما وشجنا، لفقد زوج كانت آمنة ترجو في حياته هناءة وسعادة. وكان عبد المطلب عليه حريصا حتى افتداه من آلهته فداء لم تسمع العرب من قبل بمثله.
وترك عبد الله من بعده خمسة من الإبل وقطيعا من الغنم وجارية هي أم أيمن حاضنة النبي من بعد. ربما لا تكون هذه الثروة مظهر ثراء وسعة؛ لكنها كذلك لم تكن تدل على فقر ومتربة. ثم إن عبد الله كان في مقتبل عمره، فكان قديرا على الكسب والعمل والبلوغ إلى السعة في المال؛ وكان أبوه ما يزال حيا فلم يؤل إليه شيء من ميراثه.
وتقدمت بآمنة أشهر الحمل حتى وضعت كما تضع كل أنثى. فلما تم لها الوضع بعثت إلى عبد المطلب عند الكعبة تخبره أنه ولد له غلام. وفاض بالشيخ السرور حين بلغه الخبر، وذكر ابنه عبد الله وقلبه مفعم بالغبطة لخلفه، وأسرع إلى زوج ابنه وأخذ طفلها بين يديه، وسار حتى دخل الكعبة وسماه محمدا. وكان هذا الاسم غير متداول بين العرب، لكنه كان معروفا. ورد الجد الصبي إلى أمه وجعل وإياها ينتظر المراضع من بني سعد لتدفع الأم بوليدها إلى إحداهن، على عادة أشراف العرب من أهل مكة.
وقد اختلف المؤرخون في العام الذي ولد محمد فيه؛ فأكثرهم على أنه عام الفيل (570 ميلادية). ويقول ابن عباس: إنه ولد يوم الفيل. ويقول آخرون: إنه ولد قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ويذهب غير هؤلاء إلى أنه ولد بعد الفيل بأيام أو بأشهر أو بسنين، يقدرها قوم بثلاثين سنة، ويقدرها قوم بسبعين.
واختلف المؤرخون كذلك في الشهر الذي ولد فيه وإن كانت كثرتهم على أنه ولد في شهر ربيع الأول. وقيل: ولد في المحرم. وقيل ولد في صفر وبعضهم يرجح رجبا، على حين يرجح آخرون شهر رمضان.
كذلك اختلف في تاريخ اليوم من الشهر الذي ولد فيه؛ فقيل: ولد لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وقيل: لثماني ليال، وقيل: لتسع. والجمهور على أنه ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وهو قول ابن إسحاق وغيره .
وكذلك اختلف في الوقت الذي ولد فيه أنهارا كان أم ليلا. كما اختلف في مكان ولادته بمكة. ويرجح كوسان دبرسفال في كتابه عن العرب أن محمدا ولد في أغسطس سنة 570، أي عام الفيل، وأنه ولد بمكة بدار جده عبد المطلب.
وفي سابع يوم لمولده أمره عبد المطلب بجزور فنحرت، ودعا رجالا من قريش فحضروا وطعموا. فلما علموا منه أنه أسمى الطفل محمدا سألوه لم رغب عن أسماء آبائه؟ فقال: أردت أن يكون محمودا في السماء لله وفي الأرض لخلقه.
انتظرت آمنة مجيء المراضع من بني سعد لتدفع به إلى إحداهن كعادة أشراف العرب من أهل مكة. ولا تزال هذه العادة متبعة عند أشراف مكة؛ إذ يبعثون أبناءهم إلى البادية في اليوم الثامن من مولدهم ثم لا يعودون إلى الحضر حتى يبلغوا الثامنة أو العاشرة. ومن قبائل البادية من لها في المراضع شهرة، ومن بينها قبيلة بني سعد. وفي انتظار المراضع دفعت آمنة بالطفل إلى ثويبة جارية عمه أبي لهب فأرضعته زمنا، كما أرضعت من بعد عمه حمزة؛ فكانا أخوين في الرضاع. ومع أن ثويبة لم ترضعه إلا أياما فقد ظل يحفظ لها خير الود ويصلها ما عاشت؛ ولما ماتت في السنة السابعة من هجرته إلى المدينة سأل عن ابنها الذي كان أخاه في الرضاع ليصله مكانها، فعلم أنه مات قبلها.
وجاءت مراضع بني سعد إلى مكة يلتمسن الأطفال لإرضاعهم. وكن يعرضن عن اليتامى لأنهن كن يرتجين البر من الآباء. أما اليتامى فكان الرجاء فيهن قليلا؛ لذلك لم تقبل واحدة من أولئك المراضع على محمد، وذهبت كل بمن ترجو من أهله وافر الخير.
على أن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية التي أعرضت عن محمد أول الأمر كما أعرض عنه غيرها لم تجد من تدفع إليها طفلها؛ ذلك أنها كانت على جانب من ضعف الحال صرف الأمهات عنها. فلما أجمع القوم على الانطلاق عن مكة قالت حليمة لزوجها الحارث بن عبد العزى: والله إني لأكره أن أرجع مع صواحبي ولم آخذ رضيعا ، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم ولآخذنه! وأجابها زوجها: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. وأخذت حليمة محمدا وانطلقت به مع قومها إلى البادية. وكانت تحدث أنها وجدت فيه منذ أخذته أي بركة: سمنت غنمها وزاد لبنها، وبارك الله لها في كل ما عندها.
وأقام محمد في الصحراء سنتين ترضعه حليمة وتحضنه ابنتها الشيماء؛ ويجد هو في هواء الصحراء وخشونة عيش البادية ما يسرع به إلى النمو ويزيد في وسامة خلقه وحسن تكوينه. فلما أتم سنتيه وآن فصاله ذهبت به حليمة إلى أمه ثم عادت به إلى البادية، رغبة من أمه، في رواية، ومن حليمة في رواية أخرى؛ عادت به حتى يغلظ، وخوفا عليه من وباء مكة. وأقام الطفل بالصحراء سنتين أخريين يمرح في جو باديتها الصحو الطلق لا يعرف قيدا من قيود الروح ولا من قيود المادة.
في هذه الفترة وقبل أن يبلغ الثالثة تقع الرواية التي يقصونها من أنه كان مع أخيه الطفل من سنه في بهم لأهله خلف بيوتهم؛ إذ عاد أخوه الطفل السعدي يعدو ويقول لأبيه وأمه: ذلك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه فشقا بطنه، فهما يسوطانه.
1
ويروى عن حليمة أنها قالت عن نفسها وزوجها: «فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما ممتقعا وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لم أدر ما هو.» ورجعت حليمة ورجع أبوه إلى خبائهما. وخشي الرجل أن يكون الغلام أصابته الجن، فاحتملاه إلى أمه بمكة. ويروي ابن إسحاق في هذه الواقعة حديثا عن النبي بعد بعثه، لكن ابن إسحاق يحتاط بعد أن يقص هذه القصة ويذكر أن السبب في رده إلى أمه لم يكن حكاية الملكين وإنما كان - على ما روته حليمة لآمنة - أن نفرا من نصارى الحبشة رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثم قالوا: لنأخذن هذا الغلام فلنذهب به إلى ملكنا وبلدنا؛ فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره. ولم تكد حليمة تنفلت به منهم. وكذلك يرويها الطبري، لكنه يحيطها بالريبة؛ إذ يذكرها في هذه السنة من حياة محمد، ثم يعود فيذكر أنها وقعت قبيل البعث وسنه أربعون سنة.
لا يطمئن المستشرقون ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه ويرونها ضعيفة السند. فالذي رأى الرجلين في رواية كتاب السيرة إنما هو طفل لا يزيد على سنتين إلا قليلا، وكانت كذلك سن محمد يومئذ، والروايات تجمع على أن محمدا أقام ببني سعد إلى الخامسة من عمره، فلو كان هذا الحادث قد وقع وسنه سنتان ونصف سنة، ورجعت حليمة وزوجها إذ ذاك به إلى أمه، لكان في الروايتين تناقض غير مقبول؛ ولذلك يرى بعض الكتاب أنه عاد مع حليمة مرة ثالثة.
ولا يرضى المستشرق سير وليم موير أن يشير إلى قصة الرجلين في ثيابهما البيضاء، ويذكر أنه إن كانت حليمة وزوجها قد نبها لشيء أصاب الطفل فلعله نوبة عصبية أصابته، ولم يكن لها أن تؤذي صحته لحسن تكوينه، ولعل آخرين يقولون: إنه لم يكن في حاجة إلى من يشق بطنه أو صدره ما دام الله قد أعده من يوم خلقه لتلقي رسالته. ويرى درمنجم أن هذه القصة لا تستند إلى شيء غير ما يفهم من ظاهر الآيات:
ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك
2
وأن ما يشير القرآن إليه إنما هو عمل روحي بحت، والغاية منه تطهير هذا القلب وتنظيفه ليتلقى الرسالة القدسية خالصا ويؤديها مخلصا تماما الإخلاص محتملا عبء الرسالة المضني.
وإنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكرين من المسلمين إلى هذا الموقف من ذلك الحديث أن حياة محمد كانت كلها إنسانية سامية، وأنه لم يلجأ في إثبات رسالته إلى ما لجأ إليه من سبقه من أصحاب الخوارق، وهم في هذا يجدون من المؤرخين العرب والمسلمين سندا حين ينكرون من حياة النبي العربي كل ما لا يدخل في معروف العقل، ويرون ما ورد من ذلك غير متفق مع ما دعا القرآن إليه من النظر في خلق الله، وأن سنة الله لن تجد لها تبديلا، غير متفق مع تعيير القرآن للمشركين أنهم لا يفقهون أن ليست لهم قلوب يعقلون بها.
وأقام محمد في بني سعد إلى الخامسة من عمره ينهل من جو الصحراء الطلق روح الحرية والاستقلال النفسي، ويتعلم من هذه القبيلة لغة العرب مصفاة أحسن التصفية، حتى لقد كان يقول من بعد لأصحابه: «أنا أعربكم؛ أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر.» وتركت هذه السنوات الخمس في نفسه أجمل الأثر وأبقاه، كما بقيت حليمة وبقي أهلها موضع محبته وإكرامه طوال حياته. أصابت الناس سنة
3
بعد زواج محمد من خديجة؛ فجاءته حليمة فعادت من عنده ومعها من مال خديجة بعير يحمل الماء وأربعون رأسا من الغنم. وكانت كلما أقبلت عليه مد لها طرف ردائه لتجلس عليه سيما الاحترام. وكانت الشيماء ابنتها بين من أسر من بني هوازن بعد حصار الطائف، فلما جيء بها إلى محمد عرفها وأكرمها وردها إلى أهلها كما رغبت.
وعاد إلى أمه بعد هذه السنوات الخمس. ويقال: إن حليمة التمسته وهي مقبلة به على أهله فلم تجده؛ فأتت عبد المطلب فأخبرته أنه ضل منها بأعلى مكة. فبعث من يبحث عنه حتى رده عليه ورقة بن نوفل فيما يروون. وكفل عبد المطلب حفيده، وأغدق عليه كل حبه، وأسبغ عليه جم رعايته. كان يوضع لهذا الشيخ، سيد قريش وسيد مكة كلها، فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول ذلك الفراش إجلالا لأبيهم، فإذا جاء محمد أدناه عبد المطلب منه وأجلسه على الفراش معه وربت على ظهره، وأبدى من آيات عطفه ما يمنع أعمام محمد من تأخيره إلى حيث يجلسون.
وزاد في إعزاز الجد لحفيده أن آمنة خرجت بابنها إلى المدينة لتري الغلام فيها أخوال جده من بني النجار، وأخذت معها أم أيمن الجارية التي خلفها عبد الله من بعده. فلما كانوا بها أرت الغلام البيت الذي مات أبوه فيه والمكان الذي دفن به ، فكان ذلك أول معنى لليتم انطبع في نفس الصبي.
ولعل أمه حدثته طويلا عن هذا الأب المحبوب الذي غادرها بعد مقامه معها أياما معدودة ليجيئه بعين أخواله أجله، فقد كان النبي بعد هجرته إلى المدينة يقص على أصحابه حديث تلك الرحلة الأولى إلى المدينة مع أمه، حديث محب للمدينة محزون لمن تحوي القبور من أهله بها. ولما تم مكثهم بيثرب شهرا اعتزمت آمنة العودة، فركبت وركب من معها بعيريهما اللذين حملاهما من مكة. فلما كانوا في أثناء الطريق بين البلدين مرضت آمنة بالأبواء
4
وماتت ودفنت بها، وعادت أم أيمن بالطفل إلى مكة منتحبا وحيدا يشعر بيتم ضاعفه عليه القدر فيزداد وحشة وألما. لقد كان منذ أيام يسمع من أمه أنات الألم لفقد أبيه وهو ما يزال جنينا، وها هو ذا قد رأى بعينيه أمه تذهب كما ذهب أبوه وتدع جسمه الصغير يحمل هم اليتم كاملا.
زاد ذلك في إعزاز عبد المطلب إياه. مع ذلك بقيت ذكرى اليتم أليمة عميقة في نفسه، حتى وردت في القرآن؛ إذ يذكر الله نبيه بالنعمة عليه فيقول:
ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى .
5
ولعل جوى هذه الذكرى كان يخف بعض الشيء لو أن عبد المطلب عمر أكثر مما عمر، لكنه مات في الثمانين من عمره ومحمد ما يزال في الثامنة. وحزن محمد لموت جده حزنه لموت أمه. حزن حتى كان دائم البكاء وهو يتبع نعشه إلى مقره الأخير، وحتى كان دائم الذكر من بعد ذلك له، مع ما لقي من بعد في كفالة عمه أبي طالب من عناية ورعاية، ومن حماية امتدت إلى ما بعد بعثه ورسالته، ودامت إلى أن مات عمه. والحق أن موت عبد المطلب كان على بني هاشم جميعا ضربة قاسية؛ فإنه لم يكن من أبنائه من كان في مثل مكانته عزما وقوة أيد وأصالة رأي وكرما وأثرا في العرب جميعا. ألم يكن يطعم الحاج ويسقيهم ويبر أهل مكة جميعا إذا أصابهم شر أو أذى؟! وها هم أولاء أبناؤه لم يصل أحد منهم إلى مكانته؛ إذ كان فقيرهم عاجزا عن مثل عمله، وكان غنيهم حريصا على ماله. لذلك ما لبث بنو أمية أن تهيئوا ليأخذوا المكانة التي طمعوا فيها من قبل دون أن يخشوا من بني هاشم مزاحمة تخيفهم.
آلت كفالة محمد إلى أبي طالب وإن لم يكن أكبر إخوته سنا؛ فقد كان الحارث أسنهم، وإن لم يكن أكثرهم يسارا. وكان العباس أكثرهم مالا، لكنه كان على ماله حريصا؛ لذلك احتفظ بالسقاية وحدها دون الرفادة، فلا عجب أن كان أبو طالب على فقره أنبلهم وأكرمهم في قريش مكانة واحتراما، ولا عجب أن عهد إليه عبد المطلب بكفالة محمد من بعده.
وقد أحب أبو طالب ابن أخيه كحب عبد المطلب له. أحبه حتى كان يقدمه على أبنائه، وكان يجد فيه من النجابة والذكاء والبر وطيب النفس ما يزيده به تعلقا: ولقد أراد أن يخرج يوما في تجارة له إلى الشام حين كان محمد في الثانية عشرة من عمره؛ ولم يفكر في اصطحابه خوفا عليه من وعثاء السفر واجتياز الصحراء. لكن محمدا أبدى من صادق الرغبة في مصاحبة عمه ما قضى على كل تردد في نفس أبي طالب. وصحب الغلام القافلة حتى بلغ بصرى في جنوب الشام، وتروي كتب السيرة أنه التقى في هذه الرحلة بالراهب بحيرى، وأن الراهب رأى فيه أمارات النبوة على ما تدله أنباء النصرانية. وتذهب بعض الروايات إلى أن الراهب نصح إلى أهله ألا يوغلوا به في بلاد الشام خوفا عليه من اليهود أن يعرفوا منه هذه الأمارات فينالوه بالأذى.
في هذه الرحلة وقعت عينا محمد الجميلتان على فسحة الصحراء، وتعلقتا بالنجوم اللامعة في سمائها الصافية البديعة. وجعل يمر بمدين ووادي القرى وديار ثمود وتستمع أذناه المرهفتان إلى حديث العرب وأهل البادية عن هذه المنازل وأخبارها وماضي نبئها. وفي هذه الرحلة وقف من بلاد الشم عند الحدائق الغناء اليانعة التي أنسته حدائق الطائف وما يروى عنها، والتي تبدت له جنات إلى جانب جدب الصحراء المقفرة والجبال الجرداء فيما حول مكة. وفي الشام كذلك عرف محمد أخبار الروم ونصرانيتهم، وسمع عن كتابهم وعن مناوأة الفرس من عباد النار لهم وانتظارهم الوقيعة بهم. ولئن كان بعد في الثانية عشرة من سنه لقد كان له من عظمة الروح وذكاء القلب ورجحان العقل ودقة الملاحظة وقوة الذاكرة وما إلى ذلك من صفات حباه القدر بها للرسالة العظيمة التي أعده لها، ما جعله ينظر إلى ما حوله نظرة الفاحص المحقق، فلا يستريح إلى كل ما يسمع ويرى، فيرجع إلى نفسه يسائلها: أين الحق من ذلك كله؟
والراجح أن أبا طالب لم يفد مالا كثيرا من رحلته تلك، فلم يعد من بعد إلى رحلة مثلها، بل قنع بحظه، وأقام بمكة يكفل في حدود ماله القليل أولاده الكثيرين. وأقام محمد مع عمه قانعا بنصيبه، يقوم من الأمر بما يقوم به من هم في مثل سنه. فإذا جاءت الأشهر الحرم ظل بمكة مع أهله، أو خرج وإياهم إلى الأسواق المجاورة لها بعكاظ ومجنة وذي المجاز يستمع لإنشاد أصحاب المذهبات والمعلقات، وتلتهم أذناه بلاغتهم في غزلهم وفخرهم وذكرهم أنسابهم ومغازيهم وكرمهم وفضلهم، ثم يعرض ذلك على بصيرته تلفظ منه ما لا تسيغ وتعجب بما تراه جديرا بالإعجاب. ويستمع إلى خطب الخطباء، ومن بينهم اليهود والنصارى الذين كانوا ينقمون من إخوانهم العرب وثنيتهم، ويحدثونهم عن كتب عيسى وموسى. ويدعونهم إلى ما يعتقدونه الحق. ويزن ذلك بميزان قلبه فيراه خيرا من هذه الوثنية التي غرق فيها أهله، ولكنه لا يطمئن كل الطمأنينة إليه. وكذلك جعل القدر يوجه نفسه منذ نعومة أظفاره الوجه التي تهيئه لذلك اليوم العظيم، يوم الوحي الأول حين دعاه ربه لتبليغ رسالته: رسالة الهدى والحق للناس كافة.
وكما عرف محمد طرق القوافل في الصحراء مع عمه أبي طالب، وكما استمع إلى الشعراء والخطباء مع ذويه في الأسواق حول مكة أثناء الأشهر الحرم، عرف كذلك حمل السلاح؛ إذ وقف إلى جانب أعمامه في حرب الفجار. وحرب الفجار تلك كانت بعض ما يثور ويتصل بين قبائل العرب من الحروب . وقد سميت الفجار لأنها وقعت في الأشهر الحرم، إذ تمتنع قبائل العرب عن القتال ويعقدون أسواق تجارتهم بعكاظ بين الطائف ونخلة وبمجنة وذي المجاز على مقربة من عرفات، لتبادل التجارة وللتفاخر والجدل، وللحج بعد ذلك عند أصنامهم بالكعبة. وكانت سوق عكاظ أكثر أسواق العرب شهرة، فيها أنشد أصحاب المعلقات معلقاتهم، وفيها خطب قس، وفيها كان اليهود والنصارى وعباد الأصنام يحدث كل عن رأيه آمنا، لأنه في الشهر الحرام.
على أن البراض بن قيس الكناني لم يحترم هذه الحرمة حين غافل أثناءها عروة الرحال بن عتبة الهوازني وقتله. وسبب ذلك أن النعمان بن المنذر كان يبعث كل عام قافلة من الحيرة إلى عكاظ تحمل المسك وتجيء بديلا منه بالجلود والحبال وأنسجة اليمن المزركشة. فعرض البراض الكناني نفسه عليه ليقود القافلة في حماية قبيلته كنانة؛ وعرض عروة الهوازني نفسه كذلك وأن يتخطى إلى الحجاز طريق نجد. واختار النعمان عروة؛ فأحفظ ذلك البراض فتبعه وغاله وأخذ قافلته. ثم أخبر البراض بشر بن أبي خازم أن هوازن ستأخذ بثأرها من قريش. ولحقت هوازن بقريش قبل أن يدخلوا البيت الحرام فاقتتلوا، وتراجعت قريش حتى لاذت من المنتصرين بالحرم، فأنذرتهم هوازن الحرب بعكاظ العام المقبل. وقد ظلت هذه الحرب تنشب بين الفريقين أربع سنوات متتابعة انتهت بعدها إلى صلح من نوع صلح البادية ذلك بأن يدفع من كانوا أقل قتلى دية العدد الزائد على قتلاهم من الفريق الآخر. ودفعت قريش دية عشرين رجلا من هوازن، وذهب البراض مثلا في الشقاوة.
لم يحقق التاريخ سن محمد أيام حرب الفجار؛ فقيل كان ابن خمس عشرة سنة؛ وقيل: كان ابن عشرين. ولعل سبب الخلاف أن هذه الحرب استطالت أربع سنوات تجعل حاضر أولها وهو في الخامسة عشرة يلحق آخرها في جوار العشرين.
وقد اختلف فيما قام به محمد من عمل في هذه الحرب. فقال أناس: إنه كان يجمع السهام التي تقع من هوازن ويدفعها إلى أعمامه ليردوها إلى صدور خصومهم، وقال آخرون: بل اشترك فيها ورمى السهام بنفسه. وما دامت الحرب المذكورة قد امتدت فتراتها في سنوات أربع، فليس ما يمنع صحة الروايتين؛ فيكون قد جمع السهام لأعمامه أول الأمر ورمى من بعد ذلك. وقد ذكر رسول الله الفجار بعد سنوات من رسالته فقال: «قد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت.»
وقد شعرت قريش بعد الفجار بأن ما أصابها وما أصاب مكة جميعا بعد موت هاشم وموت عبد المطلب من تفرق الكلمة وحرص كل فريق على أن يكون صاحب الأمر، قد أطمع فيها العرب بعد ما كانت أمنع من أن يطمع فيها طامع. إذ ذاك دعا الزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وتيم، في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله المنتقم ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة. وقد حضر محمد هذا الحلف الذي سماه العرب حلف الفضول؛ وكان يقول: «ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم ولو دعيت به لأجبت.»
لم تكن حرب الفجار، كما رأيت، تستغرق إلا أياما من كل عام؛ أما سائر العام فكان العرب يرجعون فيه إلى أعمالهم يزاولونها دون أن تترك الحرب في نفوسهم من المرارة ما يحول بينهم وبين التجارة والربا والشراب والتسري والأخذ من مختلف ألوان اللهو بأوفر نصيب. أفكان محمد يشاركهم في هذا؟ أم كانت رقة حاله وضيق ذات يده وكفالة عمه إياه تجعله بمنأى عنها ينظر إلى الترف نظرة المحروم والمشتهي؟ أما أنه نأى عنها فذلك ما يشهد به التاريخ. لكنه لم ينأ عنها عجزا عن النيل منها؛ فقد كان الخلعاء المقيمون بأطراف مكة والذين لا يجدون من أسباب الرزق إلا الضنك والإملاق يجدون الوسيلة إليها، بل كان بعضهم أشد من أمجاد مكة وأشراف قريش إمعانا فيها وإدمانا لها. إنما كانت نفس محمد مشغوفة بأن ترى وأن تسمع وأن تعرف. وكأن حرمانه من التعلم الذي يتعلمه بعد أنداده من أبناء الأشراف جعله أشد للمعرفة تشوقا، وبها تعلقا؛ كما أن النفس العظيمة التي تجلت من بعد آثارها وما زال يغمر العالم ضياؤها، كانت في توقها إلى الكمال ترغب عن هذا اللهو الذي يصبو إليه أهل مكة، إلى نور الحياة المتجلي في كل مظاهر الحياة لمن هداه الحق إليها، ولاكتناه ما تدل هذه المظاهر عليه وما تحدث الموهوبين به. ولذلك ظهر منذ الصبا الأول مظهر الكمال والرجولية وأمانة النفس، حتى دعاه أهل مكة جميعا «الأمين».
ومما زاده انصرافا إلى التفكير والتأمل اشتغاله برعي الغنم سني صباه تلك، فقد كان يرعى غنم أهله، ويرعى غنم أهل مكة، وكان يذكر رعيه إياها مغتبطا. وكان يقول: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ...» ويقول: «بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا أرعى غنم أهلي بأجياد.» وراعي الغنم الذكي القلب يجد في فسحة الجو الطلق أثناء النهار وفي تلألؤ النجوم إذا جن الليل موضعا لتفكيره وتأمله يسبح منه في هذه العوالم، يبتغي أن يرى ما ورائها، ويلتمس في مختلف مظاهر الطبيعة تفسيرا لهذا الكون وخلقه؛ وهو يرى نفسه، ما دام ذكي الفؤاد عليم القلب، بعض هذا الكون غير منفصل عنه. أليس هو يتنفس هواءه ولو لم يتنفسه قضى؟! أليست تحييه أشعة الشمس ويغمرها ضياء القمر ويتصل وجوده بالأفلاك والعوالم جميعا. هذه الأفلاك والعوالم التي يرى في فسحة الكون أمامه، متصلا بعضها ببعض في نظام محكم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار؟! وإذا كان نظام هذا القطيع من الغنم أمام محمد يقتضي انتباهه ويقظته حتى لا يعدو الذئب على شاة منها، وحتى لا تضل إحداها في مهامه البادية، فأي انتباه وأية قوة تحفظ على نظام العالم كل إحكامه؟! وهذا التفكير والتأمل من شأنهما صرف صاحبهما عن التفكير في شهوات الإنسان الدنيا والسمو به عنها بما يبديان له من كاذب زخرفها. لذلك ارتفع محمد في أعماله وتصرفاته عن كل ما يمس هذا الاسم الذي أطلق عليه بمكة وبقي له: «الأمين».
يدل على ذلك كله ما حدث هو عنه، من أنه كان يرعى الغنم مع زميل له، فحدثته نفسه يوما أن يلهو كما يلهو الشباب، فأفضى إلى زميله هذا ذات مساء أنه يود أن يهبط مكة، يلهو بها لهو الشباب في جنح الليل. وطلب لذلك إليه أن يقوم على حراسة أغنامه. لكنه ما إن بلغ أعلى مكة حتى استرعى انتباهه عرس زواج وقف عنده، ثم ما لبث أن نام. ونزل مكة ليلة أخرى لهذه الغاية، فامتلأت آذانه بأصوات موسيقية بارعة كأنما هي موسيقى السماء، فجلس يستمع ثم نام حتى أصبح. وماذا عسى أن تفعل مغريات مكة بقلب مهذب ونفس كلها تفكير وتأمل؟! ماذا عسى أن تكون هذه المغريات التي وصفنا والتي لا يستريح إليها من يكون دون محمد سموا بمراحل كثيرة؟! لذلك أقام بعيدا عن النقص، لا يجد لذة يذوقها أطيب لنفسه من لذة التفكير والتأمل.
وحياة التفكير والتأمل وما يستريح إليه من عمل بسيط كرعي الغنم، ليست بالحياة التي تدر على صاحبها أخلاف الرزق أو تفتح أمامه أبواب اليسار. وما كان محمد يهتم لذلك أو يعنى به، وقد ظل طول حياته أشد الناس زهدا في المادة ورغبة عنها. وما إقباله عليها وقد كان الزهد بعض طبعه؟ وكان لا يحتاج من الحياة إلى أكثر مما يقيم صلبه! أليس هو القائل: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع»؟! أليس هو الذي عرف عنه كل حياته حرصه على شظف العيش ودعوة الناس إلى الاستمتاع بخشونة الحياة؟ والذين يتوقون إلى المال ويلهثون في طلبه إنما يبتغونه لإرضاء شهوات لم يعرف محمد طوال حياته شيئا منها. واللذة النفسية الكبرى، لذة الاستمتاع بما في الكون من جمال ومن دعوة إلى التأمل، هذه اللذة العظيمة التي لا يعرفها إلا الأقلون، والتي كانت لذة محمد منذ نشأته ومنذ أرته الحياة في نعومة أظفاره ذكريات بقيت مطبوعة في نفسه داعية إلى الزهد في الحياة، وأولاها موت أبيه وهو ما يزال جنينا ، ثم موت أمه، ثم موت جده - هذه اللذة ليست في حاجة إلى ثروة من المال وإن تكن في حاجة إلى ثروة نفسية طائلة يعرف الإنسان معها كيف يعكف على نفسه ويعيش بها وفي دخيلتها. ولو أن محمدا ترك وشأنه يومئذ لما نازعته نفسه إلى شيء من المال، ولظل سعيدا بهذه الحال، حال الرعاة المفكرين الذين ينتظمون الكون في أنفسهم، والذين يحتويهم الكون في حبة قلبه.
لكن عمه أبا طالب كان - كما قدمنا - حليف فقر كثير عيال؛ لذلك رأى أن يجد لابن أخيه سببا للرزق أوسع مما يجيئه من أصحاب الغنم التي يرعى. فبلغه يوما أن خديجة بنت خويلد تستأجر رجالا من قريش في تجارتها، وكانت خديجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها يضاربون لها به بشيء تجعله لهم. ولقد زاد في ثروتها أنها - وكانت من بني أسد - قد تزوجت مرتين في بني مخزوم مما جعلها من أوفر أهل مكة غنى. وكانت تقوم على مالها بمعونة أبيها خويلد وبعض ذوي ثقتها. وقد ردت خطبة الذين خطبوها من كبار قريش؛ لأنها كانت تعتقد أنهم ينظرون إلى مالها، واعتزمت أن تقف جهدها على تنمية ثروتها. وإذ علم أبو طالب أنها تجهز لخروج تجارتها إلى الشام مع القافلة نادى ابن أخيه، وكان يومئذ في الخامسة والعشرين من سنه، وقال له: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وقد بلغني أن خديجة استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته، فهل لك أن أكلمها؟ قال محمد: ما أحببت! فخرج أبو طالب إليها فقال لها: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربعة بكار. وكان جواب خديجة: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألته لحبيب قريب؟! وعاد العم إلى ابن أخيه يذكر له الأمر ويقول له: هذا رزق ساقه الله إليك.
خرج محمد مع ميسرة غلام خديجة بعد أن أوصاه أعمامه به. وانطلقت القافلة في طريق الصحراء إلى الشام مارة بوادي القرى ومدين وديار ثمود وبتلك البقاع التي مر بها محمد مع عمه أبي طالب وهو في الثانية عشرة من عمره. وأحيت هذه الرحلة في نفسه ذكريات الرحلة الأولى، كما زادته تأملا وتفكيرا في كل ما رأى وسمع من قبل عن العبادات والعقائد بالشام أو بالأسواق المحيطة بمكة. فلما بلغ بصرى اتصل بنصرانية الشام وتحدث إلى رهبانها وأحبارها، وتحدث إليه راهب نسطوري وسمع منه. ولعله أو لعل غيره من الرهبان قد جادل محمدا في دين عيسى، هذا الدين الذي كان قد انقسم يومئذ شيعا وأحزابا، كما بسطنا من قبل. واستطاع محمد بأمانته ومقدرته أن يتجر بأموال خديجة تجارة أوفر ربحا مما فعل غيره من قبل، واستطاع بحلو شمائله وجمال عواطفه أن يكسب محبة ميسرة وإجلاله. فلما آن لهم أن يعودوا ابتاع لخديجة من تجارة الشام كل ما رغبت إليه أن يأتيها بها.
فلما بلغت القافلة مر الظهران في طريق عودتها، قال ميسرة: يا محمد، أسرع إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك فإنها تعرف ذلك لك. وانطلق محمد حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة، وكانت خديجة في علية لها، فرأته وهو على بعيره، ونزلت حين دخل دارها واستقبلته. واستمعت إليه يقص بعبارته البليغة الساحرة خبر رحلته وربح تجارته وما جاء به من صناعة الشام، وهي تنصت مغتبطة مأخوذة. وأقبل ميسرة من بعد فروى لها عن محمد ورقة شمائله وجمال نفسه ما زادها علما به فوق ما كانت تعرف من فضله على شباب مكة. ولم يك إلا رد الطرف حتى انقلبت غبطتها حبا جعلها - وهي في الأربعين من سنها، وهي التي ردت من قبل أعظم قريش شرفا ونسبا - تود أن تتزوج من هذا الشاب الذي نفذت نظراته ونفذت كلماته إلى أعماق قلبها. وتحدثت في ذلك إلى أختها على قول، وإلى صديقتها نفيسة بنت منية على قول آخر. وذهبت نفيسة دسيسا إلى محمد فقالت له: ما يمنعك أن تتزوج؟ قال: ما بيدي ما أتزوج به . قالت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ أجابت نفيسة بكلمة واحدة: خديجة. قال محمد: كيف لي بذلك؟! وكان قد أنس هو أيضا إلى خديجة وإن لم تحدثه نفسه بزواج منها لما كان يعلم من ردها أشراف قريش وأغنياءها. فلما قالت له نفيسة جوابا عن سؤاله: علي ذلك، سارع إلى إعلان قبوله. ولم تبطئ خديجة أن حددت الساعة التي يحضر فيها مع أعمامه ليجدوا أهلها عندها فيتم الزواج. وزوجها عمها عمر بن أسد؛ لأن خويلدا كان قد مات قبل حرب الفجار، مما يكذب ما يروى من أنه كان حاضرا ولم يكن راضيا هذا الزواج، وأن خديجة سقته خمرا حتى أخذت فيه، وحتى زوجها محمدا.
وهنا تبدأ صفحة جديدة من حياة محمد: تبدأ حياة الزوجية والأبوة: الزوجية الموفقة الهنية من جانبه وجانب خديجة جميعا، والأبوة التي تعرف من الآلام لفقد الأبناء ما عرف محمد في طفولته لفقد الآباء.
الفصل الرابع
من الزواج إلى البعث
(صفة محمد - بناء المكيين الكعبة - حكم محمد بينهم في الحجر الأسود - حكماء قريش والوثنية - بناء محمد وبناته - موت أبنائه - زواج بناته - ميل محمد للعزلة - تحنثه في حراء - الرؤيا الصادقة - أول الوحي) ***
تزوج محمد من خديجة بعد أن أصدقها عشرين بكرة. وانتقل إلى بيتها ليبدأ وإياها صفحة جديدة من صفحات الحياة، صفحة الزوجية والأبوة، وليبادلها من جانبه حب شاب في الخامسة والعشرين لم يعرف نزوات الشباب ولا طيشه، ولا هو عرف هذا الحب الأهوج يبدأ كأنه الشعلة المتوهجة لينطفئ من بعد ذلك سراجه، وليرزق منها البنين والبنات؛ فيحتسب ولديه القاسم وعبد الله الطاهر الطيب
1
بما يثير في نفسه لاعج الحزن والألم، وتبقى له بناته وهو بهن البر والشفقة، وهن له الإكرام والإعزاز الخالص.
وكان محمد وسيم الطلعة، ربعة في الرجال ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، ضخم الرأس، ذا شعر رجل شديد سواده، مبسوط الجبين فوق حاجبين سابغين منونين متصلين، واسع العينين أدعجهما، تشوب بياضهما في الجوانب حمرة خفيفة وتزيد في قوة جاذبيتهما وذكاء نظرتهما أهداب طوال حوالك، مستوي الأنف دقيقه، مفلج الأسنان، كث اللحية، طويل العنق جميله، عريض الصدر رحب الساحتين، أزهر اللون، شثن الكفين والقدمين (أي غليظهما) يسير ملقيا جسمه إلى الأمام مسرع الخطو ثابته، على ملامحه سيما التفكير والتأمل، وفي نظرته سلطان الآمر الذي يخضع الناس لأمره. فلا عجب وتلك صفته أن تجمع خديجة بين حبه والإذعان له، ولا عجب أن تعفيه من تدبير ما لها لتقوم هي على هذا التدبير كدأبها من قبل، وأن تدع له ما شاء من فسحة الوقت ليفكر وليتأمل.
وأقام محمد وقد أغناه الله بزواج خديجة في ذروة من النسب وسعة من المال، وأهل مكة جميعا ينظرون إليه نظرة غبطة وإكبار. وكان في شغل عن نظرتهم بما أسبغه الله عليه من فضله، وما يبشره به خصب خديجة من عقب صالح. لكن ذلك لم يصرفه عن الاختلاط بهم والأخذ معهم بنصيب في الحياة العامة على ما كان يفعل من قبل، بل لقد زاده جاها بينهم ومكانة فيهم، وزاده لذلك تواضعا على جم تواضعه. فلقد كان على عظيم ذكائه وظاهر تبريزه حسن الإصغاء إلى محدثه لا يلوي عن أحد وجهه، ولا يكتفي بإلقاء السمع إلى من يحدثه، بل يلتفت إليه بكل جسمه. وكان قليل الكلام كثير الإنصات، ميالا للجد من القول، وإن كان لا يأبى أن يشارك في مفاكهة وأن يمزح ثم لا يقول إلا حقا. وكان يضحك أحيانا حتى تبدو نواجذه. فإذا غضب لم يظهر عليه من أثر الغضب إلا نفرة عرق بين حاجبيه؛ ذلك أنه كان يكظم غيظه ولا يريد أن يظهر غضبه، لما جبل عليه من سعة الصدر وصدق الهمة والوفاء للناس، ومن البر والجود وكرم العشرة، وما كان عليه إلى جانب ذلك من ثبات العزيمة، وقوة الإرادة، وشدة البأس، ومضاء التصميم مضاء لا يعرف التردد. وهذه الصفات مجتمعة فيه كان ذات أثر عميق في كل ما اتصل به، فمن رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه. فما كان أعظم أثرها إذن فيما اتسق بينه وبين خديجة الزوج الوفية من مودة صادقة ووفاء كامل !
لم ينقطع محمد عن مخالطة أهل مكة والأخذ معهم بنصيب في الحياة العامة، وكانوا يومئذ في شغل بما أصاب الكعبة؛ فقد طغى عليها سيل عظيم انحدر من الجبال فصدع جدرانها بعد توهينها. وكانت قريش من قبل ذلك تفكر في أمرها. فهي لم تكن مسقوفة، وكانت لذلك عرضة لانتهاب السارقين ما تحتوي من نفائس. لكن قريشا كانت تخشى إن هي شيدت بنيانها ورفعت بابها وسقفتها أن يصيبها من رب الكعبة المقدسة شر وأذى. فقد كانت تحيط بها في مختلف عهود الجاهلية أساطير تخيف الناس من الإقدام على تغيير شيء من أمرها، وتجعلهم يعتبرون ذلك بدعا. فلما طغى عليها السيل لم يكن بد من الإقدام ولو في شيء من الخوف والتردد. وصادف أن رمى البحر إذ ذاك بسفينة قادمة من مصر مملوكة لتاجر رومي اسمه باقوم فحطمها. وكان باقوم هذا بناء على شيء من العلم بالنجارة. فلما سمعت قريش بأمره خرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى جدة، فابتاعوا السفينة من الرومي وكلموه في أن يقدم معهم إلى مكة ليعاونهم في بناء الكعبة؛ وقبل باقوم. وكان بمكة قبطي يعرف نجر الخشب وتسويته، فوافقهم على أن يعمل لهم ويعاونه باقوم.
ثم إن قريشا اقتسمت جوانب أربعة، لكل قبيلة جانب تقوم بهدمه وبنائه. ولقد ترددوا قبل هدمها مخافة أن يصيبهم أذى، ثم أقدم الوليد بن المغيرة في شيء من الخوف، فدعا آلهته وهدم بعض الجانب من الركن اليماني. وأمسى القوم ينتظرون ما الله فاعل بالوليد. فلما أصبح ولم يصبه شيء أقدموا يهدمون وينقلون الحجارة، ومحمد معهم، حتى انتهى الهدم إلى حجارة خضر ضربوا عليها بالمعول فارتد عنها؛ فاتخذوها أساسا للبناء فوقه، ونقلت قريش أحجار الجرانيت الأزرق من الجبال المجاورة وبدأت في البناء. فلما ارتفع إلى قامة الرجل وآن أن يوضع الحجر الأسود المقدس في مكانه من الجانب الشرقي، اختلفت قريش أيهم يكون له فخار وضع الحجر في هذا المكان. واستحر الخلاف حتى كادت الحرب الأهلية تنشب بسببه.
تحالف بنو عبد الدار وبنو عدي أن يحولوا بين أية قبيلة وهذا الشرف العظيم؛ وأقسموا على ذلك جهد أيمانهم. حتى قرب بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما وأدخلوا أيديهم فيه توكيدا لأيمانهم، ولذلك سموا «لعقة الدم». فلما رأى أبو أمية بن المغيرة المخزومي ما صار إليه أمر القوم، وكان أسنهم وكان فيهم شريفا مطاعا، قال لهم: اجعلوا الحكم فيما بينكم أول من يدخل من باب الصفا. فلما رأوا محمدا أول من دخل قالوا: هذا الأمين رضينا بحكمه. وقصوا عليه قصتهم، وسمع هو لهم ورأى العداوة تبدو في عيونهم، ففكر قليلا ثم قال: هلم إلي ثوبا، فأتي به؛ فنشره وأخذ الحجر فوضعه بيده فيه، ثم قال: ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف الثوب؛ فحملوه جميعا على ما يحاذي موضع الحجر من البناء، ثم تناوله محمد من الثوب ووضعه في موضعه، وبذلك انحسم الخلاف وانفض الشر. وأتمت قريش بناء الكعبة حتى جعلت ارتفاعها ثماني عشرة ذراعا، ورفعوا بابها عن الأرض ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا. وجعلوا فى داخلها ست دعائم في صفين، وجعلوا في ركنها الشآمي من داخلها درجا يصعد به إلى سطحها. ووضع هبل في داخل الكعبة، كما وضعت في داخلها النفائس التي تعرضت من قبل بنائها وسقفها لمطامع اللصوص.
اختلف في سن محمد حين بناء الكعبة وحين حكمه بين قريش في أمر الحجر، فقيل: كان ابن خمس وعشرين، وقال ابن إسحاق: كان ابن خمس وثلاثين. وسواء أصحت الأولى أم الأخرى من هاتين الروايتين فإن إسراع قريش إلى الرضا بحكمه أول ما دخل من باب الصفا، وتصرفه هو في أخذ الحجر ووضعه على الثوب وأخذه من الثوب لوضعه مكانه من جدار الكعبة، يدل على ما كان له من مكانة سامية في نفوس أهل مكة ومن تقدير جم لما عرف عنه من سمو النفس ونزاهة القصد.
وهذا الخلاف بين القبائل، وهذا التحالف بين لعقة الدم، وهذا الاحتكام لأول مقبل من باب الصفا، يدل على أن السلطة في مكة كانت انحلت، فلم يبق لرجل منها ما كان لقصي ولا لهاشم ولا لعبد المطلب من سلطان. ولقد كان لتنازع بني هاشم وبني أمية السلطان بعد وفاة عبد المطلب أثره في ذلك لا ريب. وكان الانحلال في السلطة جديرا بأن يجر على مكة الأذى، لولا ما كان لبيتها العتيق في نفوس العرب جميعا من تقديس. وأدى انحلال السلطان إلى نتيجته الطبيعية؛ أدى إلى مزيد من حرية الناس في التفكير والجهر بالرأي، وإلى إقدام اليهود والنصارى، ممن كانوا يخافون صاحب السلطان، على تعيير العرب عبادة الأوثان. وانتهى ذلك بكثير من أهل مكة ومن القرشيين أنفسهم إلى أن زال من نفوسهم تقديس الأصنام، وإن ظل أمجاد مكة وسادتها يظهرون لها التقديس والعبادة، ولهؤلاء من العذر ما للذين يرون في الدين القائم وسيلة من وسائل ضبط النظام وعدم تبلبل الأفكار، وفي عبادة الأصنام بالكعبة ما يحفظ على مكة مكانتها الدينية والتجارية. وقد ظلت مكة بالفعل تنعم من وراء هذه المكانة بالرخاء واتصال التجارة، ولكن ذلك لم يغير من زوال تقديس الأصنام في نفوس المكيين.
ذكروا أن قريشا اجتمعت يوما بنخلة تحيي عبد العزى، فخلص منهم أربعة نجيا، هم زيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش وورقة بن نوفل؛ فقال بعضهم لبعض: «تعلموا والله ما قومكم على شيء وإنهم لفي ضلال. فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور؟! يا قوم التمسوا لكم دينا غير هذا الدين الذي أنتم عليه.» أما ورقة فدخل النصرانية، وقيل: إنه نقل إلى العربية بعض ما في الأناجيل. وأما عبيد الله بن جحش فظل فيما هو فيه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، وهناك دخل في النصرانية ومات عليها، وأقامت امرأته أم حبيبة بن أبي سفيان على الإسلام حتى صارت من أزواج النبي وأمهات المؤمنين. وأما زيد بن عمرو ففر من وجه زوجه ومن عمه الخطاب. وطوف في الشام وفي العراق ثم عاد ولم يدخل في يهودية ولا نصرانية. وفارق دين قومه واعتزل الأوثان، وكان يقول وهو مستند إلى الكعبة: «اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلمه.» وأما عثمان بن الحويرث - وكان من ذوي قرابة خديجة - فذهب على بيزنطة وتنصر وحسنت مكانته عند قيصر الروم، ويقال: إنه أراد أن يخضع مكة لحماية الروم وأن يكون عامل قيصر عليها، فطرده المكيون فاحتمى بالغساسنة في الشام، وأراد أن يقطع الطريق على تجارة مكة، فوصلت إلى الغساسنة هدايا المكيين، فمات ابن الحويرث عندهم مسموما.
تعاقبت السنون ومحمد يشارك أهل مكة في حياتهم العامة، ويجد في خديجة خير النساء حقا: الودود الولود التي وهبت نفسها له، والتي أنجبت له من الأبناء القاسم وعبد الله الملقب بالطاهر وبالطيب، ومن البنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. أما القاسم وعبد الله فلم يعرف عنهما إلا أنهما ماتا طفلين في الجاهلية لم يتركا على الحياة أثرا يبقى أو يذكر؛ لكنهما من غير شك قد ترك موتهما في نفس أبويهما ما يتركه موت الابن من أثر عميق، وترك موتهما من غير شك في نفس خديجة ما جرح أمومتها جرحين داميين. وهي لا ريب قد اتجهت عند موت كل واحد منهما في الجاهلية إلى آلهتها الأصنام تسألها: ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها؟
وما بالها لم ترحم قلبها من أن يهوي به الثكل ليتحطم على قرارة الحزن مرة فمرة؟! وقد شعر معها زوجها لا ريب بالألم لوفاة ابنيه، كما حز في قلبه هذا الألم الحي ممثلة صورته في زوجه يراه كلما عاد إلى بيته وجلس إليها. وليس يتعذر علينا أن نقدر عمق هذا الحزن السحيق في عصر كانت البنات يوأدن فيه، وكان الحرص على العقب الذكر يوازي الحرص على الحياة بل يزيد عليه. وبحسبك مظهرا لهذا الألم أن لم يطق محمد على الحرمان صبرا، حتى إذا جيء بزيد بن حارثة يشترى، طلب إلى خديجة أن تبتاعه ففعلت، ثم أعتقه وتبناه، فكان يدعى زيد بن محمد، واستبقاه ليكون من بعد من خيرة أتباعه وصحبه.
ولقد حزن محمد من بعد حين مات ابنه إبراهيم أشد الحزن بعد أن حرم الإسلام وأد البنات. وبعد أن جعل الجنة تحت أقدام الأمهات. فلا ريب إذن أن قد كان لما أصاب محمدا في بنيه ما هو جدير بأن يترك في حياته وتفكيره أثره. ولا ريب في أنه استوقف تفكيره ولفت نظره في كل واحدة من هذه الفواجع ما كانت خديجة تتقرب به إلى أصنام الكعبة، وما كانت تنحر لهبل ولللات والعزى ولمناة الثالثة الأخرى، تريد أن تتفادى مما ألم بها من ألم الثكل، فلا تفيد القرابين ولا تجدي النحور.
وأما البنات فقد عني محمد بتزويجهن من أكفاء لهن: زوج زينب كبراهن من أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وكانت أمه أختا لخديجة، وكان فتى مقدرا من قومه لاستقامته ونجاح تجارته، وكان هذا الزواج موفقا على الرغم مما كان بعد الإسلام، حين أرادت زينب الهجرة من مكة إلى المدينة، من فرقة بينهما سترى من بعد تفصيلها. وزوج رقية وأم كلثوم من عتبة وعتيبة ابني عمه أبي لهب. ولم تبق هاتان الزوجتان مع زوجيهما بعد الإسلام؛ إذ أمر أبو لهب ابنيه بتسريحهما، فتزوجهما عثمان واحدة بعد الأخرى، وكانت فاطمة ما تزال طفلة فلم تزوج من علي إلا بعد الإسلام.
حياة طمأنينة ودعة إذن كانت حياة محمد في هذه السنين من عمره. ولولا احتسابه بنيه لكانت حياة نعمة بمودة خديجة ووفائها، وبهذه الأبوة السعيدة الراضية. طبيعي لذلك أن يترك نفسه لسجيتها، سجية التفكير والتأمل، وأن يستمع إلى قومه فيما كان حوارهم يقع عليه من أمور أصنامهم، وما كان النصارى واليهود يقولونه لهم، وأن يفكر ويتدبر وأن يكون أشد من كل قومه تدبرا وتفكيرا. فهذا الروح القوي الملهم، هذا الروح الذي أعدته الأقدار ليبلغ الناس من بعد رسالات ربه ويوجه حياة العالم الروحية الاتجاه الحق، لا يمكن أن يظل مطمئنا إلى ما غرق الناس فيه إلى الأذقان من ضلال، ولا بد أن يلتمس في الكون أسباب الهدى، حتى يعده الله ليلقي عليه ما قدر في الغيب من رسالته. ومن عظيم توجهه إلى هذه الناحية الروحية وشديد تعلقه بها، لم يكن يريد لنفسه أن يكون من طراز الكهان، ولا أراد أن ينصب نفسه حكيما على نحو ما كان ورقة بن نوفل وأمثاله؛ إنما كان يريد الحق لنفسه، فكان لذلك كثير التفكير، طويل التأمل، قليل الإفضاء إلى غيره بما يجيش بنفسه من آثار تفكيره وتأمله.
غار حراء بمكة.
وقد كان من عادة العرب إذ ذاك أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمنا في كل عام يقضونه بعيدا عن الناس في خلوة، يتقربون إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويتوجهون إليها بقلوبهم يلتمسون عندها الخير والحكمة، وكانوا يسمون هذا الانقطاع للعبادة التحنف والتحنث، وقد وجد محمد فيه خير ما يمكنه من الإمعان فيما شغلت به نفسه من تفكير وتأمل، كما وجد فيه طمأنينة نفسه وشفاء شغفه بالوحدة يلتمس أثناءها الوسيلة إلى ما لم يبرح شوقه يشتد إليه من نشدان المعرفة واستلهام ما في الكون من أسبابها. وكان بأعلى جبل حراء - على فرسخين من شمال مكة - غار هو خير ما يصلح للانقطاع والتحنث، فكان يذهب إليه طول شهر رمضان من كل سنة يقيم به مكتفيا بالقليل من الزاد يحمل إليه ممعنا في التأمل والعبادة، بعيدا عن ضجة الناس وضوضاء الحياة، ملتمسا الحق، والحق وحده. ولقد كان يشتد به التأمل ابتغاء الحقيقة حتى لقد كان ينسى نفسه وينسى طعامه وينسى كل ما في الحياة؛ لأن هذا الذي يرى في حياة الناس مما حوله ليس حقا. وهناك كان يقلب في صحف ذهنه كل ما وعى فيزداد عما يزاول الناس من ألوان الظن رغبة وازورارا.
وهو لم يكن يطمع في أن يجد في قصص الأحبار وفي كتب الرهبان الحق الذي ينشد، بل في هذا الكون المحيط به: في السماء ونجومها وقمرها وشمسها، وفي الصحراء ساعات لهيبها المحرق تحت ضوء الشمس الباهرة اللألاء، وساعات صفوها البديع إذ تكسوها أشعة القمر أو أضواء النجوم بلباسها الرطب الندي، وفي البحر وموجه، وفي كل ما وراء ذلك مما يتصل بالوجود وتشمله وحدة الوجود. في هذا الكون كان يلتمس الحقيقة العليا، وكان ابتغاء إدراكها يسمو بنفسه ساعات خلوته ليتصل بهذا الكون وليخترق الحجب إلى مكنون سره. ولم يكن في حاجة إلى كثير من التأمل ليرى أن ما يباشر قومه من شئون الحياة وما يتقربون به إلى آلهتهم ليس حقا. فما هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخلق ولا ترزق، ولا تدفع عن أحد غائلة شر يصيبه!
وهبل واللات والعزى، وكل هذه الأنصاب والأصنام القائمة في جوف الكعبة أو حولها، لم تخلق يوما ذبابة ولا جادت مكة بخير! ولكن أين الحق إذن؟ أين الحق في هذا الكون الفسيح بأرضه وسمواته ونجومه؟ أهو في هذه الكواكب المضيئة التي تبعث إلى الناس النور والدفء، ومن عندها ينحدر ماء المطر؛ فتكون للناس، ولأهل الأرض كافة من خلائق، حياة بالماء والنور والدفء؟ كلا! فما هذه الكواكب إلا أفلاك كالأرض سواء، أهو فيما وراء هذه الأفلاك من أثير لا حد ولا نهاية له؟ ولكن ما الأثير؟ وهذه الحياة التي نحيا اليوم فتنقضي غدا، ما أصلها وما مصدرها؟ أمصادفة تلك التي أوجدت الأرض وأوجدتنا عليها؟ لكن للأرض وللحياة سننا ثابتة لا تبديل لها ولا يمكن أن تكون المصادفة أساسها. وما يأتي الناس من خير أو شر، أفيأتونه طواعية واختيارا، أم هو بعض سليقتهم فلا سلطان لاختيارهم عليه؟
في هذه الأمور النفسية والروحية كان محمد يفكر أثناء انقطاعه وتعبده بغار حراء، وكان يريد أن يرى الحق فيها وفي الحياة جميعا. وكان تفكيره يملأ نفسه وفؤاده وضميره وكل ما في وجوده، ويشغله لذلك عن هذه الحياة وصبحها ومسائها. فإذا انقضى شهر رمضان عاد إلى خديجة وبه من أثر التفكير ما يجعلها تسائله تريد أن تطمئن على أنه بخير وعافية.
أفكان محمد يتعبد أثناء تحنثه ذاك على شرع بذاته؟ هذا أمر اختلف العلماء فيه. وقد روى ابن كثير في تاريخه طرفا من آرائهم في الشرع الذي كان يتعبد عليه: فقيل شرع نوح، وقيل إبراهيم، وقيل موسى، وقيل عيسى ، وقيل كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به. ولعل هذا القول الأخير أقوم من كل ما سبقه، فهو الذي يتفق وما شغف محمد به من التأمل ومن التفكير على أساس هذا التأمل.
وكان إذا استدار العام وجاء شهر رمضان ذهب إلى حراء وعاد إلى تفكيره ينضجه شيئا فشيئا وتزداد نفسه به امتلاء. وبعد سنوات شغلت أثناءها هذه الحقائق العليا نفسه، صار يرى في نومه الرؤيا الصادقة تنبلج أثناءها أمام باصرته أنوار الحقيقة التي ينشد، ويرى معها باطل الحياة وغرور زخرفها. إذ ذاك آمن أن قومه قد ضلوا سبيل الهدى، وأن حياتهم الروحية قد أفسدها الخضوع لأوهام الأصنام وما إليها من عقائد متصلة بها ليست دونها ضلالا، وليس فيما يذكر اليهود وما يذكر النصارى ما ينقذ قومه من ضلالهم. ففيما يذكر هؤلاء وأولئك حق، لكن فيه كذلك ألوانا من الوهم، وصورا من الوثنية، لا يمكن أن تتفق مع الحق المجرد البسيط الذي لا يعرف كل هذه المضاربات الجدلية العقيمة مما يمعن فيه هؤلاء وأولئك من أهل الكتاب. وهذا الحق هو الله خالق الكون لا إله إلا هو. وهذا الحق هو أن الله رب العالمين. هو الرحمن الرحيم. وهذا الحق هو أن الناس مجزيون بأعمالهم.
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ،
2
وأن الجنة حق والنار حق، وأن الذين يعبدون من دون الله إلها آخر لهم جهنم، وساءت مستقرا ومقاما.
وشارف محمد الأربعين، وذهب إلى حراء يتحنث وقد امتلأت نفسه إيمانا بما رأى في رؤاه الصادقة، وقد خلصت نفسه من الباطل كله، وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد اتجه بقلبه إلى الصراط المستقيم وإلى الحقيقة الخالدة. وقد اتجه إلى الله بكل روحه أن يهدي قومه بعد أن ضربوا في تيهاء الضلال. وهو في توجهه هذا يقوم ويرهف ذهنه وقلبه، ويطيل الصوم، وتثور به تأملاته، فينحدر من الغار إلى طرق الصحراء، ثم يعود إلى خلوته ليعود فيمتحن ما يدور بذهنه وما يتبين له في رؤاه. ولقد طالت به الحال ستة أشهر، حتى خشي على نفسه عاقبة أمره؛ فأسر بمخاوفه إلى خديجة وأظهرها على ما يرى، وأنه يخاف عبث الجن به. فطمأنته الزوج المخلصة الوفية، وجعلت تحدثه بأنه الأمين، وبأن الجن لا يمكن أن تقترب منه، وإن لم يدر بخاطرها ولا بخاطره أن الله يهيئ مصطفاه بهذه الرياضة الروحية إلى اليوم العظيم وإلى النبأ العظيم، يوم الوحي الأول، ويهيئه بها إلى البعث والرسالة.
وفيما هو نائم بالغار يوما جاءه ملك وفي يده صحيفة، فقال له: اقرأ. فأجاب مأخوذا: ما أقرأ؟! فأحس كأن الملك يخنقه ثم يرسله ويقول له: اقرأ. قال محمد: ما أقرأ؟! فأحس كأن الملك يخنقه كرة أخرى، ثم يرسله ويقول: اقرأ. قال محمد - وقد خاف أن يخنق مرة أخرى - ماذا أقرأ؟! قال الملك:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ،
3
فقرأها وانصرف الملك عنه وقد نقشت في قلبه.
4
ولكنه ما لبث أن استيقظ فزعا يسأل نفسه: أي شيء رأى؟ أتراه أصابه ما كان يخشى من جنة؟ وتلفت يمنة ويسرة فلم ير شيئا. ومكث برهة أصابته فيها رعدة الخوف وتولاه أشد الوجل، وخاف ما قد يكون بالغار، ففر منه وكله حيرة لا يستطيع تفسير ما رأى. وانطلق هائما في شعاب الجبل يسائل نفسه عمن دفعه ليقرأ. لقد كان إلى يومئذ يرى وهو في تحنثه الرؤيا الصادقة تنبلج من خلال تأمله فتملأ صدره فتضيء أمامه وتدله على الحق أين هو، وتنير له حجب الظلمات التي زجت قريشا في وثنيتهم إلى عبادة أصنامهم. وهذا النور الذي أضاء أمامه وهذا الحق الذي هداه سبيله هو الواحد الأحد. فمن هذا المذكر به، وبأنه الذي خلق الإنسان، وبأنه الأكرم الذي علم الإنسان بالقلم ما لم يعلم؟ وتوسط الجبل وهو في هذه الحال من فزع وخشية ومساءلة، فسمع صوتا يناديه، فأخذه الروع ورفع رأسه إلى السماء، فإذا الملك في صورة رجل هو المنادي، وزاد به الفزع ووقفه الرعب مكانه ، وجعل يصرف وجهه عما يرى، فإذا هو يراه في آفاق السماء جميعا ويتقدم ويتأخر فلا تنصرف صورة الملك الجميل من أمامه. وأقام على ذلك زمنا كانت خديجة قد بعثت أثناءه من يلتمسه في الغار فلا يجده.
فلما انصرفت صورة الملك رجع محمد ممتلئا بما أوحي إليه، وفؤاده يجف وقلبه يضطرب خوفا وهلعا. ودخل على خديجة وهو يقول: زملوني؛ فزملته وهو يرتعد كأن به الحمى. فلما ذهب عنه الروع نظر إلى زوجه نظرة المستنجد. وقال: يا خديجة! مالي؟! وحدثها بالذي رأى، وأفضى إليها بمخاوفه أن تخدعه بصيرته أو أن يكون كاهنا. وكانت خديجة - كما كانت أيام تحنثه في الغار ومخاوفه أن تكون به جنة - ملك الرحمة وملاذ السلام لهذا القلب الكبير الخائف الوجل. لم تبد له أي خوف أو ريبة، بل رنت إليه بنظرة الإكبار وقالت: «أبشر يا بن عم واثبت. فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ووالله لا يخزيك الله أبدا. إن لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.»
واطمأن روع محمد، وألقى على خديجة نظرة شكر ومودة، ثم أحس جسمه متعبا في حاجة إلى النوم فنام. نام ليستيقظ من بعد لحياة روحية قوية غاية القوة؛ حياة تأخذ بالأبصار والألباب، ولكنها حياة تضحية خالصة لوجه الله والحق والإنسانية. تلك رسالة ربه يبلغها ويدعو الناس إليها بالتي هي أحسن، حتى يتم الله نوره ولو كره الكافرون.
الفصل الخامس
من البعث إلى إسلام عمر
(حديث خديجة وورقة بن نوفل - فتور الوحي - إسلام أبي بكر - المسلمون الأولون - دعوة محمد أهله للإسلام - إغراء قريش شعراءها بمحمد - ذكر محمد آلهة قريش بالسوء - سفارة قريش إلى أبي طالب - موقف محمد من عمه - تعذيب قريش المسلمين - هجرة المسلمين للحبشة - إسلام عمر) ***
نام محمد وحدقت فيه خديجة وقد امتلأ قلبها إشفاقا وأملا لهذا الذي سمعت منه. فلما رأته استغرق في نوم مطمئن هادئ، تركته وخرجت تقلب في نفسها هذا الذي هز قلبها وأثار هواجسها، وتفكر في الغد ترجو خيرا، وترجو أن يكون زوجها نبي هذه الأمة العربية التي غرقت في الضلال؛ يهديها دين الحق ويدلها على الصراط المستقيم. ولكنها، مع ذلك كانت تخشى هذا الغد أشد الخشية على هذا الزوج البار الوفي الحميم. وطفقت تعرض أمام بصيرتها ما قص عليها، وتتخيل الملك الجميل الذي تعرض له في السماء بعد أن أوحى إليه كلمات ربه، والذي ملأ عليه الوجود كله حينما كان يراه أينما صرف وجهه، وتستعيد الكلمات التي تلا محمد بعد أن نقشت في صدره. جعلت تعرض ذلك كله أمام بصيرتها فتفتر شفتاها طورا عن ابتسامة الأمل، وتنكمش أساريرها طورا آخر خيفة ما قد يكون أصاب الأمين. ولم تطق البقاء في وحدتها طويلا، تنتقل من الأمل الحلو الباسم إلى الريبة والإشفاق المخوف، ففكرت بأن تفضي بما في نفسها إلى من تعرف فيه الحكمة ومحض النصيحة.
لذلك انطلقت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل؛ وكان كما قدمنا قد تنصر وعرف الإنجيل ونقل بعضه إلى العربية. فلما أخبرته بما رأى محمد وسمع، وقصت عليه كل ما حدثها به، وذكرت له إشفاقها وأملها، أطرق مليا ثم قال: «قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاء الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت.» وعادت خديجة فألفت محمدا ما يزال نائما، فحدقت فيه وكلها الحب والإخلاص، وكلها الإشفاق والأمل. وفيما هو في هدأة نومه إذا به اهتز وثقل تنفسه وبلل العرق جبينه يقوم ليستمع إلى الملك يوحي إليه:
يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر .
1
ورأته خديجة كذلك فازدادت إشفاقا، وتقدمت إليه في رقة وضراعة أن يعود إلى فراشه وأن ينام ليستريح. فكان جوابه - أو كما قال - انقضى يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس وأن أدعوهم إلى الله وإلى عبادته. فمن ذا أدعو؟ ومن ذا يستجيب لي ؟ فجهدت خديجة تهون عليه الأمر وتثبته. وسارعت فقصت عليه نبأ ورقة وما حدثها به، ثم أعلنت إليه في شوق ولهف إسلامها له وإيمانها بنبوته.
وكان طبيعيا أن تسارع إلى الإيمان به، وقد جربت عليه طول حياته الأمانة والصدق وعلو النفس وحب البر والرحمة، رأته في سنوات تحنثه كيف شغلت نفسه بالحق وحده، يطلبه مرتفعا بقلبه وبروحه وبعقله فوق أوهام الناس ممن يعبدون الأصنام ويقربون لها القرابين، وممن يرون فيها آلهة يزعمونها تضر وتنفع، ويتوهمونها خليقة بالعبادة والإجلال. رأته في سنوات تحنثه كما رأت كيف كان حاله أول عوده من حراء بعد البعث وهو في أشد الحيرة من أمره. ولقد طلبت إليه متى جاءه الملك أن يخبرها. فلما رآه أجلسته على فخذها اليسرى ثم على فخذها اليمنى، ثم في حجرها وهو ما يزال يراه، فحسرت وألقت خمارها فإذا هو لا يراه؛ فلم يبق ريب عندها في أنه ملك وليس بشيطان.
وخرج محمد من بعد ذلك يوما للطواف بالكعبة، فلقيه ورقة بن نوفل، فلما قص عليه محمد أمره قال ورقة: «والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة. ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى. ولتكذبن، ولتؤذين، ولتخرجن ولتقاتلن. ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه.» ثم أدنى منه رأسه فقبل يافوخه. وشعر محمد بصدق ورقة في قوله وبثقل ما ألقي عليه، وطفق يفكر كيف يدعو قريشا إلى ما آمن به وهو يعلم أنهم أحرص ما يكونون على باطلهم، حتى ليقاتلون في سبيله ويقتلون، وهم من بعد أهله وعشيرته الأقربون.
إنهم في ضلال، وإن ما يدعوهم إليه هو الحق، فهو يدعوهم إلى الارتفاع بقلوبهم وبأرواحهم لتتصل بالله الذي خلقهم وخلق من قبل آباءهم، ليعبدوه مخلصين له الدين طاهرة نفوسهم. وهو يدعوهم ليتقربوا إلى الله بالعمل الصالح وإيتاء ذي القربى حقه وابن السبيل، ولينبذوا عبادة هذه الأحجار التي اتخذوا منها أصناما يزعمون أنها تغفر لهم ما يمعنون فيه من لهو وفسوق، ومن أكل الربا ومال اليتيم، فإذا عبادتها تحيل نفوسهم وقلوبهم أشد من الأصنام تحجرا وقسوة! وهو يهيب بهم أن ينظروا إلى ما في السموات والأرض من خلق الله لتمتثل نفوسهم ذلك كله وتدرك ما له من خطر وجلال، فتعظم بإدراكها سنة ما في السموات وما في الأرض، ثم تعظم بعبادتها خالق الوجود كله وحده لا شريك له، وتسمو لذلك عن كل وضيع، وتتعالى عن كل دون، وتأخذها الرحمة بكل ما لم يهده الله وتعمل لهدايته، وتكون البر لكل يتيم ولكل بائس أو ضعيف. نعم! إلى هذا أمره الله أن يدعوهم. لكن هذه القلوب القاسية، وهذه الأرواح الغلاظ قد يبست على عبادة ما كان يعبد آباؤها. ووجدت فيه تجارة تجعل مكة مركز حجيج عبدة الأصنام! أفيتركون دين آبائهم ويعرضون مكانة مدينتهم لما قد تتعرض له إذا لم يبق على عبادة الأصنام أحد؟! ثم كيف تطهر هذه القلوب وتخلص من أدران شهواتها، والشهوة تهبط بها إلى إرضاء بهيميتها، في حين هو ينذر الناس أن يرتفعوا فوق شهواتهم وفوق أصنامهم؟ وإذا هم لم يؤمنوا به فماذا عسى أن يفعل؟ هذه هي المسألة الكبرى؟
انتظر هداية الوحي إياه في أمره وإنارة سبيله، فإذا الوحي يفتر! وإذا جبريل لا ينزل عليه، وإذا ما حوله سكينة صامتة جعلته في وحدة من الناس ومن نفسه، وردته إلى مثل مخاوفه قبل نزول الوحي. وقد روي أن خديجة قالت له: ما أرى ربك إلا قد قلاك. وتولاه الخوف والوجل، فهما يبتعثانه من جديد يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربه يسأله: لم قلاه بعد أن اصطفاه؟ ولم تكن خديجة أقل منه إشفاقا ووجلا. ويتمنى الموت صادقا لولا أنه كان يشعر بما أمر به فيرجع إلى نفسه ثم إلى ربه. ولقد قيل: إنه فكر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس. وأي خير في الحياة وهذا أكبر أمله فيها يذوي وينقضي؟! وإنه لكذلك تساوره هذه المخاوف إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره.
ونزل عليه بقوله تعالى:
والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث .
2
يا لجلال الله! أية سكينة للنفس، وغبطة للقلب، وبهجة للفؤاد! انجابت مخاوف محمد وزال كل روعه، وارتسمت على ثغره ابتسامة الرضا، وافترت شفتاه عن معاني الحمد وآي التقديس والعبادة، لم يبق لما كانت تخشى خديجة من أن الله قلاه ولم يبق لفزعه وهلعه موضع، بل تولاه الله وتولاها برحمته، وأزال كل خشية أو ريبة من نفسه. لا انتحار إذن، ولكن حياة ودعوة إلى الله، وإلى الله وحده. إلى الله العلي الكبير تعنو له الجباه ويسجد له من في السموات والأرض جميعا. وهو وحده الحق وكل ما يدعون من دون الباطل. إليه وحده يتوجه القلب، وبه وحده يجب أن تتعلق النفس، وفيه وحده يجب أن تفنى الروح، وللآخرة خير لك من الأولى؛ الآخرة التي تحيط فيها النفس بكل الوجود في كمال وحدته، والتي يتناهى إليها المكان والزمان وننسى فيها اعتبارات هذه الحياة الوضيعة الأولى. الآخرة التي يصير فيها الضحى ولألاء شمسه الباهرة والليل ودجاه الساجي، والسموات والكواكب والأرض والجبال كلا واحدا تتصل به الروح الراضية المرضية. هذه هي الحياة التي يجب أن تكون إليها الغاية من سفر هذه الحياة. هذا هو الحق وكل ما دونه صور منه لا تغني عنه. هذا هو الحق الذي أضاء بنوره روح محمد والذي ابتعثه من جديد ليفكر في الدعوة إلى ربه. وللدعوة إلى ربه يجب أن يطهر ثيابه، وأن يهجر المنكر، وأن يصبر على ما يلاقي من الأذى في سبيل الدعوة إلى الحق، وأن ينير للناس سبيل العلم بما لم يكونوا يعلمون، وألا ينهر من أجل ذلك سائلا، ولا يقهر يتيما. حسبه اختيار الله إياه لكلمته فليتحدث عنها. وحسبه أن الله وجده يتيما فآواه في كفالة جده عبد المطلب وعمه أبي طالب؛ وأنه وجده فقيرا فأغناه بأمانته ويسر له خديجة شريكة صباه، شريكة تحنثه، شريكة بعثه، شريكة المحبة، الناصحة الرءوف، وأنه وجده ضالا فهداه برسالته. حسبه هذا. وليدع إلى الحق جاهدا ما استطاع. ذلك أمر الله إلى نبيه الذي اصطفاه، ما ودعه وما قلاه.
وعلم الله نبيه الصلاة فصلى وصلت خديجة معه. وكان يقيم معهما غير بناتهما علي بن أبي طالب الذي كان صبيا لما يبلغ الحلم؛ ذلك أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة؛ وكان أبو طالب كثير العيال. فقال محمد لعمه العباس - وكان من أكثر بني هاشم يسارا: «إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة: فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفلهما عنه ...» وكفل العباس جعفرا وكفل محمد عليا، فلم يزل معه حتى بعثه الله. وفيما محمد وخديجة يصليان يوما دخل عليهما علي مفاجأة، فرآهما يركعان ويسجدان ويتلوان ما تيسر مما أوحاه الله يومئذ من القرآن. فوقف الشاب دهشا حتى أتما صلاتهما، ثم سأل: لمن تسجدان؟ فأجابه محمد - أو كما قال: إنما نسجد لله الذي بعثني نبيا وأمرني أن أدعو الناس إليه. ودعا محمد ابن عمه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دينه الذي بعث نبيه به، وإلى إنكار الأصنام من أمثال اللات والعزى، وتلا محمد ما تيسر من القرآن، فأخذ علي عن نفسه، وسحره جمال الآيات وإعجازها، واستمهل ابن عمه حتى يشاور أباه. ثم قضى ليله مضطربا، حتى إذا أصبح أعلن إليهما أنه اتبعهما من غير حاجة لرأي أبي طالب، وقال: «لقد خلقني الله من غير أن يشاور أبا طالب، فما حاجتي أنا إلى مشاورته لأعبد الله.» وكذلك كان علي أول صبي أسلم، ومن بعده أسلم زيد بن حارثة مولى النبي. وبذلك بقي الإسلام محصورا في بيت محمد: فيه وفي زوجته وابن عمه ومولاه. وظل هو يفكر كيف يدعو قريشا إليه وهو يعلم ما هي عليه من شدة البأس وبالغ التعلق بعبادات آبائها وأصنامهم.
وكان أبو بكر بن أبي قحافة التيمي صديقا حميما لمحمد، يستريح إليه ويعرف فيه النزاهة والأمانة والصدق؛ لذلك كان هو أول من دعاه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان، وأول من أفضى إليه بما رأى وبما أوحي إليه: ولم يتردد أبو بكر في إجابة محمد إلى دعوته وفي الإيمان بها، وأي نفس تنشرح للحق تتردد ترك في عبادة الأوثان لعبادة الله وحده؟ وأي نفس فيها شيء من السمو ترضى عن عبادة الله عبادة حجر أيا كانت صورته؟ أو أي نفس تقية تتردد في طهر الثياب وطهر النفس وإعطاء السائل والبر باليتيم؟! وأذاع أبو بكر بين أصحابه إيمانه بالله وبرسوله. وكان أبو بكر رجلا وسيما «مألفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر. وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.»
وجعل أبو بكر يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه، فتابعه على الإسلام عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، ثم أسلم من بعد ذلك أبو عبيدة بن الجراح وكثيرون غيره من أهل مكة.
وكان أحدهم إذا أسلم ذهب إلى النبي فأعلن إليه إسلامه وتلقى عنه تعاليمه. وكان المسلمون الأولون يستخفون؛ لعلمهم بما تضمر قريش من عداوة لكل خارج على أوثانها، فكانوا إذا أرادوا الصلاة انطلقوا إلى شعاب مكة وصلوا فيها. وظلوا على ذلك ثلاث سنوات ازداد الإسلام فيها انتشارا بين أهل مكة، ونزل على محمد فيها من الوحي ما زاد المسلمين إيمانا وتثبيتا.
وكان مثل محمد خير ما يزيد الدعوة انتشارا: كان برا رحيما، جم التواضع كامل الرجولية، عذب الحديث، محبا للعدل، يعطي كل ذي حق حقه، وينظر إلى الضعيف واليتيم وإلى البائس والمسكين نظرة كلها الأبوة والحنان والعطف والمودة. وكان تهجده وسهره الليل وترتيله ما أنزل عليه ودوام نظره في السموات والأرض والتماس العبرة من الوجود كله وكل ما فيه، وفي توجهه الدائم لله وحده، والتماسه حياة الكون كله في أطواء نفسه ودخيلة حياته، مثلا جعل الذين آمنوا به وأسلموا له أحرص على إسلامهم وأشد يقينا بإيمانهم، على ما في ذلك من إنكار ما كان عليه آباؤهم واحتمال تعرضهم لأذى المشركين ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم. آمن بمحمد من تجار مكة وأشرافها من عرفت نفوسهم الطهر والنزاهة والمغفرة والرحمة، وآمن به كل ضعيف وكل بائس وكل محروم، وانتشر أمر محمد بمكة، ودخل الناس في الإسلام أرسالا رجالا ونساء.
وتحدث الناس عن محمد وعن دعوته. على أن أهل مكة من قساة الأكباد ومن على قلوبهم أقفالها لم يعبئوا به أول أمره، وظنوا أن حديثه لن يزيد على حديث الرهبان والحكماء أمثال قس وأمية وورقة وغيرهم، وأن الناس عائدون لا محالة إلى دين آبائهم وأجدادهم، وأن هبل واللات والعزى، وإسافا ونائلة اللذين كانا ينحر عندهما، ستكون آخر الأمر صاحبة الغلب، ناسين أن الإيمان الصادق لا يغلبه غالب، وأن الحق قد كتب له الفوز أبدا.
بعد ثلاث سنين من حين البعث أمر الله رسوله أن يظهر ما خفي من أمره وأن يصدع بما جاء منه، ونزل الوحي:
وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ،
3
فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين .
4
ودعا محمد عشيرته إلى طعام في بيته، وحاول أن يحدثهم داعيا إياهم إلى الله؛ فقطع عمه أبو لهب حديثه واستنفر القوم ليقوموا. ودعاهم محمد في الغداة كرة أخرى، فلما طعموا قال لهم: ما أعلم إنسانا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة. وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه. فأيكم يؤازرني على هذا الأمر؟ فأعرضوا عنه وهموا بتركه. لكن عليا نهض، وهو ما يزال صبيا دون الحلم. وقال: «أنا يا رسول الله عونك. أنا حرب على من حاربت.» فابتسم بنو هاشم وقهقه بعضهم، وجعل نظرهم ينتقل من أبي طالب إلى ابنه، ثم انصرفوا مستهزئين.
انتقل محمد بعد ذلك بدعوته من عشيرته الأقربين إلى أهل مكة جميعا . صعد الصفا يوما ونادى: يا معشر قريش! قالت قريش: محمد على الصفا يهتف، وأقبلوا عليه يسألونه ما له؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقون؟ قالوا: نعم! أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط. قال: فإني نذير بين يدي عذاب شديد، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة، يا بني تيم، يا بني مخزوم، يا بني أسد، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله، أو كما قال. فنهض أبو لهب - وكان رجلا بدينا سريع الغضب - فصاح: «تبا لك سائر هذا اليوم! ألهذا جمعتنا؟!»
وأرتج على محمد فنظر إلى عمه، ثم ما لبث أن جاء الوحي بقوله تعالى:
تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب .
5
لم يحل غضب أبي لهب ولا خصومة غيره من قريش دون انتشار الدعوة إلى الإسلام بين أهل مكة. فلم يكن يوم إلا أسلم فيه بعضهم لله وجهه. وكان الزاهدون في الدنيا أشد على الإسلام إقبالا. أولئك لا تلهيهم التجارة ولا يلهيهم البيع عن التأمل فيما يدعوهم الداعي إليه. وهم قد رأوا محمدا في غنى من مال خديجة وماله، وها هو ذا مع ذلك لا يعبأ بهذا المال ولا بالمزيد عليه والإكثار منه، ويدعو إلى الحب والعطف والمودة والتسامح. بل ها هو ذا يجيئه الوحي بأن في الإكثار من الثروة لعنة للروح. أليس يقول:
ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ؟
6
وأي شيء خير مما يدعو إليه محمد؟! أليس هو يدعو إلى الحرية! إلى الحرية المطلقة التي لا حدود لها! إلى الحرية العزيزة على نفس العربي عزة حياته عليه؟! نعم! أليس يطلق الناس من التقيد بأية عبادة غير عبادة الله وحده؟! أليس يحطم كل ما بينهم وبينه من أغلال؟! لا هبل ولا اللات ولا العزى ولا نار المجوس ولا شمس المصريين ولا نجوم عباد النجوم ولا الحواريون ولا أحد من الإنس أو من الملائكة أو من الجان يحجب بين الله والإنسان. وأمام الله، أمامه وحده لا شريك له، يسأل الإنسان عما قدم من خير أو شر. وأعمال الإنسان هي وحدها شفيعه. وضميره هو الذي يزن أعماله، وهو وحده صاحب السلطان عليه، وبه يحاسب يوم تجزى كل نفس بما كسبت. أية حرية أوسع مدى من هذه الحرية التي يدعو محمد إليها؟! وهل يدعو أبو لهب وأصحابه إلى شيء من مثلها؟! أم هم يدعون الناس لتظل نفوسهم في رق وعبودية بما تكدس عليها من خرافات حجبت عنها نور الحق أو ضياء الهدى؟
على أن أبا لهب وأبا سفيان وأشراف قريش وأمجادها، وأشراف المال وأمجاد اللهو، بدءوا يشعرون بما في دعوة محمد من خطر على مكانتهم، فرأوا بادئ الرأي أن يحاربوه بالحط من شأنه، وبتكذيبه فيما يزعم من نبوته. وكان أول ما صنعوا من هذا أن أغروا به شعراءهم: أبا سفيان بن الحارث، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبعرى، يهجونه ويقارعونه. وتولت طائفة من شعراء المسلمين الرد على هؤلاء من غير أن يكون محمد في حاجة إلى مساجلتهم. هنالك تقدم غير الشعراء يسألون محمدا عن معجزاته التي يثبت بها رسالته؛ معجزات كمعجزات موسى وعيسى.
فما باله لا يحيل الصفا والمروة ذهبا، ولا ينزل عليه الكتاب الذي يتحدث عنه مخطوطا من السماء؟! ولم لا يبدو لهم جبريل الذي يطول حديث محمد عنه؟! ولم لا يحيي الموتى ولا يسير الجبال حتى لا تظل مكة حبيسة بينها؟! ولم لا يفجر ينبوعا أعذب من زمزم ماء وهو أعلم بحاجة أهل بلده إلى الماء؟! ولم يقف أمر المشركين عند التهكم بالمسألة في هذه المعجزات، بل كانوا يزدادون تهكما ويسألونه: لم لا يوحي إليه ربه أثمان السلع حتى يضاربوا على المستقبل. وطال بهم اللجاج، فرد الوحي لجاجهم بما أنزل على محمد من قوله تعالى:
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون .
7
جانب من المسجد الحرام.
نعم! ما محمد إلا نذير وبشير. فكيف يطالبونه بما لا يقبل العقل وهو لا يطلب إليهم إلا ما يقبله العقل بل يمليه ويحتمه؟! وكيف يطلبون إليه ما تأنف منه النفس الفاضلة وهو لا يطالبهم إلا أن يستجيبوا لوحي النفس الفاضلة؟! وكيف يطلبون إليه المعجزات وهذا الكتاب الذي يوحى إليه، والذي يهدي إلى الحق، معجزة المعجزات؟! وما لهم يطلبون إليه إثبات رسالته بالخوارق ليترددوا من بعد ذلك أيتبعونه أم لا يتبعونه، وهذه التي يزعمونها آلهتهم ليست إلا حجارة أو خشبا مسندة أو أنصابا قائمة في عرض الفلاة لا تملك لهم نفعا ولا ضرا، وهم مع ذلك يعبدونها دون أن يطلبوا إليها ما يثبت ألوهيتها؟! ولو أنهم طلبوا لظلت خشبا أو حجارة لا حياة فيها ولا حركة لها، لا تستطيع لنفسها ضرا ولا نفعا، ولا تستطيع إذا حطمها محطم عن نفسها دفعا.
وبادأهم محمد بذكر آلهتهم وكان من قبل لا يذكرها، وعابها وكان من قبل لا يعيبها. هنالك عظم الأمر على قريش وحز في صدورهم؛ وبدءوا يفكرون التفكير الجد في أمر هذا الرجل وما هو لاق منهم وما هم لاقون منه، لقد كانوا إلى يومئذ يسخرون من قوله، وكانوا إذا جلسوا في دار الندوة أو حول الكعبة وأصنامهم فجرى ذكره على ألسنتهم لم يثر أكثر من ابتسامات استخفافهم واستهزائهم. أما وقد حقر من شأن آلهتهم وسخر مما يعبدون وما كان يعبد آباؤهم، ونال من هبل ومن اللات والعزى ومن الأصنام جميعا، فلم يبق الأمر موضع استخفاف وسخرية، بل أصبح موضع جد وتدبير. أولو أتيح لهذا الرجل أن يؤلب عليهم أهل مكة وأن يصرفهم عن عبادتهم فماذا تئول إليه تجارة مكة؟ وماذا يكون مقامها الديني؟
لم يكن عمه أبو طالب قد دخل في دين الله ، لكنه ظل حاميا لابن أخيه قائما دونه، معلنا استعداده للدفاع عنه . لذلك مشى رجال من أشراف قريش على أبي طالب، وفي مقدمتهم أبو سفيان بن حرب، فقالوا: «يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه؛ فإنك على مثل ما نحن عليه من خلاف فسنكفيكه.» فردهم أبو طالب ردا جميلا. ومضى محمد يشتد في الدعوة إلى رسالته، ويزداد لدعوته أعوانا. وائتمرت قريش بمحمد ومشوا إلى أبي طالب مرة أخرى ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة، وكان أنهد فتى في قريش وأجمله، وطلبوا إليه أن يتخذه ولدا ويسلمهم محمدا، فأبى.
ومضى محمد في دعوته ومضت قريش في ائتمارها. ثم ذهبوا إلى أبي طالب مرة ثالثة وقالوا له: «يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وقد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا. وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين.» وعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام ابن أخيه ولا خذلانه. ماذا تراه يصنع؟ بعث إلى محمد فقص عليه رسالة قريش، ثم قال له: «فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.»
وأطرق محمد إطراقة وقف إزاءها تاريخ الوجود كله برهة مبهوتا لا يدري بعدها ما اتجاهه. وفي الكلمة التي تفتر عنها شفتا هذا الرجل حكم على العالم: أهو يظل في الضلال يمد له فيه، فتطغى المجوسية على النصرانية المتخاذلة المضطربة وترفع الوثنية بباطلها رأسها الخرف الأفن، أم هو يضيء أمامه نور الحق، تعلن فيه كلمة التوحيد، وتحرر فيه العقول من رق العبودية والقلوب من أسر الأوهام، وترفع فيه النفس الإنسانية لتتصل بالملأ الأعلى؟ وهذا عمه كأنه ضعف عن نصرته والقيام معه، فهو خاذله ومسلمه. وهؤلاء المسلمون ما يزالون ضعافا لا يقوون على حرب ولا يستطيعون مقاومة قريش ذات السلطان والمال والعدة والعدد. إذن لم يبق له دون الحق الذي ينادي الناس باسمه نصير، ولم يبق له سوى إيمانه بالحق عدة. ليكن! إن الآخرة خير له من الأولى. فليؤد رسالته وليدع إلى ما أمره ربه. ولخير له أن يموت مؤمنا بالحق الذي أوحي إليه من أن يخذله أو يتردد فيه. لذلك التفت إلى عمه ممتلئ النفس بقوة إرادته وقال له: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.»
يا لعظمة الحق وجلال الإيمان به! اهتز الشيخ لما سمع من جواب محمد، ووقف كذلك مبهوتا أمام هذه القوة القدسية والإرادة السامية فوق الحياة وما في الحياة. وقام محمد وقد خنقته العبرة مما فاجأه به عمه وإن لم تدر بنفسه خلجة ريب في السبيل الذي يسلك. ولم تك لحظة اهتز فيها وجود أبي طالب متحيرا بين غضبة قومه وموقف ابن أخيه حتى نادى محمدا أن أقبل، فلما أقبل قال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء تكرهه أبدا! وأفضى أبو طالب إلى بني هاشم وبني المطلب بقول ابن أخيه وبموقفه، وحديثه عنه يتدفق بروعة ما شهد وجلال ما شعر به، وطلب إليهم أن يمنعوا محمدا من قريش؛ فاستجابوا له جميعا إلا أبا لهب؛ فإنه صارحهم بالعداوة وانضم إلى خصومهم عليهم. وهم لا ريب قد منعوه متأثرين بالعصبية القومية وبالخصومة القديمة بين بني هاشم وبني أمية.
لكن العصبية لم تكن وحدها التي حفزتهم إلى الوقوف هذا الموقف من قريش كلها في أمر له من جلال الخطر ما للدعوة إلى نبذ دينهم والخروج على عقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم؛ بل كان موقف محمد منهم وشدة إيمانه بينهم ودعوته الناس بالحسنى إلى عبادة الواحد الأحد، وما كان شائعا يومئذ بين قبائل العرب جميعا من أن لله دينا غير دينهم الذي هم عليه؛ مما جعلهم يرون حقا لابن أخيهم محمد أن يعالن الناس برأيه كما كان يفعل أمية بن أبي الصلت وورقة بن نوفل وغيرهما. فإن يكن محمد على الحق - وذلك ما لا ثقة لهم به - فسيظهر الحق من بعد وسيكون لهم من مجده نصيب، وإلا يكن على الحق فسينصرف الناس عنه كما انصرفوا من قبل عن غيره، ثم لن يكون لدعوته من الأثر أن يخرجوا على تقاليدهم وأن يسلموه لخصومه كي يقتلوه.
اعتصم محمد بقومه من أذى قريش، كما اعتصم بخديجة في داره من هم نفسه. فقد كانت له بصدق إيمانها وعظيم حبها، وزير صدق تسري عنه كل همه، وتقوي فيه كل عارض ضعف من أثر أذى خصومه وإمعانهم في مناوأته وإيصال الأذى لأتباعه. وفي الحق أن قريشا لم تنم ولم تعد لما عرفت من قبل من دعة النعيم؛ بل وثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، حتى ألقى أحدهم عبده الحبشي بلالا على الرمل تحت الشمس المحرقة ووضع حجرا على صدره وتركه ليموت، لا لشيء إلا أنه أصر على الإسلام! ولم يزد بلال وهو في هذه الحال على أن يكرر كلمة: «أحد أحد.» محتملا هذا العذاب في سبيل دينه. وقد رآه أبو بكر يوما يعاني هذا العذاب فاشتراه وأعتقه. واشترى أبو بكر كثيرا من الموالي الذين كانوا يعذبون، ومن بينهم جارية لعمر بن الخطاب اشتراها منه قبل إسلامه.
وعذبت امرأة حتى ماتت لأنها لم ترض أن ترجع عن الإسلام إلى دين آبائها. وكان المسلمون من غير الموالي يضربون وتوجه إليهم أشد صور المهانة. ولم يسلم محمد - مع منع بني هاشم وبني المطلب له - من هذه الإساءات. كانت أم جميل زوج أبي لهب تلقي النجس أمام بيته فيكتفي محمد بأن يزيله. وكان أبو جهل يلقي عليه أثناء صلواته رحم شاة مذبوحة ضحية للأصنام فيحتمل الأذى ويذهب إلى ابنته فاطمة لتعيد إليه نظافته وطهارته. هذا إلى جانب ما كان المسلمون يسمعون من لغو القول وهجر الكلام حيثما ذهبوا. واستمر الأمر على ذلك طويلا، فلم يزدادوا إلا حرصا على دينهم وابتهاجا بالأذى والتضحية في سبيل عقيدتهم وإيمانهم.
هذه الفترة من فترات حياة محمد عليه السلام هي من أشد ما عرف التاريخ الإنساني روعة في العصور جميعا. فما كان محمد والذين اتبعوه طلاب مال ولا جاه ولا حكم أو سلطان؛ إنما كانوا طلاب حق وإيمان به. وكان محمد طالب هدى للذين يصيبونه بالأذى وتحرير لهم من ربقة الوثنية الوضيعة التي تنحدر بالنفس الإنسانية إلى خزي المذلة والهوان. في سبيل هذه الغاية الروحية السامية، لا في سبيل شيء آخر، كان الأذى يصله، وكان الشعراء يسبونه، وكانت قريش تأتمر به حتى حاول رجل قتله عند الكعبة. وكان منزله يرجم، وكان أهله وأتباعه يهددون، فلا يزيده ذلك إلا صبرا وإمعانا في الدعوة.
وامتلأت نفوس المؤمنين الذين اتبعوه بقوله: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» وهانت عليهم جميعا التضحيات الجسام، وهان عليهم الموت في سبيل الحق وهداية قريش له. وقد تعجب لهذا الإيمان الآخذ بنفوس أولئك المكيين ولما يكن الدين قد كمل، ولما يكن قد نزل من القرآن إلا القليل. وقد تحسب أن شخصية محمد ودماثة طبعه وجميل خلقه وما عرف من صدقه وما بدا من صلابة عوده وقوة عزمه وثبات إرادته، كان السبب في كل هذا، ولا ريب قد كان لهذا كله حظه ونصيبه، لكن عوامل أخرى جديرة بالتقدير والاعتبار كان لها هي أيضا نصيب في ذلك غير قليل.
فقد كان محمد في بلاد حرة هي أشبه ما تكون بالجمهورية. وكان في الذروة والسنام منها حسبا ونسبا. وكان قد وصل من المال إلى ما يشاء. وكان إلى ذلك من بني هاشم. اجتمعت لهم سدانة الكعبة وسقاية الحاج وما شاءوا من مجد الألقاب الدينية. فلم يكن لذلك في حاجة إلى المال أو الجاه أو المكانة السياسية أو الدينية. وكان في ذلك على خلاف من سبقه من الرسل والأنبياء. فقد ولد موسى في مصر وفيها فرعون يدين له أهلها بالألوهية وينادي هو فيهم : «أنا ربكم الأعلى.» وتعاونه طائفة رجال الدين على سوم الناس ألوان الظلم والاستغلال والعسف، فكانت الثورة التي قام بها موسى بأمر ربه ثورة نظام سياسي وديني معا. أليس يريد أن يكون فرعون والرجل الذي يرفع الماء بالشادوف من النيل أمام الله سيين؟ إذن فما هي ألوهية فرعون وما هذا النظام القائم؟! يجب أن يحطم ذلك كله، ويجب أن تكون الثورة سياسية أولا.
لهذا لقيت الدعوة الموسوية منذ بداءتها حربا من فرعون شعواء، ولذلك آزرت المعجزات موسى ليؤمن الناس بدعوته. ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى تلقف ما صنع سحرة فرعون. ولم يجد ذلك موسى شيئا، فاضطر إلى مغادرة وطنه مصر، وقد آزرته في هجرته معجزة انفلاق الطريق في البحر خلال الماء. وقد ولد عيسى في الناصرة من أعمال فلسطين، وهي يومئذ ولاية رومانية خاضعة لحكم القياصرة ولظلم المستعمرين بها ولآلهة رومية، فدعا الناس إلى الصبر على الظلم، وإلى المغفرة للتائب المنيب، وإلى ألوان من الرحمة اعتبرها القائمون بالأمر ثورة على تجبرهم، فآزرت عيسى معجزات إحياء الموتى وإبراء المرضى وسائر ما أيده به روح القدس من عنده. صحيح أن تعاليمهم تنتهي في جوهرها إلى ما تنتهي إليه تعاليم محمد في جوهرها، مع خلاف في التفاصيل ليس هنا موضع إيضاحه. لكن هذه العوامل المختلفة، والعامل السياسي في مقدمتها، وجهت دعوتهما اتجاهها. أما محمد - وكانت ظروفه ما قدمنا - فكانت رسالته عقلية روحية أساسها الدعوة إلى الحق والخير والجمال، دعوة مجردة في بدئها وفي غايتها. ولبعدها عن كل خصومة سياسية لم تزعج النظام الجمهوري الذي كان قائما بمكة بأية صورة من صور الإزعاج.
وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكر ما بين دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة من شبه قوي، فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثا أن تمحو من نفسك كل رأي وكل عقيدة سابقة لك في هذا البحث، وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على المقدمات العلمية، فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها. وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر، وها هي ذي مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته، فكيف اقتنع الذين اتبعوه بدعوته وآمنوا بها؟ نزعوا من نفوسهم كل عقيدة سابقة وبدءوا يفكرون فيما أمامهم.
لقد كان لكل قبيلة من قبائل العرب صنم. فأي صنم هو الحق وأي صنم هو الباطل؟ وكان في بلاد العرب وفي البلاد التي تجاورها صابئة ومجوس يعبدون النار، وكان فيها الذين يعبدون الشمس فأي هؤلاء على الحق، وأيهم على الباطل؟ لنذر هذا كله إذن جانبا، ولنمح أثره من نفوسنا، ولنتجرد من كل رأي ومن كل عقيدة سابقة ولننظر. والنظر والملاحظة بطبيعة الحال سيان. مما لا شبهة فيه أن لكل موجود بسائر الموجودات اتصالا؛ فالإنسان تتصل قبائله بعضها ببعض وأممه بعضها ببعض. والإنسان يتصل بالحيوان والجماد. وأرضنا تتصل بالشمس وبالقمر وبسائر الأفلاك. وذلك كله يتصل في سنن مطردة لا تحويل لها ولا تبديل. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار.
ولو أن إحدى موجودات الكون تحولت لتبدل ما في الكون، فلو أن الشمس لم تسعد الأرض بالنور والحرارة، على السنة التي تجري عليها منذ ملايين السنين، لتبدلت الأرض غير الأرض والسماء. وما دام ذلك لم يحدث، فلا بد لهذا الكل من روح يمسكه؛ منه نشأ، وعنه تطور، وإليه يعود. هذا الروح وحده هو الذي يجب أن يخضع له الإنسان. أما سائر ما في الكون فهو خاضع لهذا الروح كالإنسان سواء. والإنسان والكون والزمان والمكان وحدة، وهذا الروح جوهرها ومصدرها. وإذن فلتكن لهذا الروح وحدة العبادة. ولهذا الروح يجب أن تتجه القلوب والأفئدة. وفي الكون كله يجب أن نلتمس من طريق النظر والتأمل سننه الخالدة. وإذن فما يعبد الناس من دون الله أصناما وملوكا وفراعنة ونارا وشمسا إنما هو وهم باطل غير جدير بالكرامة الإنسانية، ولا هو يتفق مع عقل الإنسان وما كرم به من القدرة على استنباط سنة الله من طريق النظر في خلقه.
هذا جوهر الدعوة المحمدية على ما عرفها المسلمون الأولون. وقد أبلغهم الوحي إياها على لسان محمد في آي من البلاغة كانت ولن تزال معجزة؛ فجمع لهذا بذلك بين الحق وتصويره في كمال جماله. وهنالك ارتقت نفوسهم وسمت قلوبهم تريد الاتصال بهذا الروح الكريم؛ فهداهم محمد إلى أن الخير هو طريق الوصول، وأنهم مجزيون عن هذا الخير يوم يتمون واجبهم في الحياة بالتقوى، ويوم تجزى كل نفس بما كسبت.
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
8
أي سمو بالعقل الإنساني أعظم من هذا السمو؟! وأي تحطيم لقيوده أشد من هذا التحطيم؟! حسب الإنسان أن يفهم هذا وأن يؤمن به وأن يعمل عليه ليبلغ الذروة من مراتب الإنسان. وفي سبيل هذه المكانة تهون كل تضحية على من يؤمن بها.
وقد كان من جلال موقف محمد ومن اتبعه أن ازداد بنو هاشم وبنو المطلب منعا له ودفعا للأذى عنه. مر أبو جهل بمحمد يوما فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتوهين من أمره، فأعرض محمد عنه وانصرف ولم يكلمه. وكان حمزة عمه وأخوه من الرضاعة، لا يزال على دين قريش، وكان رجلا قويا مخوفا. وكان ذا ولع بالصيد، فإذا رجع من صيده طاف بالكعبة قبل أن يعود إلى داره. فلما جاء في ذلك اليوم وعلم بما أصاب ابن أخيه من أذى أبي جهل ملأه الغضب، وذهب إلى الكعبة ولم يقف مسلما على أحد ممن كان عندها كعادته، ودخل المسجد فألفى أبا جهل فقصد إليه، حتى إذا بلغه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة. وأراد الرجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل فمنعهم حسما للشر ومخافة استفحاله معترفا أنه سب محمدا سبا قبيحا، ثم أعلن حمزة إسلامه، وعاهد محمدا على نصرته والتضحية في سبيل الله حتى النهاية.
ضاقت قريش ذرعا بمحمد وأصحابه؛ إذ رأتهم يزدادون كل يوم قوة، ثم لا يثنيهم الأذى ولا يصرفهم العذاب عن إيمانهم والجهر به، وعن صلواتهم وأداء فرضها؛ فخيل إليهم أن يتخلصوا من محمد بما توهموا من إرضاء مطامعه، ناسين عظمة الدعوة الإسلامية ونزاهة جوهرها الروحي السامي عن الخصومة السياسية. فقد رغب عتبة بن ربيعة، وكان من سادات العرب، إلى قريش وهم في ناديهم أن يكلم محمدا وأن يعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فيعطونه أيها شاء ويكف عنهم. وكلم عتبة محمدا فقال: «يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب. وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها ... إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد تشريفا سودناك علينا، فلا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا
9
تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.»
فلما فرغ من قوله تلا محمد عليه سورة السجدة وعتبة منصت يستمع إلى أحسن القول، ويرى أمامه رجلا لا مطمع له في مال ولا تشريف ولا في ملك ولا هو بالمريض، وإنما يدلي بالحق، ويدعو إلى الخير، ويدفع بالتي هي أحسن، مع الإعجاز في العبارة، فلما انتهى محمد انصرف عتبة إلى قريش مأخوذا بجمال ما رأى وسمع، مأخوذا بعظمة هذا الرجل وسحر بيانه. ولم يرق قريشا أمر عتبة ولا راقها رأيه أن تترك للعرب محمدا، فإن تغلبت عليه استراحت قريش، وإن تبعته فلها فخاره. فعادت تناوئ محمدا وتناوئ أصحابه وتصيبهم من البلاء مما كان هو في منجاة منه بمكانته من قومه ومنعته بأبي طالب وبني هاشم وبني المطلب.
وزاد ما ينزل بالمسلمين من الأذى، وبلغ منهم القتل والتعذيب والتمثيل، هنالك أشار عليهم محمد أن يتفرقوا في الأرض. فلما سألوه أين نذهب؟ نصح إليهم أن يذهبوا إلى بلاد الحبشة المسيحية «فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.» فخرج فريق من المسلمين عند ذلك إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم. وخرجوا في هجرتين؛ كانوا في الأولى أحد عشر رجلا وأربع نساء تسللوا من مكة لواذا، ثم أقاموا في خير جوار من النجاشي، حتى ترامى إليهم أن المسلمين بمكة أصبحوا بمأمن من أذى قريش فعادوا، كما سنقصه من بعد. فلما لقوا عنت قريش وأذاهم أبلغ مما كان عادوا إلى الحبشة في ثمانين رجلا غير نسائهم وأطفالهم، وأقاموا بها إلى ما بعد هجرة النبي إلى يثرب. وهذه الهجرة إلى الحبشة كانت أول هجرة في الإسلام.
من حق من يؤرخ لمحمد أن يسأل: أكان كل القصد من هذه الهجرة، التي قام بها المسلمون بأمره ورأيه، الفرار من كفار مكة وما يلحقون بهم من الأذى؟ أما أنها كان لها كذلك غرض سياسي إسلامي رمى محمد من ورائه إلى غاية عليا؟ من حق مؤرخ محمد أن يسأل عن هذا بعد ما ثبت من تاريخ هذا النبي العربي في أطوار حياته جميعا أنه كان سياسيا بعيد الغور، كما كان صاحب رسالة وأدب نفس لا يدانيه فيهما في السمو والجلال والعظمة مدان. ويدعونا إلى هذه المسألة ما تجري به الرواية من أن أهل مكة لم يستريحوا إلى خروج من خرج من المسلمين إلى الحبشة، بل بعثوا رجلين إلى النجاشي ومعهما الهدايا النفيسة ليقنعوه بأن يرد المسلمين من مواطنيهم إليهم. والحبشة ونجاشيها كانوا نصارى، فليس تخشى قريش عليهم من الناحية الدينية أن يتبعوا محمدا. فهل تراهم عنوا بالأمر وبعثوا يستردون المسلمين لأنهم رأوا أن حماية النجاشي إياهم بعد سماعه أقوالهم قد تكون ذات أثر في إقبال أهل جزيرة العرب على دين محمد واتباعهم إياه؟ أم هم خافوا - إن بقي هؤلاء في الحبشة - أن تشتد شوكتهم، فإذا عادوا بعد ذلك لمعونة محمد عادوا أقوياء بالمال والرجال؟
كان الرسولان عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة. وقد دفعا إلى النجاشي وإلى بطارقته بالهدايا كي يرد المهاجرين من أهل مكة إليها. ثم قالا: «أيها الملك إنه قد ضوى
10
إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت. وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.» وكان السفيران قد اتفقا مع بطارقة النجاشي بعد أن أتحفاهم بهدايا أهل مكة أن يعاونوهم على رد المسلمين إلى قريش دون أن يسمع النجاشي كلامهم، فأبى النجاشي أن يفعل حتى يسمع ما يقولون، وبعث في طلبهم. فلما جاءوا سألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟
فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، قال: «أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا. وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - وعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه به واتبعناه على ما جاء به من الله. فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئا. وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك؛ ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك.»
فقال النجاشي: «هل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرؤه علي؟»
قال جعفر: نعم! وتلا عليه سورة مريم من أولها إلى قوله تعالى:
فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .
11
فلما سمع البطارقة هذا القول مصدقا لما في الإنجيل أخذوا وقالوا: هذه كلمات تصدر من النبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح. وقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا والله لا أسلمهم إليكما. فلما كان الغد عاد ابن العاص إلى النجاشي فقال له: إن المسلمين يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. فلما دخلوا عليه قال جعفر بن أبي طالب: فيه نقول الذي جاء به نبينا، يقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عودا وخط به على الأرض وقال - وقد بلغت منه المسرة أكبر مبلغ: ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط. وكذلك تبين للنجاشي بعد سماع الفريقين أن هؤلاء المسلمين يعترفون بعيسى ويقرون النصرانية ويعبدون الله. ووجد المسلمون في جوار النجاشي أمنا ودعة حتى رجعوا إلى مكة للمرة الأولى ومحمد ما يزال بها، حين بلغهم أن خصومة قريش هدأت. فلما رأوا المكيين ما يزالون ينزلون به وبأعوانه الأذى عادوا إلى الحبشة في ثمانين رجلا غير نسائهم وأطفالهم. أفكانت هجرتاهم هاتان لمجرد الفرار من الأذى، أم كان لهما - ولو في تدبير محمد وحده - غاية سياسية يجمل بالمؤرخ أن يجلوها؟
ومن حق مؤرخ محمد أن يسأل: كيف أمن محمد على أصحابه هؤلاء أن يذهبوا إلى أرض الحبشة والنصرانية دين أهلها، دين كتاب، ورسولها عيسى يقر الإسلام رسالته، ثم لا يخاف عليهم فتنة كفتنة قريش وإن تكن من نوع آخر؟ وكيف أمن هذه الفتنة والحبشة بلاد بها من الخصب ما ليس بمكة؛ فهي أشد من قريش فتنة؟ ولقد تنصر بالفعل أحد المسلمين الذين ذهبوا إلى الحبشة، فدل تنصره على أن خوف هذه الفتنة كان جديرا بأن يساور محمدا وقد كان لا يزال ضعيفا ، ولا يزال الذين اتبعوه في أشد الريب من قدرته على حمايتهم أو الانتصار به على عدوهم.
وأكبر الظن أن يكون ذلك قد دار بخاطر محمد، أن كانت سعة ذهنه وذكاء فؤاده وبعد نظره عدلا لسمو روحه وكرم نفسه وحسن أدبه ورقة عاطفته. لكنه كان مطمئنا من هذه الناحية تمام الطمأنينة؛ فقد كان الإسلام يومئذ، وإلى يوم مات صاحب الرسالة، في صفاء جوهره لم تشب نقاءه ولا سموه شائبة. وكانت نصرانية الحبشة كنصرانية نجران والحيرة والشام قد اندس إليها من شوائب الخلاف بين مؤلهي مريم ومؤلهي عيسى والمخالفين لهؤلاء وأولئك ما لا يخشى معه على أولئك الذين كانوا ينهلون من نبع الرسالة المصفى.
وفي الحق أن أكثر الأديان ما كانت تتخطى على الأزمان أجيالا معدودة حتى يندس إليها نوع من الوثنية، إن لم يكن من هذا الطراز الوضيع الشائع يومئذ في بلاد العرب فإنه وثنية على كل حال. والإسلام نزل عدو الوثنية اللدود في جميع صورها وأوضاعها. ثم إن النصرانية تعترف من ذلك التاريخ لطائفة رجال الدين بمكانة خاصة لم يعرفها الإسلام قط، وكان يومئذ أشد ما يكون عليها سموا، ومنها براءة. ثم إنه كان يومئذ وبقي في جوهره دين السمو بالنفس الإنسانية إلى الذروة العليا من السمو. فلم يدع صلة بين المرء وربه غير العمل الصالح والتقوى، وأن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه. لم تبق أصنام ولم يبق كهنة ولم يبق عرافون ولم يبق شيء يحول دون أن تسمو الروح الإنسانية لتتصل بالوجود كله صلة خير ومعروف، ليكون جزاؤها عند الله أكبر من عملها أضعافا مضاعفة.
والروح! الروح الذي هو أمر الله! الروح المتصل بأزل الزمن وأبده! هذا الروح ما عمل صالحا فلا حجاب بينه وبين وجه الله ولا سلطان لغير الله. يستطيع الأغنياء والأقوياء والشريرون أن يعذبوا الجسد وأن يحولوا بينه وبين ملاذه وشهواته وأن يهلكوه، لكنهم لن يصلوا إلى الروح ما دام صاحبه يريد به سموا فوق سلطان المادة وفوق سلطان الزمن واتصالا بالوجود كله. إنما يجزى الإنسان عن أعماله يوم تجزى كل نفس بما كسبت، يومئذ لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا، ويومئذ لا ينفع الأغنياء مالهم، ولا الأقوياء قوتهم، ولا المتكلمين كلامهم؛ إنما هي الأعمال وحدها تشهد لصاحبها أو تشهد عليه. ويومئذ يقف هذا الوجود جميعا متسقة وحدته مجتمعا أزله وأبده، لا يظلم ربك أحدا. ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون.
كيف يخاف محمد الفتنة على من علمهم هذه المعاني ومن بثها في نفوسهم فحلت منهم في سويداء القلب ومكان العقيدة والإيمان؟! ثم كيف يخاف عليهم الفتنة ومثله حاضر أمامهم بشخصه المحبوب، حتى ليحبه أحدهم أكثر من حبه نفسه وبنيه وأهله. شخصه الذي يضع هذه العقيدة فوق ملك الأرض والسماء والشمس والقمر ويقول لعمه: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» شخصه الذي يضيء بنور الإيمان والحكمة والعدل والخير والحق والجمال، الممتلئ إلى جانب ذلك تواضعا وبرا ومودة ورحمة. لذلك كان مطمئنا إلى هجرة أصحابه هؤلاء إلى الحبشة كل الاطمئنان. وكان أمنهم عند النجاشي وسكينتهم إلى دينهم بين قوم لا تربطهم بهم أواصر قربى أو عطف، مما جعل قريشا تشعر بما في إيذائها للمسلمين - وهم منهم وهم أهلوهم وأنسابهم - من ظلم ومن عنت ومن إمعان في الفجور، ومن تحميل كل ألوان الأذى لهؤلاء الذين ارتفعت نفوسهم فوق الأذى، فأصبح لا ينالهم سوء، وأصبحوا يرون في الصبر على البأساء قربى إلى الله ومغفرة منه.
وكان عمر بن الخطاب يومئذ رجلا في فتوة الرجولة، بين الثلاثين والخامسة والثلاثين. وكان مفتول العضل، قوي الشكيمة، حاد الطبع، سريع الغضب، محبا للهو والخمر، وفيه إلى ذلك بر بأهله ورقة لهم. وكان من أشد قريش أذى للمسلمين ووقيعة فيهم. فلما رآهم هاجروا إلى الحبشة ورأى النجاشي حماهم، شعر لفراقهم بوحشة، وبما لفراقهم وطنهم من ألم يحز في الكبد ويفري المهجة. وكان محمد يوما مجتمعا مع أصحابه الذين لم يهاجروا في بيت عند الصفا، ومن بينهم عمه حمزة وابن عمه علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وغيرهم من سائر المسلمين. وعرف عمر اجتماعهم، فقصد إليهم يريد أن يقتل محمدا كي تستريح قريش وتعود إليها وحدتها بعد أن فرق أمرها وسفه أحلامها وعاب آلهتها، ولقيه نعيم بن عبد الله في الطريق وعرف أمره فقال له: «والله لقد غشتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك وتقيم أمرهم؟!»
وكانت فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد بن زيد قد أسلما. فلما عرف عمر من نعيم أمرهما كر راجعا إليهما ودخل البيت عليهما، فإذا عندهما من يقرأ عليهما القرآن. فلما أحسوا دنو داخل عليهم اختفى القارئ وأخفت فاطمة الصحيفة. وسأل عمر: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ فلما أنكرا صاح بهما: لقد علمت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بسعيد. فقامت فاطمة تحمي زوجها فضربها فشجها. فهاج إذ ذاك هائج الزوجين وصاحا به: نعم أسلمنا، فاقض ما أنت قاض. واضطرب عمر حين رأى ما بأخته من الدم، وغلبه بره وعطفه، فارعوى وسأل أخته أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرءون. فلما قرأها تغير وجهه وأحس الندم على صنيعه، ثم اهتز لما قرأ في الصحيفة وأخذه إعجازها وجلالها وسمو الدعوة التي تدعو إليها، فزاد جانب البر غلبة عليه.
وخرج وقد لان قلبه واطمأنت نفسه؛ فقصد إلى مجلس محمد وأصحابه عند الصفا. فاستأذن وأعلن إسلامه، فوجد المسلمون فيه وفي حمزة للإسلام منعة وللمسلمين حمى.
وفت إسلام عمر في عضد قريش، فأتمرت مرة أخرى ما تصنع. والحق أن هذا الحادث عزز المسلمين بعنصر جديد قوي غاية القوة، جعل موقف قريش منهم وموقفهم من قريش غير ما كان، واستتبع ما بين الطرفين سياسة جديدة مليئة بأحداث وتضحيات وقوى جديدة أدت إلى الهجرة وإلى ظهور محمد السياسي إلى جانب محمد الرسول.
الفصل السادس
قصة الغرانيق
(عود مهاجري الحبشة - الغرانيق العلا - تمسك المستشرقين بقصتها - أسانيدهم في ذلك - ضعف هذه الأسانيد - القصة ظاهرة الكذب ينفيها التمحيص العلمي) ***
أقام المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة ثلاثة أشهر أسلم أثناءها عمر بن الخطاب. وعلم هؤلاء المهاجرون ما حدث على أثر إسلامه من رجوع قريش عن إيذائها محمدا ومن اتبعه، فعاد كثير منهم في رواية، وعادوا كلهم في رواية أخرى إلى مكة. فلما بلغوها رأوا قريشا عادت إلى إيذاء المسلمين وإلى الإمعان في عداوتهم أشد مما عرف هؤلاء المهاجرون من قبل، فعاد إلى الحبشة من عاد، ودخل مكة من دخل مستخفيا أو بجوار. ويقال: إن الذين عادوا استصحبوا معهم عددا آخر من المسلمين أقاموا بالحبشة إلى ما بعد الهجرة وإلى حين استتباب الأمر للمسلمين بالمدينة.
أي داع حفز مسلمي الحبشة إلى العودة بعد ثلاثة أشهر من مقامهم بها؟ هنا يرد حديث الغرانيق الذي أورده ابن سعد في طبقاته الكبرى والطبري في تاريخ الرسل والملوك، كما أورده كثيرون من المفسرين المسلمين وكتاب السيرة، والذي أخذ به جماعة المستشرقين ووقفوا يؤيدونه طويلا. وحديث الغرانيق أن محمدا لما رأى تجنب قريش إياه وأذاهم أصحابه تمنى فقال: ليته لا ينزل علي شيء ينفرهم مني، وقارب قومه ودنا منهم ودنوا منه، فجلس يوما في ناد من تلك الأندية حول الكعبة فقرأ عليهم سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى .
1
فقرأ بعد ذلك: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. ثم مضى وقرأ السورة كلها وسجد في آخرها، وهنالك سجد القوم جميعا لم يتخلف منهم أحد. وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبي، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده. أما إذ جعلت لها نصيبا فنحن معك. وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم. وفشا أمر ذلك في الناس حتى بلغ الحبشة؛ فقال المسلمون بها: عشائرنا أحب إلينا، وخرجوا راجعين. فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبا من كنانة فسألوهم، فقالوا: ذكر آلهتهم بخير فتابعه الملأ، ثم ارتد عنها فعاد لشتم آلهتهم فعادوا له بالشر . وأتمر المسلمون ما يصنعون، فلم يطيقوا عن لقاء أهلهم صبرا فدخلوا مكة.
وإنما ارتد محمد عن ذكر آلهة قريش بالخير - في مختلف الروايات التي أثبتت هذا الخبر - لأنه كبر عليه قول قريش: «أما إذ جعلت لآلهتنا نصيبا فنحن معك.» ولأنه جلس في بيته، حتى إذا أمسى أتاه جبريل فعرض النبي عليه سورة النجم، فقال جبريل: أوجئتك بهاتين الكلمتين؟! مشيرا إلى «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.» قال محمد: قلت على الله ما لم يقل! ثم أوحى الله إليه:
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا .
2
وبذلك عاد يذكر آلهة قريش بالشر ويسبهم، وعادت قريش لمناوأته وإيذاء أصحابه.
وهذا حديث الغرانيق، رواه غير واحد من كتاب السيرة، وأشار إليه غير واحد من المفسرين، ووقف عنده كثيرون من المستشرقين طويلا. وهو حديث ظاهر التهافت ينقضه قليل من التمحيص. وهو بعد حديث ينقض ما لكل نبي من العصمة في تبليغ رسالات ربه. فمن عجب أن يأخذ به بعض كتاب السيرة وبعض المفسرين المسلمين: ولذلك لم يتردد ابن إسحاق حين سئل عنه في أن قال: إنه من وضع الزنادقة.
ولكن بعض الذين أخذوا به حاولوا تسويغه فاستندوا إلى الآيات:
وإن كادوا ليفتنونك ، وإلى قوله تعالى:
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد .
3
ويفسر بعضهم كلمة «تمنى» في الآية بمعنى قرأ، ويفسرها آخرون بمعنى الأمنية المعروفة. ويذهب هؤلاء وأولئك، ويتابعهم المستشرقون، إلى أن النبي بلغ منه أذى المشركين أصحابه؛ إذ كانوا يقتلون بعضهم ويلقون بعضا في الصحراء يلفحهم لظى الشمس المحرقة ، وقد أوقروهم بالحجارة كما فعلوا ببلال، حتى اضطر إلى الإذن لهم في الهجرة إلى الحبشة. كما بلغ منه جفاء قومه إياه وإعراضهم عنه. ولما كان حريصا على إسلامهم ونجاتهم من عبادة الأصنام، تقرب إليهم وتلا سورة النجم وأضاف إليها حكاية الغرانيق، فلما سجد سجدوا معه، وأظهروا له الميل لاتباعه ما دام قد جعل لآلهتهم نصيبا مع الله.
ويضيف سير وليم موير إلى هذه الرواية التي وردت في بعض كتب السيرة وكتب التفسير، حجة يراها قاطعة بصحة حديث الغرانيق. ذلك أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة لم يك قد مضى على هجرتهم إليها غير ثلاثة أشهر، أجارهم النجاشي أثناءها، وأحسن جوارهم. فلو لم يكن قد ترامى إليهم خبر الصلح بين محمد وقريش لما دفعهم دافع إلى العود حرصا على الاتصال بأهلهم وعشائرهم. وأنى يكون صلح بين محمد وقريش إذ لم يسع محمد إليه، وقد كان في مكة أقل نفرا وأضعف قوة، وقد كان أصحابه أعجز من أن يمنعوا أنفسهم من أذى قريش ومن تعذيبهم إياهم!
هذه هي الحجج التي يسوقها من يقولون بصحة حديث الغرانيق، وهي حجج واهية لا تقوم أمام التمحيص. ونبدأ بدفع حجة المستشرق موير؛ فالمسلمون الذين عادوا من الحبشة إنما دفعهم إلى العود إلى مكة سببان: أولهما أن عمر بن الخطاب أسلم بعد هجرتهم بقليل. وقد دخل عمر فى دين الله بالحمية التي كان يحاربه من قبل بها، لم يخف إسلامه ولم يستتر، بل ذهب يعلنه على رءوس الملأ ويقاتلهم في سبيله. ولم يرض عن استخفاء المسلمين وتسللهم إلى شعاب مكة يقيمون الصلاة بعيدين عن أذى قريش، بل دأب على نضال قريش حتى صلى عند الكعبة وصلى المسلمون معه. هنالك أيقنت قريش أن ما تنال به محمدا وأصحابه من الأذى يوشك أن يثير حربا أهلية لا يعرف أحد مداها ولا على من تدور دائرتها. فقد أسلم من قبائل قريش وبيوتاتها رجال تثور لقتل أي واحد منهم قبيلته وإن كانت على غير دينه. فلا مفر إذن من الالتجاء في محاربة محمد إلى وسيلة لا يترتب عليها هذا الخطر. وإلى أن تتفق قريش على هذه الوسيلة، هادنت المسلمين فلم تنل أحدا منهم بأذى، وهذا هو ما اتصل بالمهاجرين إلى الحبشة. ودعاهم إلى التفكير في العود إلى مكة.
وربما ترددوا في هذا العود لو لم يكن السبب الثاني الذي ثبت عزمهم؛ ذلك أن الحبشة شبت بها يومئذ ثورة على النجاشي، كان دينه وكان ما أبدى من عطف على المسلمين بعض ما أذيع فيها من تهم وجهت إليه. ولقد أبدى المسلمون أحسن الأماني أن ينصر الله النجاشي على خصومه؛ لكنهم لم يكونوا ليشاركوا في هذه الثورة وهم أجانب، ولم يك قد مضى على مقامهم بالحبشة غير زمن قليل.
أما وقد ترامت إليهم أنباء الهدنة بين محمد وقريش، هدنة أنجت المسلمين مما كان يصيبهم من الأذى، فخير لهم أن يدعوا الفتنة وراء ظهورهم وأن يلحقوا بأهليهم؛ وهذا ما فعلوه كلهم أو بعضهم. على أنهم ما كادوا يبلغون مكة حتى كانت قريش قد ائتمرت ما تصنع بمحمد وأصحابه، واتفقت عشائرها وكتبوا كتابا تعاقدوا فيه على مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة؛ فلا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم. وبهذا الكتاب عادت الحرب العوان بين الفريقين، ورجع الذين عادوا من الحبشة، وذهب معهم من استطاع اللحاق بهم. وقد وجدوا هذه المرة عنتا من قريش إذ حاولت أن تمنعهم من الهجرة.
ليس الصلح - الذي يشير إليه المستشرق موير - هو إذن الذي دعا المسلمين إلى العودة من بلاد الحبشة؛ إنما دعاهم هذه الهدنة التي حدثت على إثر إسلام عمر وحماسته في تأييد دين الله. فتأييد حديث الغرانيق إذن بحجة الصلح تأييد غير ناهض.
أما احتجاج المحتجين من كتاب السيرة والمفسرين بالآيات:
وإن كادوا ليفتنونك ، و
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، فهو احتجاج أشد تهافتا من حجة السير موير، ويكفي أن نذكر من الآيات الأولى قوله تعالى:
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
لنرى أنه إن كان الشيطان قد ألقى في أمنية الرسول حتى لقد كاد يركن إليهم شيئا قليلا فقد ثبته الله فلم يفعل، ولو أنه فعل لأذاقه الله ضعف الحياة وضعف الممات. وإذن فالاحتجاج بهذه الآيات احتجاج مقلوب. فقصة الغرانيق تجري بأن محمدا ركن إلى قريش بالفعل. وأن قريشا فتنته بالفعل فقال على الله ما لم يقل. والآيات هنا تفيد أن الله ثبته فلم يفعل. فإذا ذكرت كذلك أن كتب التفسير وأسباب النزول جعلت لهذه الآيات موضعا غير مسألة الغرانيق، ورأيت أن الاحتجاج بها في مسألة تتنافى مع عصمة الرسل في تبليغ رسالاتهم، وتتنافى مع تاريخ محمد كله، احتجاج متهافت، بل احتجاج سقيم.
أما الآيات
وما أرسلنا من قبلك من رسول
فلا صلة لها بحديث الغرانيق البتة، فضلا عن ذكرها أن الله ينسخ ما يلقي الشيطان ويجعله فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، ويحكم الله آياته والله عليم حكيم.
وندع هذا إلى تمحيص القصة التمحيص العلمي الذي يثبت عدم صحتها. وأول ما يدل على ذلك تعدد الروايات فيها، فقد رويت - كما سبق القول - على أنها: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. ورواها بعضهم: «الغرانقة العلا إن شفاعتهم ترتجى.» وروى آخرون: «إن شفاعتهم ترتجى.» دون ذكر الغرانقة أو الغرانيق. وفي رواية رابعة: «وإنها لهي الغرانيق العلا.» وفي رواية خامسة: «وإنهن لهن الغرانيق العلا. وإن شفاعتهم لهي التي ترتجى.» وقد وردت في بعض كتب الحديث روايات أخرى غير هذه الروايات الخمس. وهذا التعدد في الروايات يدل على أن الحديث موضوع، وأنه من وضع الزنادقة، كما قال ابن إسحاق، وأن الغرض منه التشكيك في صدق تبليغ محمد رسالات ربه.
ودليل آخر أقوى وأقطع؛ ذلك سياق سورة النجم وعدم احتماله لمسألة الغرانيق. فالسياق يجري بقوله تعالى:
لقد رأى من آيات ربه الكبرى * أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى .
4
وهذا السياق صريح في أن اللات والعزى أسماء سماها المشركون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، فكيف يحتمل أن يجري السياق بما يأتي: «أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. تلك الغرانيق العلا. إن شفاعتهن ترتجى. ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذن قسمة ضيزى. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.» إن في هذا السياق من الفساد والاضطراب والتناقض، من مدح اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وذمها في أربع آيات متعاقبة، ما لا يسلم به عقل ولا يقول به إنسان، ولا تبقى معه شبهة في أن حديث الغرانيق مفترى وضعه الزنادقة لغاياتهم، وصدقه من يسيغون كل غريب ومن تقبل عقولهم ما لا يسيغ العقل المنطقي.
وحجة أخرى ساقها المغفور له الأستاذ محمد عبده حين كتب يفند قصة الغرانيق. تلك أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق لم يرد في نظمهم ولا في خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم، وإنما ورد الغرنوق والغرنيق على أنه اسم لطائر مائي أسود أو أبيض، والشاب الأبيض الجميل. ولا شيء من ذلك يلائم معنى الآلهة أو وصفها عند العرب.
بقيت حجة قاطعة، نسوقها للدلالة على استحالة قصة الغرانيق هذه من حياة محمد نفسه؛ فهو منذ طفولته وصباه وشبابه لم يجرب عليه الكذب قط، حتى سمي الأمين ولما يبلغ الخامسة والعشرين من عمره. وكان صدقه أمرا مسلما به عند الناس جميعا، حتى لقد سأل قريشا يوما بعد بعثه: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟» فكان جوابهم: «نعم! أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط.» فالرجل الذي عرف بالصدق في صلاته بالناس منذ نعومة أظفاره إلى كهولته كيف يصدق إنسان أنه يقول على ربه ما لم يقل، ويخشى الناس والله أحق أن يخشاه؟! هذا أمر مستحيل، يدرك استحالته الذين درسوا هذه النفوس القوية الممتازة التي تعرف الصلابة في الحق ولا تداجي فيه لأي اعتبار. وكيف ترى يقول محمد لو وضعت قريش الشمس في يمينه والقمر في شماله على أن يترك هذا الأمر أو يموت دونه ما فعل، ثم يقول على الله ما لم يوح إليه، ويقوله لينقض به أساس الدين الذي بعثه الله به هدى وبشرى للعالمين؟!
ومتى رجع إلى قريش ليمدح آلهتهم؟ بعد عشر سنوات أو نحوها من بعثه، وبعد أن احتمل هو وأصحابه في سبيل الرسالة من ألوان الأذى وصنوف التضحية ما احتمل، وبعد أن أعز الله الإسلام بحمزة وعمر، وبعد أن بدأ المسلمون يصبحون قوة بمكة، ويمتد خبرهم إلى بلاد العرب كلها وإلى الحبشة وإلى مختلف نواحي العالم. إن القول بذلك حديث خرافة وأكذوبة ممجوجة. ولقد شعر الذين اخترعوها بسهولة افتضاحها، فأرادوا سترها بقولهم: إن محمدا ما كاد يسمع كلام قريش إذ جعل لآلهتهم نصيبا في الشفاعة حتى كبر ذلك عليه، وحتى رجع إلى الله تائبا أول ما أمسى ببيته وجاءه جبريل فيه. لكن هذا الستر أحرى أن يفضحها. فما دام الأمر قد كبر على محمد منذ سمع مقالة قريش، فما كان أحراه أن يراجع الوحي لساعته! وما كان أحراه أن يجري الوحي الصواب على لسانه؟ وإذن فلا أصل لمسألة الغرانيق إلا الوضع والاختراع، قامت بهما طائفة الذين أخذوا أنفسهم بالكيد للإسلام بعد انقضاء الصدر الأول.
وأعجب ما في جرأة هؤلاء المفترين أنهم عرضوا للافتراء في أم مسائل الإسلام جميعا: في التوحيد! في المسألة التي بعث محمد لتبليغها للناس منذ اللحظة الأولى، والتي لم يقبل فيها منذ تلك اللحظة هوادة، ولا أماله عنها ما عرضت عليه قريش أن يعطوه ما يشاء من المال أو يجعلوه ملكا عليهم. وعرضوا ذلك عليه حين لم يكن قد اتبعه من أهل مكة إلا عدد يسير. وما كان أذى قريش لأصحابه ليجعله يرجع عن دعوة أمره ربه أن يبلغها للناس. فاختيار المفترين لهذه المسألة التي كانت صلابة محمد فيها غاية ما عرف عنه من الصلابة، يدل على جرأة غير معقولة، ويدل في الوقت نفسه على أن الذين مالوا إلى تصديقهم قد خدعوا فيما لا يجوز أن يخدع فيه أحد.
لا أصل إذن لمسألة الغرانيق على الإطلاق، ولا صلة البتة بينها وبين عودة المسلمين من الحبشة، إنما عادوا، كما قدمنا، بعد أن أسلم عمر ونصر الإسلام بمثل الحمية التي كان يحاربه من قبل بها، حتى اضطرت قريش لمهادنة المسلمين. وعادوا حين شبت في بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبتها. فلما علمت قريش بعودتهم ازدادت مخاوفها أن يعظم أمر محمد بينهم، فأتمرت ما تصنع. وقد انتهت بوضع الصحيفة التي قرروا فيها فيما قرروا ألا يناكحوا بني هاشم ويبايعوهم ولا يخالطوهم، كما أجمعوا فيما بينهم أن يقتلوا محمدا إن استطاعوا.
الفصل السابع
مساءات قريش
(إعلان عمر إسلامه وصلاة المسلمين عند الكعبة - صحيفة المقاطعة - جهود قريش في محاربة محمد - سلاح الدعاية - سحر البيان - جبر النصراني - تأثر قريش بالدعوة الجديدة - الطفيل الدوسي - وفد النصارى - ما منع قريشا أن تتابع محمدا: المنافسة، الخوف على مكانة مكة، الفزع من البعث) ***
فت إسلام عمر في عضد قريش أن دخل في دين الله بالحمية التي كان يحاربه من قبل بها. لم يخف إسلامه ولم يستتر، بل ذهب يعلن على رءوس الملأ ويقاتلهم في سبيله، ولم يرض عن استخفاء المسلمين وذهابهم إلى شعاب مكة يقيمون الصلاة فيها بعيدين عن أذى قريش، بل دأب على نضال قريش حتى صلى عند الكعبة وصلى المسلمون معه. وأيقنت قريش أن ما تنال به محمدا وأصحابه من الأذى لن يحول دون إقبال الناس على دين الله ليحتموا من بعد ذلك بعمر وحمزة أو بالحبشة أو بمن يقدر على حمايتهم؛ فأتمرت من جديد ماذا تصنع، واتفقوا فيما بينهم وكتبوا كتابا تعاقدوا فيه على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب مقاطعة تامة، فلا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، وعلقوا صحيفة هذا العقد في جوف الكعبة توكيدا لها وتسجيلا. وكان أكبر ظنهم أن هذه السياسة السلبية وسياسة التجويع والمقاطعة ستكون أفعل أثرا من سياسة الأذى والإعنات، وإن لم ينقطعوا عن الإعنات ولا عن الأذى. وأقامت قريش على حصار المسلمين وحصار بني هاشم وبني عبد المطلب سنتين أو ثلاثا، كانت ترجو خلالها أن تصل من محمد إلى اعتزال قومه إياه، فيعود وحيدا ولا يبقى له ولا لدعوته من خطر.
فأما محمد فلم يزده ذلك إلا اعتصاما بحبل الله، ولم يزد أهله والذين آمنوا به إلا ذودا عنه وعن دين الله، ولم يحل دون انتشار الدعوة إلى الإسلام انتشارا خرج بها من حدود مكة. وذاع أمر الدعوة بين العرب وقبائلها بما جعل الدين الجديد يفشو ذكره في شبه الجزيرة بعد أن كان حبيسا بين جبال مكة، وما جعل قريشا تزيد إمعانا في تفكيرها كيف تحارب هذا الذي خرج عليها وسب آلهتها، وكيف تقف دون انتشار دعوته بين قبائل العرب، هذه القبائل التي لا غنى لمكة عنها ولا غنى لها عن مكة في التجارة المتصلة التي تصدر عن أم القرى وترد إليها.
ولقد كان ما بذلت قريش ومن مجهود في محاربة هذا الخارج عليها وعلى دينها ودين آبائها، وما ثابرت وصابرت السنين الطوال للقضاء على هذه الدعوة الجديدة، يعدو ما يتصوره العقل. هددت محمدا وهددت أهله وأعمامه. تهكمت به وبدعوته، وسخرت منه وممن اتبعه. أرسلت شعراءها تهجوه وتفري أديمه. نالته بالأذى ونالت من اتبعه بالسوء والعذاب. عرضت عليه الرشوة، وعرضت عليه الملك، وعرضت عليه كل ما يطمع الناس فيه. شردت أنصاره عن أوطانهم، وأصابتهم في تجارتهم وفي أرزاقهم. أنذرته وأنذرتهم الحرب وأهوالها وما تجني وما تدمر. وها هي ذي تحاصرهم أخيرا لتميتهم جوعا إن استطاعت إلى ذلك سبيلا. مع ذلك ظل محمد يشتد في دعوة الناس بالحسنى إلى الحق الذي بعثه الله به للناس بشيرا ونذيرا. أفآن لقريش أن تلقي سلاحها وأن تصدق الأمين الذي عرفته منذ طفولته وكل صباه وشبابه أمينا؟ أم أنها لجأت إلى سلاح غير ما قدمنا من أسلحة النضال وخيل إليها أنها مستطيعة به أن تكسب الموقعة، وأن تستبقي لأصنامها مكانة الألوهية التي تزعمها، وأن تستبقي بمكة متحف هذه الأصنام ومكان تقديسها ليبقى لمكة كل ما ينالها بسبب هذه الأصنام من تقديس؟!
كلا! لم يأن لقريش أن تذعن وأن تسلم وهي الآن أشد ما تكون خوفا من انتشار دعوة محمد بين قبائل العرب بعد أن انتشرت بمكة. وقد بقي لديها سلاح لجأت إليه منذ الساعة الأولى ولا يزال لها في قوته وفي مضائه مطمع، ذلك سلاح الدعاية: الدعاية بكل ما تنطوي عليه من مجادلة وحجج ومهاترة وترويج إشاعات وتوهين لحجة الخصم، واستعلاء بالدليل على دليله، الدعاية على العقيدة وعلى صاحب العقيدة واتهامه فيها واتهامها لذاتها. الدعاية التي لا تقف عند حدود مكة، والتي لم تكن بحاجة إليها كحاجة البادية وقبائلها وشبه الجزيرة وسائر أهلها. كان التهديد والإغراء والإرهاب والتعذيب بعض ما يغني عن الدعاية في مكة، لكنها لم تكن لتغني عنها شيئا عند الألوف الذين يفدون إلى مكة كل عام في التجارة والحج، والذين يجتمعون في أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز ليحجوا إلى الكعبة بعد ذلك مقربين إلى أصنامهم، ناحرين عندها، ملتمسين منها البركة والمغفرة؛ لذلك فكرت قريش منذ استحرت الخصومة بينها وبين محمد في تنظيم الدعاية عليه. وكانت في تفكيرها هذا أشد إمعانا منذ فكر هو في مبادأة الحاج بدعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهو قد فكر في هذا بعد السنين الأولى من بعثه؛ فهو قد بدأ نبيا منذ بعثه إلى أن جاءه الوحي أن ينذر عشيرته الأقربين. فلما أنذر قريشا وأسلم منها من أسلم، وألح في الكفر والعناد من ألح، ألقى عليه أن يدعو قومه والعرب جميعا ليلقي عليه من بعد ذلك أن يدعو الناس كافة.
لما فكر في مبادأة الحاج من مختلف قبائل العرب بالدعوة إلى الله، اجتمع نفر من قريش إلى الوليد بن المغيرة يتشاورون: ماذا عسى أن يقولوا في شأن محمد للعرب القادمين إلى موسم الحج، حتى لا يختلف بعضهم على بعض ويكذب بعضهم بعضا. واقترح بعضهم أن يقولوا: إن محمدا كاهن؛ فرد الوليد هذا الرأي أن ليس ما يقول محمد بزمزمة
1
الكاهن ولا بسجعه. واقترح آخرون أن يزعموا أن محمدا مجنون؛ فرد الوليد هذا الرأي بأنه لا تبدو عليه لهذا الزعم ظاهرة. واقترح غيرهم أن يتهموا محمدا بالسحر؛ فرد الوليد بأن محمدا لا ينفث في العقد ولا يأتي من عمل السحرة شيئا. وبعد حوار اقترح الوليد عليهم أن يقولوا للحاج من العرب إن هذا الرجل ساحر البيان، وإن ما يقوله سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته. وكان لهم عند العرب من الحجة على قولهم هذا ما أصابهم في مكة من فرقة وتخاذل وتناحر، بعد أن كانت مكة مضرب المثل في العصبية وفي قوة الرابطة. وانطلقت قريش في الموسم تحذر الحاج الاستماع إلى هذا الرجل وسحر بيانه، حتى لا يصيبها ما أصاب مكة فتكون فتنة تصلى نارها جزيرة العرب جمعاء.
ولكن دعاية كهذه لا يمكن أن تقوم وحدها أو تقاوم سحر هذا البيان الذي يؤمنون إليه. فإذا جاء الحق في هذا البيان الساحر فما يمنع الناس أن يؤمنوا به؟ هل كان الاعتراف بالعجز وتبريز الخصم دعاية ناجعة في يوم من الأيام؟! فلتكن لقريش إلى جانب هذه الدعاية دعاية أخرى. ولتلتمس قريش هذه الدعاية عند النضر بن الحارث. وقد كان هذا النضر من شياطين قريش، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وعباداتها وأقوالها في الخير والشر وفي عناصر الكون. فأخذ كلما جلس محمد مجلسا يدعو فيه قومه إلى الله، ويحذرهم عاقبة من قبلهم من الأمم التي أعرضت عن عبادة الله يخلف محمدا في مجلسه ويقص على قريش حديث فارس ودينها، ثم يقول: بماذا يكون محمد أحسن حديثا مني؟ أليس يتلو من أساطير الأولين ما أتلو؟! وكانت قريش تذيع أحاديث النضر من طريق الرواية دعاية على ما ينذر محمد الناس به وما يدعوهم إليه.
وكان محمد يكثر من الجلوس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر، فكانت قريش تزعم أن جبرا النصراني هذا هو الذي يعلم محمدا أكثر ما يأتي به، فإذا كان لأحد أن يخرج على دين آبائه فالنصرانية أولى. وروجت قريش لزعمها هذا، فنزل في ذلك قوله تعالى:
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .
2
بهذه الضروب وأمثالها من الدعاية جعلت قريش تحارب محمدا ترجو أن تبلغ بها منه أكثر مما يبلغ منه الأذى وممن اتبعه العذاب. على أن قوة الحق في الصورة الواضحة البسيطة التي صور فيها على لسان محمد كانت تعلو على ما يقولون، وما تفتأ لذلك تزداد كل يوم بين العرب انتشارا. قدم الطفيل بن عمرو الدوسي مكة، وكان رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فمشت إليه قريش تحذره محمدا وأن قوله كالسحر، يفرق بين المرء وأهله، بل بين المرء ونفسه، وأنهم يخشون عليه وعلى قومه مثل ما أصابهم بمكة، وأن الخير في ألا يكلمه ولا يستمع إليه.
وذهب الطفيل يوما إلى الكعبة، وكان محمد هناك، فسمع بعض قوله فإذا هو كلام حسن؛ فقال في نفسه: «واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟! فإن كان حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.» واتبع محمدا إلى بيته وأظهره على أمره وما دار بنفسه؛ فعرض محمد عليه الإسلام وتلا عليه القرآن، فأسلم وشهد شهادة الحق، ورجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فلباه بعضهم وأبطأ بعض؛ وما زال الطفيل بهم يدعوهم سنين متعاقبة حتى أسلم أكثرهم، وانضموا إلى النبي بعد فتح مكة وبعد أن بدأ النظام السياسي يأخذ في الإسلام صورة معينة.
وليس الطفيل الدوسي إلا مثلا من كثير. ولم يكن عباد الأصنام وحدهم هم الذين يستجيبون لدعوة محمد. قدم عليه وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبره. فجلسوا إليه وسألوه واستمعوا له، فاستجابوا وآمنوا به وصدقوه، مما غاظ قريشا حتى سبوهم وقالوا لهم: «خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال!» ولم تثن مقالة قريش هذا الوفد عن متابعة محمد ولم ترده عن الإسلام، بل زادتهم بالله إيمانا على إيمانهم إذ كانوا نصارى، وكانوا من قبل أن يستمعوا إلى محمد لله مسلمين.
بل لقد بلغ من أمر محمد ما هو أعظم من هذا؛ بدأ أشد قريش خصومة يسائلون أنفسهم: أحقا أنه يدعو إلى الدين القيم، وأن ما يعدهم وما ينذرهم هو الصحيح؟ خرج أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والأخنس بن شريق ليلة ليستمعوا إلى محمد وهو في بيته، فأخذ كل منهم مجلسا يستمع فيه وكل منهم لا يعلم بمكان صاحبه. وكان محمد يقوم الليل إلا قليلا يرتل القرآن في هدوء وسكينة، ويردد بصوته العذب آياته القدسية على أوتار سمعه وقلبه. فلما كان الفجر تفرق المستمعون وهم عائدون إلى منازلهم؛ فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا! فلو رآكم بعض سفهائكم لأضعف ذلك من أمركم ولنصر محمدا عليكم. فلما كانت الليلة الثانية شعر كل واحد منهم، في مثل الموعد الذي ذهب فيه أمس، كأن رجليه تحملانه من غير أن يستطيع امتناعا ليقضي ليله حيث قضاه أمس، وليتسمع إلى محمد يتلو كتاب ربه. وتلاقوا عند عودتهم مطلع الفجر وتلاوموا من جديد، فلم يحل تلاومهم دون الذهاب في الليلة الثالثة. فلما أدركوا ما بهم لدعوة محمد من ضعف تعاهدوا ألا يعودوا لمثل فعلتهم، وإن ترك ما سمعوا من محمد في نفوسهم أثرا جعلهم يتساءلون فيما بينهم عن الرأي فيما سمعوا، وكلهم تضطرب نفسه ويخاف أن يضعف وهو سيد قومه فيضعف قومه ويتابعوا محمدا معه.
ما منعهم أن يتابعوا محمدا؟ إنه لا يريد منهم مالا ولا فيهم سيادة ولا عليهم ملكا أو سلطانا، وهو بعد جم التواضع شديد الحب لقومه والبر بهم والحرص على هداهم، شديد حساب النفس، حتى ليخشى إساءة المسكين والضعيف، ويرى في المغفرة لأذى يحتمله طمأنينة لقلبه وراحة لضميره. ألم يقف مع الوليد بن المغيرة يوما وقد طمع في إسلامه، والوليد سيد من سادات قريش، فمر به ابن أم مكتوم الأعمى وجعل يستقرئه القرآن ، وألح في ذلك حتى شق على محمد إلحاحه، لما شغله عما كان فيه من أمر الوليد، فتولى عنه وانصرف عابسا؛ فلما خلا إلى نفسه جعل يحاسبها على صنيعها ويسائلها أأخطأ؟ حتى نزل عليه الوحي بهذه الآيات:
عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة .
3
فما دام ذلك أمره فما منع قريشا أن يتابعوه، وأن يعينوه على دعوته، وخاصة بعد إذ لانت قلوبهم، وإذ أنستهم السنون ما تدفع إليه المحافظة على القديم البالي من جمود النفس، وإذ رأوا في دعوة محمد جلالا وكمالا؟!
ولكن! أحقا أن السنين تنسي النفوس جمودها ومحافظتها على القديم البالي؟ إنما يكون ذلك عند الممتازين ومن في قلوبهم نزوع دائم إلى الكمال، هؤلاء ما يزالون حياتهم كلها يقلبون الحقائق التي آمنوا من قبل بها لينفوا ما يعلق بها من زيف بالغة ما بلغت تفاهته. وهؤلاء كأن قلوبهم وعقولهم بوتقة دائمة الغليان، تقبل كل جديد من الرأي يلقى إليها، فتصهره وتنفي خبثه وتستبقي ما فيه من خير وحق وجمال. وهؤلاء يلتمسون الحق في كل شيء وفي كل مكان وعلى كل لسان. بيد أنهم في كل أمة وعصر هم الصفوة المختارة، وهم لذلك قلة أبدا. وهم يجدون الخصومة دائما ناشئة على أشدها بينهم وبين ذوي المال والجاه والسلطان؛ لأن هؤلاء يخافون من كل جديد أن يجني على مالهم أو جاههم أو سلطانهم، وهم لا يعرفون غير هذه في الحياة حقائق ملموسة.
كل ما سوى هذه حق إذا هو أدى إلى مزيد منها، باطل إذا بعث إلى أصحابها أيسر ظل من الريبة إزاءها: رب المال يرى أن الفضيلة حق إذا زادت في ماله، باطل إذا حرمته إياه، وأن الدين حق إذا عرف كيف يسخره لشهواته، باطل إذا وقف في وجه هذه الشهوات وحطمها، ورب الجاه ورب السلطان في ذلك كرب المال سواء، وهؤلاء في خصومتهم لكل جديد يخافون منه، يستعدون السواد الذي يفيد منهم رزقه على المنادي بهذا الرأي الجديد، وهم يستعدون السواد بتقديس الصروح القديمة التي نخر السوس فيها بعد أن فر الروح منها، وهم يقيمون هذه الصروح هياكل من الحجر ليزعموا للسواد البريء أن الروح المقدس، الذي لفوه هم في أكفانه، ما برح في جلاله بين محبس هذه الهياكل.
والسواد ينصرهم أكثر الأمر؛ لأنه ينظر قبل كل شيء إلى رزقه، ولا يسهل عليه أن يدرك أن أية حقيقة لا تطيق أن تبقى حبيسة بين جدران معبد من المعابد بالغا ما بلغ جماله وجلاله، وأن في طبع الحقيقة أن تكون حرة طليقة تغزو النفوس وتغذوها، لا تفرق فيها بين نفس سيد ونفس عبد، ولا يقف نظام من النظم في سبيلها بالغة ما بلغت قسوته وبطش أصحابه في حمايته.
فكيف تريد من هؤلاء الذين كانوا يتسللون لواذا يستمعون إلى القرآن أن يؤمنوا به وهو يؤاخذهم في كثير مما يرتكبون، وهو لا يفرق بين الأعمى ومن استغنى بكثرة المال إلا بطهارة النفس، وهو ينادي الناس جميعا:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
4
فإذا ظل أبو سفيان ومن معه على دين آبائهم فليس ذلك إيمانا منهم به أو بحق يحتويه، بل هو حرص على نظام قديم أقامه ثم أفاء الحظ عليهم في ظله من بسطة المال والجاه ما يحرصون عليه ويحاربون الحياة كلها دونه.
وإلى جانب هذا الحرص كان يقوم الحسد والتنافس والتنازع مانعا من إقبال قريش على متابعة النبي. كان أمية بن أبي الصلت ممن حدثوا عن نبي يقوم في العرب قبل ظهور محمد، حتى طمع هو في النبوة؛ وأكلت قلبه الغيرة حين لم ينزل الوحي عليه، فلم يرض أن يتابع من ظنه منافسه مع غلبة الحكمة على شعره، حتى قال عليه السلام يوما وهذا الشعر يروى أمامه: «أمية آمن شعره وكفر قلبه.» وكان الوليد بن المغيرة يقول: «أينزل على محمد وأترك أنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين؟!» وإلى هذا يشير قوله تعالى:
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا .
5
ولما استمع أبو سفيان وأبو جهل والأخنس إلى القرآن ثلاث ليال متتابعة في القصة التي رويناها، ذهب الأخنس إلى أبي جهل في بيته فسأله: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعنا من محمد؟ فكان جواب أبي جهل: «ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه.» وللحسد والتنافس والتنازع في هذه النفوس البدوية من عميق الأثر ما يخطئ الإنسان إذا هو حاول الإغضاء عنه أو لم يقدره حق قدره. ويكفي أن نذكر ما لهذه الشهوات على النفوس جميعا من سلطان، لنقدر أن التخلص من أثرها يجب أن يسبقه تهذيب طويل يصقل الفؤاد ويرفع حكم العقل على نزعات الهوى، ويسمو بالعاطفة وبالروح إلى مرقى يجعلك ترى الحقيقة على لسان خصمك بل عدوك هي الحقيقة على لسان حميمك ووليك، وتؤمن بأنك أكثر غنى بملك الحقيقة منك بمال قارون وجاه الإسكندر وملك قيصر. هذه مكانة قل من يصل إليها إلا من هدى الله قلبه للحق. أما سائر الناس فتعميهم العاجلة من مال ونشب، ويعميهم الاستمتاع باللحظة التي يعيشون فيها، عن الارتفاع إلى هذه المعاني. وهم في سبيل هذه العاجلة واقتناص تلك اللحظة يحاربون ويقاتلون، لا يحول شيء دون أن ينشب أحدهم أظفاره وأنيابه في عنق الحق والخير والفضيلة، وأن يدوس تحت أقدام دنسه أطهر معاني الكمال. ما بالك بهؤلاء العرب من قريش وهم يرون محمدا يزداد أنصاره كل يوم عددا، ويخشون يوما ما يكون فيه للحق الذي يعلنه السلطان عليهم وعلى من يدين لهم بالطاعة، ويمتد من وراء ذلك إلى العرب في مختلف أنحاء الجزيرة! دون هذا قط الرقاب إذا استطاعوا قطها. ودون هذه الدعاية والمقاطعة والحصار والتعذيب والتنكيل يصبونه على هام خصومهم صبا.
وسبب ثالث منع قريشا من متابعة محمد. ذلك فزعهم من البعث ومن عذاب جهنم يوم الحساب؛ فقد رأيتهم قوما مكبين على اللهو مسرفين فيه، ويتخذون من التجارة ومن الربا إليه الوسيلة. ولا يرى الغني منهم في شيء من الأشياء رذيلة يتجافى عنها؛ ثم كان لهم من التقرب إلى أصنامهم ما يزعمون أنه يكفر عن سيئاتهم وذنوبهم. بحسب الرجل أن يضرب القداح عند هبل قبل أن يقدم على أمر ليكون ما تشير به عليه القداح أمر هبل. وبحسبه أن ينحر للأصنام لتمحو الأصنام سيئاته وذنوبه! هو في حل من أن يقتل وينهب ويرتكب الفحشاء ولا يعف عن الخنا ما دام قديرا على رشوة هذه الآلهة بالقرابين والنحور!
وهذا هو محمد يعلن إليهم في آيات مرهبة تنخلع من هولها القلوب وتضطرب الأفئدة أن ربهم لهم بالمرصاد، وأنهم مبعوثون في اليوم الآخر خلقا جديدا، وأن أعمالهم هي وحدها الشفيع لهم.
فإذا جاءت الصاخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه * وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة .
6
والصاخة تجيء:
يوم تكون السماء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن * ولا يسأل حميم حميما * يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه * كلا إنها لظى * نزاعة للشوى * تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى ،
7
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية * فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية * وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية * ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه * خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين * فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون .
8
أتلوت هذا؟! أسمعته؟! ألم يأخذك الهول ويتولك الفزع؟! وليس هذا إلا قليلا مما كان ينذر محمد به قومه. وأنت تتلوه اليوم وقد تلوته وسمعته من قبل مرات. وأنت تعيد إلى ذهنك إذ تتلوه ما في القرآن من تصوير جهنم:
يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ،
9
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب .
10
يسير عليك وقد داخلك الروع أن تقدر ما كان يتولى قريشا والمترفين منها خاصة، إذ كانوا يستمعون إلى هذا القول بعد إذ كانوا من قبل ما ينذرهم به من العذاب بنجوة في حمى آلهتهم وأوثانهم. ويسير بعد ذلك أن تقدر مبلغ حماستهم في تكذيب محمد ومناوأته والتأليب عليه. فهم لم يكونوا يعرفون البعث، ولم يكونوا يعترفون بما يسمعونه عنه. لم يكن أحدهم ليتوهم أنه مجزي عن عمل هذه الحياة بعد مفارقته الحياة. إنما كان خوفهم من المستقبل في هذه الحياة. كان خوفهم من المرض ومن الإصابة في الأموال والبنين وفي المكانة والجاه. كانت الحياة عندهم غاية الحياة. فكان كل همهم منصرفا لجمع أسباب الاستمتاع فيها ودفع كل ما يخشونه منها.
وإذ كان المستقبل غيبا محجوبا أمامهم. وكانت نفوسهم تحس أن أعمالهم شر قد يصيبهم الغيب من أجله بأذى، فقد كانوا يتفاءلون ويتطيرون: كانوا يستقسمون بالقداح، ويضربون بالحصى، ويزجرون الطير،
11
وينحرون للأوثان؛ كل ذلك يدرعون به مما يخافون من هذا المستقبل القريب في الحياة. أما الجزاء بعد الموت، أما البعث والنشور يوم ينفخ في الصور، أما الجنة التي أعدت للمتقين وجهنم التي أعدت للظالمين، أما ذلك كله فلم يكن يدور بخواطرهم، وذلك كله قد سمعوا به في دين اليهود وفي دين النصارى، ولكنهم لم يسمعوا عنه تصويرا قويا مخوفا كالذي يسمعهم الوحي على لسان محمد، والذي ينذرهم، إن هم ظلوا فيما هم فيه من لهو الحياة أو الاستكثار من المال بظلم الضعيف وأكل مال اليتيم وإهمال المسكين والغلو في الربا، بعذاب خالد في درك سقر تصطك القلوب فزعا من هوله لمجرد سماع صورته، ما بالك به محققا تراه البصيرة جاثما وراء الخطوة الضيقة التي يتخطى الإنسان من جانب الحياة إلى ناحية الموت، بعده البعث والنشور، والرضا أو الثبور؟!
أما ما وعد الله المتقين من جنة عرضها السموات والأرض لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فكانت قريش في ريب منها. وكان يزيدها ريبا تعلقها بالعاجلة، وحرصها على أن ترى هذا النعيم محققا لها في حياة هذا العالم، وضيقها بالانتظار إلى يوم الجزاء، على حين لم تكن هي تؤمن بيوم الجزاء.
ولقد يأخذ الإنسان العجب كيف أقفلت قلوب العرب دون تصور الحياة الأخرى والجزاء فيها، في حين تدور رحى المعركة بين الخير والشر في هذا العالم الإنساني منذ الأزل، لم تعرف يوما هوادة ولا اطمأنت إلى سكينة. كان المصريون القدماء، قبل ألوف السنين من بعث محمد، يزودون الميت زاد الدار الآخرة، ويضعون في أكفانه كتاب الموتى بما فيه من أغنيات ونذر، ويصورون على معابدهم صور الميزان والحساب والتوبة والعقاب، وكان الهنود يصورون رضا النفس الراضية في «النرفانا» وتناسخ روح المسيء في صور من الخلق تتعذب أثناءها ألوف السنين وملايينها، حتى تلهم الحق فتطهر وتعود مرة أخرى إلى الخير طمعا في بلوغ «النرفانا». ولم يكن مجوس فارس لينكروا معركة الخير والشر وآلهة الظلمة والنور. والموسوية والعيسوية تصفان حياة الخلد ورضا الله وغضبه.
أفلم يبلغ هؤلاء العرب شيء من ذلك كله، وقد كانوا أهل تجارة يتصلون في رحلاتهم وأسفارهم بأهل هذه النحل جميعا؟! فكيف لا يبلغهم؟ وكيف لا تكون لهم صورة خاصة منه وهم أهل بادية وأشد اتصالا باللانهاية، وأقرب إلى تصور ما يشتمل عليه هذا الوجود من أرواح تتبدى في لهب الظهيرة وفي غسق الليل! أرواح خيرة وأخرى شريرة! أرواح هي التي يحسبونها تسكن جوف الأصنام التي تقربهم إلى الله زلفى؟! لا ريب أنه كانت عندهم فكرة من هذا الغيب المحيط بهم. لكنهم وهم أهل تجارة كانت نفوسهم أكثر للواقع المحسوس قدرا؛ ولأنهم أهل لهو وخمر كانوا أشد لجزاء الآخرة إنكارا. فكانوا يحسبون ما يلقاه الإنسان في هذه الحياة من خير أو شر جزاء عمله، ولا جزاء عنه بعد الحياة. ولذلك كان أكثر ما نزل من الوحي نذيرا وبشيار قد نزل بمكة في أول الرسالة، حرصا على الخلاص لأرواح هؤلاء الذين بعث محمد بينهم. ولقد كان جديرا بأن ينبههم إلى ما هم فيه من غي وضلالة؛ جديرا بأن يرتفع بهم من عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد القهار.
في سبيل هذا الخلاص الروحي لأهله وللناس كافة احتمل محمد ومن آمن به من ألوان الأذى وصور التضحية، ومن آلام النفس والجسد، ومن الارتحال عن الوطن، ومن عداوة الأهل والولد، ما مر بك شيء منه. وكأنما كان محمد يزداد لأهله حبا وعلى خلاصهم حرصا كلما ازدادوا إيذاء له ومساءة. ويوم البعث والحساب كان آية الآيات التي يجب أن يتنبهوا لها لتنقذهم من شر وثنيتهم ومن التورط في آثامهم؛ لذلك لم يكن الوحي في السنوات الأولى يفتر عن إنذارهم بها وتفتيح عيونهم عليها، مع أنهم كانوا يمعنون في إنكارها وفي الازورار عنها، مما دعاهم إلى إشعال هذه الحرب الضروس التي لم تهدأ بينهم وبين محمد ثائرتها،
12
حتى تم للإسلام النصر، وحتى أظهر الله دينه على الدين كله.
الفصل الثامن
من نقض الصحيفة إلى الإسراء
(فرار المسلمين من مكة إلى شعاب الجبل - عدم اختلاطهم بالناس إلا في الأشهر الحرم - قيام زهير وأصحابه في نقض الصحيفة - وفاة أبي طالب وخديجة - إيذاء قريش محمدا - ذهاب محمد إلى الطائف ورد ثقيف إياه - الإسراء والمعراج) ***
ظلت الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على مقاطعة محمد وحصار المسلمين نافذة ثلاث سنوات متتابعة، احتمى محمد وأهله وأصحابه خلالها في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، يعانون الحرمان ألوانا، ولا يجدون في بعض الأحايين وسيلة إلى الطعام يدفعون به جوعهم. ولم يكن يتاح لمحمد ولا للمسلمين الاختلاط بالناس والتحدث إليهم إلا في الأشهر الحرم، حين يفد العرب إلى مكة حاجين، وحين تضع الخصومات أوزارها، فلا قتل ولا تعذيب ولا اعتداء ولا انتقام. في هذه الأشهر كان محمد ينزل إلى العرب يدعوهم إلى دين الله ويبشرهم بثوابه وينذرهم عقابه. وكان ما أصاب محمدا من الأذى في سبيل دعوته شفيعه عند كثيرين؛ حتى لقد زادهم ما سمعوا من ذلك عليه عطفا، وعلى دعوته إقبالا. وهذا الحصار الذي أوقعته قريش واحتماله إياه صابرا في سبيل رسالته، كسب له كثيرا من القلوب التي لم تبلغ منها القسوة ما بلغت من قلب أبي جهل وأبي لهب وأمثالهما.
على أن طول الزمن وكثرة ما أصاب المسلمين من عنت قريش - وهم منهم إخوانهم وأصهارهم وأبناء عمومتهم - جعل كثيرين يشعرون بفدح ما ارتكبوا من ظلم وقسوة. فلولا أن كان من أهل مكة رجال، لديهم على المسلمين عطف، يحملون إليهم الطعام في الشعب الذي احتموا به لهلكوا جوعا. وكان هشام بن عمرو من أحسن قريش في هذه البأساء عطفا على المسلمين؛ كان يأتي بالبعير قد أوقره طعاما أو برا فيسير به جوف الليل، حتى إذا استقبل فم الشعب خلع خطامه ثم ضرب على جنبه فيدخل البعير الشعب عليهم. ولما ضاق بما يحتمل محمد وأصحابه من الأذى صدرا، مشى إلى زهير بن أبي أمية، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت، ولا يبتاعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟! أما إني أحلف بالله أن لو كان أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا. وتعاهد الرجلان على نقض الصحيفة، على أن يستعينوا على ذلك بغيرهم يقنعونهم به سرا. واتفق معهما المطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، وأجمع الخمسة أمرهم وتعاهدوا على القيام في أمر الصحيفة حتى ينقضوها.
وغدا زهير بن أمية فطاف بالبيت سبعا. ثم نادى في الناس: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة! وما كاد أبو جهل يسمعه حتى صاح به كذبت والله لا تشق! فتصايح زمعة وأبو البختري والمطعم وهشام بن عمرو كلهم يكذبون أبا جهل ويؤيدون زهيرا. وأدرك أبو جهل أن الأمر قضي بليل، وأن القوم اتفقوا عليه، وأن مخالفتهم قد تثير شرا، فأوجس خيفة وتراجع، وقام المطعم ليشق الصحيفة فوجد الأرضة قد أكلتها إلا فاتحتها «باسمك اللهم». وبذلك أتيح لمحمد وأصحابه أن يعودوا من الشعب إلى مكة، وأن يبيعوا قريشا ويبتاعوا منها، وإن بقيت صلات الفريقين كما كانت وبقي كل منهم متحفزا ليوم يستعلي فيه على صاحبه.
ذهب بعض كتاب السيرة إلى أن الذين قاموا في نقض الصحيفة، ممن كانوا لا يزالون على عبادة الأوثان، ذهبوا إلى محمد يسألونه، منعا للشر، أن يتصالح وقريشا على شيء، كأن يسلم بآلهتهم ولو بطرف أصابعه. فمالت نفسه إلى شيء من هذا تقديرا لجميلهم، وقال فيما بينه وبين نفسه: «وما علي لو فعلت والله يعلم أن بار؟!» أو إلى أن هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة وجماعة معهم خلوا بمحمد ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه ويقولون له: أنت سيدنا، يا سيدنا؛ وأنهم ما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون. وهاتان الروايتان هما بعض ما حدث به سعيد بن جبير في الأولى وقتادة في الثانية. ويذكرون أن الله عصم محمدا بعد ذلك، وأنزل عليه قوله:
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا .
1
وهذه الآيات قد نزلت - في زعم أصحاب قصة الغرانيق - في تلك القصة المكذوبة كما قد رأيت، وهذان المحدثان يردانها إلى قصة نقض الصحيفة. وقد نزلت هذه الآيات في حديث عطاء عن ابن عباس في وفد ثقيف؛ إذ طلبوا إلى محمد أن يحرم واديهم كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها؛ فتردد النبي عليه السلام حتى نزلت. ومهما تكن الحقيقة الثابتة التي لا تختلف الروايات عليها للواقعة أو الوقائع التي نزلت الآيات فيها، فإنها تصور ناحية من نواحي العظمة النفسية لمحمد، كما تصور صدق إخلاصه تصويرا قويا. وهذه الناحية تصورها كذلك الآيات التي نقلنا من سورة «عبس» ويشهد بها تاريخ محمد كله. تلك أنه يصارح الناس بأنه بشر مثلهم يوحي ربه إليه لهدايتهم، وأنه وهو بشر مثلهم معرض للخطأ لولا عصمة الله إياه. فهو قد أخطأ حين عبس لابن أم مكتوم وتولى عنه، وهو قد كاد يخطئ فيما نزلت آيات الإسراء في شأنه، وكاد يفتن عن الذي أوحي إليه ليفتري غيره. فإذا نزل عليه الوحي ينبهه إلى ما صنع في أمر الأعمى، وفي أمر هذه الفتنة التي كادت قريش تدفعه إليها، وصدق في تبليغ هذا الوحي إلى الناس صدقه في تبليغ رسالات ربه ولم يقف حائل من أنفة أو كبرياء ولا وقف اعتبار إنساني، حتى مما يسيغ الفضلاء، دون إعلان هذا الحق في أمر نفسه؛ فالحق إذن، والحق وحده، كان رسالته. وإذا كان احتمال أذى الغير في سبيل ما نؤمن به بعض ما تطيق النفوس الكبيرة، فإن إقرار العظيم بأنه كاد يفتن ليس مما ألف الناس صدوره حتى من العظماء. إنما يخفي هؤلاء أمثال ذلك من الأمور، ويكتفون بحساب النفس عليه ولو حسابا عسيرا، فهو شيء إذن أكبر من العظمة وأعظم من كل عظيم ذلك الذي يتيح للنفس هذا السمو فتكشف عن الحق كله. ذلك الشيء الذي يسمو على العظمة ويفوق كل عظيم هو النبوة التي تملي على الرسول صدق الإخلاص في إبلاغ رسالة الحق جل شأنه.
عاد محمد ومن معه من الشعب بعد تمزيق الصحيفة، وجعل من جديد يذيع دعوته في مكة وفي القبائل التي تجيء إليها في الأشهر الحرم. ومع ما ذاع من أمر محمد بين قبائل العرب جميعا وما كان من كثرة الذين اتبعوه، لقد ظل لا يسلم أصحابه من أذى قريش، ولا يستطيع هو لهم منعا. ولم تمض إلا شهور على نقض الصحيفة حتى فجأت محمدا في عام واحد فاجعتان اهتزت لهما نفسه؛ هما موت أبي طالب وخديجة دراكا. وكان أبو طالب يومئذ قد نيف على الثمانين. فلما اشتكى وبلغ قريشا أنه موف على ختام حياته، خشيت ما يكون بينها وبين محمد وأصحابه من بعد، وفيهم حمزة وعمر المعروفان بشدتهما وبطشهما، فمشى أشرافها إلى أبي طالب وقالوا له: يا أبا طالب، أنت منا حيث قد علمت وحضرك ما ترى وتخوفنا عليك. وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه. وجاء محمد والقوم في حضرة عمه. فلما عرف ما جاءوا فيه قال: نعم؛ كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم! قال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات. قال. تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. قال بعضهم: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟! ثم قال بعضهم لبعض: والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون؛ وانطلقوا. وتوفي أبو طالب والأمر بين محمد وقريش أشد مما كان.
ومن بعد أبي طالب توفيت خديجة؛ خديجة التي كانت سند محمد بما توليه من حبها وبرها، ومن رقة نفسها وطهارة قلبها وقوة إيمانها. خديجة التي كانت تهون عليه كل شدة وتزيل من نفسه كل خشية، والتي كانت ملك رحمة، يرى في عينيها وعلى ثغرها من معاني الإيمان به ما يزيده إيمانا بنفسه. وتوفي أبو طالب الذي كان لمحمد حمى وملاذا من خصومه وأعدائه. أي أثر تركت هاتان الفاجعتان الأليمتان في نفس محمد عليه السلام؟! إنهما لجديرتان بأن تتركا أقوى النفوس كليمة مضعضعة، يدس إليها اليأس سموم الضعف، ويدفع إليها الأسى والحزن من لواذع الهم المبرح ما يجعلها تنهد أمامهما ولا تفكر في شيء سواهما.
ما لبث محمد بعد أن فقد هذين النصيرين أن رأى قريشا تزيد في إيذائه، وكان من أيسر ذلك أن اعترضه سفيه من سفهاء قريش فرمى على رأسه ترابا، أفتدري ما صنع؟ دخل إلى بيته والتراب على رأسه؛ فقامت إليه فاطمة ابنته وجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي. وليس أوجع لنفوسنا من أن نسمع بكاء أبنائنا، وأوجع منه أن نسمع بكاء بناتنا. كل دمعة ألم تسيل من مآقي البنت قطرة حمم تهوي على قلوبنا فينقبض انزعاجا، حتى لنكاد من شدة الانزعاج نصيح ألما. وكل أنة حزن تثير في الحشا وفي الكبد أنات ما أقساها، تختنق لها حلوقنا وتكاد تهمي بالدمع مع وقعها عيوننا. وقد كان محمد أبر أب ببناته وأحناه عليهن. فماذا تراه صنع لبكاء هذه البنت التي فقدت منذ قريب أمها، ولبكائها هي من أجل ما أصاب أباها؟ لم يزده ذلك كله إلا توجها بقلبه إلى الله وإيمانا بنصره إياه. قال لابنته وعينها تهمي بالدمع: لا تبكي يا بنية! فإن الله مانع أباك. ثم كان يردد: والله ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.
وكثرت مساءات قريش من بعد ذلك لمحمد حتى ضاق بهم ذرعا. فخرج إلى الطائف وحيدا منفردا لا يعلم بأمره أحد، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ويرجو إسلامهم، لكنه رجع منهم بشر جواب. فرجاهم ألا يذكروا من استنصاره بهم شيئا حتى لا يشمت به قومه. ولم يسمعوا له بل أغروا به سفهاءهم يسبونه ويصيحون به؛ ففر منهم إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فاحتمى به، فرجع السفهاء عنه. وجلس إلى ظل شجرة من عنب وابنا ربيعة ينظران إليه وإلى ما هو فيه من شدة الكرب. فلما اطمأن رفع عليه السلام رأسه إلى السماء ضارعا في شكاية وألم وقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى؛ ولا حول ولا قوة إلا بك.»
منظر عام لمنى.
وطال تحديق ابني ربيعة فيه، فتحركت نفساهما رحمة له وإشفاقا من سوء ما لقي، وبعثا غلامهما النصراني عداسا إليه بقطف من عنب الحائط. فلما وضع محمد يده فيه قال: باسم الله، ثم أكل. ونظر عداس دهشا، وقال: هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد! فسأله محمد عن بلده ودينه، فلما علم أنه نصراني من نينوى قال له: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فسأله عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال محمد: ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي. فأكب عداس على محمد يقبل رأسه ويديه وقدميه. وعجب ابنا ربيعة لما رأيا وإن لم يصرفهما ذلك عن دينهما، ولم يمنعهما من التحدث إلى عداس حين عاد إليهما يقولان: يا عداس، لا يصرفنك هذا الرجل عن دينك فهو خير من دينه.
وكأن ما أصاب محمدا من أذى خفف من سخط ثقيف وإن لم يغير من جمودهم عن متابعته. وعرفت قريش الأمر فازدادت لمحمد إيذاء، فلم يصرفه ذلك عن الدعوة إلى دين الله. وجعل يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الحق، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه. غير أن عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبا لهب لم يكن يدعه، بل كان يتبعه أينما ذهب ويحرض الناس ألا يستمعوا له. ولم يكتف محمد بعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج بمكة، بل أتى كندة في منازلها، وأتى كلبا في منازلها، وأتى بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة، فلم يسمع منهم أحد. وردوه جميعا ردا غير جميل، بل رده بنو حنيفة ردا قبيحا. أما بنو عامر فطمعوا إذا هو انتصر بهم أن يكون لهم الأمر من بعده. فلما قال لهم: إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء لووا عنه وجوههم وردوه كما رده غيرهم.
هل أصرت هذه القبائل على عناد محمد لمثل الأسباب التي أصرت قريش من أجلها على عناده؟ لقد رأيت بني عامر وكيف كانوا يطمعون في الملك إذا هم انتصروا وإياه. أما ثقيف فكان لها رأي آخر. فالطائف فضلا عن أنها كانت مصيف أهل مكة لجمال جوها وحلو أعنابها، قد كانت مستقر عبادة اللات، وكان لها هناك صنم يعبد ويحج إليه. فلو أن ثقيفا تابعت محمدا لفقدت اللات مكانتها، ولقامت بينها وبين قريش خصومة تترك لا ريب أثرها الاقتصادي في موسم الاصطياف. وكذلك كانت لكل قبيلة علة محلية اقتصادية كانت أقوى أثرا في إعراضها عن الإسلام من تعلقها بدينها ودين آبائها وبعبادة أصنامها.
زاد عناد هذه القبائل محمدا عزلة، كما زاده إمعان قريش في أذى أصحابه ألما وهما. وانقضى زمن الحداد على خديجة، ففكر في أن يتزوج؛ لعله يجد في زوجه من العزاء ما كانت خديجة تأسو به جراحه. على أنه رأى أن يزيد الأواصر بينه وبين السابقين إلى الإسلام متانة وقربى؛ فخطب إلى أبي بكر ابنته عائشة. ولما كانت لا تزال طفلة في السابعة من عمرها عقد عليها ولم يبن بها إلا بعد سنتين حين بلغت التاسعة. وفي هذه الأثناء تزوج من سودة أرملة أحد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وعادوا إلى مكة وماتوا بها. وأحسب القارئ يلمح ما في هاتين الصلتين من معنى يزداد وضوحا من بعد في صلات زواج محمد ومصاهرته.
في هذه الفترة كان الإسراء والمعراج. وكان محمد ليلة الإسراء في بيت ابنة عمه هند ابنة أبي طالب، وكنيتها أم هانئ. وقد كانت هند تقول: «إن رسول الله نام عندي تلك الليلة في بيتي فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا. فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله؛ فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين . فقلت له: يا نبي الله لا تحدث به الناس فيكذبوك ويؤذوك. قال: والله لأحدثنهموه.»
يستند الذين يقولون بأن الإسراء والمعراج إنما كان بروح محمد إلى حديث أم هانئ هذا، وإلى ما كانت تقوله عائشة: ما فقد جسد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولكن الله أسرى بروحه. وكان معاوية ابن أبي سفيان إذا سئل عن مسرى الرسول قال: كانت رؤيا من الله صادقة. وهم يستشهدون إلى جانب ذلك كله بقوله تعالى:
وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس .
2
وفي رأي آخرين أن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس كان بالجسد، مستدلين على ذلك بما ذكر محمد أنه شاهد في البادية أثناء مسراه مما سيأتي خبره، وأن المعراج إلى السماء كان بالروح. ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن الإسراء والمعراج كانا جميعا بالجسد. وقد كثرت مناقشات المتكلمين في هذا الخلاف حتى كتبت فيه ألوف الصحف. ولنا في حكمة الإسراء رأي نبديه. ولسنا ندري أسبقنا إليه أم لم نسبق. لكنا قبل أن نبدي هذا الرأي - بل لكي نبديه - يجب أن نروي قصة الإسراء والمعراج على نحو ما جاءت به كتب السيرة.
سرد المستشرق درمنجم هذه القصة مستخلصة من مختلف كتب السيرة في عبارة طلية رائعة، هذه ترجمتها: في منتصف ليلة بلغ السكون فيها غاية جلاله، وصمتت فيه طيور الليل وسكتت الضواري، وانقطع خرير الغدران وصفير الرياح، استيقظ محمد على صوت يصيح به: أيها النائم قم. وقام فإذا أمامه الملك جبريل وضاء الجبين أبيض الوجه كبياض الثلج مرسلا شعره الأشقر، واقفا في ثيابه المزركشة بالدر والذهب، ومن حوله أجنحة من كل الألوان ترعش، وفي يده دابة عجيبة هي البراق، ولها أجنحة كأجنحة النسر انحنت أمام الرسول، فاعتلاها وانطلقت به انطلاق السهم فوق جبال مكة ورمال الصحراء متجهة صوب الشمال. وصحبه الملك في هذه الرحلة، ثم وقف به عند جبل سيناء حيث كلم الله موسى، ثم وقف به مرة أخرى في بيت لحم حيث ولد عيسى، وانطلق بعد ذلك في الهواء في حين حاولت أصوات خفية أن تستوقف النبي الذي رأى في إخلاصه لرسالته أن ليس لغير الله أن يستوقف حيث شاء دابته. وبلغ بيت المقدس، فقيد محمد دابته وصلى على أطلال هيكل سليمان ومعه إبراهيم وموسى وعيسى، ثم أتي بالمعراج فارتكز على صخرة يعقوب وعليه صعد محمد سراعا إلى السموات، وكانت السماء الأولى من فضة خالصة علقت إليها النجوم بسلاسل من ذهب، وقد قام على كل منها ملك يحرسها حتى لا تعرج الشياطين إلى علو عليها أو يستمع الجن منها إلى أسرار السماء. في هذه السماء ألقى محمد التحية على آدم، وفيها كانت صور الخلق جميعا تسبح بحمد ربها. ولقي محمد في السموات الست الأخرى نوحا وهارون وموسى وإبراهيم وداود وسليمان وإدريس ويحيى وعيسى. ورأى فيها ملك الموت عزرائيل، بلغ من ضخامته أن كان ما بين عينيه مسيرة سبعين ألف يوم، ومن سلطانه أن كانت تحت إمرته مائة ألف فرقة، وكان يسجل في كتاب ضخم أسماء من يولدون ومن يموتون. ورأى ملك الدمع يبكي من خطايا الناس، وملك النقمة ذا الوجه النحاسي المتصرف في عنصر النار والجالس على عرش من لهب. وقد رأى كذلك ملكا ضخما نصفه من نار ونصفه من ثلج وحوله من الملائكة فرقة لا تفتر عن ذكر الله قائلة: اللهم قد جمعت الثلج والنار، وجمعت كل عبادك في طاعة سنتك. وكان في السماء السابعة مقر أهل العدل ملك أكبر من الأرض كلها، له سبعون ألف رأس، في كل رأس سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان، يتكلم كل لسان سبعين ألف لغة، من كل لغة سبعين ألف لهجة، وكلها تسبح بحمد الله وتقدس له.
وبينما هو يتأمل هذا الخلق الغريب إذا به ارتفع إلى قمة سدرة المنتهى، تقوم إلى يمين العرش وتظل ملايين الملايين من الأرواح الملائكية. وبعد أن تخطى في أقل من لمح البصر بحارا شاسعة ومناطق ضياء يعشى وظلمة قاتمة وملايين الحجب من ظلمات ونار وماء وهواء وفضاء، يفصل بين كل واحد منها وما بعده مسيرة خمسمائة عام، تخطى حجب الجمال والكمال والسر والجلال والوحدة، قامت وراءها سبعون ألف فرقة من الملائكة سجدا لا يتحركون ولا يؤذن لهم فينطقون. ثم أحس بنفسه يرتفع إلى حيث المولى جل شأنه، فأخذه الدهش وإذا الأرض والسماء مجتمعتان لا يكاد يراهما، وكأنما ابتلعهما الفناء فلم ير منهما إلا حجم سمسمة في مزرعة واسعة. وكذلك يجب أن يكون الإنسان في حضرة ملك العالم.
ثم كان في حضرة العرش وكان منه قاب قوسي أو أدنى، يشهد الله بعين بصيرته، ويرى أشياء يعجز اللسان عن التعبير عنها وتفوق كل ما يحيط به فهم الإنسان. ومد العلي العظيم يدا على صدر محمد والأخرى على كتفه، فأحس النبي كأنه أثلج إلى فقاره، ثم بسكينة راضية وفناء في الله مستطاب.
وبعد حديث لم تحترم كتب الأثر المدققة قدسيته أمر الله عبده أن يصلي كل مسلم خمسين صلاة في كل يوم. فلما عاد محمد يهبط السماء لقي موسى؛ فقال ابن عمران له: كيف ترجو أن يقوم أتباعك بخمسين صلاة في كل يوم؟! لقد بلوت الناس قبلك، وحاولت مع بني إسرائيل كل ما يدخل في الطوق محاولته؛ فصدقني وعد إلى ربنا واطلب إليه أن ينقص الصلوات.
وعاد محمد فنقص عدد الصلوات إلى أربعين وجدها موسى فوق الطاقة، وجعل يرد خليفته في النبوة إلى الله مرات عدة حتى انتهت الصلوات إلى خمس.
وذهب جبريل بالنبي فزار الجنة التي أعدت للمتقين بعد البعث. ثم عاد محمد على المعراج إلى الأرض، ففك البراق وامتطاه وعاد من بيت المقدس إلى مكة على الدابة المجنحة.
هذه رواية المستشرق درمنجم عن قصة الإسراء والمعراج. وأنت تقع على ما قصه منثورا في كثير من كتب السيرة، وإن كنت تجد فيها جميعا خلافا بزيادة أو نقص في بعض نواحيها. من ذلك مثلا ما روى ابن هشام على لسان النبي عليه السلام بعد أن لقي آدم في السماء الأولى، أنه قال: «ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل، في أيديهم قطع من نار كالأفهار
3
يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة مال اليتامى ظلما، ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة
4
حين يعرضون على النار يطئونهم لا يقدرون على أن يتحولوا عن مكانهم ذلك. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا. ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جانبه غث منتن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن. ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم ... ثم دخل بي الجنة فرأيت فيها جارية لعساء، فسألتها: لمن أنت؟ وقد أعجبتني حين رأيتها، فقالت: لزيد بن حارثة. فبشر بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
زيد بن حارثة.»
وأنت واجد في غير ابن هشام من كتب السيرة وفي كتب التفسير أمورا أخرى غير هذه. ومن حق المؤرخ أن يسائل عن مبلغ التدقيق والتمحيص في أمر ذلك كله، وما يمكن أن يسند منه إلى النبي بسند صحيح؛ وما يمكن أن يكون من خيال المتصوفة وغيرهم. وإذا لم يكن المجال هاهنا متسعا للحكم في ذلك أو لاستقصائه، وإذا لم يكن هاهنا مجال القول في المعراج أو الإسراء أكانا بالجسم أم كان المعراج بالروح والإسراء بالجسم، أم كان المعراج والإسراء جميعا بالروح؟ فمما لا شك فيه أن لكل رأي من هذه الآراء سندا عند المتكلمين، وأنه لا جناح على من يقول بواحد دون غيره من هذه الآراء. فمن شاء أن يرى أن الإسراء والمعراج كانا بالروح فله من السند ما قدمنا وما تكرر في القرآن وعلى لسان الرسول:
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ،
5
وأن كتاب الله وحده معجزة محمد، و
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
6
ولصاحب هذا الرأي أكثر من غيره أن يسأل عن حكمة الإسراء والمعراج ما هي؟ وهنا موضع الرأي الذي نريد أن نبديه ولا ندري أسبقنا إليه أم لم نسبق.
ففي الإسراء والمعراج في حياة محمد الروحية معنى سام غاية السمو، معنى أكبر من هذا الذي يصورون، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلمة الخصب حظ غير قليل. فهذا الروح القوي قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها لم يقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعة حجاب من الزمان أو المكان أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيا محدودا بحدود قوانا المحسة والمدبرة، والعاقلة. تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده، وصوره في تطور وحدته إلى الكمال عن طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها وتغلبها على الشر والنقص والقبح والباطل بفضل من الله ومغفرة.
وليس يستطيع هذا السمو إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية. فإذا جاء بعد ذلك ممن اتبعوا محمدا من عجز عن متابعته في سمو فكرته وقوة إحاطته بوحدة الكون في كماله وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال؛ فلا عجب في ذلك ولا عيب فيه. والممتازون من الناس والموهوبون منهم درجات. وبلوغنا الحقيقة معرض دائما لهذه الحدود التي تعجز قوانا عن تخطيها. وإذا كان من القياس مع الفارق أن نذكر، لمناسبة ما نحن الآن بصدده، قصة أولئك المكفوفين الذين أرادوا أن يعرفوا الفيل ما هو، فقال أحدهم: إنه حبل طويل لأنه صادف ذنبه، وقال الآخر: إنه غليظ كالشجرة لأنه صادف رجله، وقال ثالث: إنه مدبب كالرمح لأنه صادف سنه، وقال رابع: إنه مستدير ملتو كثير الحركة لأنه صادف خرطومه - فإن هذا المثل، مقرونا إلى الصورة التي تتكون لدى المبصر من الفيل لأول ما يراه، يسمح لنا بالموازنة بين إدراك محمد كنه وحدة الكون والوجود وتصويره في الإسراء والمعراج حيث يتصل بأول الزمن من قبل آدم إلى آخره يوم البعث، وحيث تنعدم نهائية المكان، إذ يطل بعين البصيرة من لدن سدرة المنتهى إلى هذا الكون يصبح أمامه سديما، وبين ما يستطيع الكثيرون إدراكه من حكمة هذا الإسراء والمعراج؛ إذ يقفون عند تفاصيل ليست من وحدة الكون وحياته إلا كذرات الجسم، بل كالذرات العالقة به من غير أن يتأثر بها نظامه. أين الواحدة من هذه الذرات من حياة هذا الجسم ومن نبض قلبه وإشراق روحه وضياء ذهنه وامتلائه بالحياة التي لا تعرف حدا؛ لأنها تتصل من الوجود بكل حياة الوجود؟
والإسراء بالروح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالروح جميعا سموا وجمالا وجلالا. فهو تصوير قوي للوحدة الروحية من أزل الوجود إلى أبده، فهذا التعريج على جبل سيناء حيث كلم الله موسى تكليما، وعلى بيت لحم حيث ولد عيسى، وهذا الاجتماع الروحي ضمت الصلاة فيه محمدا وعيسى وموسى وإبراهيم، مظهر قوي لوحدة الحياة الدينية على أنها من قوام وحدة الكون في موره الدائم إلى الكمال.
والعلم في عصرنا الحاضر يقر هذا الإسراء بالروح، ويقر المعراج بالروح، فحيث تتقابل القوى السليمة يشع ضياء الحقيقة؛ كما أن تقابل قوى الكون في صورة معينة قد طوع «لماركوني»؛ إذ سلط تيارا كهربيا خاصا من سفينته التي كانت راسية بالبندقية، أن يضيء بقوة الأثير مدينة سدني في أستراليا. وفي عصرنا هذا يقر العلم نظريات قراءة الأفكار ومعرفة ما تنطوي عليه، كما يقر انتقال الأصوات على الأثير بالراديو، وانتقال الصور والمكتوبات كذلك، مما كان يعتبر فيما مضى بعض أفانين الخيال. وما تزال القوى الكمينة في الكون تتكشف لعلمنا كل يوم عن جديد. فإذا بلغ روح من القوة ومن السلطان ما بلغت نفس محمد، فأسرى به الله ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته، كان ذلك مما يقر العلم، وكانت حكمة ذلك هذه المعاني القوية السامية في جمالها وجلالها، والتي تصور الوحدة الروحية ووحدة الكون في نفس محمد تصويرا صريحا، يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراكه إذا هو حاول السمو بنفسه عن أوهام العاجلة في الحياة، وحاول الوصول إلى كنه الحقيقة ليعرف مكانه ومكان العالم كله منها.
لم يكن العرب من أهل مكة ليستطيعوا إدراك هذه المعاني؛ لذلك ما لبثوا حين حدثهم محمد بأمر إسرائه أن وقفوا عند الصورة المادية من أمر هذا الإسراء وإمكانه أو عدم إمكانه، ثم ساور أتباعه والذين صدقوه أنفسهم بعض الريب فيما يقوله. وقال كثيرون: هذا والله الأمر البين. والله إن العير لتطرد
7
شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أيذهب محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟! وارتد كثير ممن أسلم. وذهب من أخذتهم الريبة في الأمر إلى أبي بكر وحدثوه حديث محمد؛ فقال أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. قالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث الناس. قال أبو بكر: والله لئن كان قد قاله لقد صدق، إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. وجاء أبو بكر إلى النبي واستمع إليه يصف بيت المقدس، وكان أبو بكر قد جاءه، فلما أتم النبي صفة المسجد قال له أبو بكر: صدقت يا رسول الله. ومن يومئذ دعا محمد أبا بكر بالصديق.
ويدلل الذين يقولون إن الإسراء بالجسد على رأيهم بأن قريشا لما سمعت بأمر إسرائه سألته وسأله الذين آمنوا به عن آية ذلك، فإنهم لم يسمعوا بشيء من مثله؛ فوصف لهم عيرا مر بها في الطريق، فضلت دابة من العير فدلهم عليها، وأنه شرب من عير أخرى وغطى الإناء بعد أن شرب منه، فسألت قريش في ذلك فصدقت العير ما روى محمد عنهما. وأحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا لما رأوا فيه عجبا بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدث عن أشياء واقعة في جهات نائية. ما بالك بروح يجمع الحياة الروحية في الكون كله ويستطيع بما حباه الله من قوة أن يتصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده ؟
الفصل التاسع
بيعتا العقبة
(رد القبائل لمحمد ردا غير جميل - بشائر الفوز من ناحية يثرب - صلاة اليهود بالأوس والخزرج - إسلام بعض اليثربيين - وقعة بعاث - بيعة العقبة الصغرى - مصعب بن عمير - عودة مع الحاج إلى مكة بعد عام - المسلمون من يثرب - بيعة العقبة الكبرى - أنباؤها عند قريش - ائتمار قريش بمحمد كي تقتله - إذن محمد لمسلمي مكة في الهجرة إلى يثرب) ***
لم تدرك قريش معنى الإسراء، ولم يدرك كثير ممن أسلموا معناه الذي قدمنا؛ لذلك انصرف جماعة من هؤلاء عن متابعة محمد بعد أن اتبعوه زمنا طويلا. ولذلك ازدادت مساءات قريش لمحمد وللمسلمين حتى ضاقوا بها ذرعا. ولم يبق لمحمد رجاء في نصرة القبائل إياه بعد إذ ردته ثقيف من الطائف بشر جواب، وبعد إذ ردته كندة وكلب وبنو عامر وبنو حنيفة لما عرض نفسه عليهم في موسم الحج. وشعر محمد بعد ذلك كله بأنه لم يبق له مطمع في أن يهدي إلى الحق من قريش أحدا. ورأت غير قريش - من القبائل التي تجاور مكة والتي تجيء من مختلف أنحاء بلاد العرب حاجة إليها - ما صار إليه من عزلة، وما أحاطته به قريش من عداوة تجعل كل نصير له عدوا لها وعونا عليها، فازدادت إعراضا عنه. ومع اعتزاز محمد بحمزة وعمر، ومع طمأنينته إلى أن قريشا لن تنال منه أكثر مما نالت لمنعته بقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب، لقد رأى رسالة ربه تقف في دائرة من اتبعه إلى يومئذ ممن يوشكون لقلتهم ولضعفهم أن يبيدوا أو أن يفتنوا عن دينهم إذا لم يأتهم نصر الله والفتح. وتطاولت الأيام بمحمد وهو يزداد بين قومه عزلة وقريش تزداد عليه حقدا. فهل ضعضعت هذه العزلة من نفسه أو أوهنت له عزما؟!
كلا! بل زاده الإيمان بالحق الذي جاءه من ربه سموا على هذه الاعتبارات التي تفت في عضد ذوي النفوس العادية، ولا تزيد أصحاب النفوس الممتازة إلا سموا وإيمانا. وظل محمد، وأصحابه من حوله، أشد ما يكون في عزلته ثقة بنصر الله له وإعلاء دينه على الدين كله. لم تزعزع منه أعاصير الحقد، بل جعل يقيم بمكة طوال عامه لا يعنيه أن ذهب مال خديجة وماله، ولا يضعضع من نفسه ضيق ذات يده، ولا يتطلع بروحه إلى شيء غير هذا النصر الذي لا ريب عنده في أن الله مؤتيه إياه. فإذا جاء موسم الحج واجتمع الناس من أنحاء شبه الجزيرة بمكة، بادأ القبائل فدعاها إلى الحق الذي جاء به، غير آبه أن تبدي هذه القبائل الرغبة عن دعوته والإعراض عنه، أو ترده ردا غير جميل. ويتحرش به بعض سفهاء قريش حين إبلاغه الناس رسالة ربه وينالونه بالسوء، فلا تغير مساءاتهم رضا نفسه وطمأنينتها إلى غده. إن الله ذا الجلال قد بعثه بالحق، فهو لا ريب ناصر هذا الحق ومؤيده. وهو قد أوحي إليه أن يجادل الناس بالتي هي أحسن،
فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ،
1
وأن يقول لهم قولا لينا لعلهم يذكرون أو يخشون. فليصبر على أذاهم، إن الله مع الصابرين.
ولم يطل بمحمد الانتظار أكثر من بضع سنين حتى بدت له في الأفق تباشير الفوز آتية طلائعها من ناحية يثرب. ولمحمد بيثرب علاقة غير علاقة التجارة؛ له بها علاقة قربى، وله فيها قبر كانت أمه تحج إليه قبل موتها في كل عام مرة، أما ذوو قرباه فأولئك بنو النجار أخوال جده عبد المطلب. وأما ذلك القبر فقبر أبيه عبد الله بن عبد المطلب. إلى هذا القبر كانت تحج آمنة الزوج الوفية، وكان يحج عبد المطلب الأب الذي فقد ابنه وهو في شرخ شبابه وريعان قوته. وقد صحب محمد أمه إلى يثرب في السادسة من عمره، فزار معها قبر أبيه ثم قفلا عائدين، فمرضت آمنة في الطريق وماتت ودفنت بالأبواء في منتصف الطريق بين يثرب ومكة. فلا عجب أن تبدأ تباشير الفوز لمحمد من ناحية بلد له به هذه الصلة وإلى ناحيته كان يتجه حين يصلي جاعلا قبلته المسجد الأقصى ببيت المقدس، مقام سلفيه موسى وعيسى، ولا عجب أن تهيئ المقادير ليثرب هذا الحظ ليتم لمحمد بها النصر، وللإسلام بها الفوز والانتشار.
هيأت المقادير ليثرب هذا الحظ بما لم تهيئه لبلد آخر. فقد كان الأوس والخزرج من عباد الأوثان بيثرب يجاورون يهودها جوارا كثيرا ما شابته البغضاء وما تعدى البغضاء إلى القتال. وإن التاريخ ليروي أن المسيحيين في الشام، ممن كانوا يتبعون الدولة الرومانية الشرقية، وكان يمقتون اليهود أشد المقت لاعتقادهم أنهم هم الذين صلبوا المسيح ونكلوا به، قد أغاروا على يثرب ليقتلوا يهودها. فلما لم يظفروا بهم استعانوا بالأوس والخزرج على استدراجهم، ثم قتلوا عددا منهم غير قليل. وأنزل ذلك اليهود عن مكان السيادة الذي كان لهم، ورفع عرب الأوس والخزرج إلى مكانة غير مكانة العمال التي كانوا مقصورين من قبل عليها. وقد حاول العرب بعد ذلك أن يوقعوا باليهود مرة أخرى ليزدادوا في المدينة العامرة بالزراعة والماء سلطانا، فنجحوا في كيدهم بعض النجاح، ثم فطن اليهود لوقيعتهم بهم. بذلك تمكنت العداوة والبغضاء في نفوس يهود يثرب لأوسها وخزرجها، وفي نفوس الأوس والخزرج لليهود. ورأى أتباع موسى أن مقابلة القتال بالقتال قد تهوي بهم إلى الفناء إذا وجد الأوس والخزرج حلفا من بني دينهم العرب على أهل الكتاب هؤلاء، فسلكوا في سياستهم خطة غير خطة الغلب في المعارك. لجئوا إلى سياسة الوقيعة والتفريق، بأن دسوا بين الأوس والخزرج وأغروا بينهم بالعداوة والبغضاء حتى جعلوا كل فريق على أهبة مستمرة للقتل والقتال. بذلك أمن اليهود عدوانهم، وجعلوا يزيدون في تجارتهم وفي ثروتهم ويستعيدون ما فقدوا من سيادة ويستردون ما أضاعوا من دار ومن عقار.
كان لجوار اليهود والعرب بيثرب - فيما خلا هذا النزاع على السيادة والسلطان - أثر آخر أعمق عند الأوس والخزرج مما كان عند سائر أهل جزيرة العرب؛ ذلك هو الأثر الروحي. فقد كان اليهود - وهم أهل كتاب ودعاة وحدانية - يعيبون على جيرانهم الوثنيين اتخاذهم الأوثان زلفى إلى الله، وينذرونهم بعث نبي يقضي عليهم ويشايع اليهود. ولم تصل هذه الدعوة إلى تهويد العرب لسببين: أحدهما أن ما كان بين النصرانية واليهودية من حرب جعل يهود يثرب لا يطمعون في أكثر من السلامة التي تهيئ لهم سعة التجارة. والآخر أن اليهود يحسبون أنفسهم شعب الله المختار. ولا يرضون أن تكون لشعب غيرهم هذه المكانة، وهم لذلك لا يدعون لدينهم ولا يرضونه يخرج من بني إسرائيل. وعلى الرغم من قيام هذين السببين هيأ اتصال الجوار والتجارة، بين اليهود والعرب أوس يثرب وخزرجها ليكونوا أكثر استماعا للحديث في الشئون الروحية وفي سائر شئون الدين من غيرهم من العرب. يدلك على ذلك أن العرب لم تستجب لدعوة محمد الروحية مثلما استجاب أهل يثرب.
كان سويد بن الصامت من كبار أشراف يثرب، حتى كان قومه يسمونه الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه. وفي هذه الفترة التي نتحدث عنها قدم سويد مكة حاجا، فتصدى له محمد فدعاه إلى الله وإلى الإسلام. فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي! قال محمد: وما الذي معك؟ قال: حكمة لقمان. فطلب إليه محمد أن يعرضها عليه فعرضها؛ فقال له محمد: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل؛ هو قرآن أنزله الله علي هدى ونورا. وتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام. فطاب سويد نفسا بما سمع وقال: هذا حسن. وانصرف يفكر فيه. وإن قوما ليقولون حين قتلته الخزرج: إنه مات مسلما.
وليس سويد بن الصامت هو المثل الوحيد الذي يدل على أثر تجاور اليهود والعرب بيثرب من الناحية الروحية. فقد كان بين الأوس والخزرج من العداوة التي بث اليهود ما علمت، وكان كل منهم يلتمس الحلف من قبائل العرب ليقاتل الآخر. وكان من ذلك أن قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج. وسمع بهم محمد، فأتاهم فجلس إليهم ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أي قوم! هذا والله خير مما جئتم فيه. وعاد القوم إلى يثرب لم يسلم منهم غير إياس؛ لأنهم كانوا في شغل بالتماس الحلف استعدادا لوقعة بعاث التي اصطلى الأوس والخزرج جميعا بنارها بعد قليل من عود أبي الحيسر ومن معه إلى مكة. لكن كلام محمد ترك في نفوسهم بعد هذه الوقعة من الأثر ما دعا الأوس والخزرج جميعا ليلتمسوا في محمد نبيا ورسولا وحليفا وإماما.
كانت وقعة بعاث بعد قليل من عود أبي الحيسر ومن معه إلى يثرب، واقتتل فيها الأوس والخزرج قتالا شديدا أملته عداوة متأصلة، حتى لكان كل قوم يتساءلون إذا هم انتصروا: أيبقون على أصحابهم، أم يستأصلونهم ويجهزون عليهم. وكان أبو أسيد حضير الكتائب على رأس الأوس، وكان في نفسه من الحقد على الخزرج أشده. فلما بدأ القتال دارت على الأوس الدائرة، فولوا فرارا نحو نجد، فعيرتهم الخزرج. فلما سمع حضير تعييرهم طعن بسنان رمحه فخذه ونزل وصاح: واعقراه! والله لا أريم حتى أقتل! فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا فعاد الأوس للقتال وبهم من الألم مما أصابهم ما جعلهم يستبسلون مستيئسين، فيهزمون الخزرج شر هزيمة. وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها، حتى أجارها سعد بن معاذ الأشهلي. وأراد حضير أن يأتي الخزرج قصرا قصرا، ودارا دارا، يقتل ويهدم لا يبقي منهم أحدا، لولا أن منعه أبو قيس بن الأسلت إبقاء على بني دينهم؛ «فجوارهم خير من جوار الثعالب.»
واستعادت اليهود بعد هذا اليوم مكانتها بيثرب. ورأى المنتصر والمهزوم من الأوس والخزرج جميعا سوء ما صنعوا، وفكروا في عاقبة أمرهم، وتطلعوا إلى إقامة ملك عليهم. واختاروا لذلك عبد الله بن محمد من الخزرج المهزومة لمكانته وحسن رأيه. لكن تطور الأحوال تطورا سريعا حال دون ما أرادوا؛ ذلك أن نفرا من الخزرج خرجوا إلى مكة في موسم الحج، فلقيهم محمد فسألهم عن شأنهم وعرف أنهم من موالي اليهود. وقد كان اليهود بيثرب يقولون لهم إذا اختلفوا وإياهم: إن نبيا مبعوثا الآن قد أطل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم النبي أولئك النفر ودعاهم إلى الله، نظر بعضهم إلى بعض وقالوا: والله إنه للنبي الذي تواعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه. وأجابوا محمدا إلى دعوته وأسلموا، وقالوا له: «إنا قد تركنا قومنا - أي الأوس والخزرج - ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. وإن يجمعهم عليك فلا رجل أعز منك.» وعاد هؤلاء النفر إلى المدينة، ومن بينهم اثنان من بني النجار أخوال عبد المطلب جد محمد الذي كفله منذ مولده، فذكروا لقومهم إسلامهم، فألفوا قلوبا منشرحة ونفوسا متلهفة لدين يجعلهم موحدين كاليهود، بل يجعلهم خيرا منهم، فلم تبق دار من دور الأوس والخزرج جميعا إلا فيها ذكر محمد عليه السلام.
فلما استدار العام وعادت الأشهر الحرم وجاء موعد الحج لمكة، أتى الموسم اثنا عشر رجلا من أهل يثرب فالتقوا هم والنبي بالعقبة، فبايعوه بيعة العقبة الأولى. بايعوه على ألا يشرك أحدهم بالله شيئا، ولا يسرق ولا يزني، ولا يقتل أولاده ولا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ولا رجليه ولا يعصيه في معروف، فإن وفى ذلك فله الجنة، وإن غشي من ذلك شيئا فأمره إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر. وأنفذ محمد معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين. ازداد الإسلام بعد هذه البيعة بيثرب انتشارا. وأقام مصعب بين المسلمين من الأوس والخزرج يعلمهم دينهم، ويرى مغتبطا ازدياد الأنصار لأمر الله ولكلمة الحق. فلما آذنت الأشهر الحرم أن تعود، لحق بمكة وقص على محمد خبر المسلمين بالمدينة، وما هم عليه من منعة وقوة، وأنهم سيجيئون إلى مكة موسم حج هذا العام الجديد أكثر عددا وأعظم بالله إيمانا.
دعت أخبار مصعب محمدا أن يفكر في الأمر طويلا. ها هم أولاء أتباعه بيثرب يزدادون كل يوم عددا وسلطانا، ولا يجدون من أذى اليهود ولا من أذى المشركين ما يجد زملاؤهم بمكة من أذى قريش. وها هي ذي يثرب بها من الرخاء أكثر مما بمكة، بها زرع ونخيل وأعناب. أوليس من الخير أن يهاجر المسلمون المكيون إلى إخوانهم هناك ليجدوا عندهم أمنا، وليسلموا من فتنة قريش إياهم عن دينهم؟! وذكر محمد أثناء تفكيره أولئك النفر من يثرب الذين كانوا أول من أسلم، والذين ذكروا ما بين الأوس والخزرج من عداوة، أنهم إذا جمعهم الله به فلا رجل أعز منه. أوليس من الخير، وقد جمعهم الله به، أن يهاجر هو أيضا؟! إنه لا يحب أن يرد على قريش مساءاتها وهو يعلم أنه أضعف منها، وأن بني هاشم وبني المطلب إن منعوه من الاعتداء عليه فلن ينصروه معتديا، ولن يمنعوا الذين اتبعوه من اعتداء قريش عليهم ومن إصابتها إياهم بأنواع المساءة. وإذا كان الإيمان أقوى سند يجعلنا نستهين بكل شيء ونضحي عن طيب خاطر في سبيله بالمال والراحة والحرية والحياة، وإذا كان الأذى من طبعه أن يزيد الإيمان استعارا، فإن في استمرار الأذى والتضحية ما يشغل المؤمن عن دقة التأمل التي تزيد في أفق المؤمن سعة، وفي إدراكه قوة وعمقا. وقد أمر محمد الذين اتبعوه من قبل أن يهاجروا إلى الحبشة المسيحية أن كانت بلاد صدق، وكان بها ملك لا يظلم عنده أحد؛ فأولى بالمسلمين أن يهاجروا إلى يثرب وأن يتقووا بأصحابهم المسلمين فيها، وأن يتآزروا بذلك على دفع ما يمكن أن يصيبهم من شر؛ ليكون لهم بذلك من الحرية في تأمل دينهم والجهر به ما يكفل إعلاء كلمته، كما يكفل نجاح الدعوة إليه؛ دعوة لا تعرف الإكراه، بل أساسها الرفق والإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن.
وكان الحاج من يثرب في هذه السنة - سنة 622 ميلادية - كثيرين بالفعل، وكان من بينهم خمسة وسبعون مسلما، منهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان. فلما عرف محمد مقدمهم، فكر في بيعة ثانية لا تقف عند الدعوة إلى الإسلام على نحو ما ظل هو يدعو إليه ثلاث عشرة سنة متتابعة في رفق وهوادة مع احتمال صنوف التضحية والألم جميعا، بل تمتد إلى ما وراء ذلك، وتكون حلفا يدفع به هؤلاء المسلمون عن أنفسهم الأذى بالأذى والعدوان بالعدوان. واتصل محمد سرا بزعمائهم وعرف حسن استعدادهم، فواعدهم أن يلتقوا معه عند العقبة جوف الليل في أوسط أيام التشريق . وكتم مسلمو يثرب من معهم من المشركين أمرهم، وانتظروا حتى إذا مضى ثلث الليل من يوم موعدهم مع النبي خرجوا من رحالهم يتسللون تسلل القطا مستخفين حذر أن ينكشف سرهم. فلما كانوا عند العقبة تسلقوا الشعب جميعا وتسلقت المرأتان معهم، وأقاموا ينتظرون مقدم صاحب الرسالة.
وأقبل محمد ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان ما يزال على دين قومه، لكنه عرف من قبل من ابن أخيه أن في الأمر حلفا، وأن الأمر قد يجر إلى حرب، وذكر أنه قد تعاهد مع من تعاهد من بني المطلب وبني هاشم أن يمنعوا محمدا، فليستوثق لابن أخيه ولقومه حتى لا تكون كارثة يصلى بنو هاشم وبنو المطلب نارها، ثم لا يجدون من هؤلاء اليثربيين نصيرا. لذلك كان العباس أول من تكلم فقال: يا معشر الخزرج! إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده. وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له فيما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه. فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم مسلميه وخاذليه بعد خروجه إليكم فمن الآن فدعوه.
قال اليثربيون - وقد سمعوا كلام العباس: سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فأجاب محمد بعد أن تلا القرآن ورغب في الإسلام: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
وكان البراء بن معرور سيد قومه وكبيرهم، وكان قد أسلم بعد العقبة الأولى وقام بكل ما يفرض الإسلام، إلا أنه جعل قبلة صلاته الكعبة، وكان محمد والمسلمون جميعا يومئذ ما تزال قبلتهم المسجد الأقصى. ولما اختلف هو وقومه واحتكموا إلى النبي أول وصولهم إلى مكة، رد محمد البراء عن اتخاذ الكعبة قبلته. فلما طلب محمد إلى مسلمي يثرب أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، مد البراء يده على ذلك وقال: بايعنا يا رسول الله! فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.
وقبل أن يتم البراء كلامه اعترض أبو الهيثم بن التيهان قائلا: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال - أي اليهود - حبالا،
2
نحن قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟! فتبسم وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم
3
أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. وهم القوم بالبيعة، فاعترضهم العباس بن عبادة قائلا: يا معشر الخزرج! أتعلمون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فدعوه؛ فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه؛ فهو والله خير الدنيا والآخرة.
فأجاب القوم: إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ ورد عليهم محمد مطمئن النفس قائلا: الجنة.
مدوا إليهم أيديهم، فبسط يده فبايعوه، فلما فرغوا من البيعة قال لهم النبي: أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم كفلاء. فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. فقال النبي لهؤلاء النقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي. وكانت بيعتهم الثانية هذه أن قالوا: بايعنا على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا، وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
تم ذلك كله جوف الليل في شعب العقبة في عزلة من الناس والقوم على ثقة من أنه لا يطلع عليهم إلا الله، لكنهم ما كادوا يتمونه حتى سمعوا صوتا يصيح بقريش: إن محمد والصباء
4
معه قد اجتمعوا على حربكم ذلك رجل خرج لبعض شأنه، فعرف من أمر القوم قليلا اتصل بسمعه، فأراد أن يفسد عليهم تدبيرهم، وأن يدخل في روعهم أن ما بيتوا بليل افتضح، لكن الخزرج والأوس كانوا عند عهدهم، حتى لقد قال العباس بن عبادة لمحمد بعد أن سمع هذا المتجسس: «والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا!» فكان جواب محمد أن قال: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم.» فرجعوا إلى مضاجعهم وناموا حتى أيقظهم الصبح.
على أن الصبح ما كاد يتنفس حتى علمت قريش بنبأ هذه البيعة فانزعجت. وغدت جلتها على الخزرج في منازلهم يعاتبونهم ويقولون لهم: إنهم لا يريدون حربهم، فما بالهم يحالفون محمدا على قتالهم؟! وانبعث المشركون من الخزرج يحلفون بالله ما كان من هذا شيء. أما المسلمون فاعتصموا بالصمت حين رأوا قريشا مالت لتصديق شركائها في الدين، وعادت قريش لا تؤكد الخبر ولا تنفيه، وأخذت تتنطسه علها تقف على جلية الأمر فيه. واحتمل أهل يثرب رحالهم وعادوا قاصدين بلدهم قبل أن تثق قريش بشيء مما حصل. فلما عرفت أن الخبر حق، وخرجت تطلب أهل يثرب، فلم تلحق منهم إلا بسعد بن عبادة، فأخذوه وردوه إلى مكة وعذبوه حتى أجاره جبير بن مطعم بن عدي والحارث بن أمية؛ لأنه كان يجير لهما من يخرجون في تجارتهما إلى الشام حين مرورهم بيثرب.
لم تبالغ قريش قط في فزعها ولا في تتبعها الذين بايعوا محمدا على قتالها؛ فقد عرفته ثلاث عشرة سنة متتابعة منذ بدء نبوته، ووقفت من الجهود للحرب السلبية التي أعلنت عليه ما جهدها وجهده، ونال منها ونال منه. عرفت ذلك القوي بالله المستمسك برسالة الحق لا يلين فيها ولا يداجي، ولا يخاف فيها أذى ولا مساءة ولا قتلا. وقد خيل إلى قريش بعد أن أرهقته ومن معه بألوان الأذى، وبعد أن حاصرته في الشعب؛ وبعد أن أدخلت على أنفس أهل مكة جميعا من الروع ما صدهم عن اتباعه، أنها توشك أن تظفر به، وأن تحصر نشاطه في الدائرة الضيقة من الأتباع الذين ظلوا على دينه، وأنه ومن معه لا يلبثون إلا قليلا حتى تضنيهم العزلة فيعودوا إلى حكمها طائعين. أما اليوم وإزاء هذا الحلف الجديد، فقد انفتح أمام محمد والذين معه باب الرجاء في الغلب ، أو على الأقل باب الرجاء في حرية الدعوة إلى عقيدتهم، والطعن على الأصنام وعبادها.
ومن يدري ما يكون أمر القوم من بعد ذلك في شبه جزيرة العرب كلها وقد نصرتهم يثرب بأوسها وخزرجها، وقد جعلتهم بمأمن من العدوان، وفسحت لهم حرية القيام بفرائض دينهم ودعوة غيرهم إلى الانضمام إليهم؟! فإذا لم تقض قريش على هذه الحركة في مهدها فالخوف من المستقبل لن يزال يساورها وفوز محمد عليها لن يزال يقض مضجعها.
لذلك أمعنت تفكر فيما تفعل لتحبط ما قام به محمد، ولتقضي على هذه الحركة الجديدة. ولم يكن هو من ناحيته أقل من قريش تفكيرا؛ إن هذا الباب الذي فتح الله أمامه هو باب العزة لدين الله، والسمو لكلمة الحق. فالمعركة الناشبة اليوم بينه وبين قريش هي أشد ما وقع منذ بعثه، وهي معركة حياة أو موت بالنسبة له ولها، والغلب لا ريب للصادقين. فليجمع أمره، وليستعن بالله وليكن لما تكيد قريش أشد ازدراء مما كان في كل ما سلف، وليقدم ولكن في حكمة وأناة ودقة؛ فالموقف موقف حنكة السياسي والقائد الدقيق المداورة.
وأمر أصحابه أن يلحقوا الأنصار بيثرب، على أن يتركوا مكة متفرقين حتى لا يثيروا ثائرة قريش عليهم. وبدأ المسلمون يهاجرون فرادى أو نفرا قليلا. لكن قريشا فطنت للأمر، فحاولت أن ترد كل من استطاعت رده إلى مكة لتفتنه عن دينه أو لتعذبه وتنكل به. وبلغت من ذلك أنها كانت تحول بين الزوج وزوجه إذا كانت المرأة من قريش فلا تدعها تسير معه، وأنها كانت تحبس من تستطيع حبسه ممن لم يطعها. لكنها لم تكن تقدر على أكثر من ذلك، حتى لا تكون حرب أهلية بين مختلف قبائلها إذا هي همت بقتل واحد من أهل هذه القبائل. وتتابعت هجرة المسلمين إلى يثرب ومحمد مقيم حيث هو، لا يعرف أحد هل اعتزم الإقامة أم قرر الهجرة. وما كانوا ليعرفوا وقد أذن لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة من قبل وظل هو بمكة يدعو سائر أهلها إلى الإسلام. وبلغ من ذلك أن أبا بكر استأذنه في الهجرة إلى يثرب، فقال له: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا، ولم يزد على ذلك.
على أن قريشا كانت تحسب لهجرة النبي إلى يثرب ألف حساب. لقد كثر المسلمون فيها كثرة جعلتهم يكادون يكونون أصحاب اليد العليا. وها هم أولاء المهاجرون من مكة ينضمون إليهم فيزيدونهم قوة. فإذا لحق محمد بهم - وهو على ما يعرفون من ثبات وحسن رأي وبعد نظر - خشوا على أنفسهم أن يدهم اليثربيون مكة أو يقطعوا عليها طريق تجارتها إلى الشام، وأن يجيعوها كما حاولوا هم أن يجيعوا محمدا وأصحابه حين وضعوا الصحيفة بمقاطعتهم وأكرهوهم على أن يلزموا الشعب وأن يقضوا فيه ثلاثين شهرا.
وإذا بقي محمد بمكة وحاول الخروج منها، فهم معرضون لمثل هذا الأذى من جانب اليثربيين دفاعا عن نبيهم ورسولهم. فلم يبق إلا أن يقتلوه ليستريحوا من كل هذا الهم الواصب.
5
لكنهم إن قتلوه طالب بنو هاشم وبنو المطلب بدمه وأوشكت الحرب الأهلية أن تفشو في مكة فتكون شرا عليها مما يخشونه من ناحية يثرب. واجتمع القوم بدار الندوة يفكرون في هذا كله وفي وسيلة اتقائه. قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله؛ زهيرا والنابغة ومن مضى منهم، حتى يصيبه ما أصابهم. لكن هذا الرأي لم يلق سميعا. وقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا ثم لا نبالي بعد ذلك من أمره شيئا. لكنهم خافوا أن يلحق بالمدينة وأن يصيبهم ما يفرقون منه. وانتهوا إلى أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جليدا، وأن يعطوا كل فتى سيفا صارما بتارا فيضربوه جميعا ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على قتالهم جميعا، فيرضوا فيه بالدية، وتستريح قريش من هذا الذي بدد شملها وفرق قبائلها شيعا. وأعجبهم هذا الرأي فاطمأنوا إليه، واختاروا فتيانهم، وباتوا يحسبون أن أمر محمد قد فرغ منه، وأنه بعد أيام سيوارى وتوارى دعوته في التراب، وسيعود الذين هاجروا إلى يثرب إلى قومهم وإلى دينهم وآلهتهم، وتعود بذلك لقريش ولبلاد العرب وحدتها التي تمزقت ومكانتها التي تضعضعت أو كادت.
الفصل العاشر
هجرة الرسول
(الأمر بالهجرة - علي في فراش النبي - في غار ثور - الخروج إلى يثرب - قصة سراقة بن جعشم - مسلمو يثرب في انتظار الرسول - الإسلام بيثرب - دخول محمد المدينة) ***
اتصل بمحمد نبأ ما بيتت قريش لقتله مخافة هجرته إلى المدينة واعتزازه بها، وما قد يجر ذلك على مكة من أذى، وعلى تجارتها مع الشام من بوار، ولم يكن أحد يشك في أن محمدا سينتهز الفرصة فيهاجر. على أن ما أحاط به نفسه من كتمان لم يجعل لأحد إلى سره سبيلا، حتى أبو بكر، الذي أعد راحلتين منذ استأذن النبي في الهجرة فاستمهله، قد بقي لا يعرف من الأمر إلا قليلا. ولقد ظل محمد بمكة حتى علم من أمر قريش ما علم، وحتى لم يبق من المسلمين بها إلا القليل. وإنه لينتظر أمر ربه إذ أوحى إليه أن يهاجر. هنالك ذهب إلى بيت أبي بكر وأخبره بأن الله أذن له في الهجرة. وطلب الصديق أن يصحبه في هجرته فأجابه إلى ما طلب.
هنا تبدأ قصة من أجل ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة. كان أبو بكر قد أعد راحلتيه ودفعهما إلى عبد الله بن أريقط يرعاهما لميعادهما. فلما اعتزم الرجلان مغادرة مكة لم يكن لديهما ظل من ريب في أن قريشا ستتبعهما؛ لذلك اعتزم محمد أن يسلك طرقا غير مألوفة، وأن يخرج إلى سفره في موعد كذلك غير مألوف. وكان هؤلاء الشبان الذين أعدت قريش لقتله يحاصرون داره في الليل مخافة أن يفر. ففي ليلة الهجرة أسر محمد إلى علي بن أبي طالب أن يتسجى برده الحضرمي الأخضر وأن ينام في فراشه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وجعل هؤلاء الفتية من قريش ينظرون من فرجة إلى مكان نوم النبي، فيرون في الفراش رجلا فتطمئن نفوسهم إلى أنه لم يفر، فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج محمد في غفلة منهم إلى دار أبي بكر وخرج الرجلان من خوخة في ظهرها، وانطلقا جنوبا إلى غار ثور؛ فاتجاههما نحو اليمن لم يكن مما يرد بالبال.
لم يعلم بمخبئهما في الغار غير عبد الله بن أبي بكر وأختيه عائشة وأسماء ومولاهم عامر بن فهيرة. أما عبد الله فكان يقضي نهاره بين قريش يستمع ما يأتمرون بمحمد ليقصه ليلا على النبي وعلى أبيه. وأما عامر فكان يرعى غنم أبي بكر، وكان إذا أمسى أراح عليهما فاحتلبا وذبحا. وإذا عاد عبد الله بن أبي بكر من عندهما تبعه عامر بالغنم فعفى على أثره. وأقاما بالغار ثلاثة أيام كانت قريش أثناءها تجد في طلبهما غير وانية. وكيف لا تفعل وهي ترى الخطر محدقا بها إن هي لم تدرك محمدا ولم تحل بينه وبين يثرب؟! أما الرجلان فأقاما بالغار ومحمد لا يفتر عن ذكر الله، إليه أسلم أمره وإليه تصير الأمور، وأبو بكر يرهف أذنه يريد أن يعرف هل الذين يقفون أثرهما قد أصابوا من ذلك نجاحا.
وأقبل فتيان قريش، من كل بطن رجل، بأسيافهم وعصيهم وهراواتهم يدورون باحثين في كل اتجاه. ولقوا راعيا على مقربة من غار ثور سألوه؛ فكان جوابه: قد يكونان بالغار، وإن كنت لم أر أحدا أمه.
وتصبب أبو بكر عرقا حين سمع جواب الراعي، وخاف أن يقتحم الباحثون عنهما الغار، فأمسك أنفاسه وبقي لا حراك به وأسلم لله أمره. وأقبل بعض القرشيين يتسلقون إلى الغار، ثم عاد أحدهم أدراجه، فسأله أصحابه: ما لك لم تنظر في الغار؟ فقال: إن عليه العنكبوت من قبل ميلاد محمد، وقد رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفت أن ليس أحد فيه. ويزداد محمد إمعانا في الصلاة ويزداد أبو بكر خوفا، فيقترب من صاحبه ويلصق نفسه به، فيهمس محمد في أذنه: لا تحزن! إن الله معنا.
وفي رواية كتب الحديث : أن أبا بكر لما شعر بدنو الباحثين قال هامسا: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.
فأجابه النبي: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!
وزاد القرشيين اقتناعا بأن الغار ليس به أحد أن رأوا الشجرة تدلت فروعها إلى فوهته، ولا سبيل إلى الدخول إليه من غير إزالة هذه الفروع. إذ ذاك انصرفوا وسمع اللاجئان تناديهم للأوبة من حيث أتوا؛ فازداد أبو بكر إيمانا بالله ورسوله، ونادى محمد: الحمد لله، الله أكبر.
نسيج العنكبوت والحمامتان والشجرة، تلك هي المعجزة التي تقص كتب السيرة في أمر الاختفاء بغار ثور. ووجه المعجزة فيها أن هذه الأشياء لم تكن موجودة، حتى إذا لجأ النبي وصاحبه إلى الغار أسرعت العنكبوت إلى نسيج بيتها تستر به من في الغار عن الأعين، وجاءت الحمامتان فاضتا عند بابه، ونمت الشجرة ولم تكن نامية. وفي هذه المعجزة يقول المستشرق درمنجم:
هذه الأمور الثلاثة هي وحدها المعجزة التي يقص التاريخ الإسلامي الجد: نسيج عنكبوت، وهوي حمامة، ونماء شجيرة؛ وهي أعاجيب ثلاث لها كل يوم في أرض الله نظائر.
على أن هذه المعجزة لم ترد في سيرة ابن هشام، بل كل ما أورد هذا المؤرخ في سياق قصة الغار ما يأتي: عمدا إلى غار ثور - جبل أسفل مكة - فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما ... فأقام رسول الله في الغار ثلاثا. وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم. وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره ومعهم، يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر. وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا . فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي عليه. حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس. أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ببعيرهما وبعير له ... إلخ هذا ما ذكر ابن هشام عن قصة الغار نقلناه إلى حين خروج محمد وصاحبه منه.
وفي مطاردة قريش محمدا لقتله وفي قصة الغار هذه نزل قوله تعالى:
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
1
وقوله عز وجل:
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم .
2
وفي اليوم الثالث حين عرفا أن قد سكن الناس عنهما أتاهما صاحبهما ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بطعامهما. فلما ارتحلا لم تجد ما تعلق به الطعام والماء في رحالهما، فشقت نطاقها وعلقت الطعام بنصفه وانتطقت بالنصف الآخر؛ فسميت لذلك «ذات النطاقين». وامتطى كل رجل بعيره ومعهما طعامهما ومع أبي بكر خمسة آلاف درهم هي كل ماله. وزادهما اختفاؤهما بالغار وعلمهما بإمعان قريش في تتبعهما حرصا وحذرا؛ فتخذا إلى يثرب طريقا غير الطريق الذي ألف الناس. سلك بهما دليلهما عبد الله بن أريقط (أحد بني الدئل) ممعنا إلى الجنوب بأسفل مكة ثم متجها إلى تهامة على مقربة من شاطئ البحر الأحمر. فلما كانا في غير الطريق الذي ألف الناس اتجه بهما شمالا محاذيا الشاطئ مع الابتعاد عنه، متخذا من السبل ما قل أن يطرقه أحد، وأمضى الرجلان ودليلهما طيلة الليل وصدر النهار على رواحلهم، لا يعبآن بمشقة ولا يضنيهما تعب. وأية مشقة أخوف مما يخافان من قريش لصدهما عن الغاية التي يبتغيان بلوغها في سبيل الله والحق؟!
صحيح أن محمدا لا تساوره ريبة في أن الله ناصره، ولكن لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. والله في عون العبد ما دام العبد في عون نفسه، وفي عون أخيه. لقد تخطيا في أمان أيام الغار، ولكن ما جعلته قريش لمن يردهما أو يدل عليهما جدير بأن يستهوي نفوسا يغريها الكسب المادي ولو جاء عن طريق الجريمة. فما بالك وهؤلاء العرب من قريش يعتبرون محمدا عدوا لهم؟! وفي نفوسهم من خلق الغيلة ما لا يأنف من الفتك بالأعزل والاعتداء على من لا يستطيع عن نفسه دفاعا. فليكونا إذن على أشد الحذر، وليكونا أعينا ترى، وآذانا تسمع، وقلوبا تشعر وتعي.
ولم يخنهما حدسهما؛ فقد أقبل على قريش رجل أخبرها أنه رأى ركبة ثلاثة مروا عليه يعتقدهم محمدا وبعض أصحابه، وكان سراقة بن مالك بن جعشم حاضرا فقال: إنما هم بنو فلان؛ ليضلل الرجل وليفوز بمغنم النوق المائة. ومكث مع القوم قليلا ثم عاد إلى بيته فتدجج بسلاحه، وأمر بفرسه فأرسل إلى بطن الوادي حتى لا يراه أحد ساعة خروجه، وامتطاه ودفعه إلى الناحية التي ذكر ذلك الرجل، وكان محمد وصاحباه قد أناخوا في ظل صخرة ليقيلوا وليرفهوا عن أنفسهم بعض ما أرهقها من وصب، ولينالوا من الطعام والشراب ما لعلهم يستعيدون به قوتهم وصبرهم.
وبدأت الشمس تنحدر، وبدأ محمد وأبو بكر يفكران في امتطاء جمالهما إذ كانا من سراقة قيد البصر. وكان جواد سراقة قد كبا به قبل ذلك مرتين لشدة ما جهده. فلما رأى الفارس أنه وشيك النجاح وأنه مدرك الرجلين فرادهما إلى مكة أو قاتلهما إن حاولا عن نفسيهما دفاعا، نسي كبوتي جواده ولزه ليمسك بيده ساعة الظفر. ولكن الجواد في قومته كبا كبوة عنيفة ألقى بها الفارس من فوق ظهره يتدحرج في سلاحه. وتطير سراقة وألقي في روعه أن الآلهة مانعة منه ضالته، وأنه معرض نفسه لخطر داهم إذا هم مرة رابعة لإنفاذ محاولته. هنالك وقف ونادى القوم: أنا سراقة بن جعشم. انظروني أكلمكم، فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. فلما وقفا ينظرانه طلب إلى محمد أن يكتب له كتابا يكون آية بينه وبينه. وكتب أبو بكر بأمر النبي كتابا على عظم أو خزف ألقاه إلى سراقة؛ فأخذه وعاد أدراجه. وأخذ نفسه بتضليل من يطاردون المهاجر العظيم بعد أن كان هو يطارده.
وانطلق محمد وصاحبه يقطعان بطون تهامة في قيظ محرق تتلظى له رمال الصحراء، ويجتازان إكاما ووهادا، ولا يجدان أكثر الأمر ما يتقيان به شواظ الهاجرة، ولا يجدان ملجأ من قسوة ما يحيط بهما، وأمنا مما يتخوفان أن يفجئهما، إلا في صبرهما وحسن ثقتهما بالله وعظيم إيمانهما بالحق الذي أنزل على رسوله. وظلا كذلك سبعة أيام متتالية ينيخان في حمارة القيظ ويسريان على سفينة الصحراء الليل كله يجدان في سكينته وفي ضوء النجوم اللامعة في ظلمته ما يطمئن له قلباهما وتستريح له نفساهما. فلما بلغا مقام قبيلة بني سهم وجاء إليهما شيخها بريدة يحييهما زالت مخاوفهما واطمأنت لنصر الله قلوبهما وقد صارا من يثرب قاب قوسين أو أدنى.
وفي فترة رحلتهما هذه المضنية كانت الأخبار قد ترامت إلى يثرب بهجرة النبي وصاحبه ليلحقا أصحابهما فيها. وكانت قد عرفت ما لقيا من عنت قريش ومن تتبعها إياهما. لذلك ظل المسلمون جميعا بها وهم ينتظرون مقدم صاحب الرسالة بنفوس ممتلئة شوقا لرؤيته والاستماع له. وكان الكثيرون منهم لما يروه وإن كانوا قد سمعوا من أمره ومن سحر بيانه ومن قوة عزمه ما جعلهم للقياه أشد اشتياقا، وإلى رؤيته أشد تطلعا. وإنك لتقدر مبلغ ما كانت تجيش به هذه النفوس حين تعلم أن من سادة يثرب من لم يروا محمدا من قبل، وإنما اتبعوه بعد أن سمعوا أصحابه الذين كانوا أشد المسلمين لدين الله دعوة ولرسول الله حبا. جلس سعد بن زرارة ومصعب بن عمير في حائط من حوائط بني ظفر واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا؛ فبلغ نبؤهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وكانا يومئذ سيدي قومهما؛ فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما، وانههما، فإن سعد بن زرارة ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما. فذهب أسيد إليهما يزجرهما. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟
قال أسيد: أنصفت وركز حربته وجلس إليهما، وسمع إلى مصعب فقام مسلما، وعاد إلى سعد بوجه غير الوجه الذي تركه به. فغاظ ذلك سعدا، وقام هو إلى الرجلين، فكان أمره كأمر صاحبه، وكان من أثر ذلك أن ذهب سعد إلى قومه فقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة.
قال: فإن كلام نسائكم ورجالكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
فأسلم بنو عبد الأشهل جميعا رجالا ونساء.
وبلغ من انتشار الإسلام بيثرب ومن بأس المسلمين فيها من قبل هجرة النبي إليها ما لم يحلم به مسلمو مكة، وما طوع لبعض الشبان من المسلمين أن يعبثوا بأصنام المشركين من أهلهم. كان لعمرو بن الجموح صنم من خشب يدعوه مناة، قد اتخذه في داره كما كان الأشراف يصنعون. وكان عمرو سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم. فلما أسلم فتيان قومه كانوا يريحون بالليل على صنمه فيحملونه فيكبونه على رأسه في إحدى الحفر التي يخرج أهل يثرب لقضاء حاجاتهم بها. فإذا أصبح عمرو فلم يجد الصنم التمسه حتى يعثر به، ثم غسله وطهره ورده مكانه وهو يبرق ويرعد ويتهدد ويتوعد. وكرر فتيان بني سلمة عبثهم بمناة ابن الجموح، وهو كل يوم يغسله ويطهره. فلما ضاق بهم ذرعا علق على الصنم سيفه وقال له: إن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك. وأصبح فالتمسه فوجده في بئر مقرونا إلى كلب ميت وليس معه السيف، فلما كلمه رجال قومه أسلم بعد أن رأى بعينه ما في الشرك والوثنية من ضلال يهوي بنفس صاحبه إلى درك لا يجمل بإنسان.
يسير عليك أن تقدر، مع ما بلغ الإسلام من علو الشأن بيثرب، تحرق أهلها شوقا إلى مقدم محمد عليهم بعد إذ علموا بهجرته من مكة. كانوا يخرجون كل يوم بعد صلاتهم الصبح إلى ظاهر المدينة يتلمسونه حتى تغلبهم الشمس على الظلال في هذه الأيام الحارة من شهر يوليه. وبلغ هو قباء - على فرسخين من المدينة - فأقام أربعة أيام بها ومعه أبو بكر. وفي هذه الأيام الأربعة أسس مسجدها. وبينما هم بها وصل إليها علي بن أبي طالب الذي رد الودائع التي كانت عند محمد لأصحابها من أهل مكة ثم غادرها يقطع الطريق إلى يثرب على قدميه، يسير الليل ويستخفي بالنهار، ويحتمل هذا الجهد المضني أسبوعين كاملين ليلحق بإخوانه في الدين.
وإن مسلمي يثرب لينتظرون يوما كعادتهم إذ صاح بهم يهودي كان قد رأى ما يصنعون: «يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء.» وكان هذا اليوم يوم جمعة، فصلاها محمد بالمدينة. وهناك في المسجد الذي ببطن وادي رانونا أقبل عليه مسلمو يثرب وكل يحاول أن يراه وأن يقترب منه، وأن يملأ عينيه من هذا الرجل الذي لم يره من قبل، والذي امتلأت مع ذلك نفسه بحبه وبالإيمان برسالته، والذي يذكره كل يوم أثناء صلاته مرات. وعرض عليه رجال من سادة المدينة أن يقيم عندهم في العدد والعدة والمنعة؛ فاعتذر لهم وامتطى ناقته وألقى لها خطامها، فانطلقت في طرق يثرب والمسلمون من حولها في حفل حافل يخلون لها طريقها، وسائر أهل يثرب من اليهود والمشركين ينظرون إلى هذه الحياة الجديدة التي دبت إلى مدينتهم، وإلى هذا القادم العظيم الذي اجتمع عليه من الأوس والخزرج من كانوا من قبل أعداء متقاتلين، ولا يجول بخاطر أحدهم في هذه البرهة التي اعتدل فيها ميزان التاريخ إلى وجهته الجديدة، ما أعد القدر لمدينتهم من جلال وعظمة يبقيان على الزمن ما بقي الزمن، وجعلت الناقة تسير حتى كانت عند مربد لغلامين يتيمين من بني النجار، هنالك بركت، ونزل الرسول عنها، وسأل: لمن المربد؟ فأجابه معاذ بن عفراء: إنه لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان له وسيرضيهما، ورجا محمدا أن يتخذه مسجدا. وقبل محمد، وأمر أن يبنى في هذا المكان مسجده وأن تبنى داره.
خريطة المدينة المنورة .
الفصل الحادي عشر
أول العهد بيثرب
(استقبال يثرب للمهاجر العظيم - بناء المسجد ومنزل النبي - تفكير محمد في حرية العقيدة لأهل يثرب جميعا - يهود المدينة - مؤاخاة محمد بين المهاجرين والأنصار - معاهدته مع اليهود لتقرير حرية الاعتقاد - زواج محمد بعائشة - الأذان للصلاة - مثل محمد وتعاليمه - قوة الدين الجديد وخوف اليهود منها - تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام - وفد نصارى نجران إلى المدينة - التقاء الأديان الثلاثة بيثرب - تفكير المسلمين في موقفهم من قريش) ***
خرج أهل يثرب لاستقبال محمد زرافات ووحدانا، رجالا ونساء، بعد الذي ترامى إليهم من أخبار هجرته ومن ائتمار قريش به، ومن احتماله أشد القيظ في هذه الرحلة المضنية بين كثبان تهامة وصخورها التي ترد ضوء الشمس لظى وسعيرا. وخرجوا يثيرهم تطلعهم، لما انتشر من خبر دعوته في أنحاء شبه الجزيرة وما تقضي عليه هذه الدعوة من عقائد ورثها أهلها عن آبائهم، وكانت عندهم موضع التقديس. لكن خروجهم لم يكن راجعا إلى هذين السببين وكفى، بل كان راجعا أكثر من ذلك إلى أنه هاجر من مكة إلى يثرب ليقيم بها. فكل طائفة وكل قبيلة من أهل يثرب كانت ترتب على هذا المقام - من الناحية السياسية والاجتماعية - آثارا شتى، هي التي استخفتهم أكثر مما استخفهم التطلع ليخرجوا فينظروا إلى هذا الرجل، وليروا هل تؤيد سيماه حدسهم، أو هي تدعوهم إلى تعديله؛ لذلك لم يكن المشركون ولا كان اليهود أقل إقبالا من المسلمين - مهاجريهم والأنصار - على استقبال النبي.
ولذلك أحاطوا به جميعا وكل يخفق قلبه خفقانا مختلفا عن غيره باختلاف ما يجول بنفسه إزاء القادم العظيم. وقد اتبعوه إذ ألقى بخطام ناقته على غاربها في شيء من عدم النظام أدى إليه حرص كل على أن يجتلى محياه، وأن يحيط نواحيه جميعا بنظرة ترسم في نفسه صورة من هذا الذي عقد بيعة العقبة الكبرى مع من بايعه من أهل هذه المدينة على حرب الأسود والأحمر من الناس، والذي هجر وطنه وفارق أهله واحتمل عداوتهم وأذاهم ثلاث عشرة سنة متتابعة، في سبيل توحيد الله توحيدا أساسه النظر في الكون، واجتلاء الحقيقة من طريق هذا النظر.
بركت ناقة النبي - عليه السلام - على مربد سهل وسهيل ابني عمرو، فابتاعه ليبنيه مسجدا له. وأقام أثناء بنائه في دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري. وعمل محمد في بناء المسجد بيديه، ودأب المسلمون من المهاجرين والأنصار على مشاركته في بنائه، حتى أتموه وأقاموا من حوله مساكن الرسول. وما كان بناء المسجد ولا كان بناء المساكن ليرهق أحدا وقد كانت كلها البساطة بما يتفق وتعاليم محمد. كان المسجد فناء فسيحا، بنيت جدرانه الأربعة من الآجر والتراب، وسقف جزء منه بسعف النخل، وترك الجزء الآخر مكشوفا، وخصصت إحدى نواحيه لإيواء الفقراء الذين لم يكونوا يملكون سكنا. ولم يكن المسجد يضاء ليلا إلا ساعة صلاة العشاء؛ إذ توقد فيه أنوار من القش أثناءها. وكذلك ظل تسع سنوات متتالية شدت بعدها مصابيح إلى جذوع النخل التي كان يعتمد سقفه عليها. ولم تكن مساكن النبي أكثر من المسجد ترفا، وإن كانت بطبيعتها أكثر منه استتارا.
بنى محمد مسجده ومساكنه، وأوى من بيت أبي أيوب إليها. ثم جعل يفكر في هذه الحياة الجديدة التي استفتح، والتي نقلته ونقلت دعوته خطوة جديدة واسعة. فقد ألفى هذه المدينة وبين عشائرها من التنافر ما لم تعرف مكة؛ لكنه ألفى قبائلها وبطونها تصبو إلى حياة فيها من السكينة ما يجنبها الخلاف والحزازات التي مزقتها في الماضي شر ممزق، وما يهيئ لها في المستقبل طمأنينة تطمع معها أن تكون أوفر من مكة ثروة وأعظم جاها. وما كانت ثروة يثرب ولا كان جاهها أول ما يعني محمدا وإن كان بعض ما يعنيه. إنما كان همه الأول والآخر هذه الرسالة التي عهد الله إليه في تبليغها والدعوة إليها والإنذار بها. لقد حاربها أهل مكة من يوم بعثه إلى يوم هجرته أهول الحرب، فحال ذلك دون امتلاء كل القلوب بنورها وكل الأنفس إيمانا بها من خوف أذى قريش وعنتها. والأذى والعنت يحولان بين الإيمان والقلوب التي لما يدخل الإيمان فيها. فيجب أن يؤمن المسلمون وأن يؤمن غيرهم بأن من اتبع الهدى ودخل في دين الله بمأمن من أن يصيبه الأذى، ليزداد المؤمنون إيمانا، وليقبل على الإيمان المتردد والخائف والضعيف.
في هذا كان يفكر محمد أول طمأنينته إلى مسكنه بيثرب، وإلى هذا كانت تتجه سياسته، وفي هذا الاتجاه يجب أن يترجم لحياته. هو لم يكن يفكر في ملك ولا في مال ولا في تجارة؛ بل كان كل همه توفير الطمأنينة لمن يتبعون رسالته، وكفالة الحرية لهم في عقيدتهم ككفالتها لغيرهم في عقيدتهم. يجب أن يكون المسلم واليهودي والنصراني سواء في حرية العقيدة، وفي حرية الرأي وحرية الدعوة إليه. فالحرية وحدها هي الكفيلة بانتصار الحق وبتقدم العالم نحو الكمال في وحدته العليا، وكل حرب على الحرية تمكين للباطل ونشر لجيوش الظلام لتقضي على جذوة النور المضيئة في النفس الإنسانية، والتي تصل بينها وبين الكون كله، من أزله إلى أبده، صلة اتساق ومحبة ووحدة، لا صلة نفور وفناء.
هذه الوجهة في التفكير هي التي نزل بها الوحي على محمد منذ الهجرة، وهي التي جعلته جنوحا للسلم، راغبا عن القتال، مقتصدا طول حياته أشد القصد فيه، غير لاجئ إليه إلا لضرورة تقتضيه الدفاع عن الحرية دفاعا عن الدين وعن العقيدة. ألم يقل له أهل يثرب ممن بايعوه في العقبة الثانية حين سمعوا المتجسس عليهم يصيح بقريش ينبهها لأمرهم: «والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا.» فكان جوابه: «لم نؤمر بذلك»؟ ألم تكن أول آية نزلت في القتال:
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ؟
1
ألم تكن الآية التي تلت هذه في أمر القتال قوله تعالى:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ؟
2
فتفكير محمد إذن إنما كان متجها إلى غاية واحدة عليا؛ هي كفالة حرية العقيدة والرأي كفالة في سبيلها وحدها أحل القتال، ودفاعا عنها أبيح دفع المعتدي حتى لا يفتن أحد عن دينه، ولا يظلم أحد بسبب عقيدته أو رأيه.
بينما كانت هذه وجهة محمد في التفكير في أمر يثرب وما يجب لكفالة الحرية فيها ، كان أهل هذه المدينة ممن استقبلوه يفكرون، وإن كان كل فريق يفكر على نحو يخالف تفكير غيره. فقد كان بيثرب يومئذ من مهاجرين وأنصار؛ وكان بها المشركون من سائر الأوس والخزرج، وكان بين هؤلاء وأولئك ما علمت. ثم كان بها اليهود، يقيم منهم بنو قينقاع في داخلها، ويقيم بنو قريظة في فدك، وبنو النضير على مقربة منها، ويهود خيبر في شمالها.
أما المهاجرون والأنصار فقد ألف الدين الجديد بينهم بأوثق رباط، وإن بقيت في نفس محمد بعض المخاوف أن تثور البغضاء القديمة بينهم يوما؛ مما جعله يفكر في وسيلة للقضاء على كل شبهة من هذا النوع تفكيرا كان له من بعد أثره. وأما المشركون من سائر الأوس والخزرج، فقد ألفوا أنفسهم بين المسلمين واليهود ضعافا نهكتهم الحروب الماضية، فاتجه همهم للوقيعة بين هؤلاء وأولئك. وأما اليهود فبادروا بادئ الرأي إلى حسن استقبال محمد ظنا منهم أن في مقدورهم استمالته إليهم وإدخاله في حلفهم والاستعانة به على تأليف جزيرة العرب حتى تقف في وجه النصرانية التي أجلت اليهود، شعب الله المختار، عن فلسطين أرض المعاد ووطنهم القومي. وانطلق كل على أساس تفكيره يمهد أسباب النجاح لبلوغ غايته.
هنا يبدأ طور جديد من أطوار حياة محمد لم يسبقه إليه أحد من الأنبياء والرسل. هنا يبدأ طور السياسي الذي أبدى محمد فيه من المهارة والمقدرة والحنكة ما يجعل الإنسان يقف دهشا ثم يطأطئ الرأس إجلالا وإكبارا. كان أكبر همه أن يصل بيثرب - موطنه الجديد - إلى وحدة سياسية ونظامية لم تكن معروفة من قبل في سائر أنحاء الحجاز، وإن كانت قد عرفت قبل ذلك بكثير في بلاد اليمن. فتشاور هو ووزيراه أبو بكر وعمر؛ فكذلك كان يسميهما. وقد كان أول ما انصرف إليه تفكيره بطبيعة الحال تنظيم صفوف المسلمين وتوكيد وحدتهم، للقضاء على كل شبهة في أن تثور العداوة القديمة بينهم. ولتحقيق هذه الغاية دعا المسلمين ليتآخوا في الله أخوين أخوين. فكان هو وعلي بن أبي طالب أخوين. وكان عمه حمزة ومولاه زيد أخوين ، وكان أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين.
وكان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الخزرجي أخوين. وتآخى كذلك كل واحد من المهاجرين الذين كثر عددهم بيثرب، بعد أن تلاحق إليها سائر من كان منهم بمكة في أعقاب هجرة الرسول إياها، مع واحد من الأنصار إخاء جعل له الرسول حكم إخاء الدم والنسب. وبهذه المؤاخاة ازدادت وحدة المسلمين توكيدا.
وأظهر الأنصار من كرم الضيافة لإخوانهم المهاجرين ما تقبله هؤلاء أول الأمر مغتبطين؛ ذلك أنهم تركوا مكة، وتركوا وراءهم ما يملكون فيها من مال ومتاع، ودخلوا المدينة ولا يكاد الكثيرون منهم يجدون قوتهم. ولم يكن منهم على جانب من الثراء والنعمة غير عثمان بن عفان؛ أما الآخرون فقليل منهم من احتمل من مكة شيئا ينفعه. وقد ذهب حمزة عم الرسول يوما يطلب إليه أن يجد له ما يقتات به. وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، ولم يكن عبد الرحمن يملك بيثرب شيئا. فعرض عليه سعد أن يشاطره ماله؛ فأبى عبد الرحمن وطلب إليه أن يدله على السوق، وفيها بدأ يبيع الزبد والجبن، واستطاع بمهارته التجارية أن يصل إلى الثروة في زمن قصير وأن يمهر إحدى نساء المدينة، وأن تكون له قوافل تذهب في التجارة وتجيء. وصنع كثير غير عبد الرحمن من المهاجرين صنيعه؛ فقد كان لهؤلاء المكيين من الدراية في شئون التجارة ما قيل معه عن أحدهم: إنه ليحيل بالتجارة رمل الصحراء ذهبا.
أما الذين لم يشتغلوا بالتجارة، ومن بينهم أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب وغيرهم. فقد عملت أسرهم في الزراعة في أراضي الأنصار مزارعة مع ملاكها. وكان غير هؤلاء وأولئك يلقون من الحياة شدة وبأساء؛ لكنهم كانوا يأبون أن يعيشوا كلا على غيرهم؛ فكانوا يجهدون أنفسهم في العمل أشد الجهد، ويجدون في ذلك من لذة الطمأنينة لأنفسهم ولعقيدتهم ما لم يكونوا يجدونه بمكة. على أن جماعة من العرب الذين وفدوا على المدينة وأسلموا، كانوا في حال من العوز والمتربة، حتى لم يكن لأحدهم سكن يلجأ إليه . هؤلاء أفرد محمد لهم صفة المسجد (وهي المكان المسقوف منه) يبيتون بها ويأوون إليها؛ ولذلك سموا أهل الصفة، وجعل لهم رزقا من مال المسلمين والأنصار الذين آتاهم الله رزقا حسنا.
اطمأن محمد إلى وحدة المسلمين بهذه المؤاخاة. وهي لا ريب حكمة سياسية تدل على سلامة تقدير وبعد نظر، نتبين مقدارهما حين نقف على ما كان من محاولة المنافقين الوقيعة بين الأوس والخزرج من المسلمين وبين المهاجرين والأنصار لإفساد أمرهم. لكن العمل السياسي الجليل حقا والذي يدل على أعظم الاقتدار، ذلك ما وصل به محمد إلى تحقيق وحدة يثرب وإلى وضع نظامها السياسي بالاتفاق مع اليهود على أساس متين من الحرية والتحالف. وقد رأيت اليهود كيف أحسنوا استقباله أملا في استدراجه إلى صفوفهم. وقد بادر هو إلى رد تحيتهم بمثلها، وإلى توثيق صلاته بهم؛ فتحدث إلى رؤسائهم وتقرب إليه كبراؤهم، وربط بينه وبينهم برابطة المودة باعتبار أنهم أهل كتاب موحدون. وبلغ من ذلك أن كان يصوم يوم صومهم، وكانت قبلته في الصلاة ما تزال إلى بيت المقدس قبلة أنظارهم ومثابة بني إسرائيل جميعا. وما كانت الأيام لتزيده باليهود أو لتزيد اليهود به إلا مودة وقربى. كما أن سيرته، وعظيم تواضعه، وجميل عطفه، وحسن وفائه، وفيض بره بالفقير والبائس والمحروم، وما أورثه ذلك من قوة السلطان على أهل يثرب؛ كل ذلك وصل بالأمر بينه وبينهم وإلى عقد معاهدة صداقة وتحالف وتقرير لحرية الاعتقاد.
معاهدة هي - في اعتقادنا - من الوثائق السياسية الجديرة بالإعجاب على مر التاريخ. وهذا الطور من حياة الرسول لم يسبقه إليه نبي أو رسول. فقد كان عيسى وكان موسى وكان من سبقهما من الأنبياء يقفون عند الدعوة الدينية يبلغونها للناس من طريق الجدل ومن طريق المعجزة، ثم يتركون لمن بعدهم من الساسة وذوي السلطان أن ينشروا هذه الدعوة بالمقدرة السياسية وبالدفاع عن حرية الناس في الإيمان بها، ولو دفاعا مسلحا فيه الحرب والقتال. انتشرت المسيحية على يد الحواريين من بعد عيسى، فظلوا ومن تبعهم يعذبون، حتى جاء من الملوك من لان قلبه لهذا الدين فآواه ونشره. وكذلك كان أمر سائر الأديان في شرق العالم وغربه. فأما محمد فقد أراد الله أن يتم نشر الإسلام وانتشار كلمة الحق على يديه، وأن يكون الرسول والسياسي والمجاهد والفاتح، كل ذلك في سبيل الله، وفي سبيل كلمة الحق التي بعث بها. وهو قد كان في ذلك كله عظيما، وكان مثل الكمال الإنساني على ما يجب أن يكون.
كتب محمد بين المهاجرين والأنصار كتابا واعد فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم. وهذا الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛ أنهم أمة واحدة من دون الناس. المهاجرون من قريش على ربعتهم
3
يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين - ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار وأهل كل دار: بني الحارث، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف وبني النبيت، إلى أن قال - وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا
4
بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة،
5
ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة
6
غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا، وأن المؤمنين يبيء
7
بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله ، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط
8
مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا
9
ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد - عليه الصلاة والسلام - وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين.
لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ
10
إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار ويهود بني الحارث ويهود بني ساعدة ويهود بني جشم ويهود بني الأوس ويهود بني ثعلبة ولجفنة ولبني الشطيبة
11
مثل ما ليهود بني عوف، وأن موالي ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد - عليه الصلاة والسلام - وأنه لا يتحجز
12
على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم، وأن الله على أبر هذا، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم. وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين؛ على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأن من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى.
هذه هي الوثيقة السياسية التي وضعها محمد منذ ألف وثلاثمائة وخمسين سنة، والتي تقرر حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة. وهي فتح جديد في الحياة السياسية والحياة المدنية في عالم يومئذ؛ هذا العالم الذي كانت تعبث به يد الاستبداد، وتعيث فيه يد الظلم فسادا. ولئن لم يشترك في توقيع هذه الوثيقة من اليهود بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، فإنهم ما لبثوا بعد قليل أن وقعوا بينهم وبين النبي صحفا مثلها. وكذلك أصبحت المدينة وما وراءها حرما لأهلها؛ عليهم أن ينضحوا عنها ويدفعوا كل عادية عليها، وأن يتكافلوا فيما بينهم. لاحترام ما قررت هذه الوثيقة فيها من الحقوق ومن صور الحرية.
طاب محمد نفسا بهذه النتيجة، وسكن المسلمون إلى دينهم، وجعلوا يقيمون فرائضه مجتمعين ويقيمونه فرادى، لا يخافون أذى ولا يخشون فتنة. إذ ذاك بنى النبي محمد بعائشة بنت أبي بكر، وكانت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها، وكانت فتاة رقيقة حلوة القسمات محببة العشرة، وكانت تخطو دراكا من الطفولة إلى الصبا، وكانت ذات ولع باللعب والمرح، وكانت نامية نموا حسنا. ووجدت في محمد أول انتقالها إليه بمسكنها إلى جانب مسكن سودة في جوار المسجد أبا برا عطوفا، وزوجا مشفقا رفيقا، لا يأبى عليها أن تعبث وتلهو بألاعيبها؛ وتسليه بذلك عن دائم تفكيره في العبء العظيم الذي ألقي عليه، وفي سياسة يثرب التي بدأ يوجهها إلى خير وجهة.
في هذه الفترة التي سكن فيها المسلمون إلى دينهم فرضت الزكاة وفرض الصيام وقامت الحدود، وتمكنت بيثرب شوكة الإسلام. وكان محمد حين قدم المدينة إنما يجتمع إليه الناس للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة؛ ففكر في أن يدعو للصلاة ببوق كالبوق الذي يدعو به اليهود لصلاتهم. لكنه كره البوق فأمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للصلاة، كما تفعل النصارى. على أنه بعد مشورة عمر وطائفة من المسلمين على رواية، وبأمر الله على لسان الوحي في رواية أخرى، عدل عن الناقوس أيضا إلى الأذان، وقال لعبد الله بن زيد بن ثعلبة: «قم مع بلال فألقها عليه - أي صيغة الأذان - فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك.» وكان لامرأة من بني النجار منزل إلى جانب المسجد أعلى منه، فكان بلال يرقاه فيؤذن عليه. وكذلك صار أهل يثرب جميعا يسمعون منذ الفجر في كل يوم دعوة إلى الإسلام مرتلة ترتيلا حسنا بصوت رطب جميل يوجهها بلال مع كل ريح إلى كل النواحي، ويلقي في أذن الحياة نداءه: «الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.»
وكذلك انقلبت مخاوف المسلمين أمنا، وأصبحت يثرب مدينة الرسول، وأصبح غير المسلمين من أهلها يشعرون بقوة المسلمين قوة منبعثة من أعماق قلوب عرفت التضحية في سبيل الإيمان وذاقت الأذى بسببه ألوانا، وها هي ذي اليوم تجني ثمرة الصبر، وتستمتع من حرية العقيدة بما قرر الإسلام من أن ليس لإنسان على إنسان سيادة، ومن أن الدين لله وحده، والعبودية له وحده، والناس أمام وجهه الأكرم سواسية، لا يجزون إلا بأعمالهم وبالنية التي تصدر هذه الأعمال عنها.
وانفسح المجال أمام محمد ليعلن تعاليمه، وليكون بذاته وبتصرفاته المثل الأسمى لهذه التعاليم، وليصبح بذلك حجر الأساس للحضارة الإسلامية.
وحجر الأساس هذا هو الإخاء الإنساني، إخاء يجعل المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يصل به هذا الإخاء إلى غاية البر والرحمة من غير ضعف ولا استكانة. سأل رجل محمدا: أي الإسلام خير؟ فقال: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.» وفي أول خطبة ألقاها بالمدينة قال: «من استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشقة من تمر فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها.» وفي خطبته الثانية قال: «اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتقوه حق تقاه، واصدقوا الله صالح ما تقولون، وتحابوا بروح الله بينكم: إن الله يغضب أن ينتكث عهده.» بهذا وبمثله كان يحدث أصحابه وكان يخطب الناس في مسجده، مستندا إلى جذع من جذوع النخل التي يعتمد عليها سقفه، حتى أمر فصنع له منبر من ثلاث درجات، كان يقوم على درجته الأولى خطيبا. وكان يجلس في درجته الثانية.
ولم تكن أقواله وحدها دعامة الدعوة إلى هذا الإخاء الذي جعل منه حجر الزاوية في حضارة الإسلام، بل كانت أعماله وكان مثله هو هذا الإخاء في أسمى صور كماله. كان رسول الله، لكنه كان يأبى أن يظهر في أي من مظاهر السلطان أو الملك أو الرياسة الزمنية. كان يقول لأصحابه: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله.» وخرج على جماعة من أصحابه متوكئا على عصا فقاموا له، فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا.» وكان إذا بلغ في مسيره أصحابه جلس منهم حيث انتهى به المجلس. وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد إلى صلاته، وكان أطيب الناس نفسا وأكثرهم تبسما ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب.
وكان في بيته في مهنة أهله يطهر ثوبه ويرقعه ويحلب شاته، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل البعير، ويأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس والمسكين. وكان إذا رأى أحدا في حاجة آثره على نفسه وأهله ولو كان بهم خصاصة. وكان لذلك لا يدخر شيئا لغده؛ حتى لقد توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في قوت عياله. وكان جم التواضع، شديد الوفاء، حتى لقد وفد للنجاشي وفد فقام بخدمتهم؛ فقال له أصحابه: يكفيك. فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم. وبلغ من وفائه أنه ما ذكرت خديجة إلا ذكرها أطيب الذكر؛ حتى كانت عائشة تقول: ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة لما كنت أسمعه يذكرها. ودخلت عليه امرأة فهش لها وأحسن السؤال عنها؛ فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان. وبلغ من طيبة نفسه ورقة قلبه أنه كان يدع بني بناته يداعبونه أثناء صلاته. بل لقد صلى بأمامة ابنة بنته زينب يحملها على عاتقه، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
ولم يقف بالبر والرحمة اللذين جعلهما دعامة الإخاء الذي قامت الحضارة الجديدة على أساسه عند الإنسان، بل عداهما إلى الحيوان كذلك؛ كان يقوم بنفسه فيفتح بابه لهرة تلتمس عنده ملجأ، وكان يقوم بنفسه على تمريض ديك مريض، وكان يمسح لجواده بكم قميصه. وركبت عائشة بعيرا فيه صعوبة فجعلت تردده؛ فقال لها: عليك بالرفق. وكذلك شملت رحمته كل ما اتصل بها، وأظلت كل من كان في حاجة إلى تفيؤ ظلالها.
وهي لم تكن رحمة ضعف ولا استكانة، ولم تشبها شائبة من ولا استعلاء، إنما كانت إخاء في الله بين محمد والذين اتصلوا به جميعا. ومن ثم يفترق أساس حضارة الإسلام عن كثير من سائر الحضارات. الإسلام يضع العدل إلى جانب الإخاء ويرى أن الإخاء لا يكون إخاء إلا به.
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ،
13
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب .
14
يجب أن يكون الدافع النفساني وحده والإرادة الحرة المطلقة وابتغاء وجه الله - دون أي اعتبار آخر - مصدر الإخاء وما يدعو إليه من بر ورحمة. ويجب أن يصدر ذلك عن نفس قوية لا تعرف لغير الله إسلاما ولا تضعف ولا تتهالك باسم الورع أو التقوى، ولا يتسرب إليها خوف أو وهن إلا عن معصية تجترحها أو إثم تقترفه. ولا تكون النفس قوية إذا كانت في حكم غيرها، ولا تكون قوية إذا خضعت لحكم أهوائها وشهواته. وقد هاجر محمد وأصحابه من مكة حتى لا يكونوا في حكم قريش ولا يوهن أذاها نفس أحد منهم. والنفس إنما تخضع لحكم الأهواء والشهوات إذا تحكم الجسد في الروح وغلبت الشهوة العقل، وأصبحنا نقيم للحياة الخارجة عنا سلطانا على حياتنا نحن، على حين أنا في غنى عنها وأنا أصحاب السلطان عليها.
وكان محمد المثل الأعلى في القوة على الحياة، قوة جعلته لا يأبى أن يعطي غيره كل ما عنده؛ وحتى قال أحدهم: إن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة. ولكي لا يكون لشيء مما في الحياة سلطان عليه، وليكون له هو كل السلطان عليها، كان شديد الزهد في مادتها، على شدة رغبته في الإحاطة بها وفي معرفة أسرارها، وتوقه إلى غاية الحقيقة من أمرها. بلغ من زهده فيها أن كان في فراشه الذي ينام عليه أدم حشوه ليف، وأنه لم يشبع قط، ولم يطعم خبز الشعير يومين متواليين، وكان السويق طعام أكلته الكبرى، وكان التمر طعام سائر أيامه. وكان الثريد مما لا يكثر له ولأهله تناوله. ولقد عانى الجوع غير مرة، حتى كان يشد على بطنه حجرا يكظم به على صيحات معدته. ذلك كان المعروف عنه في طعامه، وإن لم يمنعه ذلك من أن ينال في بعض الأحايين من أطايب الرزق، وأن يعرف عن حبه زند الخروف والقرع والعسل والحلوى.
وكان زهده في اللباس كزهده في الطعام. أعطته امرأة يوما ثوبا كان في حاجة إليه، فطلب إليه أحدهم ما يصلح كفنا لميت فأعطاه الثوب. وكان معروف ثيابه القميص والكساء، وكانا من صوف أو قطن أو تيل. على أنه في بعض الأحيان لم يكن يأبى أن يلبس من أنسجة اليمن لباسا فخما يناسب المقام إذا اقتضاه المقام ذلك. وكان يحتذي حذاء بسيطا، ولم يلبس خفا إلا حين أهدى إليه النجاشي خفين وسراويل.
لم يكن هذا الزهد، ولا هذه الرغبة عن الدنيا تقشفا للتقشف، ولا كانا من فرائض الدين؛ فقد جاء في القرآن:
كلوا من طيبات ما رزقناكم
15
وجاء:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك .
16
وفي الأثر: «احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.» لكن محمدا أراد أن يضرب للناس المثل الأعلى في القوة على الحياة قوة لا يتطرق إليها ضعف، ولا يستعبد صاحبها متاع أو مال أو سلطان أو أي مما يجعل لغير الله عليه سيادة. والإخاء الذي يستند إلى هذه القوة ويكون له من المظهر ما ضرب محمد له المثل الأعلى فيما رأيت، إخاء محض بالغ غاية الإخلاص والسمو، إخاء لا تشوبه شائبة؛ لأن العدل يتضافر فيه مع الرحمة، لأن صاحبه لا يرضى أن تحمله عليه إلا إرادته الحرة المطلقة. لكن الإسلام إذ يضع العدل إلى جانب الرحمة يضع العفو إلى جانب العدل، على أن يكون عفوا عن مقدرة؛ ليكون مظهر الرحمة صريحا صحيحا، وليكون القصد منه إلى الإصلاح صادقا.
هذا الأساس الذي وضعه محمد للحضارة الجديدة التي يقيمها يتلخص بصورة واضحة فيما روي عن علي بن أبي طالب أنه سأل رسول الله عن سنته فقال: «المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي؛ والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة.»
تركت تعاليم محمد هذه وترك مثله وقدوته في النفوس أعمق الأثر؛ حتى لقد أقبل كثيرون على الإسلام، وازداد المسلمون في المدنية شوكة وقوة. هنالك بدأ اليهود يفكرون من جديد في موقفهم من محمد وأصحابه. لقد عقدوا معه عهدا، وكانوا يطمعون في أن يضموه إلى صفوفهم وفي أن يزدادوا به على النصارى منعة وقوة. وهذا هو أقوى من هؤلاء وأولئك جميعا، وهذه كلمته تزداد ثباتا. بل ها هو ذا يفكر في أمر قريش وإخراجها إياه وإخراجها المهاجرين من مكة، وفتنتها من استطاعت فتنته من المسلمين عن دينه، أترى اليهود يتركون دعوته تنتشر وسلطانه الروحي يمتد؛ مكتفين بالأمن في جواره أمنا يزيد تجارتهم سعة وثروتهم ربحا؟ لعلهم كانوا يقنعون بهذا لو أنهم أمنوا ألا تمتد دعوته إلى اليهود وألا تفشوا في عامتهم، على حين تقتضيهم تعاليمهم ألا يعترفوا بنبي من غير بني إسرائيل.
لكن حبرا عالما من كبار أحبارهم وعلمائهم، هو عبد الله بن سلام، لم يلبث حين اتصل بالنبي أن أسلم، وأمر أهل بيته فأسلموا معه. وخشي عبد الله أن يقول اليهود فيه إذا علموا بإسلامه، غير ما اعتادوا. فطلب إلى النبي أن يسألهم عنه: ما شأنه؟ قبل أن يعرف أحد منهم إسلامه. قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا. فلما خرج عبد الله إليهم وتبينوا ما صنع ودعاهم هو إلى الإسلام، خافوا عاقبة أمره، فوقعوا فيه وأذاعوا عنه قالة السوء في أحياء اليهود كلها؛ وأجمعوا أمرهم على أن يكيدوا لمحمد وينكروا نبوته. وما كان أسرع أن اجتمع إليهم من بقي على الشرك من الأوس والخزرج ومن أسلم منهم نفاقا، جريا وراء مغنم أو إرضاء لذي عصبة وبأس.
وهنا بدأت حرب جدل بين محمد واليهود أشد لددا وأكبر مكرا من حرب الجدل التي كانت بينه وبين قريش بمكة. وفي هذه الحرب اليثربية تعاونت الدسيسة والنفاق والعلم بأخبار السابقين من الأنبياء والمرسلين. أقامتها اليهود جميعا صفوفا متراصة يهاجمون بها محمدا ورسالته وأصحابه المهاجرين والأنصار. دسوا من أحبارهم من أظهر إسلامه ومن استطاع أن يجلس بين المسلمين يظهر غاية التقوى، ثم ما لبث الحين بعد الحين أن يبدي من الشكوك والريب ويلقي على محمد من الأسئلة ما يحسبه يزعزع في أنفس المسلمين عقيدتهم به وبرسالة الحق التي يدعو إليها. وانضم إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج الذين أسلموا نفاقا أيضا ليسألوا وليوقعوا بين المسلمين.
وبلغ من تعنتهم أن اليهود منهم كانوا ينكرون ما في التوراة، وأنهم جميعا وكلهم يؤمنون بالله سواء منهم بنو إسرائيل والمشركون الذين يتخذون أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى. كانوا يسألون محمدا: إذا كان الله قد خلق الخلق فمن خلق الله؟! وكان محمد يجيبهم بقوله تعالى:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد .
17
وفطن المسلمون لأمر خصومهم وعرفوا غاية سعيهم. ورأوهم يوما في المسجد يتحدثون بينهم خافضين أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم محمد فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا. ولم يثنهم ذلك عن كيدهم وسعيهم في الوقيعة بين المسلمين. مر أحدهم «شاس بن قيس» على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم؛ فغاظه صلاح ذات بينهم وقال في نفسه: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد؛ وما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. وأمر فتى شابا من اليهود كان معهم أن ينتهر فرصة يذكر فيها يوم بعاث وما كان من انتصار الأوس فيه على الخزرج. وتكلم الغلام، فذكر القوم ذلك اليوم وتنازعوا وتفاخروا واختصوا، وقال بعضهم لبعض: إن شئتم عدنا إلى مثلها. وبلغ محمدا الأمر، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه، فذكرهم بما ألف الإسلام بين قلوبهم وجعلهم إخوانا متحابين. وما زال بهم حتى بكى القوم وعانق بعضهم بعضا واستغفروا الله جميعا.
بلغ الجدال بين محمد واليهود مبلغا من الشدة يشهد به ما نزل من القرآن فيه. فقد نزل صدر سورة البقرة إلى الآية الحادية والثمانين منها، ونزل قسم عظيم من سورة النساء، وكله يذكر هؤلاء الكتابيين وإنكارهم ما في كتابهم ويلعنهم لكفرهم وإنكارهم أشد اللعنة:
ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون * وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون * ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
18
وبلغ الجدال بين اليهود والمسلمين حدا كان يصل أحيانا - مع ما كان بينهم من عهد - إلى الاعتداء بالأيدي. وحسبك - لتقدر هذا - أن تعلم أن أبا بكر، على ما كان عليه من دماثة الخلق وطول الأناة ولين الطبع، تحدث إلى يهودي يدعى فنحاص، يدعوه إلى الإسلام؛ فرد فنحاص بقوله: «والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا. وإنا عنه أغنياء وما هو عنا بغني. ولو كان غنيا عنا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا.» وفنحاص يشير هنا إلى قوله:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة .
19
لكن أبا بكر لم يطق على هذا الجواب صبرا، فغضب وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك يا عدو الله! وشكا فنحاص أمره إلى النبي، وأنكر ما قاله لأبي بكر في الله؛ فنزل قوله تعالى:
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق .
20
لم يكتف اليهود بالوقيعة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج من هؤلاء، ولم يكفهم فتنة المسلمين عن دينهم ومحاولة ردهم إلى الشك دون محاولة تهويدهم، بل زادوا على ذلك أن حاولوا فتنة محمد نفسه؛ ذلك أن أحبارهم وأشرافهم وسادتهم ذهبوا إليه وقالوا: «إنك قد عرفت أمرنا ومنزلتنا، وإنا إن اتبعناك اتبعك اليهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة، فنحتكم إليك فتقضي لنا فنتبعك ونؤمن بك.» فنزل فيهم قوله تعالى:
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون .
21
ضاق اليهود ذرعا بمحمد ، ففكروا في أن يمكروا به، وأن يقنعوه بالجلاء عن المدينة كما أجلاه أذى قريش إياه وأصحابه عن مكة؛ فذكروا له أن من سبقه من الرسل ذهبوا جميعا إلى بيت المقدس وكان به مقامهم، وأنه إن يكن رسولا حقا فجدير به أن يصنع صنيعهم، وأن يعتبر المدينة وسطا في هجرته بين مكة ومدينة المسجد الأقصى. لكن محمدا لم يحتج إلى طويل تفكير فيما عرضوا عليه ليعلم أنهم يمكرون به. وأوحى إليه الله يومئذ، على رأس سبعة عشر شهرا من مقامه بالمدينة، أن يجعل قبلته إلى المسجد الحرام بيت إبراهيم وإسماعيل، فنزلت الآية:
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره .
22
وأنكر اليهود عليه ما فعل، وحاولوا فتنته مرة أخرى بقولهم إنهم يتبعونه إذا هو رجع إلى قبلته؛ فنزل قوله تعالى:
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله .
23
في هذا الوقت الذي اشتد فيه الجدال بين محمد واليهود، وفد على المدينة وفد من نصارى نجران عدتهم ستون راكبا؛ من بينهم من شرف فيهم ودرس كتبهم وحسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموا وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات. ولعل هذا الوفد إنما جاء إلى مدينة النبي حين علم بما بينه وبين اليهود من خلاف، طمعا في أن يزيد هذا الخلاف شدة حتى يبلغ به العداوة، فيريح النصرانية المتاخمة في الشام وفي اليمن من دسائس اليهود وعدوان العرب. واجتمعت الأديان الثلاثة الكتابية بمجيء هذا الوفد وبجداله النبي وبقيام ملحمة كلامية عنيفة بين اليهودية والمسيحية والإسلام. فأما اليهود فكانوا ينكرون رسالة عيسى ومحمد إنكارا فيه من العنت ما رأيت، ويزعمون أن عزيرا ابن الله، وأما النصارى فكانوا يقولون بالتثليث وألوهية عيسى. وأما محمد فكان يدعو إلى توحيد الله، وإلى الوحدة الروحية تنتظم العالم من أزله إلى أبده. كان اليهود والنصارى يسألونه عمن يؤمن بهم من الرسل فيقول:
آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .
24
وكان ينكر عليهم أشد الإنكار كل ما يلقى أية شبهة على وحدة الله، ويذكر لهم أنهم حرفوا الكلم مما في كتبهم عن مواضعه، وأنهم يذهبون إلى غير ما ذهب إليه النبيون والرسل الذين يقرون لهم بالنبوة، وأن ما جاء به عيسى وموسى ومن سبقهم لا يختلف في شيء عما جاء هو به؛ لأن ما جاءوا به إنما هو الحقيقة الأزلية الخالدة التي تتكشف في جلال وضوحها وعظمة بساطتها لكل من نزه نفسه عن الخضوع لغير الله في عظمة وحدته، ونظر في الكون على أنه وحدة متصلة نظرة سامية فوق أهواء الساعة ومطامع العاجلة وشهوات المادة، مجردة من الخضوع الأعمى لأوهام العامة ولما وجد عليه آباءه وأجداده.
أي مؤتمر أعظم من هذا المؤتمر الذي شهدت يثرب، تلتقي فيه الأديان الثلاثة التي تتجاذب حتى اليوم مصاير العالم، وتلتقي فيه لأسمى فكرة وأجل غاية؟! لم يكن مؤتمرا اقتصاديا، ولا كان مرماه أي غرض من هذه الأغراض المادية التي ينطح عالمنا اليوم عبثا صخرتها؛ إنما كان مرماه غاية روحية تقف من ورائها في أمر النصرانية واليهودية مطامع السياسة ومآرب أرباب المال وذوي الملك والسلطان، ويقف فيه محمد لغاية روحية إنسانية بحتة يملي عليه الله في سبيلها الصيغة التي يلقي بها إلى اليهود والنصارى وإلى الناس كافة، يقول لهم فيها:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
25
ماذا يستطيع اليهود أو النصارى أو يستطيع غيرهم أن يقولوا في هذه الدعوة: ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله؟! فأما الروح المخلصة الصادقة، فأما النفس الإنسانية التي كرمت بالعقل والعاطفة فلا تستطيع إلا أن تؤمن بهذا دون غيرها. لكن في الحياة الإنسانية إلى الجانب النفساني جانبها المادي. فيها هذا الضعف الذي يجعلنا نقبل لغيرنا علينا سلطانا بثمن يشتري به أنفسنا وأرواحنا وقلوبنا. فيها هذا الغرور القتال للكرامة وللعاطفة ولنور النفس العاقلة. هذا الجانب المادي المصور في المال وفي الجاه وفي كاذب الألقاب والرتب، هو الذي جعل أبا حارثة أكثر نصارى نجران علما ومعرفة يدلي إلى رفيق له باقتناعه بما يقول محمد، فلما سأله رفيقه: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ كان جوابه: يمنعني ما صنع بنا هؤلاء القوم؛ شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى.
دعا محمد اليهود والنصارى إلى هذه الدعوة أو يلاعن النصارى؛ فأما اليهود فكان بينه وبينهم عهد الموادعة. إذ ذاك تشاور النصارى ثم أعلنوا إليه أنهم رأوا ألا يلاعنوه وأن يتركوه على دينه ويرجعوا على دينهم. ولكنهم رأوا حرص محمد على العدل حرصا احتذى أصحابه فيه مثاله، فطلبوا إليه أن يبعث معهم رجلا يحكم بينهم في أشياء اختلفوا عليها من أقوالهم. وبعث محمد معهم أبا عبيدة بن الجراح ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه.
وجعل محمد يمكن للحضارة التي وضع حجر الأساس فيها بتعاليمه ومثله؛ وجعل يفكر هو وأصحابه من المهاجرين فيما لم يفتهم التفكير لحظة فيه منذ هجرتهم من مكة: فيما يجب أن يكون موقفهم من قريش وأمرهم معهم. ولقد كان يدفعهم إلى هذا التفكير دوافع عدة؛ ففي مكة كانت الكعبة بيت إبراهيم ومكان حجهم وحج العرب جميعا. أفتراهم ينقطعون عن هذا الواجب المقدس الذي كانوا يقومون به إلى يوم أخرجوا من مكة؟! وفيها ما يزال لهم أهل تهوي إليهم نفوسهم وتشفق من بقائهم على الشرك أفئدتهم وقلوبهم. وفيها بقيت أموالهم ومتاعهم وتجارتهم مما منعتهم قريش منه حين هجرتهم. ثم إنهم إذ حضروا المدينة كانت موبوءة بالحمى فأصابهم منها عنت شديد، وبلغت منهم حتى جهدوا مرضا وكانوا يصلون قعودا؛ فزاد ذلك في تحنانهم إلى مكة. وهم قد أخرجوا من مكة، كارهين فكأنهم خرجوا مغلوبين على أمرهم. وليس في طبع هؤلاء القرشيين أن يصبروا على الضيم أو أن يذعنوا للغلب دون تفكير في الثأر لأنفسهم منه.
وإلى جانب هذه الدوافع جميعا كان يحركهم الدافع الطبيعي دافع الحنين إلى الوطن، إلى هذا المكان الذي منه نبتنا وفيه نشأنا ولأرضه وسهله وجبله ومائه كان أول حديثنا وأول صداقتنا وأول ودنا. هذه البقعة من الأرض نمتنا صغارا فإليها مثوانا كبارا، بها تتعلق قلوبنا وعواطفنا، وعنها نذود بقوتنا وبمالنا، ونضحي بمجهودنا وبحياتنا، وفيها نود أن ندفن بعد موتنا لنعود إلى ترابها الذي خرجنا منه. هذا الدافع الطبيعي أذكي في أنفس المهاجرين سائر الدوافع، وجعلهم لا ينفكون يفكرون في قريش وفيما يجب أن يكون موقفهم منها. لن يكون هذا الموقف موقف استسلام أو استخذاء وقد صبروا فيها على الأذى ثلاثة عشر عاما سويا. والدين الذي احتملوا فيه هذا الأذى والذي هاجروا في سبيله لا يقر الضعف ولا اليأس ولا الاستكانة. وإذا كان يمقت الاعتداء وينكره، ويقرر الإخاء ويدعو إليه، فإنه يفرض الدفاع عن النفس وعن الكرامة وعن حرية العقيدة وعن الوطن. ولهذا الدفاع أتم محمد مع أهل يثرب بيعة العقبة الكبرى. فكيف يؤدي المهاجرون هذا الفرض عليهم لله ولبيته الحرام ولوطنهم مكة المحبب إلى قلوبهم؟ هذا ما ستتجه إليه سياسة محمد والمسلمين معه، حتى يتم له فتح مكة، وحتى يعلو دين الله وتعلو كلمة الحق فيها.
الفصل الثاني عشر
السرايا1 والمناوشات الأولى
(تفكير محمد في أمر قريش - إيفاد السرايا لتخويف قوافلهم - غزوة عبد الله بن جحش في الشهر الحرام - الإسلام والقتال) ***
استقر للمسلمين المقام بالمدينة بعد أشهر من الهجرة، فبدأ تحنان المهاجرين إلى مكة يزداد، وبدءوا يفكرون فيمن تركوا وما تركوا بها، وما أنزلت قريش بهم من الأذى ، فماذا عساهم يصنعون؟ تذهب الكثرة من المؤرخين إلى أنهم فكروا وفكر محمد على رأسهم في الانتقام من قريش لأنفسهم، وفي مبادأتهم بالعداوة والحرب، بل إن بعضهم ليذهب إلى أنهم فكروا في هذه الحرب منذ مقدمهم إلى المدينة، وإنما منعهم من إشعال نارها أنهم كانوا في شغل بإعداد مساكنهم وتنظيم وسائل معاشهم، ويستدل هذا البعض بأن محمدا إنما عقد بيعة العقبة الكبرى لحرب الأحمر والأسود من الناس، وطبيعي أن تكون قريش أول من يتجه إليها نظره ونظر أصحابه، مما فطنت له قريش بكرة العقبة، فخرجت في فزع تسأل الأوس والخزرج عنه.
ويؤيد هذا البعض قوله بما وقع بعد ثمانية أشهر من مقام الرسول والمهاجرين بالمدينة؛ إذ بعث محمد عمه حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكبا من المهاجرين دون الأنصار إلى شاطئ البحر من ناحية العيص حيث لقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب من أهل مكة؛ وبأن حمزة كان على أهبة مقاتلة قريش إلا أن حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعا الفريقين جميعا، فانصرف بعض القوم عن بعض دون قتال؛ وإذ بعث محمد عبيدة بن الحارث في ستين راكبا من المهاجرين دون الأنصار، فساروا إلى ماء بالحجاز بوادي رابغ، فلقيهم به جمع من قريش يزيد على مائتين على رأسهم أبو سفيان، فانسحبوا من غير قتال، إلا ما روي من أن سعد بن أبي وقاص رمى يومئذ بسهم «فكان أول سهم رمي به في الإسلام»؛ وإذ بعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية من المهاجرين على رواية، وفي عشرين منهم على رواية أخرى؛ فخرجوا إلى أرض الحجاز ثم عادوا بعد أن لم يصيبوا ما أرسلوا فيه.
ويزيد هذا البعض دليله تأييدا بأن النبي خرج بنفسه على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة، واستعمل عليها سعد بن عبادة، وسار إلى الأبواء حتى بلغ ودان يريد قريشا وبني ضمرة؛ فلم يلق قريشا وحالفته بنو ضمرة، وأنه بعد شهر من ذلك خرج على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى بواط يريد قافلة يقودها أمية بن خلف عدتها ألفان وخمسمائة بعير يحميها مائة محارب فلم يدركها، أن اتخذت طريقا غير طريق القوافل المعبد. وأنه بعد شهرين أو ثلاثة من عودته من بواط من ناحية رضوى استعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وخرج في أكثر من مائتين من المسلمين حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة (أكتوبر سنة 623م) ينتظر مرور قافلة من قريش على رأسها أبو سفيان ففاتته. وكسب من رحلته هذه أن وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، وأنه ما كاد يرجع إلى المدينة ليقيم بها عشر ليال حتى أغار كرز بن جابر الفهري، من المتصلين بمكة وبقريش، على إبل المدينة وأغنامها، فخرج النبي في طلبه، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وتابع مسيره حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يدركه. وهذه هي التي يطلق عليها كتاب السيرة اسم غزة بدر الأولى.
أفلا يقوم هذا كله دليلا على أن المهاجرين فكروا وفكر محمد على رأسهم في الانتقام من قريش لأنفسهم وفي مبادأتهم بالعداوة والحرب؟ وهو على أقل تقدير - في رأي هؤلاء المؤرخين - يشهد بأنهم قصدوا من إرسال سراياهم وغزواتهم المبدئية هذه إلى غايتين؛ الأولى: الوقوع على قوافل قريش في ذهابها إلى الشام أو عودتها منها حين رحلة الصيف، واحتمال ما يمكن احتماله من الأموال التي تذهب هذه القوافل وتعود بالتجارة فيها. والثانية: أخذ الطرق على قوافل قريش في رحلتها إلى الشام بعقد الموادعات والأحلاف مع القبائل المتصلة ما بين المدينة وشاطئ البحر الأحمر، بما يسهل على المهاجرين مهاجمة هذه القوافل دون أن تلقى في جوار هاته القبائل وما يحميها من محمد وأصحابه، حماية تمنع أخذ المسلمين رجالها ومالها أخذ عزيز مقتدر. وهذه السرايا التي عقد النبي - عليه السلام - ألويتها لحمزة ولعبيدة بن الحارث ولسعد بن أبي وقاص ، وهذه المحالفات التي عقدها بنو ضمرة وبنو مدلج وغيرهم، تؤيد الغاية الثانية وتشهد بأن أخذ طريق الشام على أهل مكة كان بعض ما قصد إليه المسلمون.
أما أنهم بهذه السرايا، التي بدأت بعد ستة أشهر من مقامهم بالمدينة والتي اشترك فيها المهاجرون وحدهم، كانوا يقصدون حرب قريش وغزو قوافلها، فذلك ما يقف الإنسان منه موقف التردد والتفكير. فلم تكن سرية حمزة لتزيد على ثلاثين رجلا من المهاجرين، ولم تزد سرية عبيدة على ستين، وكانت سرية سعد لا تتجاوز ثمانية نفر على قول، وعشرين على قول آخر. وكان الموكلون بحماية قوافل قريش عادة أضعاف هذه الأعداد، وقد زادتهم قريش عددا وعدة منذ أقام محمد بالمدينة وبدأ يحالف القبائل التي بها والقريبة منها. ومهما يكن من بأس حمزة وعبيدة وسعد ممن كانوا يرأسون سرايا المهاجرين، فإن عدة من معهم لم تكن لتشجعهم على الحرب، مما جعلهم يكتفون يكتفون منها جميعا بتهديد قريش دون قتالها إلا ما قيل عن السهم الذي رمى به سعد.
ثم إن قوافل قريش كان يحميها من أهل مكة من تصلهم بالكثيرين من المهاجرين أواصر القربى وصلات الدم؛ فلم يكن من اليسير عليهم أن يقتل بعضهم بعضا وأن يتعرض هؤلاء وأولئك لطلب الثأر، وأن يعرضوا مكة والمدينة جميعا لحرب أهلية استطاع المسلمون والوثنيون اتقاءها بمكة ثلاث عشرة سنة متتابعة من يوم بعث محمد إلى يوم هجرته. والمسلمون كانوا يعلمون أن بيعة العقبة كانت بيعة دفاعية تعهد فيها الأوس والخزرج بحماية محمد، ولم يعاهدوه ولا عاهدوا أحدا ممن معه على العدوان. فليس من اليسير مع هذا كله التسليم مع المؤرخين، الذين لم يبدءوا بكتابة تاريخ النبي إلا بعد قرابة قرنين من وفاته، بأن هذه السرايا والرحلات الأولى كان يقصد بها القتال بالفعل. فلا بد لها إذن من تأويل أقرب إلى العقل وأكثر اتفاقا مع سياسة المسلمين في هذه الفترة الأولى من مقامهم بالمدينة، وأدق تمشيا مع سياسة الرسول التي كانت قائمة يومئذ على قواعد التفاهم والاتفاق مع مختلف القبائل، لكفالة حرية الدعوة الدينية من ناحية، وكفالة حسن المعاملة والجوار من ناحية أخرى.
والراجح عندي أن هذه السرايا الأولى إنما قصد بها إلى إفهام قريش أن مصلحتهم تقتضيهم التفاهم مع المسلمين من أهلهم الذين اضطروا إلى الجلاء عن مكة بسبب ما عانوا من الاضطهاد تفاهما يقي الطرفين شرور العداوة والبغضاء ويكفل للمسلمين حرية الدعوة إلى الدين، ولأهل مكة سلامة تجارتهم في طريقها إلى الشام. وقد كانت هذه التجارة التي تبعث بها مكة والطائف جميعا، والتي كانت تجيء إلى مكة من بلاد الجنوب، تجارة واسعة النطاق، حتى لقد كانت بعض القوافل تسير في ألفي بعير، حمولتها تزيد على خمسين ألف دينار. كانت صادرات مكة السنوية، على ما قدرها المستشرق «سبرنجر» توازي مائتين وخمسين ألفا من الدنانير؛ أي نحو مائة وستين ألف جنيه ذهبا.
فإذا أيقنت قريش تعرض هذه التجارة للخطر آتيا من أبنائها من الذين هاجروا إلى المدينة دعاها ذلك إلى التفكير في التفاهم معهم تفاهما طمع المسلمون في أن يكفل لهم ما كانوا يطمحون إليه من حرية الدعوة إلى دينهم، ومن حرية الدخول إلى مكة والطواف ببيتها العتيق. ولم يكن مثل هذا التفاهم ممكنا ما لم تقدر قريش قوة المهاجرين من أبنائها على الإيقاع بها وإيصاد طريق التجارة في وجهها. وهذا هو ما يفسر عندي رجوع حمزة ومن معه من المهاجرين الذين لقوا أبا جهل بن هشام عند ساحل الجزيرة لأول ما حجز مجدي بن عمرو الجهني بينهما، كما يفسر كثرة اتجاه المسلمين بسراياهم إلى طريق تجارة مكة في عدد لا يسهل معه تصورهم مقدمين على الحرب، وهذا كذلك هو الذي يفسر حرص النبي، بعد ما بدا من صلف قريش وعدم اعتدادها بقوة المهاجرين، على موادعة القبائل المقيمة على طريق هذه التجارة، والتحالف معها تحالفا نمى خبره إلى قريش لعلها ترعوي وتعود إلى التفكير في التفاهم والاتفاق.
يدعم هذا الرأي بأقوى سند أن النبي - عليه السلام - لما خرج إلى بواط وإلى العشيرة كان من بين الذين صحبوه عدد غير قليل من الأنصار أهل المدينة. والأنصار إنما بايعوه ليدفعوا عنه لا ليهاجموا معه. وسنرى ذلك صريحا حين غزوة بدر الكبرى؛ إذ يتردد محمد دون القتال حتى يوافق أهل المدينة عليه. وإذا كان الأنصار لا يرون مخالفة لبيعتهم في أن يعاهد محمد غيرهم من الناس، فليس معنى هذا أن يخرجوا معه لحرب أهل مكة وليس بين الفريقين من أسباب الحرب ما تجيزه أخلاق العرب، أو يجيزه نظام صلاتهم بعضهم ببعض. ومهما يكن في هذه الموادعات التي يعقدها محمد من تقوية المدينة ومن توهين ما تطمع تجارة قريش فيه من أسباب الحماية؛ فشتان ما بين ذلك وبين إعلان الحرب أو السعي إليها. فالقول إذن بأن حمزة أو عبيدة بن الحارث أو سعد بن أبي وقاص إنما خرجوا لحرب قريش، وتسمية سرياتهم غزوات مرجوح عندنا فلا نكاد نسيغه. والقول كذلك بأن محمدا إنما خرج إلى الأبواء وبواط والعشيرة غازيا، فيه تجوز كبير وترد عليه الاعتراضات التي قدمنا. ولا يفسر أخذ مؤرخي محمد به إلا أنهم لم يترجموا لمحمد إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة، وأنهم كانوا متأثرين بالمغازي التي حدثت بعد ذلك منذ بدر الكبرى، فاعتبروا ما سبقها من مناوشات يقصد بها إلى غير الحرب مغازي تضاف إلى حروب المسلمين أيام النبي.
والظاهر أن كثيرين من المستشرقين قد فطنوا لهذا الاعتراض وإن لم يشيروا في كتبهم إليه. وإنما يدعونا إلى الظن بفطنتهم له أنهم - مع مجاراتهم مؤرخي المسلمين في قصد المهاجرين ومحمد على رأسهم إلى حرب أهل مكة منذ الساعة الأولى من مقامهم بالمدينة - قد أشاروا إلى أن هذه السرايا الأولى إنما كان يقصد بها إلى نهب تجارة القوافل، فإن النهب كان بعض طباع أهل البادية، وإن أهل المدينة إنما أغرتهم الغنيمة والسلب باتباع محمد على خلاف عهدهم في العقبة، وهذا كلام مردود؛ لأن أهل المدينة كأهل مكة لم يكونوا أهل بادية يعيشون على السلب والنهب، وأنهم فوق ذلك كان في طبعهم ما في طبع من يعيشون على الزراعة من حب الاستقرار مما يجعلهم لا يتحركون إلى قتال إلا لدافع قوي. أما المهاجرون فكان من حقهم أن يستخلصوا من أيدي قريش ما أخذت من أموالهم، لكنهم لم يستعجلوا ذلك قبل بدر، فلم يكن هو الدافع لإرسال السرايا والغزوات الأولى.
ثم إن القتال لم يشرع في الإسلام ولم يقم به محمد وأصحابه لهذه الغاية البدوية التي يتوهم المستشرقون، وإنما شرع وقام به محمد وأصحابه حتى لا يفتنهم عن دينهم أحد، وحتى يكون لهم من حرية الدعوة ما يشاءون. وسنرى من بعد تفصيل هذا والدليل عليه. وعندئذ يزداد أمامنا وضوحا أن محمدا إنما كان يرمي من المعاهدات التي عقد إلى تعزيز المدينة، حتى لا يتطرق إلى قريش فيها مطمع، فلا يحاولوا إعنات المسلمين فيها كما حاولوا من قبل إعادتهم من بلاد الحبشة؛ وأنه كان لا يأبى في الوقت نفسه أن يعاهد قريشا على أن تترك حرية الدعوة لدين الله طليقة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
ولعل محمدا رمى من وراء هذه السرايا والرحلات المسلحة إلى غرض آخر. لعله رمى إلى إرهاب اليهود المقيمين في المدينة وعلى مقربة منها. فقد رأيت أن هؤلاء اليهود بعد أن طمعوا أول وصول محمد إلى المدينة في ضمه إليهم، وبعد أن وادعوه وعاهدوه على حرية الدعوة للدين، وعلى إقامة شعائره وفرائضه، لم يلبثوا - حين رأوا أمر محمد يستقر ولواء الإسلام يسمو ويرتفع - أن بدءوا يقلبون للنبي ظهر المجن ويعملون للوقيعة به. ولئن قعدوا عن مصارحته بالعداوة خشية أن تتعرض مصالحهم التجارية للارتباك إذا نشبت بين أهل المدينة حرب أهلية، أو محافظة على عهد موادعتهم، لقد لجئوا إلى كل وسيلة للدس بين المسلمين، ولإثارة البغضاء بين المهاجرين والأنصار، ولإيقاظ الأحقاد الماضية بين الأوس والخزرج بذكر يوم بعاث ورواية ما قيل من الشعر فيه.
وقد فطن المسلمون لدسهم ولمبالغتهم فيه، وبلغوا من ذلك أن حشروهم في زمرة المنافقين، بل اعتبروهم شرا منهم، فأخرجوهم من المسجد إخراجا عنيفا، وأبوا عليهم أن يجلسوا إليهم أو أن يتحدثوا معهم؛ وانتهى النبي - عليه السلام - إلى الإعراض عنهم بعد إذ حاول إقناعهم بالحجة والدليل، وطبيعي لو ترك حبل يهود المدينة هؤلاء على غاربهم، أن يستفحل أمرهم ويثيروا الفتنة التي يسعون لإثارتها. وليس يكفي في عرف الدقة السياسية التحذير منهم والتنبيه إلى كيدهم، بل لا بد من إشعارهم أن للمسلمين من القوة ما يمكنهم من إخماد أية فتنة تقوم، ومن القضاء على أسبابها واجتثاث أصولها. وخير وسيلة لهذا الإشعار إرسال السرايا والقيام بالمناوشات الحربية في مختلف الأنحاء على ألا تتعرض قوات المسلمين لهزيمة تطمع اليهود كما تطمع قريشا فيهم. وهذه المداورة هي ما وقع؛ ووقع من رجال كحمزة سريعين إلى الغضب لا تكفي لصدهم عن القتال واسطة موادع يدعو إلى السلم ما لم تكن المناوشة الحربية ثم الإمساك عن القتال في عزة وكرامة، سياسة مرسومة، وخطة مبيتة يقصد بها إلى درك غايات معينة، هي ما ذكرنا من تخويف اليهود من ناحية، والسعي من ناحية أخرى للاتفاق مع قريش على ترك الدعوة للدين وإقامة شعائره حرة مطلقة من غير حاجة إلى حرب أو قتال.
وليس معنى هذا أن الإسلام كان يومئذ ينكر القتال دفاعا عن النفس ودفاعا عن العقيدة، دفعا لمن يريد فتنة صاحبها عنها. كلا! بل إن الإسلام ليفرض هذا الدفاع. وإنما معناه أن الإسلام كان يومئذ - كما هو اليوم وكما كان دائما - ينكر حرب الاعتداء:
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .
2
وإذا كان لدى المهاجرين يومئذ ما يبيح لهم اقتضاء ما حجزت قريش من أموالهم عند هجرتهم فإن دفع فتنة المؤمنين عن دينهم كان أكبر عند الله ورسوله، وكان الغاية الأولى التي شرع من أجلها القتال.
والحجة على ذلك ما نزل من الآيات في سرية عبد الله بن جحش الأسدي؛ فقد بعثه رسول الله في رجب من تلك السنة الثانية للهجرة ومعه جماعة من المهاجرين، ودفع إليه كتابا، وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره، فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدا. وفتح عبد الله الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة (بين مكة والطائف) فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم.» وعلم أصحابه بالأمر وبأنه لا يستكره أحدا منهم، فمضوا معه جميعا خلا سعد بن أبي وقاص الزهري وعتبة بن غزوان اللذين ذهبا يطلبان بعيرا لهما ضل فأسرتهما قريش. وسار عبد الله ومن معه حتى نزلوا نخلة. هناك مرت بهم عير لقريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي؛ وكان يومئذ آخر شهر رجب. وذكر عبد الله بن جحش ومن معه من المهاجرين ما صنعت قريش بهم وما حجزت من أموالهم، وتشاوروا وقال بعضهم لبعض: «والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به. ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام.» وترددوا وهابوا الإقدام، ثم شجعوا أنفسهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم. ورمى أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله وأسر المسلمون رجلين من قريش.
وأقبل عبد الله بن جحش بالعير والأسيرين حتى قدموا المدينة على الرسول وحجز القوم لمحمد من مغنمهم الخمس. فلما رآهم قال لهم: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام؛ ووقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. وأسقط في يد عبد الله بن جحش وأصحابه، وعنفهم إخوانهم من المسلمين بما صنعوا. وانتهزت قريش الفرصة فأثارت ثائرة الدعاية ونادت في كل مكان: إن محمدا وأصحابه استحلوا الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا الرجال. وأجاب المسلمون الذين كانوا بمكة أن إخوانهم في الدين من المهاجرين إلى المدينة إنما أصابوا في شعبان. ودخلت يهود تريد إشعال نار الفتنة، إذ ذاك نزل قوله تعالى:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .
3
وسري عن المسلمين بنزول القرآن بهذا الأمر، وقبض النبي العير والأسيرين فافتدتهما منه قريش؛ فقال: لا نفديكموهما
4
حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. وقدم سعد وعتبة وأفداهما النبي من الأسيرين. فأما أحدهما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام بالمدينة. وأما الآخر فرجع إلى مكة وظل بها حتى مات على دينه ودين آبائه.
جدير بنا أن نقف عند سرية عبد الله بن جحش هذه والآية الكريمة التي نزلت فيها؛ فهي في رأينا مفترق طرق في سياسة الإسلام. هي حادث جديد في نوعه يدل على روح قوي في سموه، إنساني في قوته، ينتظم نواحي الحياة المادية والمعنوية والروحية كأشد ما يكون النظام قوة ورفعة وتوجها إلى الكمال. فالقرآن يجيب المشركين عن سؤالهم عن القتال في الشهر الحرام أهو من الكبائر، ويقرهم على أنه كذلك أمر كبير. لكن هناك ما هو أكبر من هذا الأمر. فالصد عن سبيل الله والكفر به أكبر من القتال في الشهر الحرام، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر من القتال في الشهر الحرام والقتل فيه. وفتنة الرجل عن دينه بالوعد والوعيد والإغراء والتعذيب أكبر من القتل في الشهر الحرام وفي غير الشهر الحرام. وقريش والمشركون الذين ينعون على المسلمين ما قتلوا في الشهر الحرام لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا. فإذا كانت قريش وكان المشركون يرتكبون هذه الكبائر جميعا، فيصدون عن سبيل الله ويكفرون به ويخرجون أهل المسجد الحرام منه ويفتنونهم عن دينهم، فلا جناح على من تقع عليه أوزارهم وكبائرهم هذه إن هو قاتلهم في الشهر الحرام، وإنما الكبيرة أن يقاتل في الشهر الحرام من لا يجترح من هذه الأوزار وزرا.
الفتنة أكبر من القتل. وحق - بل واجب - على من يرى غيره يحاول فتنته عن دينه أو يصد عن سبيل الله أن يقاتل في سبيل الله حتى لا يفتن وحتى ينصر دين الله. هنا يرفع المستشرقون والمبشرون عقائرهم صائحين: أرأيتم! هذا محمد يدعو دينه إلى الحرب وإلى الجهاد في سبيل الله؛ أي إكراه الناس بالسيف على الدخول في الإسلام. أليس هذا هو التعصب بعينه؟! وهذا في حين تنكر المسيحية القتال وتمقت الحرب وتدعو إلى السلام، وتنادي بالتسامح وتربط بين الناس برابطة الإخاء في الله وفي السيد المسيح. ولست أؤيد لكي أناقش هؤلاء، أن أذكر كلمة الإنجيل: «ما جئت لألقي على الأرض سلاما بل سيفا ... إلخ.» وما تنطوي عليه هذه الكلمة من المعاني؛ فالمسلمون يقرون دين عيسى كما نزل به القرآن، وإنما أريد بادئ الرأي أن أرد قولهم: إن محمدا دعا دينه إلى القتال لإكراه الناس بالسيف على الدخول في الإسلام. فهذه فرية ينكرها القرآن في قوله تعالى:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ،
5
وفي قوله تعالى:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ،
6
وفي كثير غير هاتين الآيتين الكريمتين.
والجهاد في سبيل الله معناه الصريح، على نحو ما ورد في الآيات التي ذكرناها والتي نزلت في سرية عبد الله بن جحش، قتال الذين يفتنون المسلم عن دينه ويصدون عن سبيل الله، وهذا هو القتال في سبيل حرية الدعوة إلى الله وإلى دينه. وبعبارة تتمشى مع أسلوب عصرنا الحاضر: الدفاع عن الرأي بالوسائل التي يقاتل بها أصحاب الرأي. فإذا أراد أحد أن يفتن رجلا عن رأيه بالدعاية وبالمنطق دون أن يحمله على ترك هذا الرأي بالقوة وبغير القوة من وسائل الرشوة والتعذيب، لم يكن لأحد أن يدفع هذا الرجل إلا بإدحاض حجته وتفنيد منطقه، لكنه إذا حاول بالقوة المسلحة أن يصد صاحب رأي عن رأيه، وجب دفع القوة المسلحة بالقوة المسلحة متى استطاع الإنسان إليها سبيلا. ذلك بأن كرامة الإنسان تتلخص في كلمة واحدة: عقيدته. فالعقيدة أثمن - عند من يقدر معنى الإنسانية - من المال ومن الجاه ومن السلطان ومن الحياة نفسها؛ من هذه الحياة المادية التي يشترك الإنسان والحيوان فيها، يأكلون ويشربون، وتنمو أجسامهم وتقوى عضلاتهم. والعقيدة هي هذه الصلة المعنوية بين الإنسان والإنسان، والصلة الروحية بين المرء وربه. وهي هذا الخط الذي يمتاز به الإنسان على سائر الحيوان مما في الحياة، والذي يجعله يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثر البائس والفقير والمسكين على أهله ولو كان به وبهم خصاصة، ويتصل بالكون كله ليعمل دائبا كي يبلغ الكون ما قدر الله له من الكمال.
إذا ملكت هذه العقيدة إنسانا فحاول غيره فتنته عنها ولم يستطع دفاعا عن نفسه، فعل ما فعل المسلمون قبل هجرتهم إلى المدينة، فاحتمل المساءة والأذى وصبر على الهوان والضيم، ولم يصده جوع ولا حرمان أيا كان نوعه عن التمسك بعقيدته. وهذا الذي فعل المسلمون الأولون هو الذي فعل المسيحيون الأولون. لكن الصابرين لعقيدتهم ليسوا هم سواد الناس ولا جماعتهم، وإنما هم الصفوة والمختارون ومن حباهم الله من قوة الإيمان ما يصغر معه كل أذى وكل ضيم؛ وما يدك الرواسي، وما تقول معه للجبل انتقل من مكانك ينتقل، على حد تعبير الإنجيل. لكنك إذا استطعت أن تدفع الفتنة بسلاح من يحاول الفتنة، وأن تقف في وجه من يصد عن سبيل الله بوسائله، وجب عليك أن تفعل، وإلا كنت مزعزع العقيدة ضعيف الإيمان. وهذا ما فعل محمد وأصحابه بعد أن استقر لهم الأمر بالمدينة، وهذا ما فعل المسيحيون بعد أن استقر لهم السلطان في رومية وفي بزنطية وبعد أن لان قلب بعض عواهل الروم لدين المسيح.
ويقول المبشرون: لكن روح المسيحية تنكر القتال على إطلاقه. ولست أقف لأبحث عن صحة هذا القول. لكن تاريخ المسيحية أمامنا شاهد عدل، وتاريخ الإسلام أمامنا شاهد عدل. فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا خضبت أقطار الأرض جميعا بالدماء باسم السيد المسيح؛ خضبها الروم وخضبتها أمم أوروبا كلها. والحروب الصليبية إنما أذكى لهيبها المسيحيون لا المسلمون. ولقد ظلت الجيوش باسم الصليب تنحدر من أوروبا خلال السنين قاصدة أقطار الشرق الإسلامية، تقاتل وتحارب وتريق الدماء، وفي كل مرة كان البابوات خلفاء المسيح يباركون هذه الجيوش الزاحفة للاستيلاء على بيت المقدس وعلى الأماكن المقدسة. أفكان هؤلاء البابوات جميعا هراطقة وكانت مسيحيتهم زائفة؟ أم كانوا أدعياء جهالا لا يعرفون أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه؟ أم يقولون: تلك كانت العصور الوسطى عصور الظلام فلا يحتج على المسيحية بها؟ إن يكن ذلك بعض ما قد يقولون، فإن هذا القرن المتم للعشرين الذي نعيش فيه والذي يسمونه عصر الحضارة الإنسانية العليا، قد رأى ما رأت تلك العصور الوسطى المظلمة. فقد وقف اللورد اللنبي ممثل الحلفاء: إنكلترا وفرنسا وإيطاليا ورومانيا وأمريكا، يقول في بيت المقدس في سنة 1918 حين استيلائه عليه في أخريات الحرب العالمية الأولى: «اليوم انتهت الحروب الصليبية.»
إذا كان من بين المسحيين قديسون أنكروا القتال في مختلف العصور وسموا بذواتهم إلى الذروة من معنى الإخاء الإنساني، بل من معنى الإخاء بين عناصر الكون كله، فمن بين المسلمين كذلك قديسون سمت نفوسهم هذا السمو واتصلوا بكل الوجود اتصال إخاء ومحبة وإشراق ملأ منهم النفوس بوحدة الوجود. لكن هؤلاء القديسين، من النصارى والمسلمين، وإن صوروا المثل الأعلى، لا يمثلون حياة الإنسانية أثناء تطورها الدائم وفي دأب جهادها إلى الكمال، إلى هذا الكمال الذي نحاول تصوره ثم يقعد بنا العقل ويقعد بنا الخيال دون شيء من الدقة في إدراكه، وإن نحن جازفنا بتصويره تمهيدا لما نحاول من جهود في سبيله. وهذه سبع وخمسون وثلاثمائة وألف سنة قد انقضت منذ هجرة النبي العربي من مكة إلى يثرب والناس في مختلف العصور يزدادون في القتال افتنانا وفي صنع آلاته الجهنمية المدمرة دقة وإتقانا. وما تزال كلمات نبذ الحرب وإلغاء التسلح والتحكيم لا تزيد على أنها كلمات تقال في أعقاب كل حرب تنهك الأمم، أو على أنها دعايات تلقى في جو الحياة من أناس لم يستطيعوا حتى اليوم - ممن يدري؟! فلعلهم لا يستطيعون يوما - أن يحققوا منها شيئا، وأن يحلوا السلام الصحيح؛ سلام الإخاء والعدل، محل السلام المسلح نذير الحرب وطليعة ويلاتها.
والإسلام ليس دين وهم وخيال، ولا هو دين يقف عند دعوة الفرد وحده إلى الكمال، إنما الإسلام دين الفطرة التي فطر الناس جميعا عليها أفرادا وجماعات، وهو دين الحق والحرية والنظام. وما دامت الحرب في فطرة الناس، فتهذيب فكرتها في النفوس وحصرها في أدق الحدود الإنسانية هو غاية ما تحتمل فطرة البشر، وما يحقق للإنسانية اتصال تطورها في سبيل الخير والكمال. وخير تهذيب لفكرة الحرب ألا تكون إلا للدفاع عن النفس وعن العقيدة وعن حرية الرأي والدعوة إليه، وأن ترعى فيها الحرمات الإنسانية تمام الرعاية. وهذا ما قرر الإسلام على ما رأينا وما سنرى من بعد. وهذا ما نزل به القرآن، وضعناه وسنضعه تحت نظر القارئ في الأحوال والمناسبات التي نزل فيها.
الفصل الثالث عشر
غزوة بدر الكبرى
(خروج أبي سفيان إلى الشام - محاولة المسلمين قطع الطريق عليه - نجاته في الذهاب - انتظارهم إياه في أوبته - علم قريش بتجهيز المسلمين - خروجهم إلى بدر - نجاة أبي سفيان بتجارته - تردد قريش والمسلمين في القتال - زوال التردد - موقف الفريقين في بدر - حماسة المسلمين وانتصارهم) ***
كان سرية عبد الله بن جحش مفترق طرق في سياسة الإسلام، فيها رمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول دم أراق المسلمون. وفيها نزلت الآية التي قدمنا؛ وعلى أثرها شرع قتال الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويصدون عن سبيل الله. وكانت هذه السرية مفترق طرق كذلك في سياسة المسلمين إزاء قريش، أن جعلت الفريقين يتناظران بأسا وقوة. فقد جعل المسلمون يفكرون من بعدها تفكيرا جديا في استخلاص أموالهم من قريش بغزوهم وقتالهم؛ ذلك بأن قريشا حاولت إثارة شبه الجزيرة كلها على محمد وأصحابه أن قتلوا في الشهر الحرام؛ حتى لقد أيقن محمد أن لم يبق في مصانعتهم أو في الاتفاق معهم رجاء.
وقد خرج أبو سفيان في أوائل الخريف من السنة الثانية للهجرة في تجارة كبيرة يقصد الشام، وهي التجارة التي أراد المسلمون اعتراضها حين خرج النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى العشيرة. لكنهم إذ بلغوها كانت قافلة أبي سفيان قد مرت بها ليومين من قبل وصولهم إليها؛ إذ ذاك اعتزم المسلمون انتظارها في عودتها. ولما تحين محمد انصرافها من الشام بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد ينتظران خبرها، فسارا حتى نزلا على كشد الجهني بالحوراء وأقاما عنده في خباء حتى مرت العير، فأسرعا إلى محمد ليفضيا إليه بأمرها وما رأيا منها.
على أن محمدا لم ينتظر رسوليه إلى الحوراء وما يأتيان به من خبر العير؛ فقد ترامى إليه أنها عير عظيمة، وأن أهل مكة جميعا اشتركوا فيها، لم يبق أحد منهم من الرجال والنساء استطاع أن يساهم فيها بحظ إلا فعل، حتى قوم ما فيها بخمسين ألفا من الدنانير. ولقد خشي إن هو انتظرها أن تفوته العير في عودتها إلى مكة كما فاتته في ذهابها إلى الشام. لذلك ندب المسلمين وقال لهم: هذه عير قريش؛ فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. وخف بعض الناس وثقل بعض. وأراد جماعة لم يسلموا أن ينضموا طمعا في الغنيمة، فأبى محمد عليهم الانضمام أو يؤمنوا بالله ورسوله.
أما أبو سفيان فكان قد اتصل به خروج محمد لاعتراض قافلته حين رحلتها إلى الشام، فخاف أن يعترضه المسلمون حين أوبته بعد أن ربحت تجارته، وجعل ينتظر أخبارهم. وكان الجهني الذي نزل عليه رسولا محمد بالحوراء بعض من سأل. ومع أن الجهني لم يصدقه الخبر فقد بلغه من أمر محمد والمهاجرين والأنصار معه مثل ما ترامى إلى محمد من خبره؛ فخاف عاقبة أمره أن لم يكن من قريش في حراسة العير إلا ثلاثون أو أربعون رجلا. عند ذلك استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه مسرعا إلى مكة ليستنفر قريشا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه. ووصل ضمضم من مكة إلى بطن الوادي فقطع أذني بعيره وجدع أنفه وحول رحله ووقف هو عليه وقد شق قميصه من قبل ومن دبر وجعل يصيح: يا معشر قريش! اللطيمة
1
اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها. الغوث الغوث! وما لبث أبو جهل حين سمعه أن صاح بالناس من عند الكعبة يستنفرهم. وكان أبو جهل رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر. ولم تكن قريش في حاجة إلى من يستنفرها، وقد كان لكل منهم في هذه العير نصيب.
على أن طائفة من أهل مكة كانت تشعر بما ظلمت قريش المسلمين من أهلها حتى أكرهتهم على الهجرة إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة، فكانت تتردد بين النفير للذود عن أموالها والقعود رجاء ألا يصيب العير مكروه. وهؤلاء كانوا يذكرون أن قريشا وكنانة بينهما ثأر في دماء تبادل الفريقان إراقتها. فإذا هي خفت إلى لقاء محمد لمنع عيرها منه خافت بني بكر (من كنانة) أن تهاجمها من خلفها. وكادت هذه الحجة ترجح وتؤيد رأي القائلين بالقعود، لولا أن جاء مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. إذ ذاك رجحت كفة أبي جهل وعامر بن الحضرمي والدعاة إلى الخروج لدفع محمد والذين معه، ولم يبق لكل قادر على القتال عذر في التخلف أو يرسل مكانه رجلا. ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب الذي بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان لط
2
له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها. وكان أمية بن خلف قد أجمع على القعود، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا، فأتاه بالمسيجد عقبة بن أبي معيط وأبو جهل، ومع عقبة مجمرة فيها بخور ومع أبي جهل مكحلة ومرود فوضع عقبة المجمرة بين يديه وقال: يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء. وقال أبو جهل: اكتحل أبا علي فإنما أنت امرأة. فقال أمية: ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي، وخرج معهم؛ فلم يبق بمكة متخلف قادر على القتال.
أما النبي - عليه السلام - فقد خرج في أصحابه من المدينة، لثمان خلون من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وجعل عمرو بن أم مكتوم فيها على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة. وكانت أمام المسلمين في مسيرتهم رايتان سوداوان، وكانت إبلهم سبعين بعيرا جعلوا يعتقبونها،
3
كل اثنين منهم وكل ثلاثة وكل أربعة يعتقبون بعيرا، وكان حظ محمد في هذا كحظ سائر أصحابه؛ فكان هو وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا. وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا، وكانت عدة من خرج مع محمد إلى هذه الغزوة خمسة وثلاثمائة رجل، منهم ثلاثة وثمانون من المهاجرين وواحد وستون من الأوس والباقون من الخزرج. وانطلق القوم مسرعين من خوف أن يفلت أبو سفيان منهم، وهم يحاولون حيثما مروا أن يقفوا على أخباره. فلما كانوا بعرق الظبية لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن القوم فلم يجدوا عنده خبرا.
وانطلقوا حتى أتوا واديا يقال له ذفران نزلوا فيه، وهناك جاءهم الخبر بأن قريشا قد خرجوا من مكة ليمنعوا عيرهم. إذ ذاك تغير وجه الأمر. لم يبق هؤلاء المسلمون مهاجروهم والأنصار أمام أبي سفيان وعيره والثلاثين أو الأربعين رجلا معه، لا يملكون مقاومة محمد وأصحابه؛ بل هذه مكة خرجت كلها وعلى رأسها أشرافها للدفاع عن تجارتها. فهب المسلمين أدركوا أبا سفيان وتغلبوا على رجاله وأسروا منهم من أسروا واقتادوا إبله وما عليها، فلن تلبث قريش أن تدركهم، يحفزها حرص على مالها والدفاع عنه وتؤازرها كثرة عديدها وعددها، وأن توقع بهم وأن تسترد الغنيمة منهم أو تموت دونها. ولكن إذا عاد محمد من حيث أتى طمعت قريش وطمعت يهود المدينة فيه، واضطر إلى موقف المصانعة، واضطر أصحابه إلى أن يحتملوا من أذى يهود المدينة مثل ما احتملوا من أذى قريش بمكة. وهيهات إن هو وقف هذا الموقف أن تعلو كلمة الحق وأن ينصر الله دينه.
استشار الناس وأخبرهم بما بلغه من أمر قريش؛ فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.» وسكت الناس. فقال الرسول: أشيروا علي أيها الناس. وكان يريد بكلمته هذه الأنصار الذين بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم ولم يبايعوه على اعتداء خارج مدينتهم. فلما أحس الأنصار أنه يريدهم، وكان سعد بن معاذ صاحب رايتهم التفت إلى محمد وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال سعد: «لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة؛ فامض لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا. إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء؛ لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.»
ولم يكد سعد يتم كلامه حتى أشرق وجه محمد بالمسرة وبدا عليه كل النشاط وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وارتحلوا جميعا، حتى إذا كانوا على مقربة من بدر انطلق محمد على بعيره حتى وقف على شيخ من العرب وسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، ومنه عرف أن عير قريش منه قريب.
إذ ذاك عاد إلى قومه، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يتلمسون له الخبر عليه. وعادت هذه الطليعة ومعها غلامان عرف محمد منهما أن قريشا وراء الكثيب بالعدوة القصوى. ولما أن أجابا أنهما لا يعرفان عدة قريش، سألهما محمد كم ينحرون كل يوم؟ فأجابا: يوما تسعا ويوما عشرا. فاستنبط النبي من ذلك أنهم بين التسعمائة والألف. وعرف من الغلامين كذلك أن أشراف قريش جميعا خرجوا لمنعه؛ فقال لقومه: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.» إذن فلا بد له ولهم أمام قوم يزيدون عليهم في العدد ثلاثة أضعاف أن يشحذوا عزائمهم، وأن يوطنوا على الشدة أفئدتهم ونفوسهم، وأن ينتظروا موقعة حامية الوطيس لا يكون النصر فيها إلا لمن ملأ الإيمان بالنصر قلبه.
وكما عاد علي ومن معه بالغلامين وبخبر قريش معهما ذهب اثنان من المسلمين حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء وأخذا وعاء لهما يستقيان فيه . وإنهما لعلى الماء إذ سمعا جارية تطالب صاحبتها بدين عليها والثانية تجيبها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيه لك. وعاد الرجلان فأخبرا محمدا بما سمعا. فأما أبو سفيان فسبق العير يتنطس الأخبار حذر أن يكون محمد قد سبقه إلى الطريق. فلما ورد الماء وجد عليه مجدي بن عمرو، فسأله: هل قد رأى أحدا؟ وأجاب مجدي بأنه لم ير إلا راكبين أناخا إلى هذا التل، وأشار إلى حيث أناخ الرجلان من المسلمين. فأتى أبو سفيان مناخهما فوجد في روث بعيريهما نوى عرفه من علائف يثرب، فأسرع عائدا إلى أصحابه وعدل بالسير عن الطريق مساحلا البحر مسرعا في مسيره، حتى بعد ما بينه وبين محمد، ونجا.
وأصبح الغد والمسلمون في انتظار مروره بهم، فإذا الأخبار تصلهم أنه فاتهم وأن مقاتلة قريش هم الذين ما يزالون على مقربة منهم؛ فيذوي في نفوس جماعة منهم ما كان يملؤها من أمل الغنيمة، ويجادل بعضهم النبي كي يعودوا إلى المدينة ولا يلقوا القوم الذين جاءوا من مكة لقتالهم. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين .
4
وقريش هم أيضا، ما حاجتهم إلى القتال وقد نجت تجارتهم؟ أليس خيرا لهم أن يعودوا من حيث أتوا، وأن يتركوا المسلمين يرجعون من رحلتهم بخفي حنين؟ كذلك فكر أبو سفيان وبذلك أرسل إلى قريش يقول لهم: إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا، ورأى من قريش رأيه عدد غير قليل. لكن أبا جهل ما لبث حين سمع هذا الكلام أن صاح: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا ننحر الجزر، ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها؛ ذلك أن بدرا كانت موسما من مواسم العرب؛ فانصراف قريش عنها بعد أن نجت تجارتهم قد تفسره العرب، فيما رأى أبو جهل ، بخوفهم من محمد وأصحابه، مما يزيد محمدا شوكة ويزيد دعوته انتشارا وقوة، وخاصة بعد الذي كان من سرية عبد الله بن جحش وقتل ابن الحضرمي وأخذ الأسرى والغنائم من قريش.
وتردد القوم بين اتباع أبي جهل مخافة أن يتهموا بالجبن، وبين الرجوع بعد أن نجت عيرهم، فلم يرجع إلا بنو زهرة الذين اتبعوا مشورة الأخنس بن شريق، وكان فيهم مطاعا. واتبعت سائر قريش أبا جهل حتى ينزلوا منزلا يتهيئون فيه للحرب ثم يتشاورون بعد ذلك. ونزلوا بالعدوة القصوى خلف كثيب من الرمل يحتمون به. أما المسلمون الذين فاتتهم الغنيمة فقد أجمعوا أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم؛ لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسر لهم مطر أرسلته السماء مسيرتهم إليها. فلما جاءوا أدنى ماء نزل محمد به.
وكان الحباب بن المنذر بن الجموح عليما بالمكان؛ فلما رأى حيث نزل النبي قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال محمد: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فتنزل ثم نغور ما وراءه من القلب،
5
ثم نبني عليه حوضا فملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. ولم يلبث محمد حين رأى صواب ما أشار به الحباب أن قام ومن معه واتبع رأي صاحبه، معلنا إلى قومه أنه بشر مثلهم وأن الرأي شورى بينهم وأنه لا يقطع برأي دونهم، وأنه في حاجة إلى حسن مشورة صاحب المشورة الحسنة منهم.
ولما بنوا الحوض أشار سعد بن معاذ قائلا: «نبي الله، نبني لك عريشا تكون فيه وتعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا؛ فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا؛ فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك.»
وأثنى محمد على سعد ودعا له بخير، وبني العريش للنبي، حتى إذا لم يكن النصر في جانبه وجانب أصحابه لم يقع في يد عدوه واستطاع اللحاق بأصحابه في يثرب.
هنا موضع لوقفة إعجاب بصدق وفاء المسلمين وعظيم محبتهم لمحمد وإيمانهم برسالته. فها هم أولاء يعلمون أن قريشا تفوقهم في العدد وأنها ثلاثة أمثالهم، ومع ذلك اعتزموا الوقوف في وجهها وقتالها. وها هم أولاء يرون الغنيمة فاتتهم فلم يصبح الكسب المادي هو الذي يحفزهم للقتال، ومع ذلك قاموا إلى جانب النبي يؤيدونه ويعززونه. وها هم أولاء تتردد نفوسهم بين الطمع في النصر وخوف الهزيمة. ومع ذلك فكروا في حماية النبي وتوقيته أن يظفر به عدوه، ومهدوا له سبيل الاتصال بمن ترك بالمدينة. فأي موقف أدعى للإعجاب من هذا الموقف؟ وأي إيمان يكفل النصر كهذا الإيمان؟!
ونزلت قريش منازل القتال، ثم بعثوا من يقص لهم خبر المسلمين فجاءهم بأنهم ثلاثمائة أو يزيدون قليلا أو ينقصون، ولا كمين لهم ولا مورد؛ ولكنهم قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، فلا يموت منهم رجل قبل أن يقتل رجلا مثله. ولما كانت صفوة قريش قد خرجوا في هذا الجيش، خشي بعض ذوي الحكمة منهم أن يقتل المسلمون كثرتهم فلا تبقى لمكة مكانة. لكنهم خافوا حدة أبي جهل ورميه إياهم بالجبن والخوف، وإن لم يمنع ذلك عتبة بن ربيعة من أن يقف بينهم قائلا: «يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب؛ فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرض منه لما تكرهون.» فلما بلغت أبا جهل مقالة عتبة استشاط غيظا وبعث إلى عامر بن الحضرمي يقول له: «هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد مقتل أخيك.» وقام عامر فصرخ: وا عمراه ! فلم يبق بعد ذلك من الحرب مفر. وأعجل القتال أن اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزومي من بين صفوف قريش إلى صفوف المسلمين يريد أن يهدم الحوض الذي بنوا؛ فعاجله حمزة بن عبد المطلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى ظهره تشخب رجله دما، ثم أتبعها حمزة بضربة أخرى قضت عليه دون الحوض. ولا شيء أرهف لظبا السيوف من منظر الدم؛ ولا شيء أشد إثارة لعواطف القتال والحرب في الإنسان من مرأى رجل مات بيد العدو وقومه وقوف ينظرون.
وما إن سقط الأسود حتى خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة. وخرج إليه فتية من أبناء المدينة. فلما عرفهم قال لهم: ما لنا بكم من حاجة إنما نريد قومنا. ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. وخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث. ولم يمهل حمزة شيبة ولا أمهل علي الوليد أن قتلاهما، ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عتبة. فلما رأت قريش من ذلك ما رأت، تزاحف الناس، والتقى الجمعان صبيحة الجمعة لسبع عشر خلت من شهر رمضان.
وقام محمد على رأس المسلمين يعدل صفوفهم. فلما رأى كثرة قريش وقلة رجاله وضعف عدتهم إلى جانب عدة المشركين عاد إلى العريش ومعه أبو بكر، وهو أشد ما يكون خوفا من مصير ذلك اليوم، وأشد ما يكون إشفاقا مما يصير إليه أمر الإسلام إذا لم يتم للمسلمين النصر. واستقبل محمد القبلة واتجه بكل نفسه إلى ربه، وجعل ينشده ما وعده ويهتف به أن يتم له النصر. وبالغ في التوبة والدعاء والابتهال وجعل يقول: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد.» وما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه؛ وجعل أبو بكر من ورائه يرد على منكبيه رداءه ويهيب به: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك؛ فإن الله منجز لك ما وعدك. ولكن محمدا ظل فيما هو فيه أشد ما يكون توجها وأشد ما يكون تضرعا وخشية واستعانة بربه على هذا الموقف الذي لم يتوقعه المسلمون ولم يتخذوا له عدته، حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه بعدها مستبشرا، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول له: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.»
وسرت من نفسه القوية - أمدها الله من لدنه بما سما بها فوق كل قوة - إلى نفوس هؤلاء المؤمنين برسالته قوة ضاعفت عزمهم، وجعلت كل رجل منهم يعدل رجلين بل يعدل عشرة رجال. ويسير عليك أن تقدر هذا إذا ذكرت ما لازدياد القوة المعنوية من أثر في النفس متى توافرت أسباب ازدياد هذه القوة المعنوية فيها. فدافع الوطنية يزيدها. وهذا الجندي الذي يقف مدافعا عن وطنه المهدد بالخطر ممتلئ النفس بالعاطفة الوطنية، تتضاعف قوته المعنوية بمقدار حبه لوطنه وإيمانه به، وبمقدار تخوفه من الخطر الذي يتهدد العدو الوطن به. ولهذا تغرس الأمم في نفوس أبنائها منذ نعومة أظفارهم حب الوطن والاستهانة بالتضحية في سبيله. والإيمان بالحق وبالعدل وبالحرية وبالمعاني الإنسانية السامية يزيد القوة المعنوية في النفس بما يضاعف القوة المادية فيها. والذين يذكرون ما قام به الحلفاء في الحرب الكبرى من دعوة واسعة النطاق ضد الألمان، أساسها أنهم يدافعون عن قضية الحرية والحق ويحاربون في ألمانيا الجندية المسلحة ويمهدون لعهد سلام ونور، يدركون ما كانت تضاعف هذه الدعوة من قوة في نفوس جنود الحلفاء بمقدار ما كانت تحيطهم به من عطف في أكثر أمم العالم.
وما الوطنية وما قضية السلام إلى جانب ما كان محمد يدعو إليه؟! إلى اتصال الإنسان بالوجود كله اتصالا يندمج به فيه ويصبح قوة من قوى الكون الموجه له إلى سبيل الخير والنعمة والكمال! نعم ما الوطنية وما قضية السلام إلى جانب الوقوف في جانب الله ودفع الذين يفتنون المؤمنين عنه، والذين يصدون عن سبيله، والذين ينزلون بالإنسان إلى درك الوثنية والإشراك؟! إذا كانت النفس يزيدها حب الوطن قوة بمقدار ما في الوطن كله من قوة، ويزيدها حب السلام للإنسانية كلها قوة بمقدار ما في الإنسانية من قوة، فما أكثر ما يزيدها الإيمان بالوجود كله وبخالق الوجود كله من قوة! إنه ليجعلها قديرة أن تسير الجبال، وتحرك العوالم، وتهيمن بسلطانها المعنوي على كل من كان أقل منها في هذا الأمر إيمانا.
وهذا السلطان المعنوي يزيد قوتها أضعافا مضاعفة، فإذا لم يصل هذا السلطان المعنوي إلى غاية كماله بسبب ما كان بين المسلمين من خلاف قبل الموقعة، لم تبلغ القوة المادية كل ما تطمح إلى بلوغه، وإن هي زادت بفعل هذا الإيمان الذي ازداد قوة بتحريض محمد أصحابه فعوضهم بذلك عن قلة عددهم وعدتهم. وفي حال النبي وأصحابه هذه نزلت الآيتان:
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون * الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين .
6
ازداد المسلمون قوة بتحريض محمد إياهم ووقوفه بينهم ودفعهم لمقاتلة العدو والصيحة بهم أن الجنة لمن أحسن البلاء ومن غمس يده في العدو حاسرا. ووجه المسلمون أكبر همهم إلى سادات قريش وزعمائها يريدون استئصالهم جزاء وفاقا لما عذبوهم بمكة، ولما صدوهم عن المسجد الحرام وعن سبيل الله. ورأى بلال أمية بن خلف وابنه، ورأى بعض المسلمين الذين عرفوه بمكة حوله. وكان أمية هو الذي عذب بلالا إذ كان يخرجه إلى رمضاء مكة فيضجعه على ظهره ويأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ليفتنه عن الإسلام، فيقول بلال: أحد أحد - رأى بلال أمية فصاح به: أمية رأس الكفر لا نجوت إن نجا! وحاول بعض المسلمين من حول أمية أن يحولوا دون قتله وأن يأخذوه أسيرا. فصرخ بلال بأعلى صوته في الناس: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا. واجتمع الناس ولم ينصرف بلال حتى قتل أمية. وقتل معاذ بن عمرو بن الجموح أبا جهل بن هشام. وخاض حمزة وعلي وأبطال المسلمين وطيس المعركة وقد نسي كل منهم نفسه ونسي قلة أصحابه وكثرة عدوه، فثار النقع وامتلأ الجو بالغبار، وجعلت هام قريش تطير عن أجسادها والمسلمون يزدادون بإيمانهم قوة ويصيحون مهللين: أحد أحد، وقد كشفت أمامهم حجب الزمان والمكان وأمدهم الله بالملائكة يبشرونهم ويزيدونهم تثبيتا وإيمانا، حتى لكأن الواحد منهم إذ يرفع سيفه ويهوي به على عنق عدوه إنما تحرك قوة الله يده.
ووقف محمد وسط هذا الوطيس يتمشى خلاله ملك الموت يقظ رقبة الكفر، فأخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وقال: شاهت الوجوه! ثم نفحهم بها وأمر أصحابه فقال: شدوا. وشد المسلمون وما يزالون أقل من قريش عددا، لكن كل واحد منهم امتلأت بنفحة من أمر الله نفسه، فلم يكن هو الذي يقتل العدو، ولا كان هو الذي يأسر من يأسر، لولا هذه النفحة التي ضاعفت قوته المعنوية بما ضاعفت قوته المادية. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ،
7
وقوله تعالى:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .
8
لما آنس الرسول أن الله أنجزه وعده وأتم على المسلمين النصر عاد إلى العريش. وفرت قريش فطاردهم المسلمون يأسرون منهم من لم يقتل ولم يساعفه حسن فراره بالنجاة.
هذه غزوة بدر التي استقر بها الأمر للمسلمين من بعد في بلاد العرب جميعا، والتي كانت مقدمة وحدة شبه الجزيرة في ظلال الإسلام، ومقدمة الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، والتي أقرت في العالم حضارة لا تزال ولن تزال ذات أثر عميق في حياته. ولقد تعجب إذ تعلم أن محمدا، على ما كان من تحريضه أصحابه وما كان يرجو من استئصال عدو الله وعدوه، قد طلب إلى المسلمين منذ اللحظة الأولى من المعركة ألا يقتلوا بني هاشم وألا يقتلوا بعض رجال من سادات قريش، مع أنهم اشتركوا في قتال المسلمين، ومع أنهم سيقتلون من المسلمين من يستطيعون قتله. ولا تحسب أنه في ذلك أراد أن يحابي أهله أو أحدا ممن يمتون إليه بآصرة القربى، فنفس محمد أسمى من أن تتأثر بمثل هذا، وإنما ذكر لبني هاشم منعهم إياه مدى ثلاثة عشر عاما من يوم بعثه إلى يوم هجرته، حتى كان عمه العباس معه ليلة بيعة العقبة. وذكر لغير بني هاشم من قريش جميل من قاموا وهم على الكفر يطالبون بنقض الصحيفة، التي اضطرته بها قريش أن يلزم هو وأصحابه الشعب، بعد أن قطعت قريش بهم كل صلة وكل علاقة. فهذا المعروف الذي تقدم به هؤلاء وأولئك قد اعتبره محمد حسنة يجزى من قدمها بمثلها، بل يجزى بعشر أمثالها؛ لذلك كان شفيعا لهؤلاء عند المسلمين ساعة القتال، وإن أبى بعض هؤلاء القرشيين أن يستظلوا بهذا العفو على نحو ما فعل أبو البختري أحد الذين قاموا في نقض الصحيفة، فقد أبى وقتل.
ولى أهل مكة الأدبار كاسفا بالهم، خاشعة من الذل أبصارهم، لا يكاد أحدهم يلتقي نظره بنظر صاحبه حتى يواري وجهه خجلا من سوء ما حل بهم جميعا. أما المسلمون فأقاموا ببدر إلى آخر النهار، ثم جمعوا الذين قتلوا من قريش فحفروا لهم قليبا فدفنوهم فيه. وقضى محمد وأصحابه تلك الليلة في الميدان في شغل بجمع الغنيمة والسهر على الأسرى. وإذا جن الليل جعل محمد يفكر في نصر الله المسلمين على قلة عددهم، وخذلانه المشركين الذين لم يكن لهم من قوة الإيمان عضد تعتز به كثرتهم. جعل يفكر في هذا، حتى سمعه أصحابه جوف الليل وهو يقول: «يأهل القليب! يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة! ويا أمية بن خلف! ويا أبا جهل بن هشام! - واستمر يذكر من في القليب واحدا بعد واحد - يأهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا.» قال المسلمون: يا رسول الله، أتنادي قوما جيفوا؟!
9
قال عليه السلام: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.» ونظر رسول الله في وجه أبي حذيفة بن عتبة فألفاه كئيبا قد تغير لونه. فقال: «لعلك يا أبا حذيفة قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ قال أبو حذيفة: لا والله يا رسول الله! ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكن كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام. فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما كان عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني أمره.» فقال له رسول الله خيرا ودعا له بخير.
ولما أصبح الصبح وآن للمسلمين أن يرتحلوا قافلين إلى المدينة، بدءوا يتساءلون في الغنيمة لمن تكون، قال الذين جمعوها: نحن جمعناها فهي لنا. وقال الذين كانوا يطاردون العدو حتى ساعة هزيمته: نحن والله أحق بها، فلولانا لما أصبتموها. وقال الذين يحرسون محمدا مخافة أن يرتد إليه العدو: ما أنتم ولا هم أحق بها منا، وكان لنا أن نقتل العدو ونأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنا خفنا على رسول الله كرة العدو فقمنا دونه. فأمر محمد الناس أن يردوا كل ما في أيديهم من الغنائم، وأمر بها أن تحمل حتى يرى فيها رأيه أو يقضي الله فيها بقضائه.
وبعث محمد إلى المدينة عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة بشيرين يلقيان إلى أهلها بما فتح الله على المسلمين من النصر. وقام هو وأصحابه قافلين إلى المدينة ومعه الأسرى وما أصاب من المشركين من غنيمة جعل عليها عبد الله بن كعب. وسار القوم، حتى إذا تخطوا مضيق الصفراء نزل محمد على كثيب فقسم هناك النفل الذي أفاء الله على المسلمين، بين المسلمين على سواء. ويقول بعض المؤرخين إنه قسمه بينهم بعد أن أخذ منه الخمس، لقوله تعالى:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير .
10
ويذهب الأكثرون من كتاب السيرة، والمتقدمون منهم خاصة ، أن هذه الآية نزلت بعد بدر وبعد قسم فيئها، وأن محمدا جعل القسمة بين المسلمين على سواء، وأنه جعل للفرس مثل ما للفارس، وجعل للورثة حصة من استشهد ببدر، وجعل حصة لمن تخلف بالمدينة فلم يشهد بدرا ما كان قائما فيها بعمل المسلمين، ومن حرضه حين الخروج إلى بدر وتخلف لعذر قبله الرسول. وكذلك قسم الفيء بالقسط. فلم يشترك المقاتل وحده في الحرب والنصر، بل اشترك في الحرب والنصر كل من كان لعمله في الفوز حظ أيا كان هذا العمل، وفي ميدان القتال كان أو بعيدا عنه.
وبينما المسلمون في طريقهم إلى مكة قتل من الأسرى رجلان: أحدهما النضر بن الحارث، والآخر عقبة بن أبي معيط. ولم يكن محمد ولا كان أصحابه إلى هاته اللحظة قد وضعوا للأسرى نظاما يكون على مقتضاه قتلهم أو فداؤهم أو استرقاقهم. لكن النضر وعتبة كانا من المسلمين أيام مقامهم بمكة شرا مستطيرا، وكانا لا ينفكان يوصلان لهم من الأذى كل ما يستطيعان. قتل النضر حين عرض الأسرى على النبي - عليه السلام - عند بلوغهم الأثيل، فقد نظر إلى النضر نظرة ارتعد لها الأسير وقال لرجل إلى جنبه: محمد والله قاتلي! فقد نظر إلي بعينين فيهما الموت. قال الذي إلى جنبه: ما هذا والله منك إلا رعب. وقال النضر لمصعب بن عمير، وكان أقرب من هناك به رحما: كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابه، فهو والله قاتلي إن لم تفعل. فكان جواب مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله وفي نبيه كذا وكذا، وكنت تعذب أصحابه. قال النضر: لو أسرتك قريش ما قتلتك أبدا وأنا حي. قال مصعب: والله إني لا أراك صادقا، ثم إني لست مثلك، فقد قطع الإسلام العهود، وكان النضر أسير المقداد، وكان يطمح أن ينال افتداء أهله إياه مالا كثيرا. فلما رأى الحديث حول قتله صاح: النضر أسيري. قال النبي عليه السلام: اضرب عنقه، واللهم أغن المقداد من فضلك. فقتله علي بن أبي طالب ضربا بالسيف.
ولما كانوا في طريقهم بعرق الظبية أمر النبي بقتل عقبة بن أبي معيط فصاح عقبة: فمن للصبية يا محمد؟! قال: النار. وقتله علي بن أبي طالب أو قتله عاصم بن ثابت، على اختلاف في الرواية.
وقبل أن يصل النبي والمسلمون بيوم وصلها رسولاه زيد بن حارث وعبد الله بن رواحة، ودخل كل واحد من ناحية منها؛ فجعل عبد الله ينادي على راحلته يبشر الأنصار بنصر رسول الله وأصحابه، ويذكر لهم من قتل من المشركين. وجعل زيد بن حارثة يصنع صنيعه وهو ممتط القصواء ناقة النبي. وسر المسلمون واجتمعوا وخرج من كان منهم في داره وانطلقوا يهللون لهذا النصر العظيم.
أما الذين بقوا على الشرك، وأما اليهود، فقد كبتوا لهذا النبأ، وحاولوا أن يقنعوا أنفسهم وأن يقنعوا الذين أقاموا في المدينة من المسلمين بعدم صحته، فصاحوا؛ إن محمدا قتل وأصحابه هزموا، وهذه ناقته نعرفها جميعا لو أنه انتصر لبقيت عنده، وإنما يقول زيد ما يقول هذيانا من الفزع والرعب. لكن المسلمين ما لبثوا حيث تثبتوا من الرسولين واطمأنوا إلى صحة الخبر أن زاد بهم السرور لولا حادث طرأ خفف من سرورهم؛ ذلك الحادث هو موت رقية بن النبي، وكان تركها عند ذهابه إلى بدر مريضة، وترك معها زوجها عثمان بن عفان يمرضها. ولما أيقن المشركون والمنافقون بنصر محمد أسقط في أيديهم، ورأوا موقفهم من المسلمين قد أصبح موقف هوان ومذلة، حتى قال أحد زعماء اليهود: بطن الأرض اليوم خير من ظهرها بعد أن أصيب أشراف الناس وسادتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن.
ودخل المسلمون المدينة قبل أن يدخلها الأسارى بيوم، فلما جيء بهم ورجعت سودة بنت زمعة زوج النبي من مناحة ابني عفراء وكانت بهم، رأت أبا يزيد سهيل بن عمرو أحد الأسرى مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلم تملك نفسها أن توجه إليه الكلام قائلة: أي أبا يزيد! أسلمتم أنفسكم وأعطيتم بأيديكم، ألا متم كراما؟! فناداها محمد من البيت: يا سودة! أعلى الله عز وجل وعلى رسوله تحرضين! فأجابت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت. وفرق محمد الأسارى بين أصحابه وقال لهم: استوصوا بهم خيرا. وطفق من بعد ذلك يفكر فيما يصنع بهم: أفيقتلهم أم يأخذ منهم الفداء؟ إن منهم لأشداء في الحرب أقوياء في النضال، ومن امتلأت بالحقد والضغينة نفوسهم بعد الذي كان من هزيمتهم ببدر وما لحقهم من عار الأسر؛ فإن هو قبل الفداء كانوا عليه حربا وألبا، وإن هو قتلهم أثار في نفوس أهليهم من قريش ما ربما هدأ لو أنهم افتدوهم.
وعرض الأمر على المسلمين يستشيرهم ويترك لهم الخيار. وكان المسلمون قد آنسوا من الأسرى طمعا في الحياة واستعدادا لفدية عظيمة. فقال هؤلاء: لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا وأكثرهم رحمة وعطفا، ولا نعلم أحدا آثر عند محمد منه. وبعثوا إلى أبي بكر فقالوا له: أبا بكر، إن فينا الآباء والإخوان والعمومة وبني العم وأبعدنا قريب. كلم صاحبك يمن علينا أو يفادنا. فوعدهم خيرا، وخافوا أن يفسد ابن الخطاب عليهم أمرهم، فأرسلوا إليه فجاءهم فقالوا له مثل قولهم لأبي بكر، فنظر إليهم شزرا. وذهب وزيرا محمد إليه فجعل أبو بكر يلينه ويفثؤه
11
ويقول: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة وبنو العم والإخوان وأبعدهم منك قريب؛ فامنن عليهم من الله عليك، أو فادهم يستنقذهم الله بك من النار، فتأخذ منهم ما أخذت قوة للمسلمين، فلعل الله أن يقبل بقلوبهم. وسكت محمد فلم يجبه، فقام فتنحى.
وجاء عمر فجلس مجلسه وقال: يا رسول الله، هم أعداء الله، كذبوك، وقاتلوك وأخرجوك، اضرب رقابهم، هم رءوس الكفر وأئمة الضلالة يوطئ الله بهم الإسلام ويذل بهم أهل الشرك. ولم يجب محمد. فعاد أبو بكر إلى مقعده الأول وجعل يتلطف ويستعطف، ويذكر القرابة والرحم، ويرجو لهؤلاء الأسرى الهدى إن هم أبقي على حياتهم؛ وعاد عمر مثال العدل الصارم لا تأخذه فيه هوادة ولا رحمة.
ولما فرغ أبو بكر وعمر من كلامهما، قام محمد فدخل قبته فمكث فيها ساعة ثم خرج والناس يخوضون في شأنهم، يقف بعضهم في صف أبي بكر، ويقف آخرون في صف عمر. فشاورهم فيما يصنع، وضرب لهم في أبي بكر وفي عمر مثلا. فأما أبو بكر في الملائكة كمثل ميكال ينزل برضا الله وعفوه عن عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم، كان ألين على قومه من العسل. قدمه قومه إلى النار وطرحوه فيها فما زاد على أن قال:
أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون
12
وأن قال:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ،
13
ومثله في الأنبياء كمثل عيسى إذ يقول:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
14
ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله. ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ يقول:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا
15
وكمثل موسى إذ يقول:
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .
16
ثم قال: وإن بكم عيلة؛ فلا يفوتنكم رجل من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق. وتشاور القوم فيما بينهم وكان من بين الأسرى شاعر، هو أبو عزة عمرو بن عبد الله بن عمير الجمحي، رأى خلاف القوم واستعجل النجاة فقال: لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدق بي عليهن يا محمد، وإني لمعطيك موثقا لا أقاتلك ولا أكثر عليك أبدا. فأمنه النبي وأرسله من غير فداء، وكان هو وحده الأسير الذي ظفر بهذا الأمان. على أنه ما لبث أن نكث عهده، وأن عاد فقاتل بعد عام في أحد. فأسر وقتل. وظل المسلمون في تشاورهم زمنا انتهوا بعده إلى قبول الفداء. وفي قبولهم نزلت هذه الآية الكريمة:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم .
17
يقف غير واحد من المستشرقين عند أسرى بدر هؤلاء وعند مقتل النضر وعقبة ويتساءلون: أليس في ذلك ما يدل على ظمأ هذا الدين الجديد إلى الدم ظمأ لولاه لما قتل الرجلان، ولكان أكرم للمسلمين بعد أن كسبوا الموقعة أن يردوا الأسرى وأن يكتفوا بالفيء الذي غنموا؟ وذلك تساؤل الذي يريد أن يثير في النفس عوامل إشفاق لم يكن له يومئذ موضع، ليكون له بعد ألف سنة من هذه الغزوة وما تلاها من غزوات وسيلة للنيل من الدين ومن صاحب الدين. على أن هذا التساؤل ما يلبث أن ينهار ويتداعى إذا نحن وازنا بين مقتل النضر وعقبة، وما يجري اليوم وما سيجري دائما ما دامت الحضارة الغربية، التي تتشح بوشاح المسيحية، متحكمة في الأرض. فهل تراه يوازي شيئا إلى جنب ما يقع باسم قمح الثورات في بلاد يحكمها الاستعمار على كره من أهلها؟! وهل تراه يوازي شيئا إلى جانب ما وقع من مجازر الحرب الكبرى؟! ثم هل هو يوازي شيئا مما حدث أثناء الثورة الفرنسية الكبرى، وأثناء الثورات المختلفة التي وقعت وتقع في أمم أوروبا المختلفة؟!
وليس ريب في أن الأمر بين محمد وأصحابه كان ثورة قوية من محمد بعثه الله ليقوم بها في وجه الوثنية والمشركين من عبادها. ثورة قامت أول أمرها بمكة، واحتمل محمد وأصحابه من أجلها ألوان العذاب ثلاثة عشر عاما سويا. ثم انتقل المسلمون إلى المدينة وحشدوا جمعوهم وقواتهم بها، وما تزال مبادئ الثورة قائمة على أشدها في نفوسهم وفي نفوس قريش جميعا. وانتقال المسلمين إلى المدينة، وموادعتهم اليهود من أهلها؛ وما قاموا به من مناوشات سبقت بدرا، وغزوة بدر هذه - ذلك كله كان سياسية الثورة ولم يكن مبادئها؛ كان السياسة التي قرر القائم بهذه الثورة وأصحابه أن يتبعوا لإقرار أسمى المبادئ، التي جاء الرسول بها. وسياسة الثورة شيء ومبادئها شيء آخر. والخطة التي تتبع قد تختلف تمام الاختلاف عن الغاية المقصودة من هذه الخطة. أما وقد جعل الإسلام الأخوة أساس الحضارة الإسلامية، فيجب أن يسلك للنجاح سبله وإن اقتضى ذلك من العنف والشدة ما لا مفر منه.
وهذا الذي صنع المسلمون بأسرى بدر آية في الرحمة وفي الحسنى إلى جانب ما يقع في الثورات التي يتغنى أهلها بمعاني العدل والرحمة. وهو لا شيء إلى جانب المجازر الكثيرة التي قامت باسم المسيحية من مثل مجزرة سان بارتملي، هذه المجزرة التي تعتبر سبة في تاريخ المسيحية لا شيء من مثلها قط في تاريخ الإسلام. هذه المجزرة التي دبرت بليل، وقام فيها الكاثوليك يذبحون البروتستنتيين في باريس وفي فرنسا غدرا وغيلة في أحط صور الغدر وأبشع صور الغيلة. فإذا قتل المسلمون اثنين من أسرى بدر الخمسين لأنهم كانوا قساة على المسلمين، مدى الأعوام الثلاثة عشر التي احتمل المسلمون فيها صنوف الأذى بمكة، فقد كان في ذلك من مزيد الرحمة ومن اعتبار الفائدة العاجلة ما نزلت معه الآية:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم .
18
بينما كان المسلمون في فرحهم بنصر الله وما أفاء عليهم من المغانم كان الحيسمان بن عبد الله الخزاعي يحث الطريق إلى مكة، حتى كان أول من دخلها وأخبر أهلها بهزيمة قريش ومصابها في كبرائها وأشرافها وسادتها. وقد ذهلت مكة أول الأمر فلم تصدق الخبر. وكيف لا تذهل وهي تسمع أخبار هزيمتها ومقتل السادة الأشراف منها؟! لكن الحيسمان لم يكن يهذي وكان يؤكد ما يقول وهو أشد من قريش جزعا لما أصابهم. فلما استوثقوا من روايته خرجوا صعقين، حتى لقد حم أبو لهب ومات بعد سبعة أيام.
وتشاورت قريش ما تصنع فأجمعت على ألا تنوح على قتلاها مخافة أن يبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بهم، وألا تبعث في أسراها حتى لا يأرب
19
عليها محمد وأصحابه ويغلوا في الفداء. وانقضى زمن وقريش صابرة على محنتها، حتى سنحت فرصة افتدائها أسراها. إذ ذاك قدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو. وكأنما عز على عمر بن الخطاب أن يفتدى وينجو من غير أن يصيبه مكروه، فقال: يا رسول الله، دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو فيدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا. فكان جواب النبي هذا الجواب البالغ غاية السمو: لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا.
وبعثت زينب ابنة النبي تفتدي زوجها أبا العاص بن الربيع، وكان فيما بعثت قلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على العاص حين بنى بها. فلما رآها النبي رق لها رقة شديدة، فقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا. ثم إنه اتفق فيما بينه وبين أبي العاص على أن يفارق زينب وقد فرق الإسلام بينه وبينها. وبعث محمد زيد بن حارثة وصاحبا معه فجاء بها إلى المدينة. على أن أبا العاص ما لبث بعد مدة إساره أن خرج إلى الشام في مال قريش؛ حتى إذا كان على مقربة من المدينة لقيته سرية لمحمد فأصابوا ما معه. فانحدر تحت الليل إلى أن دخل على زينب واستجارها فأجارته، ورد المسلمون على الرجل ماله فانطلق به آمنا إلى مكة، فلما رده لأصحابه من قريش قال: يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا! جزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا مخافة أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. وعاد إلى المدينة ورد عليه النبي زينب. واستمرت قريش تفتدي أسراها. وكان الفداء يومئذ أربعة آلاف درهم للرجل إلى ألف، إلا من لا شيء عنده فقد من عليه محمد بحريته.
لم يهون ذلك على قريش مصابها، ولا هو دعاها إلى أن تهادن محمدا أو أن تنسى هزيمتها؛ بل ناحت نساء قريش من بعد ذلك على قتلاها شهرا كاملا، فجززن شعر رءوسهن، وكان يؤتى براحلة الرجل أو بفرسه فينحن حولها؛ ولم يخالف في هذا إلا هند بنت عتبة زوج أبي سفيان. ولقد مشى نساء منهن يوما إليها فقلن: ألا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك؟! فقالت: أنا أبكيهم فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بنا ويشمت بنا نساء الخزرج ؟! لا والله حتى أثأر من محمد وأصحابه! والدهن علي حرام حتى نغزو محمدا! والله لو أعلم أن الحزن يذهب من قلبي لبكيت، ولكن لا يذهب إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة. ومكثت لا تقرب الدهن ولا تقرب فراش أبي سفيان وتحرض الناس حتى كانت وقعة أحد. أما أبو سفيان فنذر بعد بدر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا.
الفصل الرابع عشر
بين بدر وأحد
(المسلمون واليهود - غزوة بني قينقاع - جلاء اليهود عن المدينة - قريش تتحرك - غزوة السويق - القبائل تتحرك فتفر - هزيمة صفوان بن أمية) ***
تركت بدر بمكة من عميق الأثر ما رأيت. تركت الحرص على الثأر من محمد والمسلمين يوم تتهيأ فرصة الثأر. لكن أثرها بالمدينة كان أوضح وأكثر اتصالا بحياة محمد والمسلمين معه. فقد شعر اليهود والمشركون والمنافقون بعد بدر بمزيد قوة المسلمين؛ ورأوا هذا الرجل الأجنبي الذي وفد عليهم منذ أقل من عامين فارا مهاجرا من مكة، يزداد سلطانا وبأسا، ويكاد يكون صاحب الكلمة في أهل المدينة جميعا لا في أصحابه وحدهم. وكان اليهود، على ما رأيت؛ قد بدأ تذمرهم من قبل بدر وبدأت مناوشاتهم المسلمين، حتى لكأن ما بين الفريقين من عهد الموادعة هو الذي حال في أكثر من حادث دون الانفجار. لذلك ما كاد المسلمون يعودون من بدر معتزين بالنصر حتى جعلت طوائف المدينة الأخرى تتغامز وتأتمر، وحتى بدأت تغري بهم وترسل الأشعار في التحريض عليهم.
بذلك انتقل ميدان الثورة من مكة إلى المدينة. وانتقل من الدين إلى السياسة. فلم تبق دعوة محمد إلى الله هي وحدها التي تحارب، بل كان كذلك سلطانه ونفوذ أمره موضع الرهبة والخوف، وكان لذلك سبب الائتمار به والتفكير في اغتياله. ولم يكن محمد لتخفى عليه من ذلك كله خافية؛ بل كان يقع على أخباره جميعا ويتصل بعلمه كل ما يدبر ضده، وجعلت النفوس من جانبي المسلمين واليهود تمتلئ بالغل والضغينة شيئا فشيئا ، رويدا رويدا، وجعل كل فريق يتربص بصاحبه الدوائر.
وكان المسلمون إلى حين نصرهم الله ببدر يخشون مواطنيهم من أهل المدينة، فلا تبلغ منهم الجرأة إلى الاعتداء على من يعتدي على مسلم منهم. فلما عادوا منتصرين أخذ سالم بن عمير نفسه بالقضاء على أبي عفك (أحد بني عمرو بن عوف)؛ لأنه كان يرسل الأشعار يطعن بها على محمد وعلى المسلمين، ويحرض بها قومه على الخروج عليهم؛ وظل كذلك بعد بدر يغري بهم الناس. فذهب إلى سالم في ليلة صائفة كان أبو عفك نائما فيها بفناء داره، فوضع سالم السيف على كبده حتى خش في الفراش. وكانت عصماء بنت مروان (من بني أمية بن زيد) تعيب الإسلام وتؤذي النبي وتحرض عليه، وظلت كذلك إلى ما بعد بدر فجاءها يوما عمير بن عوف في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام ومنهم من ترضعه؛ وكان عمير ضعيف البصر، فجسها بيده فوجد الصبي ترضعه فنحاه عنها، ثم وضع سيفه في صدرها حتى أنفذه من ظهرها. ورجع عمير من عند النبي بعد أن أخبره الخبر، فوجد بنيها في جماعة يدفنونها، فأقبلوا عليه فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟ قال: «نعم! فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. فوالذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي حتى أموت أو أقتلكم.» وقد كان من أثر جرأة عمير هذه أن ظهر الإسلام في بني خطمة، وكانت عصماء زوجة رجل منهم، فأظهر منهم من كان يخفي إسلامه وانضم إلى صف المسلمين وسار معهم.
ويكفي أن نضيف إلى هذين المثلين مصرع كعب بن الأشرف، وهو الذي قال حين علم بمقتل سادات مكة: «هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس. والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.» وهو الذي ذهب إلى مكة لما تيقن الخبر يحرض على محمد وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب؛ وهو الذي رجع بعد ذلك إلى المدينة فجعل يشبب بنساء المسلمين. وأنت تعرف طبائع العرب وأخلاقها، وتعرف مبلغ تقديرهم للعرض وثورتهم من أجله. وقد بلغ غيظ المسلمين أنهم أجمعوا على قتل كعب، واجتمع في ذلك عدة منهم؛ وذهب إليه أحدهم يستدرجه بالطعن على محمد إذ يقول له: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء؛ عادتنا العرب ورمونا على قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس. ولما أنس إلى كعب وأنس إليه كعب طلب إليه مالا لنفسه ولجماعة من أصحابه على أن يرهنوه دروعهم؛ ورضي كعب على أن يجيئوه من بعد.
وإنه لفي داره على بعد من المدينة إذ ناداه صدر الليل أبو نائلة (أحد المؤتمرين به) فنزل إليه على رغم تحذير عروسه إياه النزول في مثل هذه الساعة من الليل. وسار الرجلان حتى التقيا بأصحاب أبي نائلة وكعب آمن لا يخافهم. وخرج القوم يتماشون حتى مشوا ساعة بعدوا بها عن دار كعب وهم يتجاذبون أطراف الحديث، ويذكرون من حالهم وما وصلوا إليه من شدة ما يزيد في طمأنينة كعب. وفيما هم يسيرون كان أبو نائلة يضع يده في رأس كعب ويشمها ويقول: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط. ولما لم تبق لدى كعب شبهة فيهم، عاد أبو نائلة فوضع يده على شعر كعب ثم أخذ بفوديه وقال: اضربوا عدو الله فضربوه بأسيافهم حتى مات.
زاد هذا الحادث في مخاوف اليهود، فلم يبق منهم إلا من يخاف على نفسه. مع ذلك لم يسكتوا عن محمد ولا عن المسلمين حتى فاضت النفوس أي فيض. قدمت امرأة من العرب إلى سوق اليهود من بني قينقاع ومعها حلية جلست إلى صائغ منهم بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها وهي تأبى، فجاء يهودي من خلفها في سر منها فأثبت طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت؛ فوثب رجل من المسلمين على الصائغ - وكان يهوديا - فقتله، وشددت اليهود على المسلم فقتلوه. فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. وطلب محمد إلى هؤلاء أن يكفوا عن أذى المسلمين وأن يحفظوا عهد الموادعة أو ينزل بهم ما نزل بقريش. فاستخفوا بوعيده وأجابوه: «لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.» لم يبق بعد ذلك إلا مقاتلتهم أو يتعرض المسلمون ويتعرض سلطانهم بالمدينة للتداعي، ثم يصبحوا أحدوثة قريش وقد جعلوا قريشا بالأمس أحدوثة العرب.
وخرج المسلمون فحاصروا بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يوما متتابعة لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم بطعام أحد، حتى لم يبق لهم إلا النزول على حكم محمد والتسليم بقضائه. وسلموا؛ فقرر محمد بعد مشورة كبار المسلمين، قتلهم جميعا، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول، وكان لليهود كما كان للمسلمين حليفا، فقال: يا محمد أحسن في موالي.
فأبطأ عليه النبي فكرر الطلب، فأعرض النبي عنه فأدخل يده في جيب درع محمد فتغير محمد وقال له: أرسلني؛ وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم أعاد وأثر الغضب في نبرات صوته: «أرسلني ويحك!» قال ابن أبي: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي! أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة! إني والله امرؤ أخشى الدوائر. وكان عبد الله لا يزال ذا سلطان في المشركين من الأوس والخزرج، وإن كان هذا السلطان ضعف بقوة المسلمين. فرأى النبي في إلحاحه ما جعله يعود إلى سكينته، وخاصة بعد إذ جاء عبادة بن الصامت يحدثه بحديث ابن أبي؛ إذ ذاك رأى أن يسدي هذه اليد إلى عبد الله وإلى المشركين موالي يهود جميعا حتى يصبحوا مدينين لإحسانه ورحمته؛ على أن يجلو بنو قينقاع عن المدينة جزاء لهم على صنيعهم.
وقد حاول ابن أبي أن يتحدث مرة أخرى إلى محمد في بقائهم ومقامهم. لكن أحد المسلمين حال دون ابن أبي ولقاء محمد واشتجر حتى شج عبد الله. فقالت بنو قينقاع: والله لا نقيم ببلد تشج فيه يا ابن أبي ولا نستطيع عنك دفاعا. وعلى ذلك سار بهم عبادة بعد الذي كان من تسليمهم وإذعانهم تاركين المدينة، تاركين وراءهم السلاح وأدوات الذهب الذي كانوا يصوغون، حتى بلغوا وادي القرى. هناك أقاموا زمنا، ومن هناك احتملوا ما معهم، وساروا صوب الشمال حتى بلغوا أذرعات على حدود الشام، وبها أقاموا. ولعلهم إنما استهوتهم إلى الشمال أرض المعاد التي كانت وما تزال تهوي إليها أفئدة اليهود.
ضعفت بالمدينة شوكة اليهود بعد جلاء بني قينقاع عنها. فقد كان أكثر اليهود المنتسبين إلى المدينة يقيمون بعيدا عنها بخيبر وبأم القرى. ولهذه النتيجة كان يقصد محمد من إجلائهم. وهذا تصرف سياسي آية في الدلالة على الحكمة وبعد النظر. وهو مقدمة لم يكن منها بد للآثار السياسية التي ترتبت بعد ذلك على خطة محمد؛ فليس شيء أضر على وحدة مدينة من المدن من تنازع الطوائف فيها. وإذا كان نضال هذه الطوائف لا بد منه فهو لا بد منته إلى تغلب طائفة على سائرها غلبة تنتهي إلى سيادتها. وقد تحدث بعض المؤرخين منتقدا تصرف المسلمين إزاء اليهود، زاعما أن حكاية المسلمة التي ذهبت إلى الصائغ كان من اليسير إنهاؤها ما دام قد قتل من المسلمين رجل ومن اليهود رجل، وقد نستطيع دفع هذا القول بأن مقتل اليهودي والمسلم لم يمح ما لحق من إهانة في شخص المرأة التي عبث اليهودي بها، وأن مثل هذه المسألة عند العرب، أكثر منها عند غيرهم من الأمم، جديرة أن تثور لها الثائرات، وأن يقوم من أجلها القتال بين قبيلتين أو طائفتين سنوات متتابعة. وفي تاريخ العرب من ذلك أمثال يعرفها المطلعون على هذا التاريخ.
ولكن هنالك إلى جانب هذا الاعتبار اعتبارا آخر أقوى منه. فحادث المرأة كان من حصار بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة ما كان مقتل ولي عهد النمسا بسيراجيفو سنة 1914 من الحرب الكبرى التي اشتركت فيها أوروبا جميعا. هو إنما كان الشرارة التي ألهبت ما تؤجج به نفوس المسلمين واليهود جميعا لهبا أدى إلى انفجارها وإلى كل ما يحدث الانفجار من آثار. والحق أن وجود اليهود والمشركين والمنافقين إلى جانب المسلمين بالمدينة وما أذكى ذلك من أسباب الفرقة ، قد جعل المدينة - من الناحية السياسية - على بركان لا مفر له من أن ينفجر؛ وقد كان حصار بني قينقاع وإجلاؤهم عن المدينة أول مظاهر هذا الانفجار.
كان طبيعيا أن ينكمش غير المسلمين من أهل المدينة بعد إجلاء بني قينقاع عنها، وأن تبدو من الهدوء والسكينة في المظهر الذي يعقب كل عاصفة وكل إعصار. وعلى هذا الهدوء ظل الناس شهرا كاملا كان جديرا أن تتلوه أشهر لولا أن أبا سفيان لم يطق البقاء بمكة، قابعا تحت خزي هزيمة بدر، دون أن يعيد إلى أذهان العرب بشبه الجزيرة أن قريشا ما تزال لها قوتها وعصبيتها ومقدرتها على الغزو والقتال. لذلك جمع مائتين - وقيل أربعين - من رجال مكة وخرج فيهم مستخفين؛ حتى إذا كانوا على مقربة من المدينة خرجوا سحرا فأتوا ناحية يقال لها العريض، فوجدوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما، وحرقوا بيتين بالعريض ونخيلا. ثم رأى أبو سفيان أن يمينه بغزو محمد برت، فانكفأ هاربا خائفا أن يطلبه النبي وأصحابه. وندب محمد أصحابه فخرجوا في إثره وهو على رأسهم حتى بلغوا قرقرة الكدر، وأبو سفيان ومن معه جادون في الفرار يتزايد خوفهم فيلقون ما يحملون من زادهم من السويق، فإذا مر المسلمون به أخذوه. ولما رأى محمد أن القوم أمعنوا في الفرار عاد وأصحابه إلى المدينة. وقد انقلب فرار أبي سفيان عليه بعد أن كان يحسب الغزوة ترفع رأس قريش من مصاب بدر. وبسبب السويق الذي ألقت قريش سميت هذه الغزوة من غزوات محمد غزوة السويق.
استفاضت أنباء محمد هذه بين العرب جميعا. أما القبائل البعيدة عنه فظلت في مأمنها لا تعنى إلا قليلا بأمر هؤلاء المسلمين الذين كانوا إلى يوم بدر - أي إلى أشهر قليلة خلت - أذلة يلتمسون بالمدينة ملجأ، والذين أصبحوا اليوم يقفون في وجه قريش، ويجلون بني قينقاع، ويرسلون الرعب إلى روع عبد الله بن أبي، ويطاردون أبا سفيان، ويظهرون مظهرا لم يكن من قبل مألوفا. فأما القبائل القريبة من المدينة فقد بدأت ترى ما يتهدد مصيرها من قوة محمد وأصحابه، ومن تعادل هذه القوة وقوة قريش بمكة تعادلا تخشى نتائجه. ذلك بأن طريق الشاطئ إلى الشام هي الطريق المعبدة المعروفة. وتجارة مكة في مرورها بها تفيد هذه القبائل فائدة اقتصادية تذكر. وقد عاهد محمد كثيرا من القبائل التي تتاخم الشاطئ، فهدد هذا الطريق وعرض رحلة الصيف لمخاطر قد تضطر معها قريش إلى العدول عن متاخمة الشاطئ. فما عسى أن يصيب هذه القبائل إذا انقطعت تجارة قريش؟ وكيف تراهم يحتملون شظف الحياة في هذه البقاع الشديدة الشظف بطبعها؟ فمن حقها إذن أن تفكر في مصيرها وفيما عسى أن يصيبها من أثر هذا الموقف الجديد الذي لم يعرف قبل هجرة محمد وأصحابه إلى يثرب، والذي لم يصل إلى ما وصل إليه من تهديد حياة هذه القبائل قبل بدر وانتصار المسلمين فيها.
لكن بدرا أدخلت الرعب في قلوب هذه القبائل. أفتراها تغير على المدينة وتحارب المسلمين، أم ماذا تراها تصنع؟ بلغ محمدا أن جمعا من غطفان وسليم اعتزم الاعتداء على المسلمين؛ فخرج إلى قرقرة الكدر ليأخذ عليهم الطريق. فلما وصل إلى ذلك المكان رأى آثار النعم ولم يجد في المجال أحدا، فأرسل نفرا من أصحابه في أعلى الوادي وانتظر هو في بطنه. فلقي غلاما اسمه يسار، فسأله فعلم منه أن الجمع ارتفع إلى الماء؛ فجمع المسلمون ما وجدوا من نعم فاقتسموه بعد أن أخذ محمد الخمس، كنص القرآن. قيل: وكان ما غنموا خمسمائة بعير أخرج النبي خمسها وقسم الباقي، فأصاب كل رجل بعيران. وبلغ محمدا أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب بذي أمر قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطرافه. فخرج عليه السلام في أربعمائة وخمسين من المسلمين، فلقي رجلا من ثعلبة فسأله عن القوم، فدله الرجل على مكانهم وقال له: إنهم يا محمد إن سمعوا بمسيرك هربوا في رءوس الجبال، وأنا سائر معك ودالك على عورتهم. فما لبث المغيرون حين سمعوا باقتراب محمد منهم أن فروا فوق الجبال. وبلغه أن جمعا كبيرا من بني سليم ببحران تهيئوا لقتاله؛ فخرج في ثلاثمائة رجل فأغذوا السير، حتى إذا كانوا دون بحران بليلة لقيهم رجل من بني سليم؛ فسأله محمد عنهم فأخبره أنهم تفرقوا وعادوا أدراجهم. وكذلك كان هؤلاء الأعراب في فزع من محمد وفي قلق على مصيرهم، ما يكادون يفكرون في الكيد لمحمد وفي السير لملاقاته حتى تنخلع قلوبهم لمجرد سماعهم بسيره لملاقاتهم.
وفي هذه الأثناء وقع مقتل كعب بن الأشرف على نحو ما قدمنا. فأصاب اليهود كذلك من الفزع ما جعلهم يلزمون دورهم لا يخرج أحد منهم مخافة أن يصيبه ما أصاب كعبا. وزاد في فزعهم أن أهدر محمد دماءهم بعد الذي كان من أمر بني قينقاع مما أدى إلى حصارهم. فجاءوا إلى محمد يشكون إليه أمرهم ويذكرون له مقتل كعب غيلة بلا جرم ولا حدث علموه. فكان جوابه لهم: إنه آذانا وهجانا بالشعر ولو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما أصابه شر. وبعد حديث طال بينهم دعاهم إلى أن يكتب معهم كتابا يحترمونه. وخافت اليهود وذلت وإن بقي في نفسها من محمد ما بدا من بعد أثره.
ماذا تصنع قريش بتجارتها إلى الشام وقد أخذ محمد عليها طريقها؟ إن مكة تعيش من التجارة، فإذا لم تجد الوسيلة إليها تعرضت لشر ما تتعرض له مدينة مثلها. وهذا محمد أراد حصارها والقضاء في نفس العرب على مكانتها. وقف صفوان بن أمية يوما في قريش وقال لهم: «إن محمدا وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل وأهل الساحل قد وادعوهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسكن. وإن قمنا في دارنا هذا أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء.» قال له الأسود بن عبد المطلب: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق. ودله على فرات بن حيان من بني بكر بن وائل يدلهم على الطريق. وقال لهم فرات: طريق العراق ليس يطؤها أحد من أصحاب محمد، فإنما هي أرض نجد وفياف. لم يخف صفوان الفيافي أن كان الفصل شتاء وحاجتهم إلى الماء قليلة، وتجهز صفوان من الفضة والبضائع بما قيمته مائة ألف درهم. وكان بمكة حين تدبير قريش خروج تجارتها يثربي (هو نعيم بن مسعود الأشجعي) عاد إلى المدينة وجرى على لسانه ذكر حديث قريش وما صنعت لأحد المسلمين. فأسرع هذا فنقل الخبر إلى محمد. وما لبث النبي أن بعث زيد بن حارثة في مائة راكب اعترضوا التجارة عند القردة (ماء من مياه نجد) ففر الرجال وأصاب المسلمون العير؛ فكانت أول غنيمة ذات قيمة غنمها المسلمون، وعاد زيد ومن معه؛ فخمسها محمد وقسم ما بقي على رجاله. وجيء بفرات بن حيان فعرض عليه أن يسلم لينجو، فأسلم ونجا.
هل اطمأن محمد بعد هذا كله إلى أن الأمر قد استقر له؟ هل خدعه يومه عن غده؟ وهل خيل له فزع القبائل منه وما غنم من قريش أن كلمة الله وكلمة رسوله قد اطمأنت ولم يبق للخوف عليها محل؟ وهل جعله إيمانه بنصر الله إياه يلقي حبال الأمور على غواربها علما منه بأن الأمر كله لله؟ كلا؟ فالأمر كله حقا لله، لكنك لن تجد لسنة الله تبديلا. وما ركب الله في النفوس من سلائق لا سبيل إلى إنكاره وقريش لها سيادة العرب، وهي لا يمكن أن تني عن الأخذ بثأرها. وما أصاب قافلة صفوان بن أمية لن يزيدها على الثأر إلا حرصا، وفي التهيؤ للأخذ به إلا شدة. وما كان شيء من هذا ليغيب عن محمد وبعد نظره وسلامة سياسته، فلا بد له إذن من أن يزيد المسلمين به تعلقا وارتباطا، ومهما يكن الإسلام قد شد من عزائمهم وجعلهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فإن حسن رعايتهم تزيد عزائمهم شدة وتضامنهم قوة. ومن حسن رعايتهم أن يزيد محمد رابطته بهم.
لهذا تزوج من حفصة بنت عمر بن الخطاب، كما تزوج من عائشة بنت أبي بكر من قبل، وكانت حفصة من قبله زوج خنيس أحد السابقين إلى الإسلام، وقد مات عنها قبل زواج محمد بسبعة أشهر. وكما تزوج من حفصة فزاد عمر بن الخطاب به تعلقا، زوج ابنته فاطمة من ابن عمه علي أشد الناس محبة للنبي وإخلاصا له منذ طفولته. ولما كانت رقية ابنته قد اختارها الله إلى جواره، فقد زوج عثمان بن عفان بعدها ابنته أم كلثوم. وكذلك جمع حوله برابطة المصاهرة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، وجمع بذلك أربعة من أقوى المسلمين الذين كانوا معه، بل أقواهم إن شئت. بهذا كفل للمسلمين مزيدا من القوة، كما كفل لهم بما غنموا في مغازيهم إقداما على الحرب يجمع فيها الرجل بين الجهاد في سبيل الله والغنم من المشركين. وهو في هذه الأثناء يتتبع بدقة كل الدقة أخبار قريش وما تعد. فقد كانت قريش تعد للثأر ولتفتح لنفسها طريق التجارة إلى الشام، حتى لا تهوي مكانة مكة التجارية ومكانتها الدينية إلى حيث لا تقوم لها من بعد ذلك قائمة.
الفصل الخامس عشر
غزوة أحد
(استعداد قريش بمكة - خروجها للغزو - كيف علم به محمد
صلى الله عليه وسلم - تشاور المسلمين في التحصن بالمدينة أو الخروج لملاقاة العدو - انتصار المسلمين ثم هزيمتهم - خروج النبي من المدينة غداة أحد ليلحق بالمنتصرين فيغزوهم - عودة أبي سفيان وقريش إلى مكة) ***
لم يهدأ منذ بدر لقريش بال، ولم تغنها غزوة السويق شيئا، وزادتها سرية زيد بن حارثة التي أخذت تجارتهم حين سلوكها سبيل العراق إلى الشام حرصا على الثأر وادكارا لقتلى بدر. وكيف لقريش نسيانهم وهم أشراف مكة وساداتها وذوو النخوة والكرامة من كبارها؟! وكيف لها نسيانهم وما تزال نساء مكة تذكر كل منهن في القتلى لها ابنا أو أخا أو أبا أو زوجا أو حميما، فهي له تتوجع وعليه تبكي وتولول؟! هذا، وكانت قريش - منذ قدم أبو سفيان بن حرب بالعير التي كانت سبب بدر من الشام وعاد الذين شهدوا بدرا وسلموا من القتل فيها - قد وقفت العير بدار الندوة، واتفق كبراؤها: جبير بن مطعم وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وحويطب بن عبد العزى وغيرهم، على أن تباع العير وأن تعزل أرباحها وأن يجهز بها جيش لقتال محمد، جرار في عدده وعدته، وأن تستنفر بها القبائل ليشاركوا قريشا في أخذهم بالثأر من المسلمين. وقد استنفروا معهم أبا عزة الشاعر الذي عفا عنه النبي من أسرى بدر، كما استنفروا معهم من اتبعهم من الأحابيش. وأصرت النسوة من قريش على أن يسرن مع الغزاة. فتشاور القوم؛ فمن قائل بخروجهن، «فإنه أقمن أن يحفظكم
1
ويذكركم قتلى بدر، ونحن قوم مستميتون لا نريد أن نرجع إلى دارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه.»
ومن قائل: «يا معشر قريش! هذا ليس برأي أن تعرضوا حرمكم لعدوكم، ولا آمن أن تكون الدبرة
2
عليكم فتفضحوا في نسائكم.» وبينما هم يتشاورون صاحت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بمن يعترض خروج النساء: «إنك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلى نسائك. نعم نخرج فنشهد القتال، ولا يردنا أحد كما ردت الفتيات في سفرهم إلى بدر حين بلغوا الجحفة
3
فقتلت الأحبة يومئذ أن لم يكن معهم من يحرضهم.» وخرجت قريش ومعها نساؤها وعلى رأسهن هند وهي أشدهن على الثأر حرقة، أن قتل يوم بدر أبوها وأخوها وأعز الناس عليها - خرجت قريش تقصد المدينة في ثلاثة ألوية عقدت في دار الندوة، وعلى اللواء الأكبر منها طلحة بن أبي طلحة، وهم ثلاثة آلاف، ليس بينهم غير مائة رجل من ثقيف، وسائرهم من مكة سادتها ومواليها وأحابيشها. وقد أخذوا معهم من العدة والسلاح الشيء الكثير، وقادوا مائتي فرس وثلاثة آلاف بعير، ومن بينهم سبعمائة دارع.
تهيأ القوم للمسير بعد أن أجمعوا عليه والعباس بن عبد المطلب عم النبي بينهم واقف على أمرهم مطلع على كل دقيق وجليل من شأنهم. وكان العباس على حرصه على دين آبائه ودين قومه يحس لمحمد شعور العصبية وشعور الإعجاب، ويذكر له حسن معاملته إياه يوم بدر. ولعل الإعجاب والعصبية اللذين جعلاه يشهد مع محمد بيعة العقبة الكبرى ويخاطب الأوس والخزرج بأنهم إن لم يكونوا مانعي ابن أخيه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم فليدعوه إلى أهله يذودون عنه ذيادهم من قبل، هما اللذان دفعاه حين أجمعت قريش المسير في هذا العدد العظيم إلى أن يكتب كتابا يصف فيه صنيعهم وجمعهم وعدتهم وعديدهم، ويدفع به إلى رجل غفاري يسير به إلى النبي حتى يبلغ المدينة في ثلاثة أيام فيدفعه إليه. فأما قريش فسارت حتى بلغت الأبواء، ومرت بقبر آمنة بنت وهب، فدفعت الحمية بعض الطائشين منها إلى التفكير في نبشه. ولكن زعماءها أبوا عليهم هذه الفعلة، حتى لا تكون سنة عند العرب، وقالوا لا تذكروا من هذا شيئا؛ فلو فعلنا نبشت بنو بكر وبنو خزاعة موتانا. وتابعت قريش مسيرها حتى بلغت العقيق، ثم نزلت عند السفوح من جبل أحد على خمسة أميال من المدينة.
وبلغ الغفاري الذي بعثه العباس بن عبد المطلب بكتابه المدينة، فوجد محمدا بقباء، فذهب إليه فألفاه على باب المسجد هناك يركب حماره، فدفع إليه الكتاب، فقرأه عليه أبي بن كعب، فاستكتمه محمد ما فيه وعاد إلى المدينة فقصد إلى سعد بن الربيع في داره فقص عليه ما بعث العباس به إليه واستكتمه أيضا إياه. على أن زوج سعد كانت بالمنزل وكانت تسمع ما دار فلم يبق سرا. وبعث محمد ابني فضالة أنسا ومؤنسا يتنطسان خبر قريش، فألفياها قاربت المدينة وأطلقت خيلها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها. وبعث محمد من بعدهما الحباب بن المنذر بن الجموح. فلما جاءه من خبرهم بالذي أخبره العباس أخذته عليه السلام الحيرة. وخرج سلمة بن سلامة، فإذا طليعة خيل قريش تقارب المدينة وتكاد تدخلها، فعاد فخبر قومه بما رأى. فخشي الأوس والخزرج وأهل المدينة جميعا عاقبة هذه الغزوة التي أعدت لها قريش خير ما أعدت في تاريخ حروبها؛ حتى لقد بات وجوه المسلمين من أهل المدينة وعليهم السلاح بالمسجد خوفا على النبي، وحرست المدينة كلها طيلة الليل. فلما أصبحوا جمع النبي أهل الرأي من المسلمين ومن المتظاهرين بالإسلام - أو المنافقين على ما كانوا يدعون يومئذ وما نعتوا في القرآن - وجعلوا يتشاورون؛ كيف يلقون عدوهم ...
رأى النبي - عليه السلام - أن يتحصنوا بالمدينة وأن يدعوا قريشا خارجها، فإذا حاولوا اقتحامها كانوا أهلها فكانوا أقدر على دفعهم والتغلب عليهم. ورأى عبد الله بن أبي بن سلول رأي النبي وقال: «لقد كنا يا رسول الله نقاتل فيها ونجعل النساء والأطفال في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة، ونشبك المدينة بالبنيان، فتكون كالحصن من كل ناحية، فإذا أقبل العدو رمته النسوة والأطفال بالحجارة وقابلناه بأسيافنا في السكك، إن مدينتنا يا رسول الله عذراء ما فضت علينا قط، وما دخل علينا عدو فيها إلا أصبناه، وما خرجنا إلى عدو قط منها إلا أصاب منا، فدعهم يا رسول الله وأطعني في هذا الأمر؛ فإني ورثت هذا الرأي عن أكابر قومي وأهل الرأي منهم.»
وكان كلام ابن أبي هذا هو رأي الأكابر من أصحاب الرسول من المهاجرين ومن الأنصار، كما كان رأي الرسول عليه السلام. لكن فتيانا ذوي حمية لم يشهدوا بدرا، ورجالا شهدوها وأمتعهم الله بالنصر فيها وملأ الإيمان قلوبهم أن ليس لقوة أن تغالبهم أو تتغلب عليهم، أحبوا الخروج إلى العدو وملاقاته حيث نزل، مخافة أن يظن أنهم كرهوا الخروج وتحصنوا بالمدينة جبنا عن لقائه. ثم إنهم إلى جانب المدينة وعلى مقربة منها أقوى منهم يوم كانوا ببدر لا يعرف أهلوهم من أمرهم شيئا. قال قائل منهم: «إني لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون حصرنا محمدا في صياصي يثرب وآطامها فتكون هذه مجرئة لقريش. وها هم هؤلاء قد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن عرضنا
4
لم يزرع، وإن قريشا قد مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب من بواديها ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا أفيحبسوننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا! لئن فعلنا لازدادوا جرأة، ولشنوا الغارات علينا وأصابوا من أطرافنا، ووضعوا العيون والأرصاد على مدينتنا، ثم لقطعوا الطريق علينا.» وتعاقب الدعاة إلى الخروج يتحدث كل حديثه ويذكرون جميعا أنهم إذا أظفرهم الله بعدوهم فذلك الذي أرادوا، وذلك الذي وعد الله رسوله بالحق، وإن هم انهزموا واستشهدوا كانت لهم الجنة.
وهز حديث الشجاعة وحديث الاستشهاد القلوب، واستنفر روح الجماعة الأنفس لتجري كلها في هذا التيار، ولتتحدث كلها على هذه النغمة، فلم يبق تلك اللحظة أمام الجمع الماثل في حضرة محمد الممتلئ القلب بالإيمان بالله ورسوله وكتابه وحسابه، إلا صورة الظفر بهذا العدو المعتدي تفرقه سيوفهم أيدي سبأ، ويبعثه بأسهم بددا شذر مذر، وتستولي أيديهم على مغانمه ومحارمه؛ وصورة الجنة أعدت للذين قتلوا في سبيل الله، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين يلقون فيها أحبتهم الذين شهدوا بدرا واستشهدوا فيها،
لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما .
5
قال خيثمة أبو سعد بن خيثمة: «عسى الله أن يظفرنا بهم أو تكون الأخرى فهي الشهادة. لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت عليها حريصا، حتى بلغ من حرصي عليها أن ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه فرزق الشهادة. وقد رأيت ابني البارحة في النوم وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا. وقد - والله يا رسول الله - أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة؛ وقد كبرت سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي.» فلما ظهرت الكثرة واضحة في جانب الذين يقولون بالخروج إلى العدو وملاقاته قال لهم محمد: إني أخاف عليكم الهزيمة؛ فأبوا مع ذلك إلا الخروج. فلم يكن له إلا أن ينزل على رأيهم. وقد كانت الشورى أساس نظامه لهذه الحياة، فلم يكن ينفرد بأمر إلا ما أوحي إليه من عند الله.
وكان اليوم يوم جمعة، فصلى النبي بالناس، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم. ودخل محمد بيته بعد صلاة العصر ودخل معه أبو بكر وعمر فعمماه وألبساه درعه، وتقلد سيفه، والناس أثناء غيبته هذه في جدل يتحاورون. قال أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكانا ممن أشاروا بالتحصن بالمدينة، للذين رأوا الخروج منها: «لقد رأيتم رسول الله يرى التحصن بالمدينة، فقلتم ما قلتم واستكرهتموه على الخروج وهو له كاره، فردوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوا، وما رأيتم له فيه هوى أو رأيا فأطيعوه.» ولان الداعون للخروج لما سمعوا، وحسبوا أنهم خالفوا الرسول إلى شيء قد يكون لله فيه آية. فلما خرج النبي إليهم لابسا درعه متقلدا سيفه أقبل عليه الذين كانوا يرون الخروج فقالوا: «ما كان لنا يا رسول الله أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك؛ والأمر إلى الله ثم إليك.» قال محمد: «قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم. وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. انظروا ما آمركم به فاتبعوه، والنصر لكم ما صبرتم.» وكذلك وضع محمد إلى جانب مبدأ الشورى أساس النظام. فإذا تم للكثرة رأي بعد بحث، لم يكن لها أن تنقضه لهوى أو لغاية، بل يجب أن ينفذ الأمر على أن يحسن من يتولى تنفيذه ويوجهه إلى حيث يتحقق نجاحه.
وتقدم محمد بالمسلمين متجها إلى أحد، حتى نزل الشيخين.
6
وهناك بصر بكتيبة لا يعرف أهلها، فسأل عنها فقيل: هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود. قال عليه السلام: لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك ما لم يسلموا، فانصرف اليهود عائدين إلى المدينة. إذ ذاك جعل حلفاء ابن أبي يقولون له: لقد نصحته وأشرت عليه برأي من مضى من آبائك فكان رأيه مع رأيك، ثم أبى أن يقبله وأطاع الغلمان الذين معه. وصادف حديثهم هوى من نفس ابن أبي؛ فلما أصبحوا انخذل مع كتيبة من أصحابه. وبقي النبي ومعه المؤمنون حقا وعدتهم سبعمائة، ليقاتلوا ثلاثة آلاف قرشي من أهل مكة كلهم موتور من يوم بدر، وكلهم على ثأره حريص.
وسار المسلمون مع الصبح حتى بلغوا أحدا، فاجتازوا مسالكه وجعلوه إلى ظهورهم. وجعل محمد يصف أصحابه، وقد وضع منهم خمسين من الرماة على شعب في الجبل وقال لهم: «احموا لنا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئونا من ورائنا. والزموا مكانكم لا تبرحوا منه. وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم. وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدافعوا عنا. وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل؛ فإن الخيل لا تقدم على النبل.» ثم نهى غير الرماة أن يقاتل أحد حتى يأمر هو بالقتال.
فأما قريش فصفت صفوفها، وجعلت على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ودفعت اللواء إلى عبد العزى طلحة بن أبي طلحة. وجعلت نساء قريش يمشين خلال صفوفها يضربن بالدفوف والطبول، فيكن تارة في مقدمة الصفوف وتارة في مؤخرتها، وعلى رأسهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وهن يقلن:
ويها بني عبد الدار
ويها حماة الأدبار
ضربا بكل بتار
ويقلن:
إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
واستعد الفريقان للقتال وكل يحرض رجاله. فأما قريش فتذكر بدرا وقتلاها. وأما المسلمون فيذكرون الله ونصره. ومحمد يخطب ويحض على القتال، ويعد رجاله النصر ما صبروا. مد يده بسيف فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ فقال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني. وكان أبو دجانة رجلا شجاعا له عصابة حمراء، إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل وأنه أخرج عصابة الموت. فأخذ السيف وأخرج عصابته وعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفين على عادته إذ يختال عند الحرب. فلما رآه محمد يتبختر قال: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن.»
وكان أول من أنشب الحرب بين الفريقين أبو عامر عبد عمرو بن صيفي الأوسي، وكان قد انتقل من المدينة إلى مكة يحرض قريشا على قتال محمد، ولم يكن شهد بدرا، فخرج في أحد في خمسة عشر رجلا من الأوس، وفي عبيد أهل مكة؛ وكان يزعم أنه إذا نادى أهله المسلمين من الأوس الذين يحاربون في صف محمد استجابوا له وانحازوا معه ونصروا قريشا. فخرج فنادى: يا معشر الأوس: أنا أبو عامر. فأجابه الأوس المسلمون: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق! ثم نشب القتال بينهم. وحاول عبيد قريش وحاول عكرمة بن أبي جهل، وكان على الميسرة، أن يأخذوا المسلمين من جناحهم، ولكن المسلمين رشقوهم بالحجارة حتى ولى أبو عامر ومن معه مدبرين. هنالك صاح حمزة بن عبد المطلب صيحة القتال يوم أحد: «أمت، أمت.» واندفع إلى قلب جيش قريش. وصاح طلحة بن أبي طلحة حامل لواء أهل مكة: من يبارز؟! فبرز له علي بن أبي طالب والتقيا بين الصفين، فبادره علي بضربة فلقت هامته. واغتبط النبي وكبر المسلمون وشدوا واندفع أبو دجانة وفي يده سيف النبي وعلى رأسه عصابة الموت، فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله حتى شق صفوف المشركين، فرأى إنسانا يخمش
7
الناس خمشا شديدا، فحمل عليه بالسيف فولول، فإذا هند بنت عتبة فارتد عنها مكرما سيف الرسول أن يضرب به امرأة.
واندفعت قريش إلى القتال يثور في عروقها طلب الثأر لمن مات من أشرافها وسادتها منذ عام ببدر. ووقفت بذلك قوتان غير متكافئتين في العدد ولا في العدة، يحرك الكثرة العظيمة ثأر لا يهدأ منذ بدر في النفوس ثائره، ويحرك الفئة القليلة عاملان: الدفاع عن العقيدة وعن الإيمان وعن دين الله، والدفاع عن الوطن وعما يشتمل عليه هذا الوطن من مصالح. فأما المطالبون بالثأر فكانوا أعز نفرا وأكثر جندا، وكان من ورائهم الظعن يحركنهم، وقد أعدت غير واحدة منهن مولى وعدته الخير الوفير لينتقم لها ممن فجعها ببدر في أب أو أخ أو زوج أو عزيز. كان حمزة بن عبد المطلب، من أعظم أبطال العرب وشجعانهم، وكان قد قتل يوم بدر عتبة أبا هند، كما قتل أخاها ونكل بكثير من الأعزة عليها. وكان يوم أحد كما كان يوم بدر أسد الله وسيفه البتار. قتل أرطأة بن عبد شرحبيل. وقتل سباع بن عبد العزى الغبشاني. وجعل يهذ
8
كل من لقي بسيفه فتسيل من جسده روحه. وكانت هند بنت عتبة قد وعدت وحشيا الحبشي مولى جبير خيرا كثيرا إن هو قتل حمزة، كما قال له جبير بن مطعم مولاه وكان عمه قد قتل ببدر : إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق. روى وحشي قال: «فخرجت مع الناس ، وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئا. فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق
9
يهذ الناس سيفه هذا، فهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه فوقعت في ثنته
10
حتى خرجت من بين رجليه، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة. إنما قتلته لأعتق. فلما قدمت مكة أعتقت.»
أما المدافعون عن الوطن فكان لهم مثل في قزمان أحد المنافقين الذين أظهروا الإسلام. تخلف عن الخروج يوم خرج المسلمون لأحد. فلما أصبح عيره نساء بني ظفر فقلن: يا قزمان، ألا تستحي لما صنعت؟! ما أنت إلا امرأة، خرج قومك فبقيت في الدار. فدخل قزمان بيته مغيظا محنقا فأخرج فرسه وجعبته وسيفه، وكان يعرف بالشجاعة، فخرج يعدو حتى كان عند الجيش والنبي يسوي صفوف المسلمين، فتخطاها حتى كان في الصف الأول منها، وكان أول من رمى بنفسه من المسلمين، وجعل يرسل نبلا كأنها الرماح، فلما كان آخر النهار فضل الموت على الفرار وقتل نفسه بعد أن أصاب من قريش سبعة رجال في سويعة غير من قتل منهم بدء المعركة. ومر به أبو الغيداق وهو يسلم الروح، فقال له: «هنيئا لك الشهادة يا قزمان!» قال قزمان: «إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين. ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير قريش إلينا فتقتحم حرمنا وتطأ سعفنا، والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت.»
أما المؤمنون حقا، وكان عددهم لا يزيد على سبعمائة يقاتلون ثلاثة آلاف، فقد رأيت من فعال حمزة وأبي دجانة ما يصور لك صورة من قوتهم المعنوية؛ قوة انثنت أمامها صفوف قريش وكأنها الخيزران، وتراجع أمامها أبطال قريش وكانوا بين العرب مضرب المثل في الإقدام والشجاعة. وكان لواؤهم لا يسقط من يد حامله حتى يأخذه خلفه. حمل عثمان بن أبي طلحة اللواء بعد أن قتل علي طلحة بن أبي طلحة، فلقي مصرعه على يد حمزة. وحمله أبو سعد بن أبي طلحة وصاح: أتزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار؟! والله إنكم لتكذبون. ولو كنتم تؤمنون حقا فليتقدم منكم من يقاتلني. وضربه علي أو سعد بن أبي وقاص بسيفه ضربة فلقت هامته. وتعاقبت حملة اللواء من بني عبد الدار حتى قتل منهم تسعة، كان آخرهم صؤاب الحبشي غلام بني عبد الدار، وقد ضربه قزمان على يده اليمنى، فتناول اللواء باليسرى، فقطعها قزمان بسيفه، فضم صؤاب اللواء بذراعيه إلى صدره ثم حنى عليه ظهره وهو يقول: يا بني عبد الدار، هل أعذرت؟ وقتله قزمان أو قتله سعد بن أبي وقاص، على خلاف في الرواية. فلما قتل أصحاب اللواء انكشف المشركون منهزمين لا يلوون على شيء حتى أحيط بنسائهم، وحتى وقع الصنم الذي احتملوه يتيامنون به من فوق الجمل الذي كان يحمله ومن خلال الهودج الذي كان يحتويه.
والحق أن ظفر المسلمين في صبيحة يوم أحد كان معجزة من معجزات الحرب، قد يفسرها بعضهم بمهارة محمد في وضعه الرماة في شعب الجبل يصدون الفرسان بالنبل فلا يتقدمون ولا يأتون المسلمين من خلفهم. وهذا حق. ولكن من الحق أيضا أن ست المائة من المسلمين الذين هاجموا عددا يوازي خمسة أمثالهم، وعدة في مثل هذه النسبة، إنما دفعهم إلى معجزات البطولة التي أتوا شيء أعظم من مهارة القيادة: ذلك هو الإيمان، الإيمان الصادق بأنهم على الحق. ومن آمن بالحق لم تزعجه قوة مادية مهما عظمت، ولم تضعضع من عزمته كل قوات الباطل وإن اجتمعت. وهل رأيت مهارة القيادة وحدها كانت تغني والرماة الذين وضعهم النبي في الشعب لم يكونوا إلا خمسين، فلو أن مائتين أو ثلاثمائة رجل هاجموهم مستقتلين لما ثبتوا ولا صبروا أمامهم. لكن القوة الكبرى، قوة الفكر، قوة العقيدة، قوة الإيمان الصادق بالحق العلي الأعلى، هذه القوة لا غالب لها ما أراد صاحبها وجه الحق وحده. ولذلك تمزقت قريش في ثلاثة آلاف من فرسانها أمام هجمات ستمائة مسلم. وأوشكت نسوتها أن يؤخذن أسرى ذليلات . وتبع المسلمون عدوهم يضعون السلاح فيه حيث شاءوا حتى بعد عن معسكره؛ فجعل المسلمون ينتهبون الغنيمة، وما أكثر ما كانت! وصرفهم ذلك عن اتباع عدوهم ابتغاء عرض الدنيا.
ورآهم الرماة الذين أمرهم الرسول ألا يبرحوا الشعب ولو رأوه وأصحابه يقتلون، فقال بعضهم لبعض وقال سال لمرأى الغنيمة لعابهم: «لم تقيمون ههنا في غير شيء وقد هزم الله عدوكم وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا فاغنموا مع الغانمين.» قال قائل منهم: «ألم يقل لكم رسول الله لا تبرحوا مكانكم وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا؟!» قال الأولون: «لم يرد رسول الله أن نبقى بعد أن أذل الله المشركين.» واختلفوا فخطبهم أميرهم عبد الله بن جبير أن لا يخالفوا أمر الرسول، فعصاه أكثرهم وانطلقوا ولم يبق معه إلا نفر دون العشرة. واشترك المنطلقون في النهب وشغلوا كما شغل سائر المسلمين به. إذ ذاك اهتبل الفرصة خالد بن الوليد، وكان على فرسان مكة، فشد برجاله على مكان الرماة فأجلاهم. ولم يفطن المسلمون لفعله لأنهم شغلوا عنه وعن كل شيء بهذه الغنائم يعبون منها، حتى ولم يبق رجل منهم وقع في يده شيء إلا أخذه. وإنهم لكذلك إذ صاح ابن الوليد صيحة أدركت قريش معها أنه دار برجاله وراء جيش المسلمين.
عند ذلك عاد منهم كل منهزم فأثخنوا في المسلمين ضربا وقتلا. وهناك دارت الدائرة؛ فألقى كل مسلم ما كان بيده مما انتهب وعاد إلى سيفه يسله ليقاتل به. ولكن هيهات هيهات! لقد تفرقت الصفوف وتمزقت الوحدة وابتلع البحر اللجي من رجال قريش هذه الصفوة من المسلمين كانت إلى ساعة تقاتل بأمر ربها تنضح عن إيمانها، وهي الساعة تقاتل لتنجو من براثن الموت ومخالب المذلة. وكانت تقاتل متراصة متضامنة، وهي الآن تقاتل مبعثرة متناكرة. وكانت تقاتل تحت قيادة قوية حازمة حكيمة، وهي الآن تقاتل ولا قيادة لها. فلم يكن عجبا أن ترى مسلما يضرب مسلما بسيفه وهو لا يكاد يعرفه. وصاح صائح بالناس : إن محمدا قد قتل، فازدادت الفوضى وعظمت البلبلة، واختلف المسلمون وصاروا يقتتلون ويضرب بعضهم بعضا وهم لا يشعرون لما هم فيه من العجلة والدهش. قتل المسلمون مواطنهم المسلم حسيل بن جابر أبا حذيفة وهم لا يعرفونه. وكان أكبر هم كل مسلم أن ينجو بنفسه إلا من عصم الله؛ من أمثال علي بن أبي طالب.
على أن قريشا ما لبثت حين سمعت بمقتل محمد أن تدافعت تدافع السيل إلى الناحية التي كان فيها. وكل يريد أن يكون له في قتله أو التمثيل به ما يفاخر الأجيال به. هنالك أحاط المسلمون القريبون بنبيهم يدافعون عنه ويحمونه، وقد عاد الإيمان فملأ نفوسهم وملك قلوبهم وحبب إليهم الموت وهون عليهم الحياة الدنيا. وزادهم إيمانا واستماتة أن رأوا الحجارة التي تقذفها قريش قد أصابت النبي فوقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، ودخلت حلقتان من المغفر الذي يستر به وجهه في وجنته. وكان رامي الحجر الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. وتمالك الرسول وسار وأصحابه من حوله، فإذا به يقع في حفرة حفرها أبو عامر ليقع فيها المسلمون. هنالك أسرع إليه علي بن أبي طالب فأخذ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى وجعل يسير وأصحابه، متسلقين أحدا ناجين من العدو واتباعه إياهم.
وفي لحظة قاموا كان قد اجتمع حولهم من المسلمين من استماتوا في الدفاع عن رسول الله استماتة لا يقهر صاحبها أبدا. كانت أم عمارة الأنصارية قد خرجت أول النهار ومعها سقاء فيه ماء تدور به على المسلمين المجاهدين تسقي منهم من استسقى. فلما انهزم المسلمون ألقت سقاءها واستلت سيفا وقامت تباشر القتال تذب عن محمد بالسيف وترمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إليها. وترس أبو دجانة بنفسه دون رسول الله، فحنى ظهره والنبل يقع فيه. ووقف سعد بن أبي وقاص إلى جانب محمد يرمي بالنبل دونه ومحمد يناوله النبل ويقول له: ارم فداك أبي وأمي. وكان محمد قبل ذلك يرمي بنفسه عن قوسه حتى اندقت سيتها. هذا، فأما الذين ظنوا محمدا قد مات ومن بينهم أبو بكر وعمر فانتحوا الجبل وألقوا بأيديهم . فرآهم أنس بن النضر فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله. قال: فما تصنعون بالحياة بعد؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه؛ ثم استقبل القوم فقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء منقطع النظير، حتى إنه لم يقتل إلا بعد أن ضرب سبعين ضربة، وحتى إنه لم يعرفه أحد إلا أخته عرفته من بنانه.
وفرحت قريش بما اعتقدت من موت محمد، فراح أبو سفيان يفتقده في القتلى؛ ذلك بأن الذين كانوا ينضحون عنه عليه السلام لم يكذب أحد منهم خبر قتله إطاعة لأمره حتى لا تتكاثر عليهم قريش فتغلبهم دونه. على أن كعب بن مالك أقبل إلى ناحية أبي دجانة ومن معه فعرف محمدا حين رأى عينيه تزهران تحت المغفر فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا! هذا رسول الله؛ فأشار النبي إليه ليسكت. لكن المسلمين ما لبثوا حين عرفوا أن نهضوا بالنبي ونهض هو معهم نحو الشعب، ومن حوله أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام ورهط غيرهم. وكان لصيحة كعب عند قريش كذلك أثرها. صحيح أن أكثرهم لم يصدقها وحسبها صيحة أريد بها شد عزائم المسلمين، إلا أن بعضهم اندفع وراء محمد والذين ساروا معه.
وقد أدركهم أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا! فطعنه الرسول بحربة الحارث بن الصمة طعنة جعلته يتقلب على فرسه ويعود أدراجه ليموت في الطريق. فلما انتهى المسلمون إلى فم الشعب خرج علي فملأ درقته ماء، فغسل محمد به الدم عن وجهه وصب منه على رأسه؛ ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرسول فسقطت ثنيتاه. وإنهم لكذلك إذ علا خالد بن الوليد على رأس فرسان معه الجبل، فقاتلهم عمر بن الخطاب ورهط من أصحاب الرسول فردوهم، وازداد المسلمون في الجبل تصعيدا وقد نهكهم التعب وهدهم الجهد، حتى صلى النبي الظهر قاعدا من الجراح التي أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
فأما قريش فطارت بنصرها سرورا وحسبت نفسها انتقمت لبدر أشد الانتقام؛ حتى صاح أبو سفيان: «يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل.» وأما هند بنت عتبة زوجه فلم يكفها النصر، ولم يكفها قتل حمزة بن عبد المطلب، بل انطلقت هي والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين تجدعن الآذان والأنوف، وجعلت هند لنفسها منها قلائد وأقراطا، ثم إنها بقرت بطن حمزة وجذبت بين يديها كبده وجعلت تلوكها بأسنانها فلا تستطيع أن تسيغها. وبلغ من شناعة ما فعلت وما فعلت النسوة ممن معها، بل ما فعل الرجال كذلك من الفظائع، أن تبرأ أبو سفيان من تبعتها، وأعلن أنه لم يأمر به وإن كان قد اشترك فيه، بل قال يخاطب أحد المسلمين: «إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت.»
وانصرفت قريش بعد أن دفنت قتلاها؛ وعاد المسلمون إلى الميدان لدفن قتلاهم. وخرج محمد يلتمس عمه حمزة. فلما رآه قد بقر بطنه ومثل به حزن من أجله أشد الحزن وقال: «لن أصاب بمثلك أبدا. ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا.» ثم قال: «والله لئن أظهرنا الله عليهم يوما من الدهر لأمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.» وفي هذا نزل قوله تعالى:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون
11
فعفا رسول الله وصبر ونهى عن المثلة، وسجى حمزة ببرده وصلى عليه. وجاءت أخته صفية بنت عبد المطلب، فنظرت إليه وصلت عليه واستغفرت له. ودفن حمزة، وأمر النبي بالقتلى فدفنوا حيث لقوا مصارعهم، وانصرف المسلمون إلى المدينة ومحمد على رأسهم، تاركين وراءهم سبعين من القتلى؛ يحز في نفوسهم الألم لما أصابهم من هزيمة من بعد نصر، ومن مذلة وهوان بعد ظفر لا ظفر مثله؛ وذلك كله لعصيان الرماة أمر النبي واشتغال المسلمين عن العدو بغنائمه.
ودخل النبي إلى بيته وجعل يفكر. ها هم أولاء أهل يثرب من اليهود والمنافقين والمشركين يظهرون السرور أشد السرور لما كانت من هزيمته وهزيمة أصحابه. وهذا سلطان المسلمين بالمدينة كان قد استقر فلم يبق لأحد أن ينازع فيه، وها هو يوشك أن يضطرب ويتزعزع. وهذا عبد الله بن أبي بن سلول قد خرج على الجماعة وعاد من أحد ولم يشترك في القتال بدعوى أن محمدا لم يسمع رأيه، أو أن محمدا غضب على مواليه من اليهود. فلو أن هزيمة أحد بقيت الكلمة الأخيرة بين المسلمين وقريش لهان أمر محمد وأصحابه على العرب، ولتضعضع سلطانهم بيثرب، ولكانوا عرضة لاستخفاف قريش بهم وإرسالها دعابة السخر والاستهزاء منهم في أنحاء شبه الجزيرة جميعا. ولئن حدث هذا لجاء في أثره اجتراء المشركين وعباد الأوثان على دين الله فتكون الطامة الكبرى. فلا بد إذن من ضربة جريئة تخفف من وقع هزيمة أحد وترد إلى المسلمين قوتهم المعنوية، وتدخل إلى روع اليهود والمنافقين الرهبة وتعيد إلى محمد وأصحابه سلطانهم بيثرب قويا كما كان.
فلما كان الغد من يوم أحد، وكان الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن النبي في المسلمين بطلب العدو واستنفرهم لمطاردته، على ألا يخرج إلا من حضر الغزوة. وخرج المسلمون فوقع في روع أبي سفيان أن أعداءه جاءوا من المدينة بمدد جديد فخاف لقاءهم. وبلغ محمد حمراء الأسد،
12
وكان أبو سفيان وأصحابه بالروحاء فمر به معبد الخزاعي، وكان قد مر بمحمد ومن معه، فسأله عن شأنهم فأجابه معبد - وكان لا يزال على الشرك: «إن محمدا قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، وقد اجتمع معه من كان قد تخلف عنه، وكلهم أشد ما يكون عليكم حنقا ومنكم للثأر طلبا.» على أن أبا سفيان فكر فيما يكون لفراره من محمد ومن عدم مواجهته إياه بعد انتصاره عليه بأحد من الأثر. أفلا تقول العرب في قريش ما كان يود هو أن تقوله في محمد وأصحابه؟
ولكن هبه رجع إلى محمد فهزمه المسلمون، إذن ليكونن ذلك القضاء الأخير على قريش قضاء لا تقوم لها من بعده قائمة أبدا. فلجأ إلى الحيلة، فبعث مع ركب من عبد القيس يقصدون المدينة أن يبلغوا محمدا أنه قد أجمع السير إليه وإلى أصحابه ليستأصل بقيتهم. فلما أبلغ الركب الرسالة إلى محمد بحمراء الأسد لم يتضعضع عزمه ولم تهن قوته، بل ظل في مكانه يوقد النار طيلة الليل ثلاثة أيام متتابعة، ليدل قريشا على أنه على عزمه وأنه منتظر رجعتهم. وأخيرا تزعزعت
13
همة أبي سفيان وقريش، وآثروا أن يبقوا على نصرهم بأحد وعادوا أدراجهم ميممين مكة. ورجع محمد إلى المدينة وقد استرد كثيرا من مكانة تزعزعت على أثر أحد، وإن كان المنافقون قد بدءوا يرفعون رءوسهم ضاحكين من المسلمين يسألونهم: إذا كانت بدر آية من الله برسالة محمد فماذا عسى أن تكون آية أحد وماذا تكون دلالتها؟!
الفصل السادس عشر
آثار أحد
(ائتمار القبائل المجاورة بالمسلمين - غزوة بني أسد - أمر الهذلي - مقتل خبيب وأصحابه بالرجيع - مقتل المسلمين ببئر معونة - إجلاء بني النضير عن المدينة - غزوة بدر الآخرة - غزوة دومة الجندل) ***
عاد أبو سفيان من أحد إلى مكة، وقد سبقته إليها أخبار النصر، ممتلئ النفس غبطة وسرورا بما زال عن قريش من عار بدر. ولم يلبث حين بلغها أن قصد الكعبة قبل أن يدخل إلى بيته، وبها رفع إلى كبير آلهتهم هبل آي الثناء والحمد؛ ثم حلق لمته ورجع إلى داره موفيا نذره ألا يقرب زوجه حتى ينتصر على محمد. أما المسلمون فألفوا المدينة وقد تنكر لهم الكثير من أمرها، على رغم مطاردتهم عدوهم وثباتهم له ثلاثة أيام سويا من غير أن يجترئ على الرجعة إليهم وهو المنتصر قبل أربع وعشرين ساعة عليهم. ألفوا المدينة وقد تنكر لهم الكثير من أمرها وإن بقي سلطان محمد فيها السلطان الأعلى، وشعر عليه السلام بدقة الموقف وحرج المركز، لا في المدينة وحدها، بل كذلك عند قبائل العرب ممن كان الرعب منه قد داخل نفوسها؛ قد ردت أحد إليها من السكينة ما سمح لها أن تفكر في معارضته ومناوأته. لذلك حرص على أن يقف من أخبار أهل المدينة ومن أخبار العرب جميعا، على ما يمكنه من استعادة مكانة المسلمين وسطوتهم وهيبتهم في النفوس.
وكان أول ما بلغه بعد شهرين من أحد أن طليحة وسلمة ابني خويلد، وكانا على رأس بني الأسد، يحرضان قومهما ومن أطاعهما يريدان مهاجمة المدينة والسير إلى محمد في عقر داره ليصيبوا من أطرافه وليغنموا من نعم المسلمين التي ترعى الزروع المحيطة بمدينتهم. وغنما شجعهم على ذلك اعتقادهم أن محمدا وأصحابه لا يزالون مضعضعين من أثر أحد. فما لبث النبي حين اتصل به الخبر أن دعا إليه أبا سلمة بن عبد الأسد وعقد له لواء سرية تبلغ عدتها مائة وخمسين، منهم أبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وأسيد بن حضير، وأمرهم بالسير ليلا والاستخفاء نهارا وسلوك طريق غير مطروق حتى لا يطلع أحد على خبرهم، فيفجئوا العدو بالإغارة عليه على غرة منه، ونفذ أبو سلمة ما أمر به حتى جاء القوم ولم يستعدوا لنضال، فأحاط بهم في عماية الصبح، وحض رجاله وحرضهم على الجهاد؛ فلم يستطع المشركون أن يثبتوا لهم، فوجه لواءين في طلبهم وطلب الغنيمة، وأقام هو ومن معه حتى عاد المطاردون بما غنموا، فنحوا الخمس لله ورسوله وللمسكين وابن السبيل، واقتسموا الباقي ورجعوا إلى المدينة ظافرين وقد أعادوا إلى النفوس من هيبة المسلمين شيئا مما ضيعت أحد. على أن أبا سلمة لم يعش بعد السرية طويلا؛ فقد كان جرح بأحد ولم يكن التئام جرحه إلا ظاهرا. فلما جهد نفسه نغر الجرح
1
وظل به حتى قضى عليه.
واتصل بمحمد من بعد ذلك أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي مقيم بنخلة أو بعرنة، وأنه يجمع الناس ليغزوه، فدعا إليه عبد الله بن أنيس وبعثه يتجسس حتى يقف على جلية الخبر، وسار عبد الله حتى لقي خالدا وهو في ظعن يرتاد لهن منزلا. فلما انتهى إليه سأله خالد: من الرجل؟ فأجابه: أنا رجل من العرب سمع بك وبجمعك لمحمد فجاءك لذلك. فلم يخف خالد أنه يجمع الجمع ليغزو المدينة. ولما رآه عبد الله في عزلة من الرجال وليس معه إلا أولئك النسوة استدرجه للمسير معه، حتى إذا أمكنته منه الفرصة حمل عليه بالسيف فقتله، ثم ترك ظعائنه منكبات عليه يبكينه، وعاد إلى المدينة فأخبر الرسول الخبر. وهدأت بنو لحيان من هذيل بعد موت زعيمها زمنا، ثم فكرت تحتال لتثأر له.
في هذا الحين وفد رهط من قبيلة تجاورهم إلى محمد يقولون له: إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يعلموننا شرائعه ويقرئوننا القرآن. وكان محمد يبعث من أصحابه كلما دعي إلى ذلك ليؤدوا هذه المهمة الدينية السامية، وليدعوا الناس إلى الهدى ودين الحق، وليكونوا لمحمد وأصحابه عونا على خصومهم وأعدائهم، على نحو ما رأيت من ذلك كله فيمن بعثهم إلى المدينة على أثر العقبة الكبرى. لذلك بعث ستة من كبار أصحابه خرجوا مع الرهط وساروا معهم. فلما كانوا جميعا على ماء لهذيل بالحجاز بناحية تدعى الرجيع، غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا. ولم يرع المسلمين الستة وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم؛ فأخذ المسلمون أسيافهم ليقاتلوا. لكن هذيلا قالت لهم: إنا والله ما نريد قتلكم؛ ولكنا نريد أن نصيب بكم مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. ونظر المسلمون بعضهم إلى بعض وقد أدركوا أن الذهاب بهم إلى مكة فرادى إنما هو المذلة والهوان وما هو شر من القتل، فأبوا ما وعدت هذيل. وانبروا لقتالها، وهم يعلمون أنهم في قلة عددهم لا يطيقونه. وقتلت هذيل ثلاثة منهم ولان الثلاثة الباقون.
فأمسكت بتلابيبهم وأخذتهم أسرى، وخرجت بهم إلى مكة تبيعهم فيها. فلما كانوا في بعض الطريق انتزع عبد الله بن طارق أحد المسلمين الثلاثة يده من غل الأسر ثم أخذ سيفه؛ فاستأخر عنه القوم وطفقوا يرجمونه بالحجارة حتى قتلوه، أما الأسيران الآخران فقدمت بهما هذيل مكة وباعتهما من أهلها. باعت زيد بن الدثنة لصفوان بن أمية الذي اشتراه ليقتله بأبيه أمية بن خلف؛ فدفع به إلى مولاه نسطاس ليقتله. فلما قدم سأله أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ قال زيد: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي! فعجب أبو سفيان وقال: ما رأيت من الناس أحدا يحبه أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمدا. وقتل نسطاس زيدا، فذهب شهيد أمانته لدينه ولنبيه.
أما خبيب فحبس حتى خرجوا به ليصلبوه؛ فقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا؛ فأجازوه فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم وقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. ورفعوه إلى خشبة؛ فلما أوثقوه إليها نظر إليهم بعين مغضبة وصاح: «اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا.» فأخذت القوم الرجفة من صيحته، واستلقوا إلى جنوبهم حذر أن تصيبهم لعنته، ثم قتلوه.
وكذلك استشهد خبيب كما استشهد زيد في سبيل بارئه وسبيل دينه ونبيه. وكذلك ارتفع إلى السماء هذان الروحان الطاهران وكان في استطاعة صاحبيهما أن يستنقذاهما من القتل إن رضيا الردة عن دينهما لكنهما في يقينهما بالله وبالروح وبيوم البعث، يوم تجزى كل نفس بما كسبت ولا تزر وازرة وزر أخرى، رأيا الموت، وهو غاية كل حي، خير ما يكون غاية للحياة في سبيل العقيدة وفي سبيل الإيمان بالحق؛ ولكنهما آمنا بأن دمهما الزكي الطهور الذي أريق على أرض مكة سيدعو إليها إخوانهم المسلمين يدخلونها فاتحين يحطمون أصنامها، ويطهرونها من رجس الوثنية والشرك، ويردون فيها إلى الكعبة بيت الله ما يجب لبيت الله من تقديس وتنزه عن أن يذكر فيه اسم غير اسم الله.
لا يقف المستشرقون من هذا الحادث وقوفهم عند أسيري بدر اللذين قتلهما المسلمون، ولا يحاولون أن يستنكروا هذا الغدر برجلين بريئين لم يؤخذا في حرب وإنما أخذا خداعا وسارا بأمر الرسول ليعلما من غدروا بهما ومن أسلموهما إلى قريش بعد أن قتلوا زملاءهم غيلة وبغيا. وهم لا يستنكرون ما صنعت قريش بالرجلين الأعزلين، مع أن ما صنعته بهما شر مثل للجبن وللعدوان الدنيء. ولقد كانت أولى مبادئ الإنصاف تقتضي المستشرقين، الذين أنكروا ما فعل المسلمون بأسيري بدر، أن يكونوا أشد استنكارا لغدر قريش وغدر الذين أسلموا إليها الرجلين لقتلهما، بعد أن قتلوا الأربعة الرجال الذين جاءوا وإياهم إجابة لطلبهم ليدلوهم على الحق ويفقهوهم في الدين.
حزن المسلمون وحزن محمد لما أصاب أصحابهم الستة الذين استشهدوا في سبيل الله بغدر هذيل بهم، وأرسل حسان بن ثابت أشعاره يرثي فيها خبيبا وزيدا أحر الرثاء. وازداد محمد تفكيرا في أمر المسلمين وخشي إن تكررت مثل هذه الأمور أن تستخف العرب بشأنهم. ولا شيء أقتل لهيبتك من استخفاف غيرك بشأنك. وإنه لفي تفكيره إذ قدم عليه أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة؛ فعرض محمد عليه أن يسلم فلم يقبل، ولكنه لم يظهر للإسلام عداوة، بل قال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فخاف محمد على أصحابه من أهل نجد وخشي أن يغدروا بهم كما غدرت هذيل بخبيب وأصحابه. ولم يقتنع ولم يجب طلب أبي براء، حتى قال: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا إلى أمرك. وكان أبو براء رجلا مسموع الكلمة في قومه لا يخاف من أجاره عادية أحد عليه. وبعث محمد المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في أربعين رجلا من خيار المسلمين. فساروا ونزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، ومن هناك بعثوا حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب محمد فلم ينظر عامر الكتاب بل قتل الرجل واستصرخ بني عامر كي يقتلوا المسلمين. فلما أبوا أن يخفروا ذمة أبي براء وجواره استصرخ عامر قبائل أخرى أجابته وخرجت معه حتى أحاطوا بالمسلمين في رحالهم فلما رآهم المسلمون أخذوا سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، لم ينج منهم إلا كعب بن زيد؛ إذ تركه ابن الطفيل وبه رمق، فعاش ولحق بالمدينة، وإلا عمرو بن أمية الذي أعتقه عامر بن الطفيل عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. ولقي عمرو رجلين في الطريق حين عودته بعد انطلاقه، فحسبهما من القوم الذين عدوا على أصحابه، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وتابع مسيره حتى بلغ المدينة، فأخبر الرسول - عليه السلام - بما صنع فإذا الرجلان عامريان من قوم أبي براء، وإذا معهما عقد جوار من رسول الله اقتضاه أن يؤدي ديتهما.
وجد محمد لقتلى بئر معونة أشد الوجد، وحزن من أجلهم أعمق الحزن، وقال: هذا عمل أبي براء، لقد كنت كارها متخوفا وشق على أبي براء إخفار عامر بن الطفيل إياه، حتى لقد ذهب ابنه ربيعة فطعن عامرا بالرمح انتقاما منه لأبيه. وبلغ من حزن محمد أنه ظل شهرا كاملا يدعو الله بعد أداء فريضة الفجر لينتقم لهم من قتلتهم. وتأثر المسلمون جميعا لهذه الكارثة التي أصابت إخوانهم في الدين. وإن آمنوا بأنهم جميعا استشهدوا، وبأنهم جميعا لهم الجنة.
ووجد أهل المدينة من المنافقين واليهود فيما أصاب المسلمين بالرجيع وبئر معونة ما أعاد إلى ذاكرتهم انتصار قريش بأحد، وما أنساهم نصر المسلمين على بني أسد، وما أضعف في نفوسهم من هيبة محمد وأصحابه. وفكر النبي - عليه السلام - في هذه الحالة تفكير سياسي دقيق النظر بعيد مرامي الرأي. فليس شيء أشد على المسلمين يومئذ خطرا من أن تضعف في نفوس مساكنيهم بالمدينة هيبتهم، وليس شيء يطمع قبائل العرب فيهم مثل أن تشعر بهذا الانقسام الداخلي يوشك أن يثير حربا أهلية إذا غزا المدينة غاز من جيرانها. ثم إنه رأى اليهود والمنافقين كأنهم يتربصون به الدوائر؛ فقدر أن لا شيء خير من أن يستدرجهم لتتضح نياتهم. ولما كان اليهود من بني النضير حلفاء لبني عامر، فقد ذهب إلى محلتهم على مقربة من قباء، في عشرة من كبار المسلمين بينهم أبو بكر وعمرو وعلي، وطلب إليهم معاونتهم في دية القتيلين اللذين قتل عمرو بن أمية خطأ، ومن غير أن يعلم أن محمدا أجارهما.
فلما ذكر لهم ما جاء فيه أظهروا الغبطة والبشر وحسن الاستعداد لإجابته. لكنه ما لبث أثناء تبسط بعضهم معه أن رأى سائرهم يتآمرون، ويذهب أحدهم إلى ناحية ، ويبدو عليهم كأنهم يذكرون مقتل كعب بن الأشرف، ويدخل أحدهم (عمرو بن جحاش بن كعب) البيت الذي كان محمد مستندا إلى جداره. إذ ذاك رابه أمرهم، وزاده ريبة ما كان يبلغه من حديثهم عنه وائتمارهم به. لذلك ما لبث أن انسحب من مكانه تاركا أصحابه وراءه يظنون أنه قام لبعض أمره. أما اليهود فقد اختلط عليهم الأمر ولم يعودوا يعرفون ما يقولون لأصحاب محمد ولا ما يصنعون بهم. فإن هم غدروا بهم فمحمد لا ريب منتقم منهم شر انتقام. وإن هم تركوهم فلعل ائتمارهم بحياة محمد وأصحابه لا يكون قد افتضح فيظل ما بينهم وبين المسلمين من عهد قائما. وحاولوا أن يقنعوا ضيوفهم المسلمين بما يزيل ما قد يكون رابهم من غير أن يشيروا إلى شيء منه. لكن أصحاب محمد استبطئوه فقاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة عرفوا منه أن محمدا دخلها وأنه قصد توا إلى المسجد فيها، فذهبوا إليه.
فلما ذكر لهم ما رابه من أمر اليهود ومن اعتزامهم الغدر به وتنبهوا إلى ما كانوا رأوا، آمنوا بنفاذ بصيرة الرسول وما أوحي إليه. وبعث النبي يدعو إليه محمد بن مسلمة وقال له: «اذهب إلى يهود بني النضير وقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي؛ لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي. لقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه.» وأبلست
2
بنو النضير، فلم يجدوا لهذا الكلام دفعا ولم يحيروا عنه جوابا إلا أن قالوا لابن مسلمة: «يا محمد، ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس.» وذلك إشارة إلى تحالفهم وإياهم من قبل في حرب الخزرج. فكان كل ما أجاب به ابن مسلمة: «تغيرت القلوب.»
ومكث القوم على ذلك أياما يتجهزون وإنهم لكذلك إذ جاءهم رسولان من عند عبد الله بن أبي يقولان: لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم. وتشاورت بنو النضير في مقالة ابن أبي وهم أشد ما يكونون حيرة؛ فمنهم من لم يكن له بابن أبي أية ثقة. ألم يعد بني قينقاع من قبل مثل ما يعد بني النضير اليوم، فلما جد الجد تخلى عنهم وولى مدبرا؟ وهم يعلمون أن بني قريظة لا ينصرونهم لما بينهم وبين محمد من عهد. ثم إنهم جلوا عن ديارهم إلى خيبر أو إلى محلة قريبة، استطاعوا أن يعودوا حين يثمر نخيلهم إلى يثرب، يجنون ثمره ويعودون أدراجهم فلا يكونون قد خسروا كثيرا. قال كبيرهم حيي بن أخطب: كلا بل أنا مرسل إلى محمد: إنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا، فليصنع ما بدا له، وما علينا إلا أن نرم حصوننا ندخل إليها ما شئنا، وندرب أزقتنا وننقل الحجارة إليها، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماؤنا لا ينقطع، ولن يحصرنا محمد سنة كاملة. وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم.
فأخذ المسلمون السلاح وساروا إليهم فقاتلوهم عشرين ليلة، وكانوا أثناءها إذا ظهروا على الدرب أو الديار تأخر اليهود إلى الديار التي من بعدها بعد تخريبهم إياها. ثم أمر محمد أصحابه أن يقطعوا نخل اليهود وأن يحرقوه حتى لا تبقى اليهود في شدة تعلقها بأموالها تتحمس للقتال وتقدم عليه. وجزع اليهود ونادوا: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟! وفي ذلك نزل قوله تعالى:
ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين .
3
وعبثا انتظر اليهود نصر ابن أبي أو تقدم أحد من العرب لنجدتهم، حتى لم يبق لديهم ريبة في سوء مصيرهم إذا أصروا على متابعة القتال. فلما ملأ اليأس قلوبهم رعبا، سألوا محمدا أن يؤمنهم على أموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة. فصالحهم محمد على أن يخرجوا منها، ولكل ثلاثة منهم بعير يحملون عليه ما شاءوا من مال أو طعام أو شراب، وليس لهم غيره. واحتمل اليهود على رأسهم حيي بن أخطب، فنزل خيبر منهم من نزل وسار آخرون إلى أذرعات بالشام، وتركوا وراءهم للمسلمين مغانم كثيرة من غلال وسلاح بلغ خمسين درعا وثلاثمائة وأربعين سيفا، ثم كان ما خلت اليهود من الأرض التي كانوا يملكون خير ما غنم المسلمون. على أن هذه الأرض لم تعتبر أسلاب حرب، ولذلك لم تقسم بين المسلمين، بل كانت لرسول الله خاصة يضعها حيث يشاء. وقد قسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار بعد أن استبقى قسما خصصت غلته للفقراء والمساكين. وبذلك أصبح المهاجرون في غنى عن معونة الأنصار. وأصبح لهم مثل ثروتهم. ولم يشترك في القسمة من الأنصار إلا أبو دجانة وسهل بن حنيف، فقد ذكرا فقرا فأعطاهما محمد كما أعطى المهاجرين، ولم يسلم من يهود بني النضير غير رجلين أسلما على أموالهما فأحرزاها.
ليس من العسير أن يقدر الإنسان قيمة نصر المسلمين وإجلاء بني النضير عن المدينة بعد الذي قدمنا من تقدير الرسول - عليه السلام - لما كان يخلقه بقاؤهم من تشجيع عوامل الفتنة، ومن دعوة المنافقين إلى أن يرفعوا رءوسهم كلما أصاب المسلمين شر، ومن التهديد بالحرب الأهلية إذا غزا المسلمين غاز من الأعداء. وفي جلاء بني النضير نزلت سورة الحشر، وفيها:
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون * لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون
4
وتجري السورة بعد ذلك بذكر الإيمان وسلطانه، الإيمان بالله وحده لا تعرف النفس الإنسانية التي تعرف قيمتها وكرامتها لغيره سلطانا:
هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
5
كان كاتب سر النبي، إلى حين إجلاء بني النضير عن المدينة، من اليهود؛ ليتسنى له أن يبعث من الرسائل بالعبرية والسريانية ما يريده. فلما جلا اليهود خاف النبي أن يستعمل في أسراره غير مسلم، فأمر فتعلم زيد بن ثابت من شبان المدينة المسلمين اللغتين المذكورتين، وأصبح كاتب سر النبي في كل شئونه. وزيد بن ثابت هذا هو الذي جمع القرآن في خلافة أبي بكر، وهو الذي عاد فراقب الجمع حين اختلفت القراءات في خلافة عثمان، فوضع مصحف عثمان وأحرقت سائر المصاحف.
اطمأنت المدينة بعد إجلاء بني النضير عنها، فلم يعد المسلمون يخشون المنافقين فيها، واغتبط المهاجرون بما أصابوا من أرض اليهود؛ واغتبط الأنصار باستغناء المهاجرين عن معونتهم؛ وتنفسوا جميعا الصعداء، وكانت فترة سكينة وهدوء وطمأنينة استراح إليها المهاجرون والأنصار جميعا. وظلوا كذلك، حتى إذا استدار العام منذ أحد ذكر محمد - عليه السلام - قولة أبي سفيان: «يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل.» ودعوته محمدا للقائه ببدر مرة أخرى. وكان العام عام جدب. وكان أبو سفيان يود لو يؤجل اللقاء إلى عام آخر، فبعث نعيما إلى المدينة يقول للمسلمين إن قريشا جمعت جيشا لا قبل لجيش في العرب بمواجهته لتحاربهم به حتى تقضي عليهم قضاء لا يعد ما تم بأحد إلى جانبه شيئا. وبدا للمسلمين أن يجتنبوا الخطر، فأظهر الكثيرون الرغبة عن النهوض والسير لبدر. لكن محمدا غضب لهذا الضعف والتراجع، وصاح بهم مقسما أنه ذاهب إلى بدر ولو ذهب وحده.
لم يبق بعد هذه الغضبة العظيمة إلا أن يذوب كل تردد ويزول كل خوف وأن يحمل المسلمون سلاحهم وأن يذهبوا إلى بدر. واستعمل النبي على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، ونزل المسلمون بدرا ينتظرون قريشا مستعدين لقتالها. وخرجت قريش مع أبي سفيان من مكة في أكثر من ألفي رجل. لكن أبا سفيان بدا له أن يرجع بعد مسيرة يومين، فنادى في الناس: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، وإن عامكم هذا جدب وإني راجع فارجعوا. ورجع الناس. وأقام محمد في جيش المسلمين ينتظرهم ثمانية أيام متتابعة اتجر المسلمون ببدر فيها فربحت تجارتهم، ثم عادوا إلى المدينة مستبشرين بفضل من الله ونعمة.
وفي بدر الآخرة هذه نزل قوله تعالى:
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين * ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين * الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين .
6
وكذلك محت غزوة بدر الآخرة أثر أحد محوا تاما، ولم يبق لقريش إلا أن تنتظر عاما آخر، رازحة تحت عار من جبنها لا يقل وطأة عن عار هزيمتها في بدر الأولى.
وأقام محمد بالمدينة مستريحا إلى نصر الله إياه، مطمئنا إلى ما عاد للمسلمين من هيبتهم، حذرا دائما غدرة العدو، باثا عيونه في كل النواحي. وإنه لكذلك إذ اتصل به أن جماعة من غطفان بنجد يجمعون له يريدون حربه. وكانت خطته أن يأخذ عدوه على غرة قبل أن يعد العدة لدفعه. لذلك خرج في أربعمائة من رجاله حتى نزل ذات الرقاع حيث اجتمع بنو محارب وبنو ثعلبة من غطفان. فلما رأوه طلع عليهم في عدة حربه مهاجما مساكنهم، تفرقوا تاركين وراءهم نساءهم ومتاعهم. واحتمل المسلمون ما استطاعوا، وعادوا أدراجهم إلى المدينة. على أنهم خافوا رجعة العدو عليهم فتناوبوا الحراسة ليل نهار. وجعل محمد يصلي بهم أثناء ذلك صلاة الخوف؛ فكان جماعة منهم يظلون مستقبلين العدو مخافة لحاقه بهم في حين يصلي الآخرون مع محمد لله ركعتين. ولم يبد للعدو أثر وعاد النبي وأصحابه إلى المدينة بعد غيابهم خمسة عشر يوما عنها وهم بظفرهم جد فرحين.
وخرج النبي بعد قليل من ذلك إلى غزوة أخرى هي غزوة دومة الجندل. ودومة الجندل واحة على حدود ما بين الحجاز والشام، تقع في منتصف الطريق بين البحر الأحمر وخليج فارس. ولم يقابل محمد القبائل التي أراد مقاتلتها هناك والتي كانت تغير على القوافل؛ لأنها ما لبثت حين سمعت باسمه أن أخذها الفزع وولت مدبرة، وتركت للمسلمين ما احتملوا من غنائم. وأنت ترى من هذا التحديد الجغرافي لدومة الجندل مبلغ ما اتسع نفوذ محمد وأصحابه، وما بلغ إليه سلطانهم وخوف شبه الجزيرة إياهم، كما ترى كيف كان المسلمون يحتملون المتاعب في غزواتهم، مستهينين بالقيظ والجدب وقلة الماء، مستهينين بالموت نفسه، يحركهم إلى هذا النصر والظفر شيء واحد هو سبب قوتهم المعنوية: الإيمان بالله وحده لا شريك له.
آن لمحمد من بعد ذلك أن يطمئن بالمدينة عدة أشهر متتابعة، ينتظر فيها موعد قريش لعامه القادم - سنة خمس من الهجرة - ويقوم بأمر ربه، بإتمام التنظيم الاجتماعي للجماعة الإسلامية الناشئة، تنظيما كان يتناول عدة ألوف يومئذ ليتناول الملايين ومئات الملايين من بعد ذلك، ويقوم بإتمام هذا التنظيم الاجتماعي في دقة وحسن سياسة، يوحي إليه ربه منه ما يوحي، ويقر هو ما يتفق مع أمر الوحي وتعاليمه، ويضع من تفاصيل ذلك ما كان موضع التقديس من أصحابه يومئذ، وما ظل من بعد ذلك قائما على الأجيال والدهور، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الفصل السابع عشر
أزواج النبي
(زينب بنت خزيمة وأم سلمة - قصة زينب بنت جحش وكلام المستشرقين فيها - وقائعها كما يرويها التاريخ الصحيح) ***
في الفترة التي وقعت فيها حوادث الفصلين السابقين تزوج محمد زينب بنت خزيمة، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، ثم تزوج زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة، وزيد هذا هو الذي تبناه محمد وأعتقه منذ اشتراه يسار لخديجة. ها هنا يصيح المستشرقون ويصيح المبشرون: انظروا! لقد انقلب محمد الذي كان بمكة داعية قناعة وزهد وتوحيد ورغبة عن شهوات هذه الحياة الدنيا، رجل شهوة يسيل منظر المرأة لعابه، ولا يكفيه ثلاث نسوة في بيته، بل يتزوج أولئك الثلاث اللائي ذكرنا، ويتزوج من بعدهن ثلاثا أخريات غير ريحانة.
وهو لا يكفيه أن يتزوج ممن لا بعولة لهن؛ بل هو يشغف حبا بزينب بنت جحش وهي تحت زيد بن حارثة مولاه؛ لغير شيء إلا أنه مر ببيت زيد وهو غائب فاستقبلته زينب، وكانت في ثياب تبدي محاسنها، فوقع منها في قلبه شيء لجمالها، فقال: سبحان مقلب القلوب! ثم كرر هذه العبارة ساعة انصرافه، فسمعتها زينب ورأت في عينيه وهج الحب، فأعجبت بنفسها وأبلغت زيدا ما سمعت فذهب من فوره إلى النبي يذكر له استعداده لتسريحها؛ فقال له: أمسك عليك زوج واتق الله. لكن زينب لم تحسن من بعد عشرته فطلقها؛ وأمسك محمد عن زواجها وقلبه في شغل بها حتى نزل قوله تعالى:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا
1
إذ ذاك تزوجها فأطفأ بزواجها لاذع حبه ومتوهج غرامه. فأي نبي هذا؟! وكيف يبيح لنفسه ما حرمه على غيره؟! وكيف لا يخضع للقانون الذي يقول إن الله أنزله عليه؟! وكيف يخلق هذا «الحريم» الذي يثير في النفس ذكر الملوك المترفين بدل أن يثير فيها ذكر الأنبياء الصالحين المصلحين؟! ثم كيف يبلغ منه الخضوع لسلطان الحب في شأن زينب حتى يصل بمولاه زيد إلى تطليقها ثم يتزوجها من بعده؟! وكان ذلك محرما في الجاهلية، فأباحه نبي المسلمين إرضاء لهواه، واستجابة لداعي حبه.
ويطلق المبشرون والمستشرقون لخيالهم العنان حين يتحدثون من تاريخ محمد في هذا الموضوع، حتى ليصور بعضهم زينب ساعة رآها النبي وهي نصف عارية أو تكاد، وقد انسدل ليل شعرها على ناعم جسمها الناطق بما يكنه من كل معاني الهوى، وليذكر آخرون أنه حين فتح باب بيت زيد لعب الهواء بأستار غرفة زينب وكانت ممددة على فراشها في ثياب نومها، فعصف منظرها بقلب هذا الرجل الشديد الولع بالمرأة ومفاتنها، فكتم ما في نفسه وإن لم يطق الصبر على ذلك طويلا!
وأمثال هذه الصورة التي أبدعها الخيال كثير، تراه في موير وفي درمنجم وفي واشنطن إرفنج وفي لامنس وغيرهم من المستشرقين والمبشرين. ومما يدعو إلى أشد الأسف أن هؤلاء جميعا اعتمدوا في روايتهم على ما ورد في بعض كتب السيرة والكثير من الحديث، ثم أقاموا على ما صوروا قصورا من الخيال في شأن محمد وصلته بالمرأة، واستدلوا على ذلك بكثرة أزواجه حتى بلغن تسعا في القول الراجح، وحتى بلغن أكثر من ذلك في بعض الروايات.
كان في مقدورنا أن نجبه هذه الأقوال جميعا بقولنا: فلتكن صحيحة؛ فماذا فيها مما يطعن على عظمة محمد أو على نبوته ورسالته؟! إن القوانين التي تجري على الناس لا سلطان لها على العظماء، فأولى ألا يكون لها سلطان على المرسلين والأنبياء. ألم ير موسى - عليه السلام - خلافا بين رجلين هذا من شيعته وهذا من عدوه، فوكز الذي من عدوه فقضى عليه، وهذا قتل محرم في غير حرب ولا شبه حرب، وهذا مخالف للقانون. مع ذلك لم يخضع موسى للقانون ولم يطعن ذلك في نبوته ولا في رسالته، ولم يطعن في عظمته. وشأن عيسى في مخالفة القانون أكبر من شأن موسى ومن شأن محمد ومن شأن الأنبياء والمرسلين جميعا. فليس يقف أمره عند بسطة في القوة أو الرغبة، بل خرج بمولده وبحياته على قوانين الطبيعة وسننها جميعا. تمثل لأمه مريم روح الرحمن بشرا سويا، ليهب لها غلاما زكيا، فعجبت وقالت: أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ؟! قال الرسول: إن الله يريد أن يجعله آية للناس، فلما جاءها المخاض قالت : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا. وأتت به قومها تحمله، فقالوا: لقد جئت شيئا فريا. فحدثهم عيسى في مهده قال: إني عبد الله ... إلى آخر ما قال.
ومهما يكن من إنكار اليهود لهذا كله، ومن نسبتهم عيسى إلى يوسف النجار نسبة لا يزال بعض العلماء من أمثال رينان يأخذون اليوم بها. فقد كانت عظمة عيسى ونبوته ورسالته دليل معجزة الله فيه وخرقه لنواميس الكون وسنن الطبيعة وقوانين الخلق من أجله. فمن عجب أن يدعو المسيحيون المبشرون إلى الإيمان بهذا الخروج على سنة الكون في أمر عيسى، وأن يأخذوا محمدا بما هو دونه، وما لا يزيد على أنه سمو من الخضوع لقانون المجتمع يسمح به لكل عظيم، ويسمح به للملوك ورؤساء الدول الذين تقدسهم الدساتير وتجعل ذواتهم مصونة لا تمس.
كان في مقدورنا أن نجبه هذه الأقوال جميعا بهذا الرد، وكان فيه من غير شك ما يسقط حجة المبشرين ومن ينهجون نهجهم من المستشرقين. لكنا في هذا كنا نجني على التاريخ ونجني على عظمة محمد وجلال رسالته. فهو لم يكن، كما صور هؤلاء وأولئك، رجلا يأخذ بعقله الهوى، وهو لم يتزوج من تزوج من نسائه بدافع من شهوة أو غرام. وإذا كان بعض الكتاب المسلمين في بعض العصور قد أباحوا لأنفسهم أن يقولوا هذا القول، وأن يقدموا لخصوم الإسلام عن حسن نية هذه الحجة، فذلك لأنهم انحدر بهم التقليد إلى المادية، فأرادوا أن يصوروا محمدا عظيما في كل شيء، عظيما حتى في شهوات الدنيا. وهذا تصوير خاطئ ينكره تاريخ محمد أشد إنكار، وتأبى حياته كلها أن تقره.
فهو قد تزوج خديجة وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وهو في شرخ الصبا وريعان الفتوة ووسامة الطلعة وجمال القسمات وكمال الرجولية. مع ذلك ظلت خديجة وحدها زوجه ثمانيا وعشرين سنة حتى تخطى الخمسين، هذا على حين كان تعدد الزوجات أمرا شائعا بين العرب في ذلك العهد. وعلى حين كان لمحمد مندوحة في التزوج على خديجة، أن لم يعش له منها ذكر، في وقت كانت توأد فيه البنات، وكان الذكور وحدهم هم الذين يعتبرون خلفا. وقد ظل محمد مع خديجة سبع عشرة سنة قبل بعثه وإحدى عشرة سنة بعده وهو لا يفكر قط في أن يشرك معها غيرها في فراشه. ولم يعرف عنه في حياة خديجة ولم يعرف عنه قبل زواجه منها أنه كان ممن تغريهم مفاتن النساء في وقت لم يكن فيه على النساء حجاب، بل كانت النساء يتبرجن فيه ويبدين من زينتهن ما حرم الإسلام من بعد ...
فمن غير الطبيعي أن تراه وقد تخطى الخمسين ينقلب فجأة هذا الانقلاب الذي يجعله ما يكاد يرى بنت جحش، وعنده نساء خمس غيرها من بينهن عائشة التي أحب وظل يحب طوال حياته، حتى يفتن بها وحتى تستغرق تفكيره ليله ونهاره. وليس من الطبيعي أن تراه، وقد تخطى الخمسين، يجمع في خمس سنوات أكثر من سبع زوجات، وفي سبع سنوات تسع زوجات، وذلك كله بدافع من الرغبة في النساء، رغبة صورها بعض كتاب المسلمين، وحذا الإفرنج حذوهم، تصويرا لا يليق في ضعته برجل مادي بله عظيما استطاعت رسالته أن تنقل العالم وأن تغير مجرى التاريخ، وما تزال على استعداد لأن تنقل العالم مرة أخرى وتغير مجرى التاريخ طورا جديدا.
وإذا كان هذا عجيبا وكان غير طبيعي، فمن العجيب كذلك أن نرى محمدا تلد له خديجة ما ولدت من بنيه وبناته إلى ما قبل الخمسين، وأن نرى مارية تلد له إبراهيم وهو في الستين، وألا تلد غير هاتين من نسائه، وكلهن بين شابة في مقتبل العمر لا يمنع من ناحيتها ولا من ناحيته أن تحمل وأن تلد، وبين امرأة كملت لها أنوثتها فتخطت الثلاثين أو تخطت الأربعين وكان لها ولد من قبل. فكيف تفسر هذه الظاهرة العجيبة من ظاهرات حياة النبي، هذه الظاهرة التي لا تخضع للقوانين الطبيعية في تسع نسوة جميعا؟! هذا وقد كانت نفس محمد، باعتبار أنه إنسان، تميل من غير ريب إلى أن يكون له ولد، وإن كان مقام النبوة والرسالة قد جعله من الناحية الروحية أبا للمسلمين جميعا.
ثم إن التاريخ ومنطق حوادثه أصدق شاهد بكذب رواية المبشرين والمستشرقين في شأن تعدد زواج النبي. فهو كما قدمنا، لم يشرك مع خديجة أحدا مدى ثمان وعشرين سنة. فلما قبضها الله إليه تزوج سودة بنت زمعة أرملة السكران بن عمرو بن عبد شمس. ولم يرو راو أن سودة كانت من الجمال أو من الثروة أو المكانة بما يجعل لمطمع من مطامع الدنيا أثرا في زواجه منها. إنما كانت سودة زوجا لرجل من السابقين إلى الإسلام الذين احتملوا في سبيله الأذى والذين هاجروا إلى الحبشة بعد أن أمرهم النبي بالهجرة وراء البحر إليها. وقد أسلمت سودة وهاجرت معه، وعانت من المشاق ما عانى، ولقيت من الأذى ما لقي. فإذا تزوجها محمد بعد ذلك ليعولها وليرتفع بمكانتها إلى أمومة المؤمنين، فذلك أمر يستحق من أجله أسمى التقدير وأجل الحمد.
أما عائشة وحفصة فكانتا ابنتي وزيريه أبي بكر وعمر. وهذا الاعتبار هو الذي دعا محمدا أن يرتبط وإياهما برابطة المصاهرة بالتزوج من ابنتيهما، كما دعاه أن يرتبط بعثمان وبعلي برابطة المصاهرة بتزويجه ابنتيه منهما. وإذا صح القول في عائشة وفي حبه إياها، فإنما ذلك حب نشأ بعد الزواج لا حينه، فهو قد خطبها إلى أبيها وما تزال في التاسعة من عمرها، وقد بقيت سنتين قبل أن يبني بها. فليس مما يرضاه المنطق أن يكون قد أحبها وهي في هذه السن الصغيرة. يؤيد ذلك زواجه من حفصة بنت عمر في غير حب بشهادة أبيها نفسه. قال عمر: «والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم. قال: فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا وما تكلفك في أمره أريده ! فقالت لي: عجبا لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن تراجع أنت وإن ابنتك لتراجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يظل يومه غضبان؟! قال عمر: فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة، فقلت لها: يا بنية إنك لتراجعين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إياها ... وقال: والله لقد علمت أن رسول الله لا يحبك ولولا أنا لطلقك.» أفرأيت إذن أن محمدا لم يتزوج من عائشة ولم يتزوج من حفصة لحب أو لرغبة، وإنما تزوج منهما ليمتن أواصر هذه الجماعة الإسلامية الناشئة في شخصي وزيريه، كما تزوج من سودة ليعلم المجاهدين من المسلمين أنهم إذا استشهدوا في سبيل الله فلن يتركوا وراءهم نسوة وذرية ضعافا يخافون عليهم عيلة.
يقطع في ذلك زواجه من زينب بنت خزيمة ومن أم سلمة. فقد كانت زينب زوجا لعبيدة بن الحارث بن المطلب الذي استشهد يوم بدر، ولم تكن ذات جمال، وإنما عرفت بطيبتها وإحسانها حتى لقبت أم المساكين؛ وكانت قد تخطت الشباب، فلم يك إلا سنة أو سنتان ثم قبضها الله؛ فكانت بعد خديجة الوحيدة من أزواج النبي التي توفيت قبله. أما أم سلمة فكانت زوجا لأبي سلمة وكان لها منه أبناء عدة، وقد سبق القول: إن أبا سلمة جرح في أحد ثم برأ جرحه، فعقد له النبي لحرب بني أسد فشتتهم وعاد إلى المدينة بما غنم؛ ثم نغر عليه جرح أحد وما زال به حتى قضى عليه. وقد حضره النبي وهو على فراش موته، وظل إلى جانبه يدعو له بخير حتى مات فأسبل عينيه. وبعد أربعة أشهر من وفاته خطب محمد أم سلمة إلى نفسها؛ فاعتذرت بكثرة العيال وبأنها تخطت الشباب، فما زال بها حتى تزوج منها وحتى أخذ نفسه بالعناية بتنشئة أبنائها. أبعد ذلك يزعم المبشرون والمستشرقون أن أم سلمة كانت ذات جمال هو الذي دعا محمدا إلى التزوج منها؟!
إن يكن ذلك فقد كانت غيرها، من بنات المهاجرين والأنصار، من تفوقها جمالا وشبابا وثروة ونضرة ومن لا يبهظه عبء عيالها. لكنه إنما تزوج منها لهذا الاعتبار السامي الذي دعاه ليتزوج زينب بنت خزيمة، والذي زاد المسلمين به تعلقا وجعلهم يرون فيه نبي الله ورسوله، ويرون فيه إلى جانب ذلك أبا لهم جميعا: أبا لكل مسكين ومحروم وضعيف وبائس وعاجز، أبا لكل من فقد أباه شهيدا في سبيل الله.
ماذا يستنبط التمحيص التاريخي النزيه مما تقدم؟ يستنبط أن محمدا نصح بالزوجة الواحدة في الحياة العادية. هو قد دعا إلى ذلك بمثله الذي ضربه في حياة خديجة، وبه نزل القرآن في قوله تعالى:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ،
2
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة .
3
ولقد نزلت هذه الآية في أخريات السنة الثامنة للهجرة بعد أن كان قد بنى بأزواجه جميعا. ونزلت لتحدد عدد الزوجات بأربع وقد كان إلى حين نزولها لا حد له، مما يسقط قول القائلين بأن محمدا أباح لنفسه ما حرم على الناس. ثم نزلت لتشيد بفضل الزوجة الواحدة وتأمر بها لمجرد الخوف من عدم العدل، ومع التأكيد بأن العدل غير مستطاع. على أنه رأى في ظروف حياة الجماعة الاستثنائية إمكان الحاجة للتعدد إلى أربع على شرط العدل. وهو قد دعا إلى ذلك بمثله الذي ضرب أيام غزوات المسلمين واستشهاد من استشهد منهم.
ولعمرك هل تستطيع أن تقطع بأن الاقتصار على الزوجة الواحدة، حين تحصد الحروب أو الأوبئة أو الثورات ألوف الرجال وملايينها، خير من هذا التعدد الذي أبيح على طريق الاستثناء؟! وهل يستطيع أهل أوروبا، في هذا العصر الذي عقب الحروب الكبرى، أن يقولوا بأن نظام الزوجة الواحدة نظام نافذ بالفعل إن استطاعوا أن يقولوا إنه نافذ بالقانون؟ أولا يعود سبب الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي الذي عقب الحرب إلى عدم التعاون المشروع بين الجنسين بالزواج تعاونا قد كان من شأنه أن يعيد إلى الحال الاقتصادية شيئا غير قليل من التوازن؟! إنني لا أريد أن أقطع بالحكم لكني أترك الأمر لتفكير المفكر وتدبير المدبر، مع القول دائما بأنه متى عادت الحياة العادية فخير ما يكفل سعادة الأسرة وسعادة الأمة اقتصار الرجل على زوجة واحدة.
أما زينب بنت جحش، وما أضفى بعض الرواة وأضفى المستشرقون والمبشرون عليها من أستار الخيال حتى جعلوها قصة غرام ووله؛ فالتاريخ الصحيح يحكم بأنها من مفاخر محمد، وأنه - وهو المثل الكامل للإيمان - قد طبق فيها حديثه الذين معناه: لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ وقد جعل نفسه أول من يضرب المثل لما يضع من تشريع يمحو به تقاليد الجاهلية وعاداتها، ويقر به النظام الجديد الذي أنزل الله هدى ورحمة للعالمين.
ويكفي لهدم كل القصة التي قرأت عنها من أساسها أن زينب بنت جحش هذه هي ابنة أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله عليه السلام، وأنها ربيت بعينه وعنايته، وأنها كانت لذلك منه بمقام البنت أو الأخت الصغرى، وأنه كان يعرفها ويعرف أهي ذات مفاتن أم ليست كذلك قبل أن تتزوج زيدا، وأنه شهدها في نموها تحبو من الطفولة إلى الصبا وإلى الشباب، وأنه هو الذي خطبها على زيد مولاه - إذا عرفت ذلك تداعت أمام نظرك كل تلك الخيالات والأقاصيص من أنه مر ببيت زيد ولم يكن فيه، فرأى زينب فبهره حسنها وقال: سبحان مقلب القلوب! أو أنه لما فتح باب زيد عبث الهواء بالستار الذي على غرفة زينب، فألفاها في قميصها ممددة وكأنها «مدام ركامييه!» فانقلب قلبه فجأة ونسي سودة وعائشة وحفصة وزينب بنت خزيمة وأم سلمة، ونسي كذلك ذكر خديجة التي كانت عائشة تقول: إنها لم تجد في نفسها غيرة من أحد من نساء النبي ما وجدت من ذكر خديجة، ولو أن شيئا من حبها علق بقلبه لخطبها إلى أهلها على نفسه بدل أن يخطبها على زيد. وهذه الصلة بين زينب ومحمد، وهذا التصوير الذي صورناها به، لا يدعان بعدهما لتلك القصة الخيالية التي يروون أي أساس من الحق أو أي حظ في البقاء.
وماذا يثبت التاريخ أيضا؟ يثبت أن محمدا خطب ابنة عمته زينب على مولاه زيد؛ فأبى أخوها عبد الله بن جحش أن تكون أخته وهي قرشية هاشمية وهي فوق ذلك ابنة عمة الرسول، تحت عبد رق اشترته خديجة ثم أعتقه محمد، ورأى في ذلك على زينب عارا كبيرا. وكان ذلك عارا حقا عند العرب كبيرا. فلم تكن بنات الأشراف الشريفات ليتزوجن من موال وإن أعتقوا. لكن محمدا يريد أن تزول مثل هذه الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبية وحدها، وأن يدرك الناس جميعا أن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
4
وهو لا يرى أن يستكره لذلك امرأة من غير أهله. فلتكن زينب بنت جحش بنت عمته هي التي تحتمل هذا الخروج على تقاليد العرب، وهذا الهدم لعاداتها، معرضة في ذلك عما يقول الناس عنها مما تخشى سماعه. وليكن زيد مولاه الذي تبنى، والذي أصبح بحكم عادات العرب وتقاليدها صاحب حق في أن يرثه كسائر أبنائه سواء، هو الذي يتزوجها فيكون مستعدا للتضحية التي أعد الشارع الحكيم للأدعياء الذين اتخذوا أبناء. وليبد محمد إصراره على أن تقبل زينب ويقبل أخوها عبد الله بن جحش زيدا زوجا لها؛ ولينزل في ذلك قوله تعالى:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا .
5
لم يبق أمام عبد الله وأخته زينب بعد نزول هذه الآية إلا الإذعان؛ فقالا: رضينا يا رسول الله، وبنى زيد بزينب بعد أن ساق النبي إليها عنه مهرها. فلما سارت زينب إلى زوجها لم يسلس له قيادها ولا لان إباؤها، بل جعلت تؤذي زيدا وتفخر عليه بنسبها وبأنها لم يجر عليها رق. واشتكى زيد إلى النبي غير مرة من سوء معاملتها إياه، واستأذنه غير مرة في تطليقها، فكان النبي يجيبه: «أمسك عليك زوجك واتق الله.» لكن زيدا لم يطق معاشرة زينب وإباءها عليه طويلا فطلقها.
وكأن الشارع الحكيم قد أراد أن يبطل ما كانت تدين به العرب من التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها، ومن إعطاء الدعي جميع حقوق الابن، ومن إجرائهم عليه أحكامه حتى في الميراث وحرمة النسب، ولا يجعل للمتبني واللصق إلا حق المولى والأخ في الدين. فنزله قوله تعالى:
وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
6
ومعنى هذا أنه يجوز للمدعي أن يتزوج ممن كان زوجا لمن ادعاه، ويجوز للمتبني أن يتزوج ممن كانت زوجا لمتبناه. ولكن كيف السبيل إلى تنفيذ هذا؟ ومن من العرب يستطيعه وينقض به تقاليد الأجيال السالفة جميعا؟ إن محمدا نفسه، على قوة عزيمته وعميق إدراكه لحكمة الله في أمره، قد وجد على نفسه الغضاضة في تنفيذ هذا الحكم بأن يتزوج زينب بعد تطليق زيد إياها، ودار بخاطره ما يمكن أن يقول الناس في خرقه هذه العادة القديمة المتأصلة في نفوس العرب؛ وذلك ما يريده تعالى في قوله:
وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه .
7
لكن محمدا كان القدوة في كل ما أمر الله به وما ألقى عليه أن يبلغه للناس؛ فلا يخشى ما يقول الناس في تزوجه من زوج زيد مولاه، فخشية الناس ليست شيئا إلى جانب خشية الله بتنفيذ أمره، وليتزوج من زينب ليكون قدوة فيما أبطل الشارع الحكيم من الحقوق المقررة للتبني، والادعاء. وفي ذلك قوله تعالى:
فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا .
8
هذه رواية التاريخ الصحيح في أمر زينب بنت جحش وزواج محمد منها. فهي ابنة عمته يراها ويعرف مبلغ جمالها قبل أن تتزوج زيدا، وهو الذي خطبها على زيد، وهو كان يراها بعد أن تزوجت زيدا أن لم يكن الحجاب معروفا يومئذ . على أنه كان من شأنها، بحكم صلة القرابة من ناحية، وأنها زوج دعيه زيد من ناحية أخرى، أن تتصل به لمصالحها ولتكرار شكوى زيد منها.
وقد نزلت هذه الأحكام جميعا، فأيدها ما حصل من زواج زيد لزينب وتطليقه إياها وزواج محمد منها بعد ذلك؛ هذه الأحكام التي ترفع المعتق إلى مكانة الحر الشريف، والتي تبطل حقوق الأدعياء وتقضي عليها بصورة عملية لا محل للبس ولا لتأويل بعدها. أفيبقى بعد ذلك أثر لهذه الأقاصيص التي يكررها المستشرقون والمبشرون، ويرددها موير وإرفنج وسبرنجر وفيل ودرمنجم ولامنس وغيرهم ممن تناولوا كتابة حياة محمد؟! ألا إنها شهوة التبشير المكشوف تارة والتبشير باسم العلم أخرى، والخصومة القديمة للإسلام خصومة تأصلت في النفوس منذ الحروب الصليبية، هي التي تملي على هؤلاء جميعا ما يكتبون وتجعلهم في أمر أزواج النبي، وفي أمر زواجه من زينب بنت جحش خاصة، يتجنون على التاريخ، ويتلمسون أضعف الروايات فيه مما دس عليه ونسب إليه.
ولو أن ما ذكروا كان صحيحا، لكان في مقدورنا أن نجبهه بأن العظمة لا تخضع لقانون، وبأن موسى وعيسى ويونس من قبل، قد سموا فوق نواميس الطبيعة وسنن الاجتماع، بعضهم بمولده، وبعضهم في حياته، فلم يطعن ذلك في عظمتهم. لكن محمدا كان يضع سنن الاجتماع بوحي ربه، وكان ينفذها بأمر ربه، وكان بذلك المثل الأسمى، والأسوة الحسنة، في تنفيذ ما أمر ربه. أفكان أولئك المبشرون يريدونه على أن يطلق أزواجه فلا يزيد على الأربع كما شرع للمسلمين من بعد زواجه منهن جميعا؟ وهل كانوا يومئذ يعفونه من نقدهم؟! على أن معاملة محمد لأزواجه معاملة بلغت من السمو ما رأيت شيئا منه في حديث عمر بن الخطاب الذي سقنا، وسترى كثيرا منه خلال فصول هذا الكتاب، ستكون المثل الناطق على أنه لم يحترم المرأة أحد ما احترمها محمد، ولم يسم بها إلى المكان اللائق بها ما سما محمد.
الفصل الثامن عشر
غزوتا الخندق وبني قريظة
(حيي بن أخطب وتأليبه العرب جميعا على المسلمين - عشرة آلاف مقاتل يقصدون المدينة - سلمان الفارسي يشير بحفر الخندق حولها - حصار قريش وغطفان إياها - نقض بني قريظة عهدهم مع المسلمين - ضياع الثقة بين العرب واليهود - انسحاب العرب عن المدينة - محاصرة بني قريظة - القضاء عليهم بالقتل ...) ***
آن للمسلمين بعد إجلائهم بني النضير عن المدينة، وبعد بدر الآخرة، وبعد غزوتي غطفان ودومة الجندل، أن يركنوا إلى شيء من الطمأنينة إلى الحياة بالمدينة. وذهبوا ينظمون عيشهم، وكان من بعد أقل شظفا بما غنموا في غزواتهم هذه، وإن كانت قد صرفتهم في كثير عن الزرع والتجارة. وكان محمد على طمأنينته حذرا غدرة العدو، باثا دائما عيونه وأرصاده في أنحاء شبه الجزيرة ينقلون إليه من أخبار العرب وما يأتمرون به ما يمهد له دائما فرصة الأهبة لدفاع المسلمين عن أنفسهم. ومن اليسير عليك أن تقدر ضرورة الحذر والحيطة بعد كل الذي رأيت من غدرات قريش وغير قريش بالمسلمين ومن أن بلاد العرب كلها كانت في ذلك الحين، وكانت من بعد ذلك في أكثر أطوار تاريخها، أشبه بمجموعة جمهوريات مستقلة كل واحدة منها عن سائرها، تتخذ كل واحدة منها نظاما هو أقرب ما يكون إلى نظام القبائل، وتضطر لذلك إلى الاحتماء بعادات وتقاليد لا يألفها تصورنا في الأمم المنظمة. وكان محمد أشد ما يكون حذرا أن كان عربيا بقدر ما ركب في الغريزة العربية من الحرص على الثأر. وقد كانت قريش وكان يهود بني قينقاع ويهود بني النضير وعرب غطفان وهذيل والقبائل المتاخمة للشام، تتربص كل واحدة منها بمحمد وأصحابه الدوائر، وتود كل واحدة منها لو تستطيع أن تجد الفرصة لإدراك ثأرها من هذا الرجل الذي فرق العرب في دينها شيعا، والذي خرج من مكة مهاجرا لا حول له ولا قوة إلا ما يملأ نفسه الكبيرة من الإيمان، وها هو ذا في خمس سنوات قد أصبح له من الحول ومن القوة ما جعله مرهوب الجانب من أشد مدائن العرب ومن أشد قبائلها حولا وقوة.
ولقد كان اليهود أبصر خصوم محمد بتعاليمه وبمصير دعوته، وكانوا أكثرهم تقديرا لما يصيبهم بانتصاره. فهم كانوا في بلاد العرب دعاة التوحيد، وكانوا ينافسون المسيحيين في سلطانهم ويأملون مغالبتهم والتغلب عليهم. ولعلهم كانوا على حق أن كانت السامية أميل بطبعها إلى فكرة التوحيد، على حين كان التثليث المسيحي مما لا يسهل على هذه النفس الحامية مساغه. وهذا محمد من صميم العرب ومن صميم الساميين، يدعو إلى التوحيد بعبارات قوية نفاذة تأخذ بمجامع الفؤاد، وتصل إلى أعماق القلب، وتسمو بالإنسان إلى ما فوق نفسه. وها هو ذا قد بلغ من القوة حتى أخرج بني قينقاع من المدينة، وحتى أجلى بني النضير عن ديارهم؟ فهل يتركونه وشأنه منصرفين إلى الشام وإلى وطنهم الأول بيت المقدس في أرض المعاد، أم تراهم يحاولون تأليب العرب عليه ليأخذوا بالثأر منه؟
كانت فكرة تأليب العرب هي الفكرة التي اختمرت في نفوس أكابر بني النضير. وتنفيذا لها خرج نفر منهم، ومن بينهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وكنانة بن أبي الحقيق، ومعهم نفر من بني وائل هوذة بن قيس وأبو عمار حتى قدموا على قريش مكة. فسأل أهلها حييا عن قومه، فقال: تركتهم بين خيبر والمدينة يترددون حتى تأتوهم فتسيروا معهم إلى محمد وأصحابه. وسألوه عن قريظة، فقال: أقاموا بالمدينة مكرا بمحمد، حتى تأتوهم فيميلوا معكم. وترددت قريش أتقدم أم تحجم؛ فليس بينها وبين محمد خلاف إلا على الدعوة التي يدعو إلى الله. أليس من الممكن أن يكون على حق ما دامت كلمته تزداد كل يوم رفعة وسموا؟! وقالت قريش لليهود: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا .
1
وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيتهم على توحيد محمد يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب»: «كان من واجب هؤلاء ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم؛ لأن بني إسرائيل الذين كانوا مدة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من الأدوار التاريخية، كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين. هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عباد الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام وبالوقوف منهم موقف الخصومة.»
لم يكف حيي بن أخطب واليهود الذين معه هذا الذي قالوا لقريش في تفضيل وثنيتها على توحيد محمد حتى تنشط لمحاربته، وأن يأخذوا وإياهم لذلك بعد أشهر موعدا، بل خرج أولئك اليهود إلى غطفان من قيس عيلان، ومن بني مرة، ومن بني فزارة، ومن أشجع، ومن سليم ومن بني سعد، ومن أسد، ومن كل من لهم عند المسلمين ثأر، وما زالوا بهم يحرضونهم على الأخذ بثأرهم ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد ويحمدون لهم وثنيتهم، ويعدونهم النصر لا محالة. وخرجت الأحزاب التي جمع اليهود لحرب محمد وأصحابه: خرجت قريش وعلى رأسها أبو سفيان في أربعة آلاف مجند وثلاثمائة جواد وخمسمائة وألف ممتط بعيره. وعقد اللواء في دار الندوة لعثمان بن طلحة الذي قتل أبوه وهو يحمل لواء قريش في أحد. وخرجت بنو فزارة وعلى رأسها عيينة بن حصن بن حذيفة في رجال كثيرين وألف بعير. أما أشجع ومرة فجاء كل منهما في أربعمائة محارب، يتزعم الحارث بن عوف مرة، ويتزعم مسعر بن رخيلة أشجع. وجاءت سليم أصحاب بئر معونة في سبعمائة رجل. واجتمع هؤلاء وانحاز إليهم بنو سعد وأسد، فصاروا في عشرة آلاف رجل أو نحوها، وساروا جميعا تحت إمرة أبي سفيان قاصدين المدينة. فلما بلغوها تداول زعماء هذه القبائل الزعامة أثناء الحرب كل يوما على التوالي.
واتصل نبأ هذا السير بمحمد والمسلمين معه في المدينة ففزعوا. ها هي ذي العرب كلها قد أجمعت أمرها لتسحقنهم ولتقضين عليهم ولتستأصلنهم. وها هي ذي قد جاءت في عدة وعديد ما لها في حروب العرب جميعا من قبل مثل. وإذا كانت قريش قد انتصرت في أحد عليهم لما خرجوا من المدينة وكانت دون هذه الأحزاب بمراحل في العدد والعدة، فماذا عسى أن يصنع المسلمون لمقابلة الألوف المؤلفة من رجال وخيل وإبل وأسلحة وذخيرة؟! لم يكن سبيل إلى غير التحصن بيثرب العذراء، على ما وصفها عبد الله بن أبي. ولكن أيكفي هذا التحصن أمام تلك القوة الساحقة؟! وكان سلمان الفارسي يعرف من أساليب الحرب ما لم يكن معروفا في بلاد العرب، فأشار بحفر الخندق حول المدينة وتحصين داخلها. وسارع المسلمون إلى تنفيذ نصيحته، فحفر الخندق وعمل فيه النبي - عليه السلام - بيديه، فكان يرفع التراب ويشجع المسلمين بذلك أعظم التشجيع، ويدعوهم إلى مضاعفة الجهد. وأخذ المسلمون آلات الحفر، من مساح وكرازين ومكاتل
2
من قريظة: اليهود الذين بقوا على ولائهم، وبهذا الدأب والجهد المتصل تم حفر الخندق في ستة أيام. وفي هذه الأثناء كذلك حصنت جدران المنازل التي تواجه العدو والتي بينها وبين الخندق نحو فرسخين. وعند ذلك أخليت المساكن التي ظلت فيما وراء الخندق، وجيء بالنساء والأطفال إلى هذه المنازل التي حصنت ووضعت الأحجار إلى جانب الخندق من ناحية المدينة لتكون سلاحا يرمى به عند الحاجة إليه.
وأقبلت قريش وأحزابها وهي ترجو أن تلقى محمدا بأحد، فلم تجد عنده أحدا. فجاوزته إلى المدينة حتى فاجأها الخندق، فعجبت أن لم تكن تتوقع هذا النوع من الدفاع المجهول لها. وبلغ منها الغيظ حتى زعمت أن الاحتماء وراءه جبن لا عهد للعرب به. وعسكرت قريش ومن تابعها بمجتمع الأسيال من رومة، وعسكرت غطفان ومن اتبعها من أهل نجد بذنب نقمى. أما محمد فخرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فجعل ظهره إلى هضبة سلع، وجعل الخندق بينه وبين أعدائه، وهناك ضرب عسكره ونصبت له خيمته الحمراء. ورأت قريش والعرب معها أن لا سبيل إلى اجتياز الخندق فاكتفت بتبادل الترامي بالنبال عدة أيام متتابعة.
وأيقن أبو سفيان والذين معه أنهم مقيمون أمام يثرب وخندقها طويلا دون أن يستطيعوا اقتحامها. وكان الوقت آنئذ شتاء قارسا برده، عاصفة رياحه، يخشى في كل وقت مطره. وإذا كان من اليسير أن يحتمي أهل مكة وأهل غطفان من ذلك كله بمنازلهم في مكة وفي غطفان، فالخيام التي ضربوا أمام يثرب لا تحميهم منه فتيلا. وهم بعد قد جاءوا يرتجون نصرا ميسورا لا يكلفهم غير يوم كيوم أحد، ثم يعودون أدراجهم يتغنون بأناشيد الفوز ويستمتعون باقتسام الغنائم والأسلاب. وماذا عسى أن يمسك غطفان عن أن تعود أدراجها وهي إنما اشتركت في الحرب لأن اليهود وعدتها متى تم النصر، ثمار سنة كاملة من ثمار مزارع خيبر وحدائقها، وها هي ذي ترى النصر غير ميسور، أو هو على الأقل غير محقق، وهو يحتاج من المشقة في هذا الفصل القارس إلى ما ينسيها الثمار والحدائق! فأما انتقام قريش لنفسها من بدر ومما لحقها بعد بدر من هزائم، فأمره مدرك على الأيام ما دام هذا الخندق يحول دون إمساك محمد بالتلابيب، وما دامت بنو قريظة تمد أهل يثرب بالمئونة إمدادا يطيل أمد مقاومتهم شهورا وشهورا. أفليس خيرا للأحزاب أن يعودوا أدراجهم؟! نعم! لكن جمع هؤلاء الأحزاب لحرب محمد مرة أخرى ليس بالأمر الميسور. وقد استطاع اليهود، وحيي بن أخطب على رأسهم، أن يجمعوها هذه المرة للانتقام لأنفسهم من محمد وأصحابه عما أوقع بهم وببني قينقاع من قبلهم. فإن أفلتت الفرصة فهيهات هيهات أن تعود، وإن انتصر محمد بانسحاب الأحزاب فالويل ثم الويل لليهود.
قدر حيي بن أخطب هذا كله، وخاف مغبته، ورأى أن لا مفر من أن يقامر بآخر سهم عنده. فأوحى إلى الأحزاب أنه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمدا والمسلمين والانضمام إليهم، وأن قريظة متى فعلت انقطع المدد والميرة عن محمد من ناحية، وفتح الطريق لدخول يثرب من ناحية أخرى. وسرت قريش وغطفان بما ذكر حيي، وسارع هو فذهب يريد كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة، وقد أغلق كعب دونه باب حصنه أول ما عرف مقدمه عليه، مقدرا أن غدر قريظة بمحمد ونقضها عهده وانضمامها إلى عدوه قد يفيده ويفيد اليهود إذا دارت الدوائر على المسلمين، لكنه جدير بأن يمحوها محوا إذا هزمت الأحزاب وانصرفت قواتها عن المدينة.
غير أن حييا ما زال به حتى فتح له باب الحصن ثم قال له: «ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر وببحر طام. جئتك بقريش وبغطفان مع قادتها وسادتها، وقد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.» وتردد كعب وذكر وفاء محمد وصدقه لعهده، وخشي مغبة ما يدعوه حيي إليه. لكن حييا ما زال به يذكر له ما أصاب اليهود من محمد وما يوشك أن يصيبهم منه إذا لم تنجح الأحزاب في القضاء عليه، ويصف له قوة الأحزاب وعدتها وعددها، وأنها لم يمنعها غير الخندق أن تقضي في سويعة على المسلمين جميعا، حتى لان كعب له، فسأله: وماذا يكون إذا ارتدت الأحزاب؟ هناك أعطاه حيي موثقا إن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن يدخل معه في حصنه فيشركه في حظه. وتحركت في نفس كعب يهوديته فقبل ما طلب ونقض عهده مع محمد والمسلمين وخرج من حياده.
واتصل نبأ انضمام قريظة إلى الأحزاب بمحمد وأصحابه، فاهتزوا له وخافوا مغبته. وبعث محمد سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة بن جبير ليقفوا على جلية الأمر، على أن يلحنوا
3
به عند عودتهم إن كان حقا؛ حتى لا يفتوا في أعضاد الناس. فلما أتى هؤلاء الرسل ألفوا قريظة على أخبث ما بلغهم عنهم. فلما حاولوا ردهم إلى عهدهم طلب كعب إليهم أن يردوا إخوانهم يهود بني النضير إلى ديارهم. وأراد سعد بن معاذ، وكان حليف قريظة، أن يقنعها مخافة أن يحل بها ما حل ببني النضير أو ما هو شر منه؛ فانطلقت اليهود ووقعوا في محمد - عليه السلام - وقال كعب: من رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. وكاد الفريقان يتشاتمان.
رجع رسل محمد بما رأوا. هنالك عظم البلاء واشتد الخوف، ورأى أهل المدينة طريق قريظة وقد فتح للأحزاب فدخلوا عليهم واستأصلوهم. ولم يكن ذلك محض خيال ووهم؛ فهم رأوا قريظة تقطع المدد والميرة عنهم، ورأوا قريشا وغطفان، منذ عاد حيي بن أخطب ينبئهم بانضمام قريظة إليهم، قد تغيرت نفسيتهم وأخذوا يعدون أنفسهم للقتال. وذلك أن قريظة استمهلت الأحزاب عشرة أيام تعد فيها عدتها على أن تقاتل الأحزاب المسلمين في هذه الأيام العشرة أشد القتال. وذلك ما فعلوا. فقد ألفوا ثلاث كتائب لمحاربة النبي؛ فأتت كتيبة ابن الأعور السلمي من فوق الوادي، وأتت كتيبة عيينة بن حصن من الجنب، ونصب له أبو سفيان من قبل الخندق. وفي هذا الموقف نزلت هذه الآيات:
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديد * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا .
4
ولأهل يثرب أبلغ العذر إن هم بلغ منهم الفزع وزلزلت قلوبهم. ولمن قال منهم العذر في أن يقول: كان محمد يعدنا، أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وللذين زاغت أبصارهم العذر في أن تزيغ. وللذين بلغت قلوبهم الحناجر العذر في أن تبلغها. أليس هو الموت الذي يرون آتيا تقدح بالشرر عينه، مصورة في بريق هذه السيوف تلمع في أيدي قريش وفي أيدي غطفان، وتدب إلى القلب مخافته متسللة من منازل بني قريظة الغدرة الخائنين؟! ألا ويل لليهود! ما كان أجدر محمدا بأن يقضي على بني النضير وأن يستأصلهم بدل أن يذرهم يرتحلون موفورين، وأن يذر حييا والذين معه يؤلبون العرب على المسلمين ليستأصلوهم. ألا إنها الطامة الكبرى والفزع الأكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وسمت روح الأحزاب المعنوية، حتى دفعت بعض فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، أن يقتحموا الخندق، فتيمموا مكانا منه ضيقا فضربوا خيلهم فاجتازته فجالت بهم في السبخة بين الخندق، وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحمت منها خيلهم، وتقدم عمرو بن عبد ود ينادي: من يبارز؟ ولما دعاه ابن أبي طالب إلى النزال قال في صلف: لم يا بن أخي؟! فوالله ما أحب أن أقتلك. قال علي: لكني أحب والله أن أقتلك. فتنازلا فقتله علي؛ وفرت خيل الأحزاب منهزمة، حتى اقتحمت الخندق من جديد مولية الأدبار لا تلوي على شيء. وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة على فرس له بعد ما غربت الشمس يريد أن يجتاز الخندق، فهوى هو والفرس فيه فصرعا وتحطما. وأرسل أبو سفيان يعرض دية جثته مائة من الإبل، فرفض النبي - عليه السلام - وقال: خذوه فإنه خبيث الدية.
وأعظمت الأحزاب نيرانها مبالغة في تخويف المسلمين وإضعافا لروحهم، وبدأ المتحمسون من قريظة ينزلون من حصونهم وآطامهم إلى منازل المدينة القريبة منهم، يريدون إرهاب أهلها. كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، فمر بهم يهودي يطيف بالحصن. فقالت صفية مخاطبة حسانا: إن هذا اليهودي يطيف يا حسان بالحصن كما ترى، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من اليهود، ورسول الله وأصحابه قد شغلوا عنا، فانزل إليه فاقتله. قال حسان: يغفر الله لك يا بنة عبد المطلب! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فأخذت صفية عمودا ونزلت من الحصن وضربت به اليهودي حتى قتلته. فلما رجعت قالت: يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل . قال حسان: ما لي يا بنت عبد المطلب بسلبه من حاجة!
وظل أهل المدينة في فزعهم وزلزال قلوبهم، على حين جعل محمد يفكر في الوسيلة إلى الخلاص، ولم تكن الوسيلة مواجهة العدو بطبيعة الحال. فلتكن الحيلة إذن. فبعث إلى غطفان يعدها ثلث ثمار المدينة إن هي ارتحلت. وكانت غطفان قد بدأت تمل، فأظهرت امتعاضا من طول هذا الحصار وما لقوا من العنت أثناءه لغير شيء إلا إجابة حيي بن أخطب واليهود الذين معه. ثم إن نعيم بن مسعود ذهب بأمر الرسول إلى قريظة، وكانت لا تعرف أنه أسلم، وكان لها نديما في الجاهلية، فذكرهم بما بينه وبينهم من مودة، ثم ذكر لهم أنهم ظاهروا قريشا وغطفان على محمد، وقريش وغطفان ربما لا تطيقان المقام طويلا فترتحلان فتخليان ما بينهم وبين محمد فينكل بهم، ونصح لهم ألا يقاتلوا مع القوم حتى يأخذوا منهم رهنا يكونون بأيديهم حتى لا تتنحى قريش وغطفان عنهم. واقتنعت قريظة بما قال. ثم ذهب إلى قريش فأسر لهم أن قريظة ندموا على ما فعلوا من نكث عهد محمد، وأنهم عاملون لاسترضائه وكسب مودته بأن يقدموا له من أشراف قريش من يضرب أعناقهم. ولذلك نصح لهم إن بعثت إليهم اليهود يلتمسون رهائن من رجالهم ألا يبعثوا منهم أحدا.
وصنع نعيم مع غطفان ما صنع مع قريش وحذرهم مثل ما حذرهم. ودبت الشبهة من كلام نعيم إلى نفوس قريش وغطفان فتشاور زعماؤهم، فأرسل أبو سفيان إلى كعب سيد بني قريظة يقول له: قد يا كعب طالت إقامتنا وحصارنا هذا الرجل، وقد رأيت أن تعمدوا إليه في الغد ونحن من ورائكم، فعاد رسول أبي سفيان إليه بقول زعيم قريظة: إن غدا السبت، وإنا لا نستطيع القتال والعمل يوم السبت. فغضب أبو سفيان وصدق حديث نعيم، وأعاد الرسول يقول لقريظة: اجعلوا سبتا مكان هذا السبت، فإنه لا بد من قتال محمد غدا، ولئن خرجنا لقتاله ولستم معنا لنبرأن من حلفكم ولنبدأن بكم قبل محمد. فلما سمعت قريظة كلام أبي سفيان كررت أنها لا تتعدى السبت، وقد غضب الله على قوم منهم تعدوه فجعلهم قردة وخنازير. ثم أشاروا إلى الرهائن حتى يطمئنوا لمصيرهم. فلما سمع ذلك أبو سفيان لم يبق لديه في كلام نعيم ريبة، وبات يفكر ماذا عسى أن يصنع؛ وتحدث إلى غطفان فإذا هي تتردد في الإقدام على قتال محمد متأثرة بما كان قد بدأها به من وعدها ثلث ثمار المدينة وعدا لم يتم أن اعترضه سعد بن معاذ وسادة المدينة من الأوس والخزرج ومن أصحاب مشورة رسول الله.
فلما كان الليل عصفت ريح شديدة، وهطل المطر غزيرا، وقصف الرعد، ولمع البرق، واشتدت العاصفة فاقتلعت خيام الأحزاب وكفأت قدورهم وأدخلت الرعب إلى نفوسهم، وخيل إليهم أن المسلمين انتهزوا فرصة ليعبروا إليهم وليوقعوا فيهم. فقام طليحة بن خويلد فنادى: إن محمدا قد بدأكم بشر فالنجاة النجاة. وقال أبو سفيان: «يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع
5
والخف، وأخلفنا بنو قريظة وبلغنا منهم ما نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل.»
فاستخف القوم ما استطاعوا حمله من متاع وانطلقوا وما تزال الريح تعصف بهم، وفروا وتبعتهم غطفان والأحزاب. وأصبح الصبح ولم يجد محمد أحدا، فانصرف راجعا إلى منازل المدينة والمسلمون معه، يرفعون أكف الضراعة إلى الله شكرا أن كشف الضر عنهم وأن كفى المؤمنين القتال.
عاد محمد بعد رحيل الأحزاب يفكر في موقفه. لقد أذهب الله عنه عدوه الذي كان يهدده لكن اليهود قادرون على أن يعودوا لمثلها وأن يختاروا فصلا من السنة غير الشتاء القارس الذي كان من جند الله في هزيمة عدوه. ثم إن قريظة لولا ارتحال الأحزاب ولولا ما وقع في صفوفهم من شقاق وانقسام، كانت على أهبة النزول إلى المدينة والفتك بالمسلمين والمعاونة على استئصالهم. لا تقطعن إذن ذنب الأفعى وتتركها. ولا بد من القضاء على بني قريظة بما فعلوا، وأمر - عليه السلام - مؤذنا فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة؛ وقدم عليا برايته إليها. ومع ما كان عليه المسلمون من نصب بعد طول حصار قريش وغطفان إياهم، فقد خفوا لهذا القتال الذي لم يكن لديهم أي شك في نتيجته. صحيح أن بني قريظة يقيمون في حصون محصنة كالتي كانت لبني النضير، لكن هذه الحصون إن أغنتهم في الدفاع عن أنفسهم فلن تغنيهم في مهاجمة المسلمين. والميرة قد أصبحت في متناول أيدي أهل المدينة بعد جلاء الأحزاب عنها. لذلك خف المسلمون فرحين وراء علي، حتى أتوا بني قريظة، فإذا بهم ومعهم حيي بن أخطب النضيري يقعون في محمد بأقبح مقالة، يكذبونه ويطعنون عليه وينالون من أعراض نسائه. وكأنما شعروا بعد انخذال الأحزاب عن المدينة بما هيئ لهم. ولما جاء الرسول لقيه علي وطلب إليه ألا يدنو من حصون اليهود. فسأله محمد: ولم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم. قال رسول الله: لو رأوني لما قالوا من ذلك شيئا. فلما دنا من حصونهم ناداهم: يا إخوان القردة! هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟! قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا. وجعل المسلمون بقية نهارهم يتوافدون على بني قريظة حتى اجتمع جمعهم عندها، فأمرهم محمد بحصارها.
ظل هذا الحصار خمسا وعشرين ليلة لم يقع خلالها إلا بعض تراشق بالنبل والحجارة، ولم يجرؤ بنو قريظة أن يخرجوا من الآطام لطول مدة الحصار مرة واحدة، فلما جهدوا وأيقنوا أن لن تغني عنهم حصونهم من الهلاك شيئا، وأنهم لا بد أن يقعوا في قبضة المسلمين وإن طال أمد الحصار، بعثوا إلى الرسول أن ابعث إلينا أبا لبابة لنستشيره في أمرنا. وكان أبو لبابة من الأوس حلفائهم. فلما رأوه قام إليه الرجال وأجهش النسوة والصبيان بالبكاء، حتى رق لهم. فقالوا له: أترى يا أبا لبابة أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم - وأشار بيده إلى حلقه - إنه الذبح إن لم تفعلوا. وقد ندم أبو لبابة على إشارته هذه فيما روت السير. فلما انصرف أبو لبابة عنهم عرض كعب بن أسد أن يتابعوا محمدا على دينه وأن يسلموا فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم؛ فرفض أصحاب كعب أن يسمعوا هذا الكلام منه وصاحوا به : لا نفارق حكم التوراة، ولا نستبدل به غيره. فعرض عليهم أن يقتلوا نساءهم وأبناءهم وأن يخرجوا إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف غير تاركين وراءهم ثقلا حتى يحكم الله بينهم وبين محمد. فإن هلكوا لم يتركوا وراءهم نسلا يخشون عليه وإن ظهروا اتخذوا النساء والأبناء، فرفضوا هذا العرض أيضا قائلين: نقتل هؤلاء المساكين؟! فما خير العيش بعدهم؟! قال لهم كعب: لم يبق إذن إلا أن تنزلوا على حكم محمد وقد سمعتم ما أعد لكم.
وتشاور القوم فيما بينهم وقال قائل منهم: إنهم لن يكونوا أسوأ من بني النضير مصيرا، وإن أولياءهم من الأوس سيدفعون عنهم الشر، وإنهم إن عرضوا أن يرتحلوا إلى أذرعات بالشام لم يجد محمد بأسا من قبول عرضهم.
وبعثت قريظة إلى محمد تعرض عليه الخروج إلى أذرعات تاركة وراءها ما تملك، فأبى ذلك عليها إلا أن تنزل على الحكم. فأرسلت إلى الأوس تقول لهم: ألا تأخذون لإخوانكم مثلما أخذت الخزرج لإخوانهم؟! فمشى جماعة من الأوس إلى محمد فقالوا: يا نبي الله، ألا تقبل من حلفائنا مثل الذي قبلت من حلفاء الخزرج؟! قال محمد: يا معشر الأوس، ألا ترضون أن أجعل بيني وبين حلفائكم رجلا منكم؟! فقالوا: بلى. قال: فقولوا لهم فليختاروا من شاءوا. فاختار اليهود سعد بن معاذ، وكأنما أعماهم القدر عما كتب لهم في لوح حظهم، فأنساهم مقدم سعد إليهم أول نقضهم عهدهم، وتحذيره إياهم، ووقوعهم في محمد أمامه، وسبهم المسلمين بغير حق. وأخذ سعد المواثيق على الفريقين أن يسلم كلاهما لقضائه وأن يرضى به. فلما أعطوه المواثيق، أمر ببني قريظة أن ينزلوا وأن يضعوا السلاح ففعلوا، فحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وتقسم الأموال وتسبى الذرية والنساء. فلما سمع محمد هذا الحكم قال: والذي نفسي بيده لقد رضي بحكمك هذا الله والمؤمنون وبه أمرت. ثم خرج إلى سوق المدينة فأمر فحفرت بها خنادق ثم جيء باليهود أرسالا فضربت أعناقهم، وفي هذه الخنادق دفنوا . ولم يكن بنو قريظة يتوقعون هذا الحكم من سعد بن معاذ حليفهم. بل كان يحسبونه يصنع بهم ما صنع عبد الله بن أبي مع بني قينقاع. ولعل سعدا ذكر أن الأحزاب لو انتصرت بخيانة بني قريظة لما كان أمام المسلمين إلا أن يستأصلوا وأن يقتلوا وأن يمثل بهم. فجزاهم بمثل ما عرضوا المسلمين له.
وقد أظهر اليهود من الجلد أمام القتل ما تراه في حديث حيي بن أخطب حين قدم لضرب عنقه، فقد نظر إليه النبي وقال: ألم يخزك الله يا حيي؟! فأجاب حيي: «كل نفس ذائقة الموت، ولي أجل لا أعدوه ولا ألوم نفسي على عداوتك.» ثم التفت إلى الناس فقال: «أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل.» ثم إن الزبير بن باطا القرظي كان قد من على ثابت بن قيس يوم بعاث بأن خلى سبيله بعد أسره، فأراد ثابت أن يجزيه، بعد حكم ابن معاذ على اليهود، عن يده، فذكر لرسول الله منة الزبير عليه واستوهبه دمه، وأجاب رسول الله طلبته، فلما عرف الزبير ما فعل ثابت قال له: شيخ كبير مثلي لا أهل له ولا ولد ماذا يصنع بالحياة؟! فاستوهب ثابت رسول الله دم امرأته وأولاده فوهبه له، ثم استوهبه ماله فوهبه له كذلك. فلما اطمأن الزبير إلى أهله وولده وماله سأله عن كعب بن أسد وعن حيي بن أخطب وعن عزال بن سموءل وعن زعماء بني قريظة، فلما علم أنهم قتلوا قال: إني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فتلة دلو ناضح
6
حتى ألقى الأحبة، وكذلك ضربت عنقه بمشيئته. وكان المسلمون لا يقتلون في غزواتهم النساء والذراري، ولكنهم يومئذ قتلوا امرأة طرحت الرحا على مسلم فقتلته. وكانت عائشة تقول: والله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل. وأسلم يومئذ من اليهود أربعة فنجوا من القتل.
وفي رأينا أن دم بني قريظة معلق في عنق حيي بن أخطب، وإن كان قد قتل معهم . فهو قد حنث في العهد الذي عاهد قومه من بني النضير حين أجلاهم محمد عن المدينة ولم يقتل منهم بعد النزول على حكمه أحدا. وهو بتأليبه قريشا وغطفان وتحزيبه العرب كلها لقتال محمد جسم العداوة بين اليهود والمسلمين، وجعل هؤلاء يعتقدون أن بني إسرائيل لا تطيب نفوسهم إلا باستئصال محمد وأصحابه. وهو الذي حمل بني قريظة من بعد ذلك على نقض عهدها والخروج من حيادها، ولو أنها بقيت عليه لما أصابها من الشر. وهو الذي دخل حصن بني قريظة بعد ارتحال الأحزاب ودعاهم لمواجهة المسلمين والدفاع عن أنفسهم بمقاتلهم، ولو أنهم نزلوا على حكم محمد منذ اليوم الأول واعترفوا بخطئهم في نقض عهدهم، لما أهدرت دماؤهم وضربت أعناقهم. لكن العداوة بلغت من التأصل في نفس حيي وانتقلت منه إلى نفوس بني قريظة حدا جعل سعد بن معاذ نفسه، وهو حليفهم، يؤمن بأنهم إن أبقى على حياتهم لم تهدأ لهم نفس حتى يؤلبوا الأحزاب من جديد، وحتى يجمعوا العرب لقتال المسلمين، وحتى يقتلوهم عن آخرهم إن ظفروا بهم. فالحكم الذي أصدره على قسوته إنما أصدره متأثرا بالدفاع عن النفس، معتبرا بقاء اليهود أو زوالهم مسألة حياة أو موت بالنسبة للمسلمين.
وقسم النبي أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين بعد ان أخرج منها الخمس؛ قسمها بأن كان للفارس سهمان، ولفرسه سهم، وللراجل سهم. وكانت الخيل يوم قريظة ستة وثلاثين فرسا. ثم بعث سعد بن زيد الأنصاري بطائفة من سبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع بها خيلا وسلاحا زيادة في قوة المسلمين الحربية.
وكانت ريحانة إحدى سبايا بني قريظة قد وقعت في سهم محمد، فعرض عليها الإسلام فأصرت على يهوديتها، وعرض عليها أن يتزوجها فقالت: بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك. ولعل حرصها على اليهودية ورفضها الزواج يرجعان إلى عصبيتها لقومها، وما كان باقيا في نفسها من كراهية للمسلمين ولنبيهم. ولم يتحدث أحد عن جمال ريحانة ما تحدثوا عن جمال زينب بنت جحش، وإن ذكر بعضهم أنها كانت جميلة وسيمة . وقد اختلفت السير فيها: أضرب عليها الحجاب كما ضرب على نساء النبي، أم أنها ظلت كسائر نساء العرب يومئذ لم يضرب عليها حجاب. وبقيت ريحانة في ملكه حتى ماتت عنده.
وطدت غزوة الأحزاب، ووطد القضاء على بني قريظة، للمسلمين في المدينة، فلم يبق للمنافقين فيها صوت قط. وذهبت العرب كلها تتحدث بقوة المسلمين وسلطانهم، وبمقام محمد وقوته ورهبة جانبه. ولكن الرسالة لم تكن للمدينة وحدها بل كانت للعالم بأسره. فما يزال على النبي وأصحابه إذن أن يمهدوا لكلمة الله، وأن يدعوا الناس لدينه الحق، وأن يصدوا عنه كل معتد عليه. وهذا ما فعلوا.
الفصل التاسع عشر
من الغزوتين إلى الحديبية
(المرأة والرجل في الإسلام - غزوة بني لحيان - قتل عيينة والأقرع - غزوة بني المصطلق - حديث الإفك) ***
استتب الأمر لمحمد والمسلمين بعد غزوة الخندق والقضاء على بني قريظة استتبابا جعل العرب تخافهم أشد الخوف، وجعل الكثيرين من قريش يفكرون: أليس خيرا لقريش لو أنها هادنت محمدا وصافته وهو منها وهي منه، والمهاجرون معه بينهم كبراؤها وساداتها؟! واستراح المسلمون بعد الذي اطمأنوا إليه من القضاء على اليهود بجوار المدينة قضاء لا تقوم لهم قائمة بعده. ومكثوا بالمدينة لذلك ستة أشهر يباشرون من تجارة الحياة ما يستمتعون معه بشيء من نعمة الحياة، ويزدادون برسالة محمد إيمانا ولتعاليمه امتثالا، ويسيرون وإياه في طريق تنظيم الجماعة العربية تنظيما لم يكن مألوفا عندها من قبل، ولكنه لم يكن منه بد في جماعة منظمة ذات كيان ووحدة كالجماعة التي كانت تتكون تحت سلطان الإسلام رويدا رويدا. فقد كانت العرب في الجاهلية لا تعرف لها نظاما ثابتا إلا ما أقرته عاداتها ولم يكن لها في أمر الأسرة ونظامها، والزواج وحدوده، والطلاق وقيوده، وصلات الزوجين والأبناء، إلا ما تمليه طبيعة ذلك الجو الذي يغلو في الإباحة تارة ليصل من الجمود والتقيد إلى حدود الرق وعسفه تارة أخرى. فلينظم الإسلام الجماعة الإسلامية الناشئة التي لما تتكون تقاليدها، وليمهدها في وقت قصير لتضع نواة حضارة تنتظم من بعد ذلك حضارة الفرس والروم والمصريين، وتطبعها بطابعها الإسلامي الذي يتدرج رويدا رويدا حتى يصل إلى كماله يوم ينزل قوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
1
ومهما يكن الرأي في حضارة العرب قبل الإسلام وبداوتها، وهل كانت القرى من أمثال مكة والمدينة ذات حضارة لا تعرفها البادية، أو أنها كانت أيضا في أوليات مراتب الحضارة فإن صلات الرجل والمرأة في هذه الجماعة العربية كلها لم تكن تعدو - بشهادة القرآن وبشهادة ما بقي من آثار ذلك العهد - صلات الذكورة والأنوثة، مع تفاوت تمليه مراتب الطوائف والعشائر لا يبعد عن هذا الوضع القريب من مراتب الإنسان الأول؛ ولذلك كان النسوة يتبرجن في الجاهلية الأولى ويبدين من زينتهن ما لا يقف أمره عند بعولتهن، وكن يخرجن فرادى ومثنى وزرافات لحاجتهن يقضينها في غوطة الصحراء فيلقاهن الشبان والرجال وهن يتهادين في جماعتهن، فلا يأبى هؤلاء ولا أولئك أن يتبادلوا أشهى النظرات ومعسول الحديث مما يستريح إليه الذكر وتطمئن إليه الأنثى. وبلغ من أمر هذه الصلة وما قرت في النفوس، أن لم تأب هند زوج أبي سفيان أن تقول في أشد مواقف الجد والشدة، وهي تحث قريشا حين الحرب يوم أحد:
إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
ولم يكن الزنا يومئذ بالجريمة ذات الخطر والشأن في بعض القبائل. وكان الغزل بعض معروف العرب جميعا. ولقد ذكر الرواة عند هند هذه، على ما كان لأبي سفيان من مكانة وخطر، أحاديث غرام وهوى لم تغير من مكانتها في قومها ولا بين أهلها. ثم إن المرأة كانت إذا ولدت، ولم يعرف لمولودها أب، لم تأب أن تذكر من لامسها من الرجال لينسب مولودها إلى أيهم كان أقرب إليه شبها. ولم يكن إلى ذلك الوقت لتعداد الزواج ولا للرق حد أو قيد. كان للرجل أن يتزوج ما شاء، وأن يتسرى ما شاء، وكان لهؤلاء ولأولئك أن يلدوا ما شاءوا. وكان الأمر في ذلك لا خطر له إلا أن يتضح وتخشى معرته، وما قد يجر وراءه من أهاجي تتبادل لا يدري أحد ما ينجم عنها من خصومة وقتال. هنالك يتبدل الأمر غير الأمر، وترى ما كانت المودة قد سترت من قبل من ملاحم الهوى ووثبات الغرام، قد هتكته الخصومة فجعلته سببا لملاحم القتال ووثبات النزال.
وإذا شبت الخصومة فلكل أن يتقول ما شاء وأن يزعم ما يريد. وخيال العربي خصب، بطبيعة عيشه تحت السماء، وتجواله الدائم في طلب الرزق، واضطراره إلى المغالاة وإلى الكذب أحيانا في شئون التجارة. والعربي مولع بالفراغ الذي يغريه بالغزل ويزيد خياله في السلم والحرب خصبا. فإذا وقف زيد في السلم يحادث هندا حديث هوى لم يزد على شهي اللفظ تساقطه لآلئ الثنايا العذاب، رأيت زيدا هذا حين الخصومة والحرب يرفع عقيرته بهند، وقد لقيها أمامه متجردة، يقول في نحرها وصدرها ونهدها وخصرها وعجيزتها وما دون ذلك ما شاءت له أفانين الخصومة، واهتياج الخيال الذي لا يعرف في المرأة غير الأنثى وغير ما تفرش من النمارق. ومع ما قضى الإسلام على هذه النفسية فقد بقي من آثارها ما نقرؤه في مثل شعر عمر بن أبي ربيعة، وما تأثر به شعر الغزل في العربية إلى عصور كثيرة، وما لا يزال له أثره، ولو إلى حد قليل، في شعر عصرنا الحاضر.
ربما بدا هذا التصوير للقارئ المعجب بالعرب وحضارتهم، وللمعجب حتى بعرب الجاهلية، مشوبا بشيء من الغلو. وللقارئ العذر من ذلك، إذ يوازن بين هذه الصورة التي وضعناها أمامه، وما هو واقع بالفعل في عصرنا الحاضر وما نرجو أن تصل إليه صلات الرجل والمرأة في الزواج والطلاق وصلات الزوجين والأبناء. لكن موازنة كهذه مخطئة جديرة أن تجر إلى أفحش الضلال. إنما يجب أن يوازن بين الجماعة العربية التي صورنا إحدى نواحيها في القرن السابع المسيحي، والجماعات الإنسانية في ذلك العصر.
وما أحسبنا نغالي إذا قلنا: إن الجماعات العربية كانت، مع ما وصفنا من أمرها، خيرا بكثير من الجماعات المعاصرة لها في آسيا وفي أوروبا. ولسنا نقف عند ما كان من ذلك في الصين أو في الهند، فما لدينا من المعلومات عنه قليل لا غناء فيه. لكن أوروبا الشمالية وأوروبا الغربية كانت يومئذ في ظلمات تبيح لك أن تصور من نظام الأسرة فيها ما تريد مما يقرب من أوليات مراتب الإنسانية. وكانت الروم، وهي صاحبة الشرع يومئذ وصاحبة الغلب والسيادة والمنافس الوحيد القوي للفرس، تجعل المرأة من الرجل في مكانة دون مكانة المرأة العربية من الرجل حتى في البادية.
كانت المرأة في شرائع الروم يومئذ معتبرة متاعا مملوكا للرجل يتصرف فيه كيف يشاء. ويملك من أمره ما يريد حتى الحياة والموت. كانت تعامل معاملة الرق سواء، لا فارق بينها وبينه في نظر الشرع الروماني. كانت مملوكة لأبيها، ثم لزوجها، ثم لابنها، وكان ملكهم إياها تاما كملكهم الرقيق وكملكهم الحيوان والجماد. وكان ينظر إلى المرأة على أنها مثار الشهوة، وعلى أنها لا سلطان لها على أنوثتها الحيوانية، حتى لم يكن بد من اصطناع نطاق العفة ومن التمسك بذلك قرونا متوالية، بعد هذا العصر الذي نصف فيه أحوال جزيرة العرب. ومع أن السيد المسيح - عليه السلام - كان برا بالنساء عطوفا عليهن. حتى لقد قال حين أظهر بعض رجاله العجب لحسن معاملته مريم المجدلية: «من لم يكن منكم ذا خطيئة فليرمها بحجر.» مع هذا ظلت أوروبا المسيحية، كما كانت أوروبا الوثنية من قبل، تزدري المرأة شر ازدراء. ولم تكن تنظر إلى صلاتها بالرجل على أنها صلات الذكورة والأنوثة وكفى، بل على أنها صلة عبودية ورق ومهانة مما طوع لبعض المتكلمين في عصور مختلفة أن يتساءلوا: أللمرأة روح وأنها ستحاسب، أم أنها كالحيوان لا روح لها ولا تعرف عند الله حسابا وليس لها في ملكوت الله متسع؟!
وكان محمد يقدر، بما أوحي إليه، أن لا صلاح للجماعة إلا بتعاون الرجل والمرأة، باعتبار أنهما أخوان متضامنان تضامن مودة ورحمة، وأن للنساء مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة. لكن الأخذ في ذلك بالطفرة لم يكن أمرا ميسورا، ومهما يكن من إيمان العرب الذين اتبعوه به، فإن أخذهم باليسير من الأمر وعدم تعريضهم للحرج، أدعى إلى مزيد إيمانهم، وإلى ازدياد أنصاره. وكذلك كان الشأن في كل إصلاح اجتماعي فرضه الله على المسلمين.
بل كذلك كان الشأن في فروض الدين ذاتها، في الصلاة والصوم والزكاة والحج. وكذلك كان الشأن في المحرمات كالخمر والميسر ولحم الخنزير وما إليها. وقد بدأ محمد، في شأن الإصلاح الاجتماعي، وتقرير صلات ما بين الرجل والمرأة، بالمثل يضربه فيما بينه وبين أزواجه مما كان المسلمون جميعا يرونه. فالحجاب لم يفرض على نساء النبي إلى ما قبيل غزوة الأحزاب كما لم يفرض تحديد الزوجات بأربع مع شرط العدل إلى ما بعد غزوة الأحزاب، بل إلى ما بعد غزوة خيبر بأكثر من سنة. فكيف يصل النبي إلى توطيد علاقات الرجل والمرأة على أساس صالح، تمهيدا لهذه المساواة التي انتهى الإسلام إليها، مساواة تجعل للنساء مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة؟
كانت صلات الرجل والمرأة عند المسلمين، كما كانت عند سائر العرب، على ما وصفنا، مقصورة على صلات الذكورة الأنوثة. وكان التبرج وإبداء الزينة بصورة تدعو إلى تحرش الرجال بالنساء، كلما وجدوا الفرصة لذلك بعض ما يذكي عواطف الجنس عند الرجل والمرأة على سواء، وما يحول لذلك دون التقريب بينهما تقريبا أساسه المعنى الإنساني السامي، وأساسه الاشتراك الروحي في العبودية لله وحده. وقد نشأ عن قيام طوائف اليهود والمنافقين في المدينة، وخصومتهم لمحمد وللمسلمين، أن بلغ تحرش هذه الطوائف بالمسلمات حدا أدى إلى حصار بني قينقاع كما رأيت، وإلى إيصال الأذى للمسلمات، مما كانت تنشأ عنه مشاكل لا ضرورة لها. فلو أن المسلمات لم يبدين زينتهن أثناء خروجهن، لكان ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، ولوفر ذلك هذه المشاكل، ولكان بدءا حسنا لهذه المساواة التي يريد الإسلام تحقيقها بين الجنسين، من غير أن يشعر المسلمون، رجالا ونساء، بانتقال في الفكرة لم يمهدوا له.
وفي هذه الظروف نزل قوله تعالى:
والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا * يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما * لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا .
2
بهذا التمهيد سهل على المسلمين أن يقلعوا عن عادات العرب الأولى. كما أن ما قصد إليه شارع الإسلام، من تنظيم الجماعة على أساس الأسرة طاهرة من أدران الدخيلة مما جعل الزنا جريمة كبرى، قد يسر لكل مسلم أن يقدر ما في تبرج الأنثى تتبدى به للذكر من عيب ومعرة، ما لم تكن صلة ما بين الرجل والمرأة تسمح بهذا التبرج. وذلك قوله تعالى:
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون .
3
وكذلك عمل الإسلام، فتدرجت صلة ما بين الرجل والمرأة إلى غير ما كانت فلم تبق صلة ذكورة وأنوثة إلا حيث تخشى الفتنة من مثل هذه الصلة؛ فأما في سائر شئون الحياة وفي علاقات الرجال والنساء جميعا، فالكل سواسية، والكل عباد الله، والكل متضامنون للخير ولتقوى الله. فإذا فرط من أحدهم أو من إحداهن ما يذكي في النفس معاني الجنس فذلك إثم يجب على من فرط منه أن يتوب إلى الله؛ إنه هو التواب الرحيم.
لكن ذلك كله لم يكن كافيا لينقل النفس العربية في أعوام قلائل من اعتباراتها الأولى ليغيرها في هذا الشأن، كما غيرها في الإيمان بالله وعدم الشرك به؛ نفسا جديدة. وذلك طبيعي؛ فالمادة إذا تكيفت على صورة ما، لم يكن من اليسير تحولها إلا رويدا رويدا؛ ومهما تحولها فلن تحولها إلا قليلا. ذلك شأن حياة الإنسان المادية. تطبعه العادات المتوارثة، وتطبعه تقاليد البيئة في شئون حياته، فإذا أريد به أن يتغير فقد وجب أن يتدرج في انتقاله وتغيره، ثم إنه لن يستطيع هذا التدرج إلا إذا غير ما بنفسه. وقد يستطيع الإنسان أن يغير جانبا من جوانب نفسه بإزالة ما أمامها من حوائل تعوق تمددها وانتشارها لتمتثل الكون كله. وهذا ما فعل الإسلام بالمسلمين في شأن توحيد الله والإيمان به وبرسوله وباليوم الآخر. لكن كثيرا من جوانب النفس العربية لم تحطم أمامه العوائق، وخاصة في شئون الحياة المادية. فبقي المسلمون فيه قريبين مما كانوا قبل إسلامهم، وذلك كان شأنهم فيما طبعتهم عليه حياة الصحراء من تلكؤ، وفيما درجوا عليه من حب التحدث إلى النساء.
ومع هذا الذي أسلفنا من تعديل الدين الجديد نظرتهم لصلات ما بين الرجل والمرأة، فقد ظلوا فيما سوى ذلك كما كانوا من قبل أو على مقربة منه. وكثيرا ما كان أحدهم يحب أن يدخل على النبي بيته، وأن يمكث عنده وأن يتحدث إليه وأن يتحدث إلى نسائه، وقد كانت مهام النبوة العظمى أكبر من أن تدع محمدا يشغل نفسه بحديث هؤلاء الذين يجيئون إليه، والذين يتحدثون إلى نسائه وما ينقل نساؤه إليه من أحاديثهم، لذلك أراد الله أن يخلي نبيه من هذه المشاغل الصغرى، فأنزل عليه الآيات:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما .
4
وكما نزلت هذه الآية حديثا للمؤمنين وإرشادا لهم إلى واجبهم إزاء النبي وأزواجه، نزلت الآيتان الآتيتان كذلك موجهتين إلى أزواج النبي في هذا الشأن نفسه. قال تعالى:
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .
5
هذا هو التمهيد الاجتماعي الجديد الذي أراده الإسلام للجماعة الإنسانية. أقام أساسه على تغيير نظرة الجماعة إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات، وأراد أن يمحو من النفوس تسلط فكرة الجنس واعتبارها وحدها المتغلبة على كل اعتبار، وأراد بذلك أن يوجه الجماعة وجهتها الإنسانية العليا التي لا تنكر على الإنسان استمتاعه بالحياة استمتاعا لا يضعف من حريته في أن يريد - ومن باب أولى لا يسلبه هذه الحرية في أن يريد - والتي تجعل من الإنسان صلة ما بين الكائنات جميعا، فيرتفع به من مراتب زراعة الأرض ومن الصناعة ومن تجارة الحياة أيا كانت، لتسمو به إلى مجاورة القديسين والاتصال بالملائكة المقربين. وقد جعل الإسلام من الصوم والصلاة والزكاة وسائل لهذا السمو؛ بما تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وبما تطهر النفس والقلب من شوائب الخضوع لغير الله، وبما تقوي من أسباب الأخوة بين المؤمنين، ومن الاتصال بين الإنسان وسائر ما في الكون.
هذا التنظيم للحياة الاجتماعية رويدا رويدا، تمهيدا للانتقال العظيم الذي أعد الإسلام له الإنسانية، لم يمنع قريشا والعرب أن تتربص بمحمد الدوائر، ولم يمنع محمدا أن يكون دائم الحذر، سريعا إلى النشاط لإلقاء الرعب في قلوب خصومه عند الحاجة. من ذلك أنه، بعد ستة أشهر من القضاء على بني قريظة - شعر بشيء من الحركة في ناحية مكة، ففكر في أن ينتقم لخبيب بن عدي وأصحابه ممن قتل بنو لحيان عند ماء الرجيع منذ سنتين. على أنه لم يجهر بقصده خيفة أن يتخذ العدو الحيطة لنفسه. فأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة، فأخذ قواته ويمم بها شمالا. فلما اطمأن إلى أن قريشا وجيرانها لم يبق منهم من يفطن لمقاصده، انتقل راجعا إلى ناحية مكة وأغذ السير مسرعا حتى بلغ منازل بني لحيان بعران. لكن قوما رأوه أول انحداره إلى الجنوب فعرف منهم بنو لحيان قصده إياهم. فاعتصموا برءوس الجبال هم ومتاعهم. وفات النبي أن يصيبهم، فبعث أبا بكر في مائة راكب حتى بلغوا عسفان على مقربة من مكة. ثم كر رسول الله قافلا إلى المدينة في يوم قائظ بلغ من قيظه أن كان النبي يقول: «آئبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون. أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال.»
ولم يكد محمد يقيم بالمدينة ليالي بعد أوبته إليها حتى أغار عيينة بن حصن على أطرافها، وكان بظاهرها إبل ترعى يحرسها رجل وامرأته فقتل عيينة وأصحابه الرجل وساقوا الإبل واحتملوا المرأة وانصرفوا يحسبون أنهم من اللحاق بمنجاة. لكن سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي قد غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله؛ فلما مر على ثنية الوداع وأشرف على ناحية من سلع، وأبصر القوم قد اقتادوا الإبل واحتملوا المرأة، فصاح: واصباحاه! وجعل يشتد في أثر القوم حتى إذا اقترب منهم رماهم بالنبل، وهو في أثناء ذلك لا ينفك يصيح. وبلغ محمدا صياح سلمة. فنادى في أهل المدينة: الفزع الفزع؛ فترامى الفرسان إليه من مختلف النواحي، فأمرهم فانطلقوا في أثر القوم، وجهز هو قواته وسار على رأسها يتبعهم حتى نزل بالجبل من ذي قرد.
كان عيينة ومن معه قد أغذوا السير مسرعين يريدون اللحاق بغطفان نجاة من المسلمين. ولكن فرسان المدينة أدركوا مؤخرتهم واستخلصوا شطر الإبل منهم ولحق بهم محمد فأعانهم؛ ونجت المرأة المؤمنة التي كان العرب قد احتملوها. وأراد جماعة من أصحاب النبي أخذت منهم الحماسة كل مأخذ أن يتأثروا عيينة، فردهم رسول الله، أن علم أن عيينة وأصحابه قد أدركوا غطفان واحتموا بهم. ورجع المسلمون إلى المدينة، وجاءت امرأة الحارس في آثارهم على ناقة المسلمين. وكانت المرأة قد نذرت إن أنجتها الناقة لتنحرنها قربانا إلى الله، فلما أخبرت النبي بنذرها قال: «بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها. إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين.»
وأقام محمد بعد ذلك قرابة شهرين. ثم كانت غزوة بني المصطلق بالمريسيع، هذه الغزوة التي يقف عندها كل كاتب وكل مؤرخ لسيرة النبي العربي؛ لا لأنها غزوة ذات قيمة، أو لأن المسلمين أو عدوهم أبلوا فيها بلاء خارقا للعادة، بل لأن الشقاق كاد يفشو بعدها في صفوف المسلمين، فحسمه الرسول بأحسن ما يكون عزيمة وحزما، ولأن من أثرها أن تزوج الرسول من جويرية بن الحارث، ولأن هذه الغزوة أثمرت حديث الإفك عن عائشة حديثا كان موقفها منه - وهي لما تزل في السادسة عشرة - موقف إيمان وقوة تحطمت على جنباتها وعنت لجلالهما كل الوجوه.
فقد بلغ محمدا أن بني المصطلق وهم فرع من خزاعة، يجمعون في حيهم على مقربة من مكة، وأنهم يحرضون عليه يريدون قتله، وعلى رأسهم قائدهم الحارث بن أبي ضرار. ووقف محمد من أحد البدو على سر جمعهم فأسرع في الخروج ليأخذهم على غرة، كعادته في أخذ أعدائه. وجعل لواء المهاجرين لأبي بكر، ولواء الأنصار لسعد بن عبادة. ونزل المسلمون على ماء قريب من بني المصطلق يقال له المريسيع، ثم أحاطوا ببني المصطلق ففر من جاءوا لنصرتهم. وقد قتل من بني المصطلق عشرة ولم يقتل من المسلمين إلا رجل يقال له هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار وهو يحسبه خطأ من العدو. ولم يجد بنو المصطلق، بعد قليل من التراشق بالنبال، مفرا من التسليم تحت ضغط المسلمين القوي السريع، فأخذوا أسرى هم ونساؤهم وإبلهم وماشيتهم.
وكان لعمر بن الخطاب في الجيش أجير يقود فرسه، فازدحم بعد انتهاء الموقعة مع أحد رجال الخزرج على الماء فاقتتلا فتصايحا، يقول الخزرجي: يا معشر الأنصار، ويقول أجير عمر: يا معشر المهاجرين. وسمع عبد الله بن أبي النداء، وكان قد خرج مع المنافقين في هذه الغزوة ابتغاء الغنيمة، فثار ما في نفسه على المهاجرين وعلى محمد حفيظة، وقال لجلسائه: «لقد كاثرنا المهاجرون في ديارنا والله ما أعدنا وإياهم إلا كما قال الأول: «سمن كلبك يأكلك.» أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.» ثم قال لمن حضر من قومه: «هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.» ومشى بحديثه هذا ماش إلى رسول الله بعد فراغه من عدوه، وكان عنده عمر بن الخطاب، فهاج عمر لما سمع وقال: مر به بلالا فليقتله. هنا ظهر النبي كدأبه مظهر القائد المحنك والحكيم البعيد النظر؛ إذ التفت إلى عمر وقال: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس وقالوا إن محمدا يقتل أصحابه؟
لكنه قدر في الوقت نفسه أنه إن لم يتخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر؛ لذلك أمر أن يؤذن في الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها، وترامى إلى ابن أبي ما بلغ النبي عنه، فأسرع إلى حضرته ينفي ما نسب إليه، ويحلف بالله ما قاله ولا تكلم به. ولم يغير ذلك من قرار محمد الرحيل شيئا، بل انطلق بالناس طيلة يومهم حتى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتى أصبحوا، وصدر يومهم الثاني حتى آذتهم الشمس. فلما نزل الناس لم يلبثوا حين مست جنوبهم الأرض أن وقعوا من فرط تعبهم نياما، وأنسى التعب الناس حديث ابن أبي وعادوا بعد ذلك إلى المدينة ومعهم ما حملوا من غنائم بني المصطلق وأسراهم وسبيهم، ومعهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار قائد الحي المهزوم وزعيمه.
بلغ المسلمون المدينة، وأقام ابن أبي بها، لا تهدأ له نفس حسدا لمحمد وللمسلمين، وإن تظاهر بالإسلام بل بالإيمان؛ وإن أصر على إنكار ما نقل عنه لرسول الله عند المريسيع. أثناء ذلك نزلت سورة المنافقين وفيها قوله تعالى:
هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون .
6
هنالك حسب قوم أن في هذه الآيات قضاء على ابن أبي، وأن محمدا لا ريب آمر بقتله، فذهب عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان مسلما حسن الإسلام، فقال: «يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به أنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني. وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار.» كذلك قال عبد الله بن عبد الله بن أبي لمحمد. وما أحسب عبارة أبلغ من عبارته على إيجازها في قوة التعبير عن حالة نفسية تضطرب فيها أقوى العوامل في النفس أثرا: تضطرب فيها عوامل البر بالأب وصدق الإيمان والنخوة العربية والحرص على سكينة المسلمين حتى لا تتواتر الثارات بينهم!
فهذا ابن يرى أباه سيقتل، فلا يطلب إلى النبي ألا يقتله، لأنه يؤمن بأن النبي إنما يصدع بأمر ربه، ويوقن بكفر أبيه. وهو، من خيفة ما يقتضيه البر بأبيه وما تقتضيه الكرامة والنخوة أن يثأر له ممن قتله، يريد أن يحمل على نفسه وأن يقتل هو أباه، وأن يحمل هو بنفسه إلى النبي رأسه، وإن قطع ذلك قلبه وفرى كبده! وهو يجد في إيمانه بعض العزاء عن هذا الشطط الذي يكلف نفسه، مخافة أن يدخل النار إن هو قتل المؤمن الذي يأمره النبي بقتل أبيه. أي جلاد بين الإيمان والعاطفة والخلق أشد من هذا الجلاد؟! وأية مأساة نفسية أفتك بصاحبها من هذه المأساة؟! أفتدري بم أجاب النبي عبد الله بعد أن سمع قوله: «إنا لا نقتله بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.»
يا لروعة العفو وجلاله! محمد يترفق بهذا الذي يؤلب أهل المدينة عليه وعلى أصحابه، فيكون رفقه ويكون عفوه أبعد أثرا من عقوبته لو أنه أنزلها به. فقد كان عبد الله بن أبي بعد ذلك إذا أحدث الحدث يعاتبه قومه ويعنفونه ويشعرونه أن حياته بعض هبات محمد له. وتذاكر النبي مع عمر يوما شئون المسلمين وجاء ذكر ابن أبي وما يعاتبه قومه وما يعنفونه؛ فقال محمد: كيف ترى يا عمر؟! أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أعظم بركة من أمري.
حدث ذلك كله بعد أن عاد المسلمون إلى المدينة ومعهم ما معهم من السبي والغنائم. على أن أمرا حدث لم يترك بادئ الرأي أثرا، كان له بعد ذلك حديث طويل. ذلك أن النبي كان إذا غزا أقرع بين نسائه، فأيهن خرج سهمها خرج بها معه. وخرج سهم عائشة عشية غزوة بني المصطلق فخرج بها. وكانت عائشة نحيفة خفيفة، فكانوا إذا جاءوا بالهودج إلى بابها خرجت إليه فأخذ الرجال به فشدوه إلى ظهر البعير وهم لا يكادون يشعرون بها لخفة زنتها. ولما فرغ النبي من سفره وسار ومن معه مسيرتهم الطويلة المضنية التي ذكرنا، اتجه بعد ذلك إلى المدينة، حتى إذا كان قريبا منها نزل منزلا بات به بعض الليل ثم أذن في الناس بالرحيل وكانت عائشة قد خرجت من خيمة النبي لبعض حاجتها والهودج موضوع أمام الخيمة في انتظار دخولها فيه.
وكان لعائشة عقد انسل من عنقها وهي في بعض حاجتها. فلما قامت عائدة إلى الرحيل التمست العقد فلم تجده فرجعت أدراجها تبحث عنه. ولعلها بحثت عنه طويلا حتى وجدته. ولعلها أغفت أثناء ذلك لفرط ما نالها من التعب بعد مسيرتهم المجهدة. ورجعت إلى المعسكر لتستقل هودجها، فإذا القوم قد شدوه إلى ظهر البعير وهم يحسبونها فيه، وارتحلوا وهم يحسبون أنهم حملوا معهم أشد أمهات المؤمنين حظوة عند النبي. ولم تجد هي في المعسكر داعيا ولا مجيبا . فلم يساورها الخوف وأيقنت أن القوم إذا افتقدوها فلم يجدوها رجعوا إليها، فخير لها أن تبقى مكانها من أن تضرب في الصحراء على غير هدى فتضل السبيل. ولم يساورها الخوف فالتفت في جلبابها واضطجعت مكانها منتظرة دعوة الباحث عنها.
وإنها لفي ضجعتها إذ مر بها صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن المعسكر لبعض حاجاته وكان يراها قبل أن يضرب الحجاب على نساء النبي، فلما بصر بها على هذه الحال تراجع دهشا وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ! ما خلفك رحمك الله؟ فلم تجبه فقرب هو لها البعير واستأخر عنه وقال: اركبي، فركبت. وانطلق بالبعير سريعا يطلب الناس فلم يدركهم، أن كانوا يعجلون سيرهم يريدون المدينة ليستريحوا بها من عناء السير الذي أمر به رسول الله إطفاء للفتنة التي كادت تقوم بسبب حديث ابن أبي. ودخل صفوان المدينة في وضح النهار بأعين الناس وعائشة على ظهر بعيره. حتى إذا كانت عند منزلها بين منازل نسوة الرسول دلفت إليه. ولا يجول بخاطر أحد أن يحدث في أمرها قولا أو يثير حول تأخرها عن الركب شبهة، ولا يدور بخاطر الرسول ظنة سوء في ابنة أبي بكر أو في صفوان المؤمن الحسن الإيمان.
وما كان لحديث أن يدور، وها هي ذي تدخل المدينة بأعين الناس في أعقاب العسكر الذين جاءوا لم يمض بين مجيئهم ومجيئها وقت يحمل على ظنة أو يبعث إلى نفس ريبة؛ وها هي تدخل بأعين الناس صافية الجبين مشرقة الوجه، ليس في شيء من مظهرها ما يريب. فلتجر إذن شئون المدينة كما هي وليقتسم المسلمون الأسلاب والغنائم والسبايا مما أسروا من بني المصطلق، ولينعموا بهذه الحياة الرخية التي تزداد على الأيام رخاء كلما زادهم إيمانهم على عدوهم عزا وكلما أظفرتهم به عزيمتهم الصادقة واستهانتهم بالموت في سبيل الله وفي سبيل دينه وفي سبيل حرية العقيدة، حرية كان العرب من قبل يأبونها عليهم.
وكانت جويرية بنت الحارث من سبايا بني المصطلق، وكانت امرأة حلوة ملاحة وقد وقعت في سهم أحد الأنصار، فأرادت أن تفتدي نفسها منه ، فأغلى الفداء علما منه بأنها ابنة زعيم بني المصطلق، وأن أباها على أداء ما طلب قدير. وخشيت جويرية أثر شططه، فذهبت إلى النبي وكان في دار عائشة فقالت: «أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم فلان فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي.» قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك. فلما بلغ الناس الخبر أطلقوا من بأيديهم من أسرى بني المصطلق إكراما لصهر رسول الله إياهم، حتى لكانت عائشة تقول عن جويرية: ما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.
هذه رواية، وتجري رواية أخرى بأن الحارث بن أبي ضرار جاء إلى النبي بفداء ابنته، وأنه أسلم بعد أن آمن برسالة النبي، وأنه أخذ ابنته جويرية فأسلمت كما أسلم أبوها فخطبها محمد إليه فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.
وفي رواية ثالثة: أن أباها لم يكن راغبا في هذا الزواج، بل لم يكن راضيا عنه، وأن أحد أقارب جويرية هو الذي زوجها من النبي على غير إرادة أبيها.
تزوج محمد من جويرية، وبنى لها منزلا إلى جانب منازل نسائه في جوار المسجد، وأصبحت بذلك من أمهات المؤمنين. وبينما هو في شغله بها كان قوم قد بدءوا يتهامسون. ما بال عائشة قد تأخرت عن المعسكر وجاءت مع صفوان على بعيره، وصفوان شاب وسيم الطلعة مكتمل فتوة الشباب؟! وكانت لزينب بنت جحش أخت تدعى حمنة، وكانت تعلم ما لعائشة عند محمد من حظوة تقدمها على أختها فجعلت حمنة هذه تذيع ما يهمس به الناس من أمر عائشة، وكانت تجد من حسان بن ثابت عونا، ومن علي بن أبي طالب سميعا. فأما عبد الله بن أبي فوجد في هذا الحديث مرعى خصيبا لشفاء ما في نفسه من غل وجعل يذيعه جهد طاقته. ولكن جماعة الأوس وقفوا موقف الدفاع عن عائشة ، وقد كانت مضرب المثل في الطهر وسمو النفس. وكاد الحديث يؤدي إلى فتنة في المدينة.
وبلغت هذه الأخبار محمدا فاضطرب لها. ماذا؟! عائشة هذه تخونه؟! هذا مستحيل. إنها الأنفة والإباء، وإن لها من حبه إياها وشدة عطفه عليها ما يجعل مجرد ظن كهذا إثما دونه كل إثم. نعم! ولكن أف للنساء! من ذا يستطيع أن يسبر غورهن أو يصل إلى قرارة ما في نفوسهن؟! وعائشة بعد طفلة يافعة! وأي شيء هذا العقد الذي فقدته فذهبت تلتمسه جوف الليل؟ وما بالها لم تحدث له وهم ما يزالون في المعسكر من أمره ذكرا؟! وتقلب النبي على أشواك الحيرة، ما يدري أيصدق أم يكذب.
أما عائشة فلم يجرؤ أحد على أن يبلغها من كل هذا الذي يقول الناس شيئا، وإن أنكرت من زوجها جفاء لم تعرفه منه ولم يتفق في شيء مع لطفه بها وحبه إياها. ثم إنها مرضت من بعد ذلك مرضا شديدا، فكان إذا دخل عليها وأمها تمرضها لم يزد على قوله: «كيف تيكم؟» ووجدت عائشة في نفسها لما رأت من جفاء النبي إياها، وجعلت تحدث نفسها: ألا تكون جويرية قد حلت من قلبه محلها؟! وبلغ من ضيق ذرعها بجفاء النبي محمد إياها أن قالت له يوما: لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني! وانتقلت إلى أمها وفي نفسها من الدهشة لهذا التفريط في أمرها ما آذاها وآلمها. وظلت في مرضها بضعة وعشرين يوما حتى نقهت، وهي لا تعرف من كل ما يدور حول اسمها من حديث شيئا. أما محمد فقد بلغ من تأذيه بترامي هذه الأخبار إليه أن قام يوما في الناس يخطبهم فقال: «أيها الناس! ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عني غير الحق! والله ما علمت منهم إلا خيرا. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا معي.» فقام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، إن يكونوا من إخواننا الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك. فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. ورد عليه سعد بن عبادة بأنه إنما تقدم بهذه المقالة لأنه يعرف أنهم من الخزرج، ولو كانوا من الأوس ما قالها. وتشاور الناس وكادت تقوم الفتنة لولا حكمة الرسول وحسن مداخلته.
وانتهى الخبر آخر الأمر إلى عائشة، حدثتها به امرأة من المهاجرين، فلما عرفته كاد يغشى عليها من هوله. وانطلقت تبكي لا يحبس دمعها حابس حتى شعرت كأن كبدها تتصدع. وذهبت إلى أمها وقد أثقل الهم كاهلها حتى كاد ينوء بها، وقالت لها والعبرة تخنقها: يغفر الله لك يا أماه! تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا! ورأت أمها الهم الذي بها، فحاولت تخفيف أثره في نفسها فقالت: أي بنية، خففي عليك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها. ولكن عائشة لم تتعز بهذا القول، وزادها ألما أن ذكرت جفاء النبي إياها بعد الذي كان من لطفه بها، وأن شعرت بأنه قد وقع في نفسه من هذا الحديث أثر وقامت بنفسه منه ريبة. لكن ماذا عساها تستطيع أن تفعل؟! أتفاتحه في القول وتذكر له الخبر وتقسم له أنها بريئة؟! هي إذن تتهم نفسها ثم تدفع التهمة بالأيمان والتوسلات. أفتعرض عنه كما أعرض عنها وتجفوه كما جفاها؟ لكنه رسول الله وهو قد اصطفاها على نسائه، وليس من ذنبه أن تحدث الناس عنها بسبب تأخرها عن العسكر وعودها مع صفوان. رباه؟ ألهمهما في هذا الموقف الدقيق مخرجا يتضح لمحمد معه الحق في أمرها ليعود إلى مثل ما كان من حبها والعطف عليها واللطف بها.
ولم يكن محمد خيرا منها مكانا؛ فقد آذاه ما يتحدث به الناس، حتى اضطر آخر الأمر إلى أن يتشاور مع خلصائه ماذا يصنع. فذهب إلى بيت أبي بكر ودعا إليه عليا وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فنفى كل ما نسب إلى عائشة على أنه الكذب والباطل، وأن الناس لا يعرفون كما لا يعرف النبي عنها إلا خيرا. وأما علي فقال: يا رسول الله، إن النساء لكثير. ثم أشار باستجواب جارية عائشة لعلها تصدقه. ودعيت الجارية وقام لها علي فضربها ضربا موجعا وهو يقول: اصدقي رسول الله، والجارية تقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وتنفي عن عائشة قالة السوء. أخيرا لم يبق أمام محمد إلا أن يواجه زوجه وأن يطلب إليها أن تعترف.
ودخل عليها وعندها أبواها وامرأة من الأنصار، وهي تبكي والمرأة تبكي معها. وقد هوى الأسى بنفسها إلى أعمق قرارات الحزن من هول ما ترى من ريبة محمد بها، من ريبة هذا الرجل الذي تحب وتقدس؛ والذي به تؤمن وفيه تفنى. فلما رأته كفكفت دمعها وسمعت إليه وهو يقول: «يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله إن كنت قد قارفت سوءا مما يقولون، فتوبي إلى الله يقبل التوبة عن عباده.»
فما إن أتم حديثه حتى ثار في عروقها دمها، وجف من عينيها دمعها، وتلفتت إلى ناحية أمها وإلى ناحية أبيها تنظر بما يجيبان. لكنهما سكتا فلم ينبسا بكلمة. فازدادت ثورة نفسها وصاحت بهما: ألا تجيبان؟! وقالا: ما ندري بم نجيب. وعادا إلى وجومهما. وهنالك لم تملك نفسها دون النشيج بالبكاء؛ وساعفتها دموعها لتهدئ من الثورة المضطرمة بين ضلوعها تكاد تحرقها. ثم وجهت الكلام إلى النبي وهي تبكي فقالت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا! إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أني بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت لا تصدقوني. ثم سكتت هنيهة وعادت تقول: إنما أقول كما قال أبو يوسف: «صبر جميل والله المستعان على ما تصفون.»
فترة سكوت تلت هذه الثورة لم يعرف حاضروها أطالت أم قصرت، على أن محمدا لم يبرح مجلسه حتى تغشاه من الوحي ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه. قالت عائشة: أما أنا فوالله ما فزعت ولا باليت حين رأيت من ذلك ما رأيت، فقد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي. وأما أبواي فما سري عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى ظننت لتخرجن نفساهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. فلما سري عن محمد جلس يتصبب عرقا، فجعل يمسحه عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة! قد أنزل الله براءتك. قالت عائشة: الحمد لله! وخرج محمد إلى لمسجد فألقى على المسلمين هذه الآيات التي نزلت:
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .
7
إلى قوله تعالى:
ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين * ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم * إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
وفي هذه المناسبة كذلك نزلت عقوبة رمي المحصنات:
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون .
8
وتنفيذا لحكم القرآن أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضرب كل منهم ثمانين جلدة، وعادت عائشة إلى مثل مكانها الأول من بيت محمد ومن قلبه.
يقول السير وليم موير تعليقا على هذا الحادث ما ترجمته: «إن حياة عائشة قبل هذا الحادث وبعده تدعونا إلى القطع ببراءتها وعدم التردد في إدحاض أية شبهة أثيرت حولها.»
وقد استطاع حسان بن ثابت من بعد أن يعود إلى رضا محمد وعطفه عليه، كما طلب محمد إلى أبي بكر ألا يحرم مسطحا عطفه الذي عوده إياه. ومن ثم انقضى هذا الحادث ولم يبق له في المدينة كلها أثر. وأسرع النقه إلى عائشة وعادت إلى دارها من مساكن الرسول، وإلى مكانتها من قلبه، وإلى مركزها الرفيع من نفوس أصحابه المسلمين جميعا. وبذلك فرغ النبي إلى رسالته وإلى سياسة المسلمين استعدادا لعهد الحديبية يفتح الله به على المسلمين فتحا مبينا.
الفصل العشرون
عهد الحديبية
(بعد ست سنوات بالمدينة - دعوة محمد الناس للحج - لا قتال ولا حرب - قريش تقرر الحيلولة بين المسلمين ودخول مكة - مفاوضات الصلح - أناة محمد وسياسته - عهد الحديبية فتح مبين) ***
انقضت ست سنوات منذ هجرة النبي وأصحابه من مكة إلى المدينة، وهم فيما رأيت من جهاد مستمر متصل، بينهم وبين قريش تارة، وبينهم وبين اليهود أخرى. والإسلام في أثناء ذلك يزداد انتشارا ويزداد قوة ومنعة. ومنذ السنة الأولى من الهجرة عدل محمد بقبلته عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وجعل المسلمون وجهتهم بيت الله الذي بنى إبراهيم بمكة، والذي تجدد بناؤه بعد ذلك ومحمد ما يزال في فتوة الشباب، وقد رفع إذ ذاك حجره الأسود إلى مكانه من جدار هذا البيت، وذلك قبل أن يرد بخاطره أو بخاطر أحد من الناس ما سيلقي الله عليه من رسالة.
وكان هذا المسجد الحرام إلى مئات السنين خلت وجهة العرب في عبادتهم، يحجون إليه كل عام في الأشهر الحرم، فمن دخله كان آمنا. فإذا التقى المرء بأشد الناس له عداوة لم يستطع عنده أن يجرد سيفا أو يسفك دما. لكن قريشا آلت على نفسها منذ هاجر محمد والمسلمون معه أن يصدوهم عن المسجد الحرام، وأن يحولوا بينهم وبينه دون سائر العرب. وفي ذلك نزل قوله تعالى منذ السنة الأولى للهجرة:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله .
1
ونزل كذلك قوله تعالى من بعد غزوة بدر:
وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون * وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون .
2
وفي هذه السنوات الست نزلت الآيات كثيرة متتابعة في هذا المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا. لكن قريشا كانت ترى محمدا والذين معه كفروا بآلهة هذا البيت: هبل وإساف ونائلة وسائر الأصنام، ولذلك كانت ترى حربهم وحرمانهم من الحج إلى الكعبة واجبا عليها حتى يثوبوا إلى آلهة آبائهم.
والمسلمون أثناء ذلك يذوقون ألم الحرمان من أداء الواجب الديني المفروض عليهم، كما كان مفروضا من قبل على آبائهم. والمهاجرون منهم يذوقون إلى جانب ذلك هما واصبا وألما لذاعا: ألم النفي، وهم الحرمان من الوطن ومن أهلهم فيه. وهؤلاء وأولئك كانوا في ثقتهم بنصر الله رسوله ونصره إياهم وإعلاء دينهم على الدين كله، يؤمنون بأن يوما قريبا لا بد آت يفتح الله لهم فيه أبواب مكة ليطوفوا بالبيت العتيق، وليؤدوا فريضة الله على الناس جميعا. وإذا كانت السنة تمر تلو السنة فتساجل الغزوة الغزوة، وتكون بدر ثم أحد ثم الخندق ثم سائر الغزوات والأعمال، فإن هذا اليوم الذي يؤمنون به لا ريب آت. وما أشدهم لهذا اليوم شوقا! وما أشد ما يشاركهم محمد في شوقهم وما يؤكد لهم أن هذا اليوم قريب!
والحق أن قريشا ظلموا محمدا وأصحابه بمنعهم من زيارة الكعبة وأداء فرائض الحج والعمرة. فلم يكن هذا البيت العتيق ملكا لقريش، ولكنه كان ملكا للعرب جميعا. وإنما كانت في قريش سدانة الكعبة وسقاية الحاج وما إلى ذلك من العناية بالبيت ورعاية زائريه. ولم يكن اتجاه قبيلة بعبادتها إلى صنم دون آخر ليبيح لقريش منعها من زيارة الكعبة والطواف بها والقيام بما تفرضه عبادة هذا الصنم من شعائر. فإذا جاء محمد ليدعو الناس إلى نبذ عبادة الأصنام وإلى التطهر من رجس الوثنية والشرك، وإلى السمو بالنفس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والارتفاع في سبيل ذلك فوق كل نقص، والارتقاء بالروح إلى حيث تستطيع إدراك وحدة الوجود والتوحيد بالله، وكان من فرائض ذلك حج البيت والعمرة، فمن العدوان منع أصحاب الدين الجديد من أداء هذه الفريضة. ولكن قريشا خافت إن جاء محمد ومن حوله المؤمنون بالله وبرسالته، وهم من صميم أهل مكة، أن يتعلق سواد المكيين بهم وأن يشعروا بما في بقائهم بعيدين عن أهليهم وأبنائهم من ظلم؛ فيكون ذلك نواة حرب أهلية. ثم إن رؤساء قريش وأكابر أهل مكة، لم ينسوا لمحمد والذين معه أنهم حطموا تجارتهم وحالوا بينهم وبين طريقهم المعبدة إلى الشام، وأنهم أثاروا بذلك في نفوسهم من الحقد والبغضاء ما لا يخفف منه أن البيت لله وللعرب جميعا، وأنهم لا يملكون من أمره إلا العناية به ورعاية زائريه.
انقضت ست سنوات منذ الهجرة والمسلمون يتحرقون شوقا يريدون زيارة الكعبة ويريدون الحج والعمرة، وإنهم لمجتمعون بالمسجد ذات صباح إذ أنبأهم النبي بما ألهم في رؤياه الصادقة: أنهم سيدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون. فما كاد القوم يسمعون إلى رؤيا رسول الله حتى علا بحمد الله صوتهم، وحتى انتقل نبأ هذه الرؤيا إلى سائر أنحاء المدينة في سرعة البرق الخاطف. ولكن كيف يدخلون المسجد الحرام؟ أفيحاربون في سبيله؟ أفيجلون قريشا عنه عنوة؟! أم ترى تفتح قريش لهم طريقة مذعنة صاغرة؟
كلا! لا قتال ولا حرب. بل أذن محمد في الناس بالحج في شهر ذي القعدة الحرام، وأوفد رسله إلى القبائل من غير المسلمين يدعوهم إلى الاشتراك وإياه في الخروج إلى بيت الله آمنين غير مقاتلين. وحرص محمد في الوقت نفسه على أن يكون معه من المسلمين أكبر عدد مستطاع. وحكمته في ذلك أن تعلم العرب كلها أنه خرج في الشهر الحرام حاجا ولم يخرج غازيا، وأنه أراد أداء فريضة فرضها الإسلام كما فرضتها أديان العرب من قبل، وأنه أشرك العرب معه ممن ليسوا على دينه في أداء هذه الفريضة. فإن أصرت قريش مع ذلك على مقاتلته في الشهر الحرام ومنعه من أداء ما يؤمن العرب على اختلاف آلهتهم به، لم تجد قريش من العرب من يؤيدها في موقفها ولا من يعينها على قتال المسلمين، وكانت بإمعانها في الصد عن المسجد الحرام تصرف الناس عن دين إسماعيل وعن ملة أبيهم إبراهيم . وبذلك يأمن المسلمون أن تجتمع العرب عليهم اجتماع الأحزاب من قبل، ويزداد دينهم رفعة على رفعته عند العرب الذين لا يؤمنون به. وما عسى أن تقول قريش لقوم جاءوا محرمين، لا سلاح معهم إلا سيوفهم في غمودها، يتقدمهم الهدي الذي ينحرون، ولا هم لهم إلا أن يؤدوا بتطواف البيت فريضة تؤديها العرب جميعا؟!
أذن محمد في الناس بالحج، وطلب إلى القبائل من غير المسلمين الخروج معه، فأبطأ كثير من الأعراب. وخرج في أول ذي القعدة أحد الأشهر الحرم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، يتقدمهم على ناقته القصواء، فكانت عدة الذين خرجوا ألفا وأربعمائة. وساق محمد معه الهدي سبعين بدنة؛ وأحرم بالعمرة، ليعلم الناس أنه لا يريد قتالا، وأنه إنما خرج زائرا بيت الله الحرام معظما له. فلما بلغ ذا الحليفة
3
عقص الناس الرءوس، ولبوا بالعمرة، وعزلوا الهدي ومازوا جوانبها اليمنى ومن بينها بعير أبي جهل الذي أخذوا ببدر، ولم يحمل أحد من هذا الحاج سلاحا إلا ما يحمل المسافر من سيف مغمد. وكانت أم سلمة زوج النبي معه في هذه الرحلة.
وبلغ قريشا أمر محمد ومن معه وأنهم يسيرون قبلهم حاجين؛ فامتلأت نفس قريش بالمخاوف وجعلوا يقلبون هذا الأمر على وجوهه، يحسبونه حيلة أراد محمد أن يحتال بها على دخول مكة بعد أن صدهم والأحزاب معهم عن دخول المدينة، ولم يثنهم ما عملوا من إحرام خصومهم بالعمرة وإذاعتهم في أنحاء الجزيرة كلها أنهم لا تحركهم إلا العاطفة الدينية لقضاء فرض يقره العرب جميعا، عن أن يقرروا الحيلولة بين محمد ودخول مكة، بالغا ما بلغ الثمن الذي يدفعونه لتنفيذ قرارهم هذا. لذلك عقدوا لخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل على جيش يبلغ عدد فرسانه وحدهم مائتين، وتقدم هذا الجيش حتى يحول بين محمد وأم القرى، وبلغ من تقدمه أن عسكر بذي طوى.
أما محمد فتابع مسيرته، حتى إذا كان بعسفان
4
لقيه رجل من بني كعب سأله النبي عما قد يكون لديه من أخبار قريش، فكان جوابه: «قد سمعت بمسيرك فخرجوا، وقد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم وقد قدموها إلى كراع الغميم.»
5
قال محمد: «يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن يفعلوا قاتلوا وبهم قوة! فما تظن قريش؟! فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.»
6
ثم وقف يفكر ماذا عساه يصنع. إنه لم يخرج من المدينة غازيا، وإنما خرج محرما يريد بيت الله يؤدي عنده إلى الله فرضه. وهو لم يتخذ للحرب عدتها؛ فلعله إن حارب فلم ينتصر جعلت قريش من ذلك موضع فخارها، بل لعلها إنما أوفدت ابن الوليد وعكرمة قصد إدراك هذه البغية حين علمت أنه لم يخرج مقاتلا.
وبينما كان محمد يفكر كانت فرسان مكة تبدو على مرمى النظر، يدل مرآها على أنه لا سبيل للمسلمين إلى درك غايتها إلا أن يقتحموا هذه الصفوف اقتحاما، وأن تدور معركة تقف فيها قريش مدافعة عن كرامتها وعن شرفها وعن وطنها؛ معركة لم يردها محمد، وإنما حملته قريش عليها حملا وألزمته خوض غمارها إلزاما. إن المسلمين ممن معه لا تنقصهم الحمية، وقد تكفيهم سيوفهم إذا جردت من غمودها لدفع عدوان المعتدي؛ لكنه يفوت بذلك قصده وقد يجعل لقريش عند العرب حجة عليه، وهو أبعد من هذا نظرا وأكثر حنكة وأدق سياسة. إذن ... نادى في الناس قائلا من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟
وكذلك ظل مستقرا رأيه على سلوك سياسة السلم التي رسم منذ خرج من المدينة ومنذ اعتزم الذهاب إلى مكة حاجا. وخرج رجل يسلك بهم طريقا وعرا بين شعاب مضنية وجد المسلمون في سلوكها مشقة أي مشقة، حتى أفضت بهم إلى سهل عند منقطع الوادي الذي سلكوا فيه ذات اليمين حتى خرجوا على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة. فلما رأت خيل قريش ما صنع محمد وأصحابه ركضوا راجعين أدراجهم ليقفوا مدافعين عن مكة إذا دهمها المسلمون. ولما بلغ المسلمون الحديبية بركت القصواء «ناقة النبي» وظن المسلمون أنها جهدت. فقال رسول الله: «إنما حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها.» ثم دعا الناس إلى النزول فقالوا: «يا رسول الله، ما بالوادي ماء ننزل عليه.» فأخرج هو سهما من كنانته فأعطاه رجلا نزل به إلى بئر من الآبار المنثورة في تلك الأنحاء، فعرزه في الرمال من قاع البئر فجاش الماء، فاطمأن الناس ونزلوا.
نزلوا، ولكن قريشا بمكة لهم بالمرصاد، وهي تؤثر الموت على أن يدخلها محمد عليهم عنوة. فهل يعدون لقريش عدة النزال فيحاربوها حتى يحكم الله بينهم وبينها وحتى يقضي الله أمرا كان مفعولا؟! في هذا فكر بعضهم وفي احتماله فكرت قريش. لئن حدث ذلك وانتصر المسلمون لقد قضي على قريش عند العرب كلها قضاء أخيرا، وقد تعرضت قريش لأن ينزع منها سدانة الكعبة وسقاية الحاج وكل ما تفاخر به العرب من مراسم ومناسك دينية. ماذا تصنع إذن؟ وقف المعسكران يفكر كل في الخطة التي يتبع؛ فأما محمد فظل على خطته التي رسم منذ أخذ للعمرة عدته، خطة السلم والجنوح عن القتال إلا أن تهاجمه قريش أو تغدر به، وهنالك لا يبقى من انتضاء السيف مفر.
وأما قريش فترددت ثم رأت أن توفد إليه من رجالها من يتعرف قوته من ناحية، ومن يصده عن دخول مكة من ناحية أخرى. وجاءه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة يسألونه ما الذي جاء به. فلما اقتنعوا من حديثه بأنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت معظما لحرمته، رجعوا إلى قريش يريدون إقناعهم ليخلوا بين الرجل وأصحابه وبين البيت العتيق. لكن قريشا اتهموهم وجبهوهم وصاحوا بهم: وإن كان جاء لا يريد قتالا فوالله لا يدخل علينا عنوة أبدا ولا تتحدث بذلك عنا العرب. ثم بعثت قريش رسولا لم يسمع إلا ما سمع من قبله، ولم يغامر بأن يتهم عند قريش. وكانت قريش تعتمد فيما أعدت من قتال محمد على حلفائها من الأحابيش.
7
ففكرت أن توفد سيدهم لعله إذا رأى أن محمدا لا يسمع له ولا يتفاهم وإياهم، ازداد لقريش نصرة فزادهم على محمد قوة. وخرج الحليس سيد الأحابيش قاصدا معسكر المسلمين.
فلما رآه النبي مقبلا أمر بالهدي أن تطلق أمامه، لتكون تحت نظره دليلا ماديا على أن هؤلاء الذين تريد قريش حربهم إنما جاءوا حاجين معظمين البيت، ورأى الحليس الهدي سبعين بدنة تسيل عليه من عرض الوادي قد تأكلت أوبارها؛ فتأثر لهذا المنظر وثارت في نفسه ثائرات دينية، وأيقن أن قريشا ظالمة هؤلاء الذين لا يريدون حربا ولا عدوانا. فانقلب إلى قريش دون أن يلقى محمدا وذكر لهم ما رأى. فلما سمعوا حديثه غاظهم وقالوا له: اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك. وغضب الحليس لمقالتهم وأنذرهم أنه ما حالفهم ليصد عن البيت من جاء معظما إياه. وأنهم إن لم يخلوا بين محمد وما جاء به نفر بالأحابيش من مكة. وخشيت قريش عاقبة غضبه، فاسترضوه وطلبوا إليه أن ينظرهم حتى يفكروا في أمرهم.
ثم رأوا أن يوفدوا حكيما يطمئنون إلى حكمته، فتحدثوا في ذلك إلى عروة بن مسعود الثقفي؛ فاعتذر لهم بما رأى من تعنيفهم وسوء مقابلتهم لمن سبقه من رسلهم. فلما اعتذروا له وأكدوا أنه عندهم غير متهم وأنهم يطمئنون إلى حكمته وحسن رأيه، خرج إلى محمد وذكر له أن مكة بيضته، وأنه إن يفضضها على أهله المقيمين بها بمن جمع من أوشاب الناس ثم انصرف هؤلاء الأوشاب عنه، كان العار الخالد لقريش عارا لا يرضاه محمد وإن اتصلت الحرب بينه وبين قريش ما اتصلت. فصاح أبو بكر بعروة منكرا أن ينصرف الناس عن رسول الله. وكان عروة يتناول لحية محمد وهو يكلمه، وكان المغيرة بن شعبة واقفا على رأس الرسول يضرب يد عروة كلما تناول لحية محمد، مع علمه بأن عروة هو الذي دفع عنه قبل إسلامه ثلاث عشرة دية عن قتلى كان المغيرة قتلهم. ورجع عروة بعد أن سمع من محمد مثل ما سمع الذين سبقوه من أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء معظما البيت مؤديا فرض ربه. فلما كان عند قريش قال لهم: «يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه. لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإنهم لن يسلموه لشيء أبدا فروا رأيكم.»
وطالت المحادثات على النحو الذي قدمنا. ففكر محمد في أن رسل قريش ربما لم يكن لديهم من الإقدام ما يقنعون به قريشا بالرأي الذي يرى، فبعث من جانبه رسولا يبلغهم رأيه. لكنهم عقروا جمل هذا الرسول، وأرادوا قتله لولا أن منعته الأحابيش فخلوا سبيله. وقد دل أهل مكة بتصرفهم هذا على ما يسودهم من روح الخصومة والبغضاء مما قلق له صبر المسلمين، حتى لقد فكر بعضهم في القتال. وفيما هم كذلك يتبادلون الرسل يحاولون أن يصلوا إلى اتفاق، كان بعض السفهاء من قريش يخرجون ليلا يرمون عسكر النبي بالحجارة؛ حتى خرج منهم أربعون أو خمسون رجلا يوما ليصيبوا من أصحاب النبي، فأخذوا أخذا وجيء بهم إليه. أفتدري ماذا صنع؟ عفا عنهم وخلى سبيلهم تشبثا منه بخطة السلم واحتراما للشهر الحرام أن يسفك فيه دم في الحديبية وهي من حرم مكة. وبهتت قريش حين عرفوا هذا، وسقطت كل حجة لهم يريدون أن يزعموا بها أن محمدا يريد حربا، وأيقنوا أن كل اعتداء من جانبهم على محمد لن تنظر إليه العرب إلا على أنه غدر دنيء، لمحمد الحق في أن يدفعه بكل ما أوتي من قوة.
ثم إنه عليه السلام حاول أن يمتحن صبر قريش مرة أخرى بإرسال رسول يفاوضهم؛ فدعا إليه عمر بن الخطاب كي يبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له.
قال عمر: «يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها. ولكني أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان بن عفان.» فدعا النبي عثمان زوج ابنته وبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش. فخرج عثمان في رسالته، فلقيه لأول ما دخل مكة أبان بن سعيد فأجاره الزمن الذي يفرغ فيه من رسالته. وانطلق عثمان إلى سادة قريش فأبلغهم رسالته. قالوا: يا عثمان، إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله؛ إنما جئنا لنزور البيت العتيق ولنعظم حرمته ولنؤدي فرض العبادة عنده. وقد جئنا بالهدي معنا، فإذا نحرناها رجعنا بسلام. وأجابت قريش بأنها أقسمت لن يدخل محمد مكة هذا العام عنوة. وطال الحديث وطال احتباس عثمان عن المسلمين، وترامى إليهم أن قريشا قتلته غيلة وغدرا. ولعل سادة قريش كانوا في هذه الأثناء يبحثون مع عثمان عن صيغة توفق بين قسمهم ألا يدخل محمد هذا العام مكة عنوة، وبين حرص المسلمين على أن يطوفوا بالبيت العتيق ويؤدوا إلى رب البيت فرضه. ولعلهم قد أنسوا إلى عثمان وكانوا في هذه الأثناء يبحثون وإياه عن تنظيم علاقاتهم بمحمد وتنظيم علاقات محمد بهم.
مهما يكن من الأمر فقد قلق المسلمون بالحديبية على عثمان أشد القلق، وتمثل أمامهم غدر قريش وقتلهم إياه في هذا الشهر الذي لا تجيز فيه أديان العرب جميعا لعدو أن يقتل في حرم الكعبة ولا في حرم مكة عدوه، وتمثل أمامهم غدر قريش برجل ذهب إليهم في رسالة سلم وموادعة، ووضع كل منهم يده على قبضة سيفه؛ سمة النذير وسمة البطش والغضب. ودخل في روع النبي - عليه السلام - أن قريشا قتلت عثمان فغدرت في الشهر الحرام، فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم.» ودعا أصحابه إليه وقد وقف تحت شجرة في هذا الوادي فبايعوه جميعا على ألا يفروا حتى الموت. وبايعوه وكلهم ثابت الإيمان، قوي العزيمة، ممتلئ حماسة للانتقام ممن غدر وقتل. بايعوه بيعة الرضوان التي نزل فيها قوله تعالى:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا .
8
فلما أتم المسلمون البيعة ضرب - عليه السلام - بإحدى يديه على الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم بيعة الرضوان. وبهذه البيعة اهتزت السيوف في غمودها، وتبدى للمسلمين جميعا أن الحرب آتية لا ريب فيها، وجعل كل ينتظر يوم الظفر أو يوم الاستشهاد بنفس راضية وفؤاد مرتاح وقلب مطمئن. وإنهم لكذلك إذ ترامى إليهم أن عثمان لم يقتل، ثم لم يطل بهم الأمر حتى جاء عثمان بنفسه إليهم. على أن بيعة الرضوان هذه بقيت مع ذلك، كبيعة العقبة الكبرى، علما في تاريخ المسلمين كان محمد يستريح إلى ذكره لما كشف عنه من متانة الروابط بينه وبين أصحابه، ولما دل عليه من مبلغ إقدامهم على خوض مخاطر الموت لا يخافون، ومن أقدم على مخاطر الموت خافه الموت وعنت له جبهة الحياة وكان من الفائزين.
عاد عثمان فأبلغ محمدا ما قالت قريش. فهم لم تبق عندهم ريبة في أنه وأصحابه إنما جاءوا حاجين معظمين للبيت. وهم يقدرون أنهم لا يملكون منع أحد من العرب عن الحج والعمرة في الأشهر الحرم. وهم مع ذلك قد خرجوا من قبل تحت راية خالد بن الوليد لقتاله وصده عن دخول مكة، وقد وقعت بين بعض رجالهم وبعض رجاله مناوشات. فإذا هم بعد الذي حدث تركوه يدخل مكة تحدثت العرب بأنهم انهزموا أمامه، فتضعضعت في نظر العرب مكانتهم وسقطت هيبتهم. لذلك هم يصرون على موقفهم منه هذا العام إبقاء على هذه الهيبة واستبقاء لتلك المكانة. فليفكر وإياهم، وهذا موقفه وموقفهم، لعلهم جميعا يجدون من هذا الموقف مخرجا، وإلا فليس إلا الحرب يدخلونها طوعا أو كرها. بل إنهم لها لكارهون في هذه الأشهر، تقديرا لحرمتها الدينية من ناحية، ولأنها من ناحية أخرى، إذا لم تحترم اليوم حرمتها ووقعت الحرب فيها، لم يأمن العرب في مستقبل أيامهم أن يجيئوا إلى مكة وأسواقها مخافة انتهاك الأشهر الحرم مرة أخرى، فيجني ذلك على تجارة مكة وعلى أرزاق أهلها.
واتصل الحديث وعادت المفاوضات بين الفريقين كرة أخرى. وأوفدت قريش سهيل بن عمرو وقالوا له: ائت محمدا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا. فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فلما انتهى سهيل إلى الرسول جرت محادثات طويلة للصلح وشروطه كانت تنقطع في بعض الأحيان، ثم يعيد اتصالها حرص الجانبين على النجاح. وكان المسلمون من حول النبي يسمعون أمر هذه المحادثات ويضيق بعضهم بأمرها صبرا، لتشدد سهيل في مسائل يتساهل النبي في قولها. ولولا ثقة المسلمين المطلقة بنبيهم، ولولا إيمانهم به، لما ارتضوا ما تم الاتفاق عليه، ولقاتلوا ليدخلوا مكة أو لتكون الأخرى. فقد ذهب عمر بن الخطاب في أعقاب المحادثات إلى أبي بكر ودار بينهما الحديث الآتي:
عمر :
أبا بكر، أليس برسول الله؟!
أبو بكر :
بلى؟!
عمر :
أولسنا بالمسلمين؟!
أبو بكر :
بلى!
عمر :
فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!
أبو بكر :
يا عمر الزم غرزك،
9
فإني أشهد أنه رسول الله!
عمر :
وأنا أشهد أنه رسول الله!
وانقلب عمر بعد ذلك إلى محمد وتحدث وإياه بمثل هذا الحديث وهو مغيظ محنق. لكن ذلك لم يغير من صبر النبي ولا من عزمه؛ وكل الذي قاله في ختام الحديث لعمر: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني.» ثم كان بعد ذلك من صبر محمد حين كتابة العهد ما زاد في حفيظة بعض المسلمين؛ فقد دعا علي بن أبي طالب وقال له: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.» فقال سهيل: «أمسك، لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم.» قال رسول الله: «اكتب باسمك اللهم.» ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.» فقال سهيل: «أمسك، لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.» قال رسول الله: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ...» ثم كتبت العهدة بين الطرفين وفيها أنهما تهادنا عشر سنين، في رأي أكثر كتاب السيرة، وسنتين في قول الواقدي، وأن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا من رجال محمد لم يردوه عليه، وأنه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح عليه، ومن أحب محالفة قريش فلا جناح عليه، وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليها في العام الذي يليه فيدخلوها ويقيموا بها ثلاثة أيام ومعهم من السلاح السيوف في قربها ولا سلاح غيرها.
وما كاد هذا العهد يوقع حتى حالفت خزاعة محمدا وحالفت بنو بكر قريشا. وما كاد هذا العهد يوقع حتى أقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو على المسلمين يريد أن ينضم إليهم ويسير معهم. فلما رأى سهيل ابنه ضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وجعل يجره ليرده إلى قريش، وأبو جندل يصيح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين! أؤرد إلى المشركين يفتنونني عن ديني؟! وزاد ذلك في قلق المسلمين وعدم رضاهم عن العهد الذي عقد الرسول مع سهيل. لكن محمدا وجه إلى أبي جندل قوله: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين مخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.» وعاد أبو جندل إلى قريش نفاذا لعهد النبي ووعده، وقام سهيل راجعا إلى مكة. وأقام محمد مضطربا مما رأى من شأن من حوله، ثم صلى واطمأن ثم قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه إيذانا بالعمرة. وقد امتلأت نفسه بالسكينة والرضا. فلما رأى الناس صنيعه ورأوا سكينته تواثبوا ينحرون ويحلقون، وإن منهم من حلق ومنهم من قصر. قال محمد: يرحم الله المحلقين. فتنادى الناس في قلق: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: يرحم الله المحلقين. فتنادى الناس في قلق: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين. قال بعضهم: فلم ظاهرت يا رسول الله الترحم للمحلقين دون المقصرين؟ فكان جوابه: لأنهم لم يشكوا.
لم يبق للمسلمين إلا أن يرجعوا إلى المدينة في انتظار أن يعودوا إلى مكة العام المقبل. وقد كان أكثرهم يحتمل هذه الفكرة على مضض، ولا يهونها على نفسه إلا أنها أمر رسول الله؛ فهم ليس لهم عادة بهزيمة ولا تسليم من غير قتال، وهم في إيمانهم بنصر الله رسوله ودينه لم تخالجهم ريبة في اقتحام مكة لو أن محمدا أمر باقتحامها. وأقاموا بالحديبية أياما، منهم من يتساءلون في حكمة هذا العهد الذي عقد النبي، ومنهم من تحدثه نفسه بالشك في حكمته، ثم تحملوا وقفلوا راجعين. وإنهم لفي طريقهم بين مكة والمدينة إذ نزل الوحي على النبي بسورة الفتح. فتلا النبي على أصحابه قوله تعالى:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما
إلى آخر السورة.
لم يبق إذن ريب في أن عهد الحديبية فتح مبين. وهو قد كان كذلك. وقد أثبتت الأيام أن هذا العهد حكمة سياسية وبعد نظر كان لهما أكبر الأثر في مستقبل الإسلام وفي مستقبل العرب كله. فقد كانت هذه أول مرة اعترفت قريش فيها بمحمد لا على أنه ثائر بها خارج عليها، ولكن على أنه ندها وعدلها: فاعترفت بذلك بالدولة الإسلامية وقيامها. ثم إن إقرارها للمسلمين بحق زيارة البيت، وإقامة شعائر الحج، اعتراف منها بأن الإسلام دين مقرر معترف به من أديان شبه الجزيرة. وهدنة السنتين، أو السنوات العشر، قد جعلت المسلمين يطمئنون من ناحية الجنوب ولا يخشون غارة قريش، ومهدت للإسلام أن يزداد انتشارا. أفليست قريش ألد أعدائه وأشد محاربيه قد انتهت بالإذعان لما لم تكن تذعن له من قبل قط؟! وقد انتشر الإسلام بالفعل بعد هذه الهدنة انتشارا أسرع أضعافا من انتشاره من قبل. كان الذين جاءوا إلى الحديبية ألفا وأربعمائة؛ فلما كان بعد عامين اثنين وجاء محمد لفتح مكة جاء في عشرة آلاف. وأشد ما اعترض عليه من ساورتهم الشكوك في حكمة عهد الحديبية ما نص عليه العهد من أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا من المسلمين لم ترده على محمد. وكان رأي محمد في هذا أن من ارتد عن الإسلام ولجأ إلى قريش لم يكن جديرا بأن يعود إلى جماعة المسلمين، وأن من أسلم وحاول اللحاق بمحمد فسيجعل الله له مخرجا. وقد صدقت الحادثات رأي محمد في ذلك بأسرع ما كان يظن أصحابه، ودلت على أن الإسلام كسب من صلح الحديبية أعظم الكسب، ومهد لما جاء بعد ذلك بشهرين اثنين من بدء محمد مخاطبة الملوك ورؤساء الدول الأجنبية يدعوهم إلى الإسلام.
صدقت الحادثات رأي محمد بأسرع مما كان يظن أصحابه. فقد وفد أبو بصير من مكة إلى المدينة مسلما ينطبق عليه العهد برده إلى قريش لأنه خرج بغير رأي مولاه. فكتب أزهر بن عوف والأخنس بن شريق إلى النبي كي يرده، وبعثا بكتابهما مع رجل من بني عامر ومعه مولى لهم. قال النبي: يا أبا بصير: إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك. قال أبو بصير: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فكرر عليه النبي قوله، فانطلق مع الرجلين؛ حتى إذا كان بذي الحليفة سأل أخا بني عامر أن يريه سيفه؛ وما إن استوت قبضته في يده حتى علا به العامري فقتله، فخرج المولى يعدو ناحية المدينة حتى أتى النبي، فلما رآه قال: إن هذا رجل قد رأى فزعا. ثم قال للرجل: ويحك! مالك؟ قال: قتل صاحبك صاحبي. ثم ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف موجها الحديث إلى محمد وهو يقول: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك. أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي. ولم يخف الرسول إعجابه وتمنيه لو كان معه رجال.
ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص على ساحل البحر في طريق قريش إلى الشام، وكان عهد محمد وقريش أن تترك هذه الطريق للتجارة لا يقطعها هو ولا تقطعها قريش. فلما ذهب أبو بصير إليها وسمع المسلمون المقيمون بمكة بأمره وبما كان من إعجاب الرسول به فر منهم نحو سبعين رجلا اتخذوه لهم إماما وجعلوا وإياه يقطعون على قريش طريقها، وكانوا لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها. هنالك رأت قريش أنها أكبر خسارة بحرصها على هؤلاء المسلمين أن يظلوا بمكة، وقدرت أن الرجل الصادق الإيمان، محاولة حبسه شر من إطلاق سراحه، فهو لا بد منتهز فرصة الفرار، مقيم على الذين حاولوا حبسه حربا عوانا هم فيها الأخسرون، وكأنما ذكرت قريش محمدا حين هاجر إلى المدينة وقطع عليهم طريق القوافل، وخشيت أن يكرر أبو بصير هذا الصنيع فبعثت إلى النبي تسأله بأرحامها إلا آوى هؤلاء المسلمين حتى يتركوا الطريق آمنا. ونزلت قريش بذلك عما أصر عليه سهيل بن عمرو من رد المسلمين من قريش إلى مكة إذا ذهبوا إلى محمد بغير رأي مواليهم. وسقط بذلك الشرط الذي أحفظ عمر بن الخطاب والذي كان سببا في ثورته التي ثار على أبي بكر. وآوى محمد أصحابه وعاد طريق الشام آمنا.
أما المهاجرات من قريش إلى المدينة فكان لمحمد فيهن رأي آخر. خرجت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من بعد الهدنة، فخرج أخواها عمارة والوليد يطلبان إلى رسول الله أن يردها عليهما بحكم عهد الحديبية. لكن النبي أبى، ورأى أن هذا العهد لا ينسحب على النساء حكمه، وأن النساء إذا استجرن وجبت إجارتهن. ثم إن المرأة إذا أسلمت لم تصبح حلا لزوجها المشرك فوجب التفريق بينه وبينها. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم .
10
وكذلك صدقت الحادثات حكمة محمد وبعد نظره ودقة سياسته، وأثبتت أنه إذ عقد عهد الحديبية وضع حجرا لا ينقض في سياسة الإسلام وانتشاره، وهذا هو الفتح المبين.
اطمأنت العلاقات بعد الحديبية بين قريش ومحمد أعظم الطمأنينة، وأمن كل جانب صاحبه. واتجهت قريش كلها إلى التوسع في تجارتها، لعلها تستعيد من طريقها ما فقد أيام اتصال الحرب بين المسلمين وبينها، وحين سدت عليها طريق الشام وأصبحت تجارتها معرضة للضياع. أما محمد فاتجه بفكره إلى متابعة إبلاغ رسالته للناس جميعا في مشارق الأرض ومغاربها، ووجه نظره إلى تمهيد أسباب النجاح لطمأنينة المسلمين في شبه الجزيرة. وهذا وذاك هو ما صنع بإرسال الرسل إلى الملوك في مختلف الدول، وبإجلاء اليهود عن شبه جزيرة العرب إجلاء تاما بعد غزوة خيبر.
الفصل الحادي والعشرون
خيبر والرسل إلى الملوك
(الإسلام والتنظيم الاجتماعي - تحريم الخمر - رسل محمد إلى الملوك والأمراء - المسلمون واليهود - غزوة خيبر - القضاء الأخير على سلطة اليهود - رد الملوك على رسل النبي - في انتظار عمرة القضاء) ***
عاد محمد والمسلمون معه من الحديبية قافلين إلى المدينة بعد ثلاثة أسابيع من تمام الصلح بينهم وبين قريش على ألا يدخلوا مكة هذا العام، وأن يدخلوا العام الذي يليه. عادوا وفي نفوسهم من أمر هذا الصلح شيء، أن اعتبره بعضهم غير متفق مع كرامة المسلمين، حتى نزلت سورة الفتح وهم في الطريق وتلاها النبي عليهم. وجعل محمد يفكر أثناء مقامهم بالحديبية وبعد عودهم منها ماذا عساه يصنع للمزيد من تثبيت أصحابه ولزيادة انتشار دعوته. وانتهى به التفكير إلى إرسال رسله إلى هرقل وكسرى والمقوقس ونجاشي الحبشة وإلى الحارث الغساني وإلى عامل كسرى في اليمن، كما انتهى به إلى ضرورة القضاء قضاء أخيرا على شوكة اليهود في شبه جزيرة العرب.
والحق أن الدعوة الإسلامية كانت قد بلغت يومئذ من النضج ما يجعلها دين الناس كافة. فهي لم تقف عند التوحيد وما يقتضيه التوحيد من عبادات، بل انفرج ميدانها وتناولت من صور النشاط الاجتماعي كلها ما يوازي بينها وبين سمو فكرة التوحيد وما يجعل صاحبهما أدنى إلى بلوغ مراتب الكمال الإنساني وإلى تحقيق المثل الأعلى في الحياة . ولذلك نزلت الأحكام في كثير من أمور الاجتماع.
اختلف مؤرخو السيرة في تحريم الخمر متى كان، وذهب بعضهم إلى أنه كان في السنة الرابعة للهجرة، ولكن أكثرهم على أنه كان عام الحديبية. والفكرة في تحريم الخمر اجتماعية غير متصلة بالتوحيد من حيث هو التوحيد. ولا أدل على ذلك من أن التحريم لم ينزل به القرآن إلا بعد انقضاء عشرين سنة أو نحوها على بعث النبي، وأن المسلمين ظلوا يشربونها إلى أن نزل التحريم. ولا أدل على ذلك من أن التحريم لم ينزل مرة واحدة، بل نزل على فترات جعلت المسلمين يخففون منها، حتى كان التحريم فانتهوا عن شربها. فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه سأل عن الخمر وقال: اللهم بين لنا فيها، فنزلت الآية:
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما .
1
فلما لم يكف المسلمون بعد هذه الآية، وكان بعضهم يقضي ليله متوفرا على شرابه حتى كان إذا ذهب إلى صلاته لا يعلم ما يقول فيها، عاد عمر فقال: اللهم بين لنا في الخمر، فإنها تذهب العقل والمال، فنزلت الآية:
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .
2
ومن يومئذ كان منادي الرسول ينادي وقت الصلاة: لا يقربن الصلاة سكران. وعلى رغم ما كان يقضي هذا الأمر من الإقلال من الشراب، وما كان له في هذه الناحية من أثر بالغ جعل الكثيرين يقلون من الخمر ما استطاعوا، عاد عمر بعد زمن يقول: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب العقل والمال. وقد كان عمر في حل من قولها أن كان العرب، والمسلمون من بينهم، يصل بهم الشراب إلى حد يجعلهم يعربدون، يأخذ بعضهم بلحية بعض، ويهوي بعضهم على رأس بعض. دعا بعضهم جماعة إلى طعام وشراب، فلما ثملوا ذكروا المهاجرين والأنصار، فأبدى أحدهم التعصب للمهاجرين فأخذ متعصب للأنصار بعظمة من عظام رأس الجزور التي يأكلونها فجرح بها أنف المهاجري. وثمل حيان فتشاجرا فشج بعضهم بعضا فوقعت في أنفسهم الضغائن، وكانوا من قبل ذلك أحبة متصافين. إذ ذاك نزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون .
3
وقد كان أنس الساقي يوم حرمت الخمر، فلما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها. ولكن أناسا لم يرقهم هذا التحريم فقالوا: أتكون الخمر رجسا وهي في بطن فلان وفلان قتل يوم أحد وفي بطن فلان وفلان قتل يوم بدر؟! فنزل قوله تعالى:
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين .
4
وما أمر به الإسلام من البر والرحمة، وما دعا إليه من عمل الخير، وما في عبادته من رياضة النفس والطبع، وما يصل إليه الركوع والسجود في الصلاة من قتل غرور القلب، كل ذلك جعله الكمال الطبيعي للأديان التي سبقته، وجعل الدعوة إليه للناس كافة.
كان هرقل وكسرى يومئذ على رأس دولتي الرومان والفرس أقوى دول العصر وصاحبتي الإملاء في سياسة العالم ومصاير أممه جميعا. وكانت الحرب سجالا بين الدولتين كما رأيت؛ وكانت الفرس صاحبة الغلب أول الأمر فاستولت على فلسطين وعلى مصر ووضعت يدها على بيت المقدس ونقلت منه الصليب. ثم دارت على الفرس الدائرة، فعادت أعلام بزنطية تخفق مرة أخرى على مصر وعلى سورية وفلسطين، واسترد هرقل الصليب بعد أن نذر، إن هو تم له النصر، أن يحج إلى بيت المقدس ماشيا حتى يرد الصليب فيه إلى مكانه. ومن اليسير عليك إذ تذكر مكانة الدولتين أن تقدر ما يبعثه اسمهما من الرهبة إلى النفوس ومن الهيبة إلى القلوب، حتى لا تفكر دولة في التعرض لهما، ولا يدور بخلد أحد أن يفكر في غير خطبة ودهما. أما وذلك شأن دول العالم المعروفة يومئذ جميعا، فقد كان أجدر ببلاد العرب أن يكون ذلك شأنها.
فقد كانت اليمن والعراق تحت نفوذ فارس، وكانت مصر والشام تحت نفوذ هرقل؛ فكان الحجاز وسائر شبه الجزيرة محصورا في دائرة نفوذ الإمبراطوريتين. وكانت حياة العرب وقفا على تجارة مع اليمن ومع الشام، فكانوا بذلك محتاجين أشد الحاجة إلى مصانعة كسرى وهرقل جميعا حتى لا يفسد بسلطانهما عليها تجارتهم. ثم إن العرب إن يكونوا يزيدون على قبائل تشتد الخصومة بينها حينا وتهدأ حينا آخر، ولا تربط بعضها ببعض رابطة تجعل منها وحدة سياسية تستطيع أن تفكر في مواجهة نفوذ الدولتين العظيمتين؛ ولذلك كان عجيبا أن يفكر محمد يومئذ في أن يرسل رسله إلى الملكين العظيمين وإلى غسان واليمن ومصر والحبشة يدعوهم إلى دينه، دون خشية لما قد يترتب على عمله هذا من نتائج ربما تجر على بلاد العرب كلها الخضوع لنير فارس أو بزنطية.
لكن محمدا لم يتردد في دعوة هؤلاء الملوك جميعا إلى دين الحق. بل خرج يوما على أصحابه فقال: «أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمة للناس كافة فلا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم.» قال أصحابه: «وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟» قال: «دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل.» ثم ذكر لهم أنه مرسل إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، والحارث الغساني - ملك الحيرة - والحارث الحميري - ملك اليمن - وإلى نجاشي الحبشة يدعوهم إلى الإسلام، وأجابه أصحابه إلى ما أراد. فصنع له خاتما من فضة نقش عليه: «محمد رسول الله.» وبعث بكتبه يقول فيها ما نضع منه مثلا أمام القارئ كتابه إلى هرقل إذ جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين.
5
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا لله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون لله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
ودفع بكتاب هرقل إلى دحية بن خليفة الكلبي، وبكتاب كسرى إلى عبد الله بن حذافة السهمي. وبكتاب النجاشي إلى عمرو بن أمية الضمري، وبكتاب المقوقس إلى حاطب بن أبي بلتعة، وبكتاب ملكي عمان إلى عمرو بن العاص السهمي، وبكتاب ملكي اليمامة إلى سليط بن عمرو، وبكتاب ملك البحرين إلى العلاء الحضرمي، وبكتاب الحارث الغساني - ملك تخوم الشام - إلى شجاع بن وهب الأسدي، وبكتاب الحارث الحميري - ملك اليمن - إلى المهاجر بن أمية المخزومي. وانطلق هؤلاء جميعا كل إلى حيث أرسله النبي. انطلقوا في وقت واحد على قول أكثر المؤرخين، وانطلقوا في أوقات مختلفة على قول بعضهم.
أليس إرسال محمد هؤلاء الرسل عجبا يثير الدهشة؟! أوليس أشد إثارة للدهشة ألا تمضي ثلاثون عاما بعد ذلك حتى تصبح هذه البلاد التي أرسل محمد إليها رسله وقد فتحها المسلمون ودان أكثرها بالإسلام؟! لكن هذه الدهشة ما تلبث أن تزول حين تذكر أن الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين كانتا تزعمان تحضير عالم ذلك العصر، وكانت حضارتهما هي الغالبة على العالم كله، إنما كانتا تتنازعان الغلب المادي، على حين كانت القوة الروحية فيهما جميعا قد انحلت واضمحلت؛ فقد كانت فارس مقسمة بين الوثنية والمجوسية. وكانت مسيحية بزنطية قد اضطربت بين مختلف المذاهب والفرق فلم تظل عقيدة سليمة تحرك القلوب وتقويها، بل انقلبت رسوما وتقاليد يهيمن بها رجال الدين على عقول السواد لحكمه واستغلاله. أما الدعوة الجديدة التي يدعو محمد إليها فكانت روحية صرفة وكانت ترتفع بالإنسان إلى أسمى مراتب الإنسانية، وحيثما التقت المادة والروح، وحيثما تعارض هم الحاضر وأمل الخلود، انهزمت المادة وعنا وجه الحاضر.
ثم إن فارس وبزنطية كانتا - على عظم سلطانهما - قد فقدتا قوة الابتكار وملكة الإنشاء، ونزلنا في عالم التفكير وفي عالم الشعور وفي عالم العمل إلى درك التقليد واحتذاء السلف، واعتبار كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة. والجماعة الإنسانية كالفرد الإنساني وككل كائن حي، تتجدد كل يوم؛ فإما كانت ما تزال فتية شابة فكان تجددها خلقا وإنشاء ومزيدا في الحياة، وإما كانت قد بلغت الذروة ولم تعد قادرة على الإنشاء والخلق، فهي تنفق من رأس مال حياتها؛ فحياتها لذلك في نقص مستمر، وفي انحدار إلى درك النهاية. والجماعة الإنسانية التي تنحدر إلى درك النهاية مصيرها أن يخلقها عنصر خارجي، فيه فتوة الحياة، خلقا جديدا. العنصر الخارجي المليء بقوة الحياة الفتية إلى جانب فارس وبزنطية لم يكن في ناحية الصين أو الهند، ولا كان في ناحية أواسط أوروبا؛ إنما كان هذا العنصر محمدا.
كانت دعوته في شباب فتوتها جديرة بأن تعيد إلى هذه النفوس، المنهدم داخلها بحكم التقاليد الدينية والخرافات القائمة منها مقام الإيمان والعقيدة، حياة فتية تجددها وتردها إلى الحياة. وشعلة الإيمان الجديد التي كانت تضيء نفس الرسول، وقوة نفسه التي سمت فوق كل قوة، هي التي هدت إلهامه إلى أن يبعث هؤلاء الرسل يدعون عظماء الأرض بدعاية الإسلام دين الحق، دين الكمال، دين الله جل شأنه؛ يدعوهم إلى الدين الذي يحرر العقول لترى، والقلوب لتبصر، والذي يضع للإنسان في حياة العقيدة، كما يضع له في نظام الجماعة، قواعد عامة توازي بين سلطان الروح وقوة المادة التي تنطوي على الروح، لتبلغ بالإنسان من طريق هذه الموازاة إلى غاية ما يستطيع بلوغه من قوة على الحياة، قوة لا يشوبها وهن ولا غرور، ولتبلغ بالجماعة الإنسانية بفضل ذلك النظام إلى خير مكان أعد لها بعد أن تسلك ما قدر لها من ضروب التطور بين كائنات الوجود جميعا.
أفيرسل محمد رسله إلى هؤلاء الملوك وهو ما يزال يخشى غدر اليهود الذين لا يزالون مقيمين شمال المدينة؟ صحيح أنه قد عهد عهد الحديبية، فأمن قريشا وأمن الجنوب كله؛ لكنه لن يأمن من ناحية الشمال أن يستعين هرقل أو يستعين كسرى بيهود خيبر، وأن يحرك في نفوسهم ثاراتهم القديمة، وأن يذكرهم إخوانهم في الدين من بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع، وقد أجلاهم محمد عن ديارهم بعد أن حصرهم بها وقاتلهم فيها وقتل منهم وسفك دماءهم. واليهود أشد من قريش عداوة له؛ لأنهم أحرص منهم على دينهم، ولأن فيهم ذكاء وعلما أكثر مما في قريش. وليس من اليسير أن يوادعهم بصلح كصلح الحديبية، ولا أن يطمئن لهم وقد سبقت بينه وبينهم خصومات لم ينتصروا في إحداها. فما أجدرهم أن يثأروا لأنفسهم إذا هم وجدوا من ناحية هرقل مددا. لا بد إذن من القضاء على شوكة هؤلاء اليهود قضاء أخيرا؛ حتى لا تقوم لهم من بعد ببلاد العرب قائمة أبدا. ولا بد من المسارعة إلى ذلك حتى لا يكون لديهم من الوقت متسع للاستعانة بغطفان أو بغيرها من القبائل المعادية لمحمد والموالية لها.
وكذلك فعل؛ فإنه لم يقم بالمدينة بعد عوده من الحديبية إلا خمس عشرة ليلة على قول، وشهرا على قول آخر، ثم أمر الناس بالتجهيز لغزو خيبر على ألا يغزو معه إلا من شهد الحديبية، إلا أن يكون غازيا متطوعا ليس له من الغنيمة شيء. وانطلق المسلمون في ألف وستمائة ومعهم مائة فارس، وكلهم واثق بنصر الله، ذاكر قوله تعالى في سورة الفتح التي نزلت في عهد الحديبية:
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا .
6
وقطعوا مراحل الطريق ما بين خيبر والمدينة في ثلاثة أيام لم تكد خيبر تحسهم أثناءها، حتى لقد باتوا أمام حصونها. وأصبح الصباح وغدا عمال خيبر خارجين إلى مزارعهم ومعهم مساحيهم ومكاتلهم؛ فلما رأوا جيش المسلمين ولوا الأدبار يتصايحون: هذا محمد والجيش معه! وقال الرسول حين سمع قولهم: «خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.»
على أن يهود خيبر كانوا يتوقعون أن يغزوهم محمد، وكانوا يودون أن يجدوا الوسيلة إلى الخلاص منه. أما بعضهم فنصح لهم أن يبادروا إلى تأليف كتلة منهم ومن يهود وادي القرى وتيماء تغزو يثرب، دون اعتماد على البطون العربية في الغزو، وأما آخرون غيرهم فكانوا يرون أن يدخلوا في حلف مع الرسول لعل ذلك يمحو ما ثبت من كراهيتهم في نفوس المسلمين والأنصار منهم خاصة ، بعد اشتراك حيي بن أخطب وجماعة من اليهود معه في تأليب العرب لاقتحام المدينة وأخذها عنوة في غزوة الخندق. لكن النفوس من الجانبين كانت ملأى، حتى لقد سبق المسلمون قبل غزوة خيبر بقتل كل من سلام بن أبي الحقيق واليسير بن رزام من زعماء خيبر. لذلك كانت اليهود على اتصال دائم بغطفان، ولذلك استعانوا بهم أول ما ترامى إليهم خبر اعتزام محمد غزوهم. ويختلف الرواة فيما كان من غطفان: أأعانتهم، أم حالت جيوش المسلمين بينها وبين خيبر.
وسواء أكانت غطفان قد أعانت اليهود أم كانت قد وقفت بمعزل بعد أن وعدها محمد حظا من الغنائم، فقد كانت هذه الموقعة من أكبر المواقع، أن كانت جموع اليهود في خيبر من أقوى الطوائف الإسرائيلية بأسا، وأوفرها مالا وأكثرها سلاحا، وأن كان المسلمون مؤمنين بأنه ما بقيت لليهود شوكة في شبه الجزيرة فستظل المنافسة بين دين موسى والدين الجديد حائلا دون تمام الغلب لهم؛ لذلك ذهبوا مستقتلين لا يعرف التردد إلى نفوسهم سبيلا. ووقفت قريش ووقفت شبه جزيرة العرب كلها متطلعة إلى هذه الغزوة؛ حتى لقد كان من قريش من يتراهنون على نتائجها ولمن يتم الغلب فيها. وكان كثيرون من قريش يتوقعون أن تدور الدائرة على المسلمين، لما عرف من قوة حصون خيبر وقيامها فوق الصخور والجبال، ولطول ممارسة أهلها للحرب والقتال.
وقف المسلمون أمام حصون خيبر متأهبين كاملي العدة. وتشاور اليهود فيما بينهم، فأشار عليهم زعيمهم سلام بن مشكم، فأدخلوا أموالهم وعيالهم حصني الوطيح والسلالم، وأدخلوا ذخائرهم حصن ناعم، ودخلت المقاتلة وأهل الحرب حصن نطاة، ودخل سلام بن مشكم معهم يحرضهم على الحرب، والتقى الجمعان حول حصن نطاة واقتتلوا قتالا شديدا، حتى قيل: إن عدد الجرحى من المسلمين في هذا اليوم بلغ خمسين، فكم كان إذن عدد الجرحى من اليهود؟! وتوفي سلام بن مشكم، فتولى الحارث بن أبي زينب قيادة اليهود، وخرج من حصن ناعم يريد منازلة المسلمين؛ فدحره بنو الخزرج واضطروه أن يرتد إلى الحصن على أعقابه. وضيق المسلمون الحصار على حصون خيبر واليهود يستميتون في الدفاع إيمانا منهم بأن هزيمتهم أمام محمد هي القضاء الأخير على بني إسرائيل في بلاد العرب.
وتتابعت الأيام فبعث الرسول أبا بكر إلى حصن ناعم كي يفتحه، فقاتل ورجع دون أن يفتح الحصن. وبعث الرسول عمر بن الخطاب في الغداة، فكان حظه كحظ أبي بكر. فدعا الرسول إليه علي بن أبي طالب، ثم قال له: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك. ومضى علي بالراية، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي بابا كان عند الحصن فتترس به فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الحصن، ثم جعل الباب قنطرة اجتاز المسلمون عليها إلى داخل أبنية هذا الحصن. وإنما سقط حصن ناعم بعد أن قتل الحارث بن أبي زينب؛ مما يدل على استماتة اليهود في القتال واستماتة المسلمين في الحصار وفي الهجوم.
وبعد حصن ناعم فتح المسلمون القموص بعد قتال شديد، وبعد أن قلت المئونة عندهم قلة توجه بسببها جماعة منهم يشكون إلى محمد أمرهم، ويطلبون إليه ما يسدون به رمقهم؛ فلم يجد شيئا يعطيهم إياه، وأذن لهم في أكل لحوم الخيل. وقد رأى أحد المسلمين قطيعا من الغنم يدخل إلى أحد حصون اليهود، فاختطف منه شاتين فذبحوهما وأكلوهما. على أنه بعد أن تم لهم فتح حصن الصعب بن معاذ قلت حاجتهم، أن وجدوا فيه طعاما كثيرا مكن لهم متابعة قتال اليهود وحصارهم في سائر حصونهم. واليهود أثناء ذلك كله لا يسلمون في شبر أرض ولا يسلمون حصنا إلا بعد أن يدافعوا عنه دفاع الأبطال، وبعد ألا يبقى لهم على صد هجوم المسلمين قوة. خرج مرحب اليهودي من أحد الحصون وقد جمع للحرب سلاحه وأكمل عدته وهو يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب
إذا الليوث أقبلت تحرب
7
إن حماي للحمى لا يقرب
يحجم عن صولتي المجرب
فصاح محمد بأصحابه: من لهذا؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله. أنا والله الموتور الثائر! قتل أخي بالأمس. وقام إليه بإذن النبي، وتصاولا حتى كاد مرحب يقتله، لكن ابن مسلمة اتقى سيفه بالدرقة فوقع السيف فيها فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله. وكذلك كانت هذه الحرب بين اليهود والمسلمين ضروسا قاسية، وكانت منعة حصون اليهود تزيدها شدة وقسوة.
حاصر المسلمون حصن الزبير وطال حصارهم إياه وقاتلوا قتالا شديدا، ومع ذلك لم يستطيعوا فتحه حتى قطعوا الماء عنه واضطروا اليهود فيه إلى الخروج منه وإلى قتال المسلمين قتالا انتهى بالأولين إلى أن يلوذوا بالفرار. وكذلك جعلت الحصون تقع واحدا بعد الآخر في أيدي المسلمين، حتى انتهوا إلى الوطيح والسلالم بمنطقة الكتيبة، وكانا آخر حصنين منيعين لهم. هنالك استولى على نفوسهم اليأس، فطلبوا الصلح بعد أن حاز النبي أموالهم كلها بالشق ونطاة والكتيبة، على أن يحقن دماءهم، وقبل محمد وأبقاهم على أرضهم التي آلت له بحكم الفتح، على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم.
عامل محمد يهود خيبر بغير ما عامل به بني قينقاع وبني النضير حين أجلاهم عن أرضهم؛ لأنه أمن بسقوط خيبر بأس اليهود، وآمن بأنهم لن تقوم لهم بعد ذلك قائمة أبدا. ثم إن ما كان بخيبر من الحدائق والمزارع والنخيل كان يحتاج إلى الأيدي العاملة الكثيرة لاستغلاله وحسن القيام على زراعته. ولئن كان أنصار المدينة أهل زراعة، لقد كانت أرضهم بها في حاجة إلى أذرعهم كما أن النبي كان في حاجة إلى جيوشه للحرب، فهو لا يرضى أن يتركها للزرع. وكذلك ظل يهود خيبر يعملون بعد أن انهار سلطانهم السياسي انهيارا جنى على نشاطهم؛ حتى لقد أسرعت خيبر من ناحية الزراعة نفسها إلى البوار والخراب، مع ما كان من حسن معاملة النبي أهلها، ومن عدل عبد الله بن رواحة رسوله إليهم كل عام بينهم في القسمة. وكان من إحسان النبي معاملة يهود خيبر أنه كان من بين ما غنم المسلمون حين غزوها عدة صحائف من التوراة، فطلب اليهود ردها فأمر النبي بتسليمها لهم، ولم يصنع صنيع الرومان حين فتحوا أورشليم وأحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، ولا هو صنع صنيع النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوراة.
ولما طلب يهود خيبر الصلح، أثناء محاصرة المسلمين إياهم في حصني الوطيح والسلالم، بعث النبي إلى أهل فدك ليسلموا برسالته أو يسلموا أموالهم. ووقع في نفوس أهل فدك الرعب بعد الذي علموا من أمر خيبر، فتصالحوا على نصف أموالهم من غير قتال. فكانت خيبر للمسلمين لأنهم قاتلوا لاستخلاصها، وكانت فدك خالصة لمحمد لأن المسلمين لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
وتجهز الرسول بعد ذلك كله للعود إلى المدينة عن طريق وادي القرى؛ فتجهز يهودها لقتال المسلمين، وقاتلوا. لكنهم اضطروا إلى الإذعان والصلح كما صنعت خيبر. أما يهود تيماء فقبلوا الجزية من غير حرب ولا قتال. وبذلك دانت اليهود كلها لسلطان النبي، وانتهى كل ما كان لهم من سلطان في شبه الجزيرة، وأصبح محمد بمأمن من ناحية الشمال إلى الشام، كما صار من قبل ذلك بمأمن من ناحية الجنوب بعد صلح الحديبية. وبانهيار سلطان اليهود خفت بغضاء المسلمين، والأنصار منهم خاصة، لهم، وتغاضوا عن رجوع بعضهم إلى يثرب، ووقف النبي مع اليهود الذين بكوا عبد الله بن أبي وعزى ابنه؛ وأوصى معاذ بن جبل بألا يفتن اليهود عن يهوديتهم؛ ولم يفرض الجزية على يهود البحرين وإن ظلوا متمسكين بدين آبائهم؛ وصالح بني غازية وبني عريض على أن لهم الذمة وعليهم الجزية.
وعلى الجملة دان اليهود لسلطان المسلمين، وتضعضع في بلاد العرب مركزهم حتى اضطروا إلى مهاجرة تلك البلاد وكانوا من قبل بها أعزة، وحتى تم جلاؤهم في حياة الرسول على قول، وبعد وفاته على قول آخر.
على أن إذعان أهل خيبر وسائر اليهود لمصيرهم في شبه الجزيرة، لم يقع مرة واحدة بعد هزيمتهم، بل لقد كانت نفوسهم في أثر الهزيمة ملأى بالغل والغضب أخبث الغضب . أهدت زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم إلى محمد شاة - بعد أن اطمأن وبعد أن وقع الصلح بينه وبين أهل خيبر - فجلس وأصحابه حولها ليأكلوها، وتناول عليه السلام فلاك منها مضغة فلم يسغها، وكان بشر بن البراء معه قد تناول منها مثل ما تناول. فأما بشر فأساغها وازدردها. وأما الرسول فلفظها وهو يقول: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم. ثم دعا بزينب فاعترفت وقالت: لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فيسخبر. ومات بشر من أكلته هذه.
وقد اختلف الرواة، فذكر أكثرهم أن النبي عفا عن زينب وقدر لها عذرها بعد الذي أصاب أباها وزوجها. وذكر بعضهم أنها قتلت في بشر الذي مات مسموما.
وقد تركت فعلة زينب في نفوس المسلمين أعمق الأثر، وجعلتهم في أعقاب خيبر لا يثقون باليهود، بل يخشون غدرهم أفرادا بعد أن قضي على جماعتهم القضاء الأخير. كانت صفية ابنة حيي بن أخطب النضيرية من بين السبايا اللائي أخذ المسلمون من حصون خيبر، وكانت زوجا لكنانة بن الربيع، وكان عند كنانة مما يعرف المسلمون كنز بني النضير. فسأله النبي عنه فأقسم لا يعرف مكانه. فقال له محمد: إن وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم. وكان أحدهم قد رأى كنانة يطوف بخربة وذكر أمره للنبي، فأمر بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض الكنز، فقتل في إنكاره. فلما خلصت صفية إلى المسلمين وصارت بين الأسرى، قيل للنبي: «صفية سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك.» فأعتقها وتزوجها مقتفيا بذلك أثر الفاتحين العظماء الذين كانوا يتزوجون من بنات عظماء الممالك التي يفتحونها ليخففوا من مصابهم ويحفظوا من كرامتهم.
وقد خشي أبو أيوب خالد الأنصاري أن تتحرك في نفسها الضغينة على الرسول الذي قتل أباها وزوجها وقومها؛ لذلك بات حول الخيمة التي أعرس فيها محمد بصفية في طريق عودته من خيبر متوشحا بسيفه. فلما أصبح الرسول ورآه سأله: ما لك؟ قال: خفت عليك من هذه المرأة وقد قتلت أباها وزوجها وقومها وقد كانت حديثة عهد بكفر. على أن صفية أقامت على الوفاء لمحمد حتى قبضه الله إليه. وقد اجتمع نساؤه حوله في مرضه الأخير؛ فقالت صفية: أما والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي. فتغامز بها أزواج النبي. فقال لهن: مضمضن. قلن: من أي شيء يا نبي الله؟ قال: من تغامزكن بصاحبتكن، والله إنها لصادقة. وبقيت صفية بعد النبي حتى خلافة معاوية، وفيها توفيت ودفنت بالبقيع.
ماذا فعل الله بالرسل الذين أوفدهم محمد إلى هرقل وكسرى والنجاشي وغيرهم من الملوك المحيطين ببلاد العرب؟! هل سافروا قبل غزوة خيبر، أو هم حضروها حتى تم النصر للمسلمين فيها ثم سافروا من بعدها كل إلى ناحيته؟ يختلف المؤرخون في ذلك اختلافا كبيرا يصعب معه القطع في الأمر بقول. وأكبر ظننا أنهم لم يسافروا جميعا في وقت واحد، وأن منهم من سافر قبل خيبر ومنهم من سافر بعدها. فقد جاء في غير رواية أن دحية بن خليفة الكلبي حضر خيبر وهو مع ذلك الذي ذهب برسالة هرقل. سافر إليه وكان هرقل يومئذ عائدا يحف به النصر بعد أن تغلب على الفرس واستنقذ منهم الصليب الأعظم الذي أخذ من بيت المقدس، وآن له أن يتم نذره وأن يحج إلى بيت المقدس ماشيا ليرد الصليب الأعظم إلى مكانه، وكان قد بلغ من سياحته مدينة حمص حين حمل الخطاب إليه. هل حمله إليه جماعة من رجاله بعد أن أسلم دحية الخطاب إلى عامله على بصرى، أو أنه اطلع عليه بعد أن أدخل جماعة من البدو ودحية على رأسهم يقدم إليه الكتاب بنفسه؟ هذا ما تضطرب الرواية كذلك حوله. وتلي الخطاب عليه وترجم له، فلم يغضب ولم تثر ثائرته، ولم يفكر في إرسال جيش يغزو بلاد العرب، بل رد على الرسالة ردا حسنا جعل بعض المؤرخين يزعمون خطأ أنه أسلم.
وفي الوقت نفسه بعث الحارث الغساني إلى هرقل يخبره أن رسولا جاءه من محمد بكتاب، رأى هرقل شبهه بالكتاب الذي أرسل إليه يدعوه إلى الإسلام ويستأذن الحارث في أن يقوم على رأس جيش لمعاقبة هذا المدعي النبوة. لكن هرقل رأى الخير في أن يكون الحارث ببيت المقدس حين زيارته إياه ليزيد في جلال الحفلات برد الصليب إليه، ولم يعبأ بهذا الداعي إلى دين جديد، ولم يدر بخلده أنه لن تمضي سنوات قليلة حتى يكون بيت المقدس وتكون الشام في ظل الراية الإسلامية، وأن العاصمة الإسلامية ستنتقل إلى دمشق، وأن النضال بين دول الإسلام والإمبراطورية الرومية لن تهدأ ثائرته حتى يستولي الأتراك على القسطنطينية في سنة 1453م، وحتى يحيلوا كنيستها الكبرى مسجدا يكتب فيه اسم هذا النبي الذي حاول هرقل أن يظهره مظهر من لا يحفل به أو يعنى بأمره، وأن تظل هذه الكنيسة مسجدا عدة قرون حتى يحيلها المسلمون الأتراك متحفا للفن البزنطي.
أما كسرى عاهل الفرس فإنه ما لبث حين تلي عليه كتاب محمد يدعوه إلى الإسلام أن استشاط غضبا وشق الكتاب، وكتب إلى بازان عامله على اليمن يأمره بأن يبعث إليه برأس هذا الرجل الذي بالحجاز. ولعله كان يحسب في هذا ما يخفف من آثار هزائمه أمام هرقل. فلما بلغت النبي مقالة كسرى وما فعل بكتابه قال: مزق الله ملكه. وأوفد بازان رسله برسالة إلى محمد. وفي هذه الأثناء كان كسرى قد خلفه شيرويه. وكان النبي قد عرف ذلك فأخبر رسل بازان به، وطلب إليهم أن يكونوا رسله إلى بازان يدعونه إلى الإسلام. وكان أهل اليمن قد عرفوا ما حل بفارس من هزائم وقد شعروا بانحلال سلطانها عنهم، وقد اتصلت بهم انتصارات محمد على قريش وقضاؤه على سلطة اليهود. فلما رجع رسل بازان إليه وأبلغوه رسالة النبي، كان سعيدا بأن يسلم وأن يبقى عامل محمد على اليمن. وماذا ترى يطلب محمد إليه وما تزال مكة بينه وبينه؟ إذن فله الغنم بعد أن تقلص ظل فارس في أن يحتمي بالقوة الناشئة الجديدة في بلاد العرب من غير أن تطلب إليه هذه القوة شيئا.
ولعل بازان لم يقدر يومئذ أن انضمامه إلى محمد كان نقطة ارتكاز قوية للإسلام في جنوب شبه الجزيرة، كما دلت الأحوال عليه بعد عامين اثنين.
وكان رد المقوقس عظيم القبط في مصر غير رد كسرى، بل كان أجمل من رد هرقل. فقد بعث إلى محمد يخبره أنه يعتقد أن نبيا سيظهر، ولكنه سيظهر في الشام، وأنه استقبل رسوله بما يجب له من إكرام، وأنه بعث معه بهدية: جاريتين وبغلة بيضاء وحمار ومقدار من المال وبعض خيرات مصر. أما الجاريتان فمارية التي اصطفاها النبي لنفسه والتي ولدت له إبراهيم من بعد، وسيرين التي أهديت إلى حسان بن ثابت، وأما البغلة فأسماها النبي دلدل، وكانت فريدة ببياضها بين البغال التي رأتها بلاد العرب. وأما الحمار فأسمي غفيرا أو يعفورا. وقبل محمد هذه الهدية، وذكر أن المقوقس لم يسلم خشية أن يسلبه الروم ملك مصر، وأنه لولا ذلك لآمن ولكان من حظه الهدى.
وكان طبيعيا، بعد الذي عرفنا من صلات نجاشي الحبشة بالمسلمين، أن يكون رده جميلا، حتى لقد ورد في بعض الروايات أنه أسلم وإن أثارت طائفة من المستشرقين الشك حول إسلامه هذا. على أن الرسول بعث له غير كتاب دعوته إلى الإسلام بكتاب آخر يطلب إليه رد المسلمين الذين أقاموا بالحبشة إلى المدينة. وقد جهز لهم النجاشي سفينتين حملتاهم وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب ومعهم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بعد أن مات زوجها عبد الله بن جحش الذي جاء إلى الحبشة مسلما ثم تنصر وبقي على نصرانيته حتى مات. وقد أصبحت أم حبيبة بعد عودتها من الحبشة من أزواج النبي ومن أمهات المؤمنين. ذكر بعض المؤرخين أن النبي تزوجها ليرتبط مع أبي سفيان برابطة النسب توكيدا لعهد الحديبية. ورأى آخرون في زواج رملة من محمد وأبو سفيان على وثنيته، ما تألم له نفسه ويغص به حلقه.
وأما أمراء العرب فقد رد أمير اليمن وعمان على رسالة النبي ردا فاحشا، ورد أمير البحرين ردا حسنا وأسلم. ورد أمير اليمامة مظهرا استعداده للإسلام إذا هو نصب حاكما؛ فلعنه النبي لمطامعه. ويذكرون أنه لم يلبث إلا عاما بعد ذلك ثم مات.
يستوقف القارئ ما في إجابات أكثر هؤلاء الملوك والأمراء من رفق ومن حسن رأي، وأنه لم يقتل أحد من رسل محمد ولم يسجن، بل عادوا إليه كلهم بما حملوا من رسالات في أكثرها رقة وعطف، وفي بعضها غلظة وشدة. فكيف تلقى أولئك الملوك رسالة الدين الجديد من غير أن يتألبوا على صاحب الدعوة، ومن غير أن يتضافروا على سحقه؟ ذلك أن عالم يومئذ كان كعالمنا الحاضر، قد طغت فيه المادة على الروح، وأصبح فيه الترف غاية الحياة، وأصبحت الأمم تقتل حبا في الظفر، وإرضاء لمطامع ملوكها وسادتها، وشفاء لغرور أنفسهم، أو طمعا في مزيد من الترف تبلغه وتستمتع به. ومثل هذا العالم تهوي فيه العقيدة إلى شعائر تقام في العلن ولا تؤمن النفوس التي تؤديها بشيء مما وراءها، ولا تعنى إلا بأن تكون في حكم صاحب السلطان الذي يطعمها ويكسوها ويكفل لها رخاء العيش وعرض الجاه وكثرة المال. ولا تستمسك بهذه الشعائر إلا بمقدار ما تدر عليها من خير مادي.
فإذا فاتها هذا الخير، خارت عزيمتها، وتضعضعت همتها، ووهنت فيها قوة المقاومة؛ ولذلك لم يلبث الناس حين سمعوا دعوة جديدة للإيمان فيها بساطة وفيها قوة، وفيها مساواة أمام رب واحد، إياه نعبد وإياه نستعين، هو وحده الذي يملك ضر النفوس ونفعها، شعاع من رضاه يبدد غضب ملوك الأرض جميعا، ومخافة غضبه تزعزع النفس وإن أغرقها الملوك كلهم في النعمة والرضا، والرجاء في مغفرته متصل لمن تاب وآمن وعمل صالحا - لم يلبث الناس حين سمعوا هذه الدعوة، ورأوا صاحبها يقوى بها على الاضطهاد، وعلى الظلم، وعلى التعذيب، وعلى كل ما في الحياة المادية من قوى، ويمتد بها سلطانه، وهو اليتيم الفقير المحروم، إلى ما لم يحلم به أحد من قبله في بلده ولا بلاد العرب كلها، حتى اشرأبت الأعناق، وأرهفت الآذان، وشعرت النفوس بظمئها، وتطلعت الأرواح لمورد ريها، لولا بقية من الخوف والشك تقوم بينها وبين الحقيقة حجابا. لذلك رد من رد من الملوك في رفق ورقة. وبذلك ازداد المسلمون إيمانا على إيمانهم وقوة في يقينهم.
عاد محمد من خيبر وعاد جعفر والمسلمون معه من الحبشة، وعاد رسل محمد من حيث أوفدهم، والتقوا جميعا بالمدينة كرة أخرى، والتقوا ليقضوا بقية عامهم هذا مشوقين ليوم في العام القابل يحجون فيه إلى مكة يدخلونها آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون. وقد بلغ من غبطة محمد بلقيا جعفر أن ذكر أنه لا يدري بأي هو أشد اغتباطا: بالنصر على خيبر أو بلقيا جعفر. وفي هذه الفترة تجري القصة التي تروى أن اليهود سحروا محمدا بفعل لبيد، حتى كان يحسب أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله. وهي قصة اضطربت فيها الروايات اضطرابا شديدا يؤيد رأي القائل بأنها محض اختراع لا شيء فيها من الحق.
وأقام المسلمون آمنين بالمدينة، مستمتعين بالعيش، ناعمين بفضل من الله ورضوان، لا يفكرون من أمر الغزو في أكثر من إرسال بعض السرايا لمعاقبة من يفكر في الاعتداء على حقهم أو سلب شيء من مالهم ومتاعهم. فلما استدار العام، وكانوا في ذي القعدة خرج النبي في ألفين من رجاله لعمرة القضاء نفاذا لعهد الحديبية، وإطفاء لظمأ هذه النفوس الشديدة الظمأ لأداء فرائض البيت العتيق.
الفصل الثاني والعشرون
عمرة القضاء
(ركب المسلمين إلى مكة - جلاء قريش عن مكة - نزول المسلمين بها - طواف محمد وهرولته - زواج محمد من ميمونة - رغبته إلى قريش أن يعرس بمكة ورفضهم ذلك - إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة) ***
استدار العام بعد الحديبية، وأصبح محمد وأصحابه في حل بعهدهم مع قريش من الدخول إلى مكة وزيارة الكعبة؛ لذلك نادى الرسول في الناس كي يتجهزوا للخروج إلى عمرة القضاء بعد أن منعوا من قبل منها. ومن اليسير عليك أن تقدر كيف أقبل المسلمون يلبون هذا النداء ومنهم المهاجرون الذين تركوا مكة منذ سبع سنوات، ومنهم الأنصار الذين كانت لهم مع مكة تجارة وبهم إلى زيارة البيت الحرام هوى. لذلك زاد الركب إلى ألفين بعد أن كان ألفا وأربعمائة في العام الذي سبقه، وتنفيذا لعهد الحديبية لم يحمل أحد من هؤلاء الرجال سلاحا إلا سيفا في قرابه. ولكن محمدا كان يخشى الغدر دائما. فجهز مائة فارس جعل على رأسهم محمد بن مسلمة، وبعثهم طليعة له على ألا يتخطوا حرم مكة، وأن ينحدروا إذا هم بلغوا مر الظهران إلى واد قريب منها.
وساق المسلمون الهدي أمامهم ستين ناقة وقد تقدمهم محمد على ناقته القصواء، وساروا من المدينة يحدوهم شغف أي شغف بالدخول إلى أم القرى والطواف ببيت الله، ويرقب كل واحد من المهاجرين أن يرى البقعة التي ولد فيها، والبيت الذي شب عن الطوق بين جدرانه، والأصحاب الذين غادر، وأن يتنسم عرف هذا الوطن المقدس وأن يلمس في إجلال وإعزاز ثرى القرية المباركة الميمونة التي أنجبت الرسول والتي نزل فيها أول ما نزل من الوحي. وتستطيع أن تتصور هذا الجيش من المسلمين وعدتهم ألفان يغذون سيرهم تطفر
1
أمامهم قلوبهم وترقص جذلا أفئدتهم؛ فإذا أناخوا جعل كل منهم يقص على أصحابه آخر عهده بمكة أو أيام طفولته بها، أو يحدث عن أصدقائه فيها، أو عن المال الذي ضحى به في سبيل الله عند هجرته منها. تستطيع أن تتصور هذه المظاهرة الفذة من نوعها، يزجي سيرها الإيمان، ويجذب أصحابها إلى بيت جعله الله مثابة للناس وأمنا. إنك إذن لترى بعين بصيرتك أي طرب كان يستخف هؤلاء الذين حيل بينهم وبين هذا الفرض المقدس إذ يسيرون إليه ليدخلوا مكة آمنين، محلقين رءوسهم ومقصرين، لا يخافون.
وعرفت قريش بمقدم محمد وأصحابه، فجلت عن مكة، نزولا على صلح الحديبية، وصعدت في التلال المجاورة لها حيث ضربت الخيام، وحيث أوى منهم من أوى إلى فيء الشجر. ومن فوق أبي قبيس وحراء، ومن فوق كل مرتفع مطل على مكة، أطل هؤلاء المكيون ينظرون بعيون كلها تطلع إلى الطريد وأصحابه داخلين بلد البيت الحرام لا يصدهم عنه صاد، ولا يحول بينهم وبينه حائل.
وانحدر المسلمون من شمال مكة وقد أخذ عبد الله بن رواحة بخطام القصواء، وأحاط كبار الصحابة بالنبي عليه السلام. وسارت الصفوف من خلفهم ما بين راجل ومقتعد غارب بعيره. فلما انكشف البيت الحرام أمامهم، انفرجت شفاه المسلمين جميعا عن صوت واحد منادين: لبيت لبيك! متوجهين بالقلوب والأرواح إلى وجه الله ذي الجلال، محيطين في هالة من رجاء وإكبار بهذا الرسول الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. والحق أنه كان مشهدا فذا من مشاهد التاريخ التي اهتزت لها أرجاؤه، والتي جذبت إلى الإسلام قلوب أشد المشركين صلابة في وثنيته وفي عناده. وعلى هذا المشهد الفذ كانت تقع عيون أهل مكة. وهذا الصوت المنبعث من القلوب يدوي: لبيك! لبيك، كان يخترق آذانهم فيهز قلوبهم هزا.
ولما بلغ الرسول المسجد اضطبع
2
بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: اللهم ارحم امرءا أراهم اليوم من نفسه قوة. ثم استلم الركن عند الحجر الأسود وهرول وهرول أصحابه معه، فلما استلم الركن اليماني مشى حتى استلم الحجر الأسود مهرولا من جديد ثلاثة أطواف ومشى سائرها. والألفان من المسلمين يهرولون كلما هرول، ويمشون كلما مشى. وقريش تنظر من فوق أبي قبيس، فيأخذها لهذا المنظر البهر
3
من كل مكان، وتشهد أنها، وكانت تحدث عن محمد وأصحابه أنهم في عسر وشدة وجهد، قد رأت ما يمحو من أفئدتها كل وهم بوهن محمد وأصحابه. وفي حماسة هذه الساعة أراد عبد الله بن رواحة أن يقذف في وجه قريش بصيحة حرب؛ فصده عمر، وقال له الرسول: «مهلا يا بن رواحة وقل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده وأعز جنده. وخذل الأحزاب وحده.» أو كما قال؛ فنادى بها ابن رواحة بأعلى صوته، ورددها المسلمون من بعده، فتجاوبت بأصدائها جوانب الوادي، وارتفعت رهبتها إلى قلوب الذين تسنموا الجبال حوله.
ولما أتم المسلمون الطواف بالكعبة انتقل محمد على رأسهم إلى الصفا والمروة فركب بينهما سبعا، كما كان يفعل العرب من قبل، ثم نحر الهدي عند المروة وحلق رأسه وأتم بذلك فرائض العمرة. ولما كان الغد دخل محمد إلى الكعبة وبقي بها حتى صلاة الظهر. ولقد كانت الأصنام ما تزال تعمرها. مع ذلك علا بلال سقفها وأذن في الناس لصلاة الظهر عندها. وصلى النبي يومئذ بألفين من المسلمين صلاة الإسلام عند البيت الذي كان يصد من سبع سنين عن الصلاة عنده. وأقام المسلمون بمكة ثلاثة الأيام المفروضة في عهد الحديبية، وقد خلت أم القرى من أهلها. فجلس المسلمون خلالها لا يصيبهم فيها أذى يعترضهم أحد بسوء. والمهاجرون منهم يزورون دورهم ويزيرون أصحابهم من الأنصار إياها، وكأنما هم جميعا أصحاب هذا البلد الأمين؛ وكلهم يسير سيرة الإسلام يؤدي إلى الله كل يوم صلواته فيقتل في نفسه غرورها، ويعين قويهم ضعيفهم، ويبر غنيهم فقيرهم؛ والنبي ينتقل بينهم أبا محبا محبوبا يبسم لهذا، ويمزح مع ذاك، ثم لا يقول إلا حقا. وقريش وسائر أهل مكة يطلون من منازلهم فوق السفوح على هذا المشهد الفذ في التاريخ، يرون رجالا هذه أخلاقهم، لا يشربون خمرا، ولا يأتون معصية، ولا يغريهم الطعام ولا الشراب؛ ولا تفتنهم في الحياة فتنة، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. أي أثر يترك هذا المنظر الذي سما بالإنسان إلى ما فوق أسمى مراتب الإنسان؟! من اليسير عليك أن تقدره حين تعلم أن محمدا عاد بعد ذلك بشهور ففتح مكة على رأس عشرة آلاف من المسلمين.
كانت أم الفضل، زوج العباس بن عبد المطلب عم النبي، موكلة من أختها ميمونة في تزويجها، وكانت ميمونة في السادسة والعشرين من عمرها، وكانت خالة خالد بن الوليد. وأقامت أم الفضل زوجها العباس مقامها في تزويج أختها. ولما رأت ميمونة ما رأت من أمر المسلمين في عمرة القضاء هوت إلى الإسلام نفسها، فخاطب العباس ابن أخيه في أمرها وعرض عليه أن يتزوجها. وقبل محمد وأصدقها أربعمائة درهم. وكانت ثلاثة الأيام التي نص عهد الحديبية عليها قد انقضت، لكن محمدا أراد أن يتخذ من زواجه ميمونة وسيلة لزيادة في التفاهم بينه وبين قريش.
فلما جاءه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى من قبل قريش يقولان لمحمد: «إنه انقضى أجلك فاخرج عنا .» قال لهما: «ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه.» قال محمد ذلك وهو يعلم ما تركت عمرة القضاء في نفوس أهل مكة من أثر، كيف سحرتهم وسكنت من خصومتهم، ويعلم أنهم إن قبلوا دعوته إلى الطعام فتحدث إليهم وتحدثوا إليه فتحت مكة أمامه أبوابها طائعة. وهذا ما خشي سهيل وحويطب؛ لذلك كان جوابهما: «لا حاجة بنا إلى طعامك فاخرج عنا.» ولم يتردد محمد في النزول على رأيهما تنفيذا لعهده مع قومهما، فأذن في المسلمين بالرحيل، وخرج المسلمون من ورائه. وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف
4
فبنى بها. وميمونة أم المؤمنين آخر أزواج النبي، عمرت بعده خمسين سنة، ثم طلبت أن تدفن حيث بنى بها رسول الله. وحمل محمد أختي ميمونة: سلمى أرملة عمه حمزة، وعمارة البكر التي لم تتزوج.
وبلغ المسلمون المدينة وأقاموا بها، محمد لا يشك في عظم ما تركت عمرة القضاء من أثر في نفوس قريش وفي نفوس أهل مكة جميعا، ولا يشك فيما سينشأ عنها من آثار سريعة خطيرة.
وصدقت الأيام تقديره؛ فإنه ما كاد يتحمل راجعا إلى المدينة حتى وقف خالد بن الوليد فارس قريش المعلم وبطل أحد يقول في جمع منها: «لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدا ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين. فحق على كل ذي لب أن يتبعه.» وقد فزع عكرمة بن أبي جهل لما سمع، فرد قائلا: لقد صبؤت يا خالد. ودار بينهما الحديث الآتي:
خالد :
لم أصبؤ ولكني أسلمت.
عكرمة :
والله إن كان أحق قريش ألا يتكلم بهذا الكلام لأنت.
خالد :
ولم؟
عكرمة :
لأن محمدا وضع شرف أبيك حين جرح، وقتل عمك وابن عمك ببدر. فوالله ما كنت لأسلم ولأتكلم بكلامك يا خالد. أما رأيت قريشا يريدون قتاله؟!
خالد :
هذا أمر الجاهلية وحميتها. لكني والله أسلمت حين تبين لي الحق.
وبعث خالد إلى النبي بأفراس وبعث إليه بإقراره بالإسلام وعرفانه. وبلغ إسلام خالد أبا سفيان، فبعث في طلبه وسأله: أحق ما بلغه عنه؟ ولما أجابه خالد أنه حق، غضب وقال: «واللات والعزى لو أعلم أن الذي تقول حق لبدأت بك قبل محمد.» قال خالد: «فوالله إنه لحق على رغم من رغم.» فاندفع أبو سفيان في غضبه نحوه؛ فحجزه عنه عكرمة وكان حاضرا وقال: «مهلا يا أبا سفيان فوالله لقد خفت للذي خفت أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه. أنتم تقتلون خالدا على رأي رآه وقريش كلها تبايعت عليه! والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم.» وخرج خالد من مكة إلى المدينة، فانضم إلى صفوف المسلمين.
وأسلم من بعد خالد عمرو بن العاص، وحارس الكعبة عثمان بن طلحة. وقد أسلم بإسلام هؤلاء كثير من أهل مكة واتبعوا دين الحق. وبذلك قويت شوكة الإسلام، وأصبح فتح مكة أبوابها لمحمد أمرا لا محل لريبة فيه.
الفصل الثالث والعشرون
غزوة مؤتة
(اتجاه نظر محمد إلى الشام - توجيهه ثلاثة آلاف لغزوها - لواؤهم لزيد بن حارثة، فإن أصيب فلجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فلعبد الله بن رواحة - الروم في مائة ألف أو مائتي ألف - التقاء الجيشين بمؤتة - موت الثلاثة أصحاب اللواء على التعاقب - الراية لخالد بن الوليد - مداورته وانسحابه) ***
لم يكن محمد يستعجل فتح مكة وهو يعلم أن الزمن في صفه، كما أن عهد الحديبية لم يكن قد مضى عليه غير عام واحد، ولم يكن قد جد ما يوجب نقضه. ومحمد رجل وفاء لا ينقض كلمة قال ولا عهدا عقد. لذلك ذهب إلى المدينة فأقام بضعة أشهر لم تقع خلالها غير مناوشات صغيرة؛ كإرسال خمسين رجلا إلى بني سليم ليدعوهم إلى الإسلام وغدر بني سليم بهم وقتلهم إياهم بغيا بغير حق، حتى لم ينج رئيسهم إلا بمحض المصادفة؛ وكغزو جماعة من بني الليث والظفر بهم والغنم منهم؛ وكمعاقبة بني مرة على ما غدروا من قبل، وكإرسال خمسة عشر رجلا إلى ذات الطلح على حدود الشام يدعون إلى الإسلام دعوة كان جزاؤهم عنها القتل لم ينج منهم إلا رئيسهم. وقد كانت ناحية الشام وهذه الجهات الشمالية متجه نظر النبي منذ أمن الجنوب بعهده مع قريش وبإذعان عامل اليمن لدعوته؛ ذلك أنه كان يتوسم طريق انتشار دعوته إلى الإسلام أول مغادرتها حدود شبه الجزيرة، فيرى الشام والبلاد المجاورة هي المنفذ الأول لهذه الدعوة. لذلك لم تمض أشهر على مقامه بالمدينة بعد عوده من عمرة القضاء حتى وجه ثلاثة آلاف هم الذين قاتلوا في مؤتة مائة ألف في رواية، ومائتي ألف في رواية أخرى.
ويختلف الرواة في سبب غزوة مؤتة هذه؛ فيذهب بعضهم إلى أن قتل أصحابه في ذات الطلح كان سبب الغزو لتأديب هؤلاء الغادرين، ويذهب آخرون إلى أن النبي أرسل رسولا من رسله إلى عامل هرقل على بصرى وأن أعرابيا من غسان قتل هذا الرسول باسم هرقل، فبعث محمد بالذين قاتلوا في مؤتة لتأديب هذا العامل ومن ينصره.
وكما كان عهد الحديبية مقدمة عمرة القضاء ففتح مكة، كانت غزوة مؤتة مقدمة تبوك وما كان بعد وفاة النبي من فتح الشام. وسواء أكان السبب الذي أدى إلى غزوة مؤتة هو قتل رسول النبي إلى عامل بصرى أم قتل رجاله الخمسة عشر في ذات الطلح، فإنه عليه السلام دعا إليه، في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة (سنة 629م)، ثلاثة آلاف من خيرة رجاله، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: «فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.» وخرج هذا الجيش وخرج معه خالد بن الوليد متطوعا ليدل بحسن بلائه في الحرب على حسن إسلامه. وودع الناس أمراء الجيش والجيش، وسار محمد معهم حتى ظاهر المدينة، يوصيهم ألا يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين ولا الصبيان، ولا يهدموا المنازل ولا يقطعوا الأشجار.
ودعا عليه السلام ودعا المسلمون لهذا الجيش قائلين: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا سالمين! وكان أمراء الجيش كلهم يفكرون في أخذ القوم من أهل الشام على غرة منهم، على عادة النبي في سابق غزواته، فيسرع إليهم النصر ويعودون بالغنيمة. وسار القوم حتى بلغوا معان من أرض الشام وهم لا يعلمون ما هو ملاقيهم. لكن أنباء مسيرتهم كانت قد سبقتهم. فقام شرحبيل عامل هرقل على الشام فجمع جموع القبائل ممن حوله، وأوفد من جعل هرقل يمده بجيوش من الإغريق ومن العرب. وتذهب بعض الروايات إلى أن هرقل نفسه تقدم بجيوشه حتى نزل مآب من أرض البلقاء على رأس مائة ألف من الروم، كما انضم إليه مائة ألف أخرى من لخم وجذام والقين وبهراء وبلي.
ويقال إن تيودور أخا هرقل هو الذي كان على رأس هذه الجيوش لا هرقل نفسه. وبلغ المسلمين وهم بمعان أمر هذه الجموع، فأقاموا بها ليلتين يفكرون ماذا يصنعون أمام هذا العدد الذي لا قبل لهم به. قال قائل منهم: نكتب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فنخبره بعدد عدونا؛ فإما يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. وكاد هذا الرأي يسود لولا أن تقدم عبد الله بن رواحة - وكان إلى جانب شهامته وفروسيته شاعرا - فقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة. وامتدت عدوى النخوة من الشاعر الشجاع إلى الجيش كله؛ فقال الناس: فوالله صدق ابن رواحة! ومضوا، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية يقال لها مشارف. فلما دنا العدو انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة أن رأوها خيرا من مشارف لتحصنهم بها. وفي مؤتة بدأت المعركة حامية الوطيس بين مائة أو مائتي ألف من جيوش هرقل وثلاثة آلاف من المسلمين.
يا لجلال الإيمان وروعة قوته! حمل زيد بن حارثة راية النبي واندفع بها في صدر العدو وهو موقن أن ليس من موته مفر. لكن الموت في هذا المقام هو الاستشهاد في سبيل الله! وليس إلا الاستشهاد دون النصر والظفر مكانا. وحارب زيد حرب المستميت حتى مزقته رماح العدو فتناول الراية من يده جعفر بن أبي طالب، وهو يومئذ في الثالثة والثلاثين من عمره، وهو شاب تعدل وسامته شجاعته. وقاتل جعفر بالراية، حتى إذا أحاط العدو بفرسه اقتحم عنها فعقرها، واندفع بنفسه وسط القوم منطلقا انطلاقة السهم يهوي سيفه برءوسهم حيثما وقع. وكان اللواء بيمين جعفر فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل. يقال إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة قطعته نصفين. فلما قتل جعفر أخذ ابن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه؛ فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة
ما لي أراك تكرهين الجنة
ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.
هؤلاء زيد وجعفر وابن رواحة استشهدوا ثلاثتهم في سبيل الله في موقعة واحدة. لكن النبي لما علم بخبرهم كان على زيد وجعفر أكبر أسى، وقال: لقد رفعوا إلي الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير صاحبيه؛ فسأل: لم هذا؟ فقيل: مضيا، وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى. أترى إلى هذه العبرة والموعظة الحسنة؟! فإنما معناها أن المؤمن لا يجوز له أن يتردد أو يخاف الموت في سبيل الله؛ بل يجب عليه، كلما مضى في أمر يؤمن بأنه لله والوطن، أن يحمل حياته على كفه، وأن يلقي بها في وجه من يقف في سبيله؛ فإما فاز وظفر فبلغ ما يؤمن به من حق الله والوطن، وإما استشهد فكان المثل الحي لمن بعده والذكر الباقي لروح عظيم عرف أن قيمة الحياة ما يضحى بالحياة في سبيله، وأن الإمساك على الحياة في مذلة إهدار للحياة، فما يستحق صاحبها بعد ذلك في الحياة ذكرا؛ وأن الرجل يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو عرض حياته تعريضا تذهب معه ضحية غرض وضيع، وأنه كذلك يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو أمسك على حياته حين يدعوه داعي الحق جل شأنه ليقذف بها في وجه الباطل ليسحقه، فيواريها هو بالحجاب ويخاف عليها الموت خوفا هو شر من الموت.
وإذا كان التردد القليل من ابن رواحة مع إقدامه بعد ذلك واستشهاده، قد جعله في غير مكانة زيد وجعفر اللذين اقتحما صفوف الموت اقتحاما وطارا للاستشهاد فرحا، فما بالك بالذي ينكص على عقبيه طمعا في جاه أو مال أو غرض من أغراض الحياة؟! إنه إذن للحشرة الحقيرة وإن عرض عند السواد جاهه، وإن بز مال قارون ماله. وهل لنفس إنسانية أن تغتبط حقا لشيء اغتباطها للتضحية في جانب ما تؤمن بأنه الحق، حتى تنتهي من ذلك إلى الاستشهاد في سبيل الحق، أو إلى تمليك الحق الحياة؟!
قتل ابن رواحة بعد تردد ثم إقدام، فأخذ الراية ثابت بن أرقم أحد بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد. فأخذ خالد الراية مع ما رأى من تفرق صفوف المسلمين وتضعضع قوتهم المعنوية. وكان خالد قائدا ماهرا ومحركا للجيوش قل نظيره. لذلك أصدر أوامره، فداور بالمسلمين حتى ضم صفوفهم، ووقف من محاربة العدو عند مناوشات امتدت به حتى أرخى الليل سدوله، ووضع الجيشان السلاح إلى الصباح. أثناء ذلك أحكم خالد تدبير خطته، فوزع عددا غير قليل من رجاله في خط طويل من مؤخرة جيشه أحدثوا، إذا أصبح الناس، من الجلبة ما أدخل في روع عدوه أن مددا جاءه من عند النبي. وإذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا بالروم الأفاعيل في اليوم الأول وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وإن لم يستطيعوا أن يثبتوا، فما عسى أن يصنع هذا المدد الذي جاء لا يدري أحد عدته! لذلك تقاعس الروم عن مهاجمة خالد وسروا بعدم مهاجمته إياهم، وكانوا أكثر سرورا بانسحابه ومن معه راجعين إلى المدينة، بعد معركة لم ينتصر فيها المسلمون وإن كان حقا كذلك أن عدوهم لم ينتصر عليهم فيها.
لذلك ما كاد خالد والجيش معه يدنون من المدينة حتى تلقاهم محمد والمسلمون معه. وطلب محمد فأتي بعبد الله بن جعفر فأخذه وحمله بين يديه. أما الناس فجعلوا يحثون على الجيش التراب ويقولون. يا فرار، فررتم في سبيل الله! فيقول رسول الله: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله. ومع هذه التأسية من محمد للعائدين من مؤتة فقد ظل المسلمون لا يغفرون لهم انسحابهم وعودهم، حتى كان سلمة بن هشام لا يحضر الصلاة مع المسلمين خشية أن يسمع من كل من رآه: يا فرار فررتم في سبيل الله. ولولا ما كان بعد ذلك من فعال هؤلاء الذين حضروا مؤتة، ومن فعال خالد بنوع خاص، لظلت مؤتة معتبرة بعض ما لطخ به إخوانهم في الدين جبينهم من عار الفرار.
وقد بلغ الألم من نفس محمد منذ علم بقتل زيد وجعفر، وحز الأسى في نفسه من أجلهما. لما أصيب جعفر ذهب محمد إلى منزله ودخل على زوجه أسماء بنت عميس، وكانت قد عجنت عجينها وغسلت بنيها ودهنتهم ونظفتهم، فقال لها: ائتيني ببني جعفر. فلما أتته بهم تشممهم وذرفت عيناه الدمع. قالت أسماء في لهف وقد أدركت ما أصابها: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم أصيبوا هذا اليوم! وازدادت عيناه بالدمع تهتانا. فقامت أسماء تصيح حتى اجتمع النساء إليها. أما محمد فخرج إلى أهله فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم. ورأى ابنة مولاه زيد قادمة فربت على كتفيها وبكى. وأظهر بعضهم دهشة لبكاء الرسول على من استشهد؛ فقال ما معناه: إنما هي عبرات الصديق يفقد صديقه.
وفي رواية أن جثة جعفر حملت إلى المدينة ودفنت بها بعد ثلاثة أيام من وصول خالد والجيش إليها. ومن يومئذ أمر الرسول الناس أن يكفوا عن البكاء؛ فقد أبدل الله جعفرا من يديه اللتين قطعتا جناحين طار بهما إلى الجنة.
أراد محمد بعد أسابيع من عود خالد أن يسترد هيبة المسلمين في شمال شبه الجزيرة، فبعث عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الشام؛ ذلك أن أما له كانت من قبائل تلك النواحي، فكان من اليسير عليه أن يتألفهم. فلما كان على ماء بأرض جذام يقال له السلسل، خاف فبعث إلى النبي يستمده، فأمده بأبي عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر. وخاف محمد أن يختلف عمرو، وهو حديث عهد بالإسلام، مع أبي عبيدة من المهاجرين الأولين؛ فقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. وقال عمرو لأبي عبيدة: إنما جئت مددا لي فأنا على قيادة الجيش. وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هينا عليه أمر الدنيا، فقال لعمرو: لقد قال رسول الله: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك. وصلى عمرو بالناس، وتقدم بالجيش فشتت جموع أهل الشام الذين أرادوا محاربته، وأعاد بذلك هيبة المسلمين في تلك الناحية.
وفي هذه الأثناء كان محمد يفكر في مكة ومآلها. لكنه كما قدمنا، كان وفيا بعهد الحديبية، فأقام ينتظر انقضاء السنتين. وجعل أثناء ذلك يبعث السرايا ليسكن بها ثائرة القبائل التي تحدثها نفوسها بالثورة. على أنه كان في غير حاجة إلى كبير عناء من هذه الناحية؛ فقد بدأت الوفود ترد إليه من مختلف النواحي تعلن إليه طاعتها وإذعانها. وإنه لكذلك إذ حدث ما كان مقدمة لفتح مكة، ولاستقرار الإسلام بها استقرارا أسبغ عليها إلى أبد الدهر أعظيم التقديس.
الفصل الرابع والعشرون
فتح مكة
(أثر موقعة مؤتة - نقض قريش عهد الحديبية - استعداء خزاعة النبي على قريش - سفارة أبي سفيان إلى النبي وإخفاقها - تجهيز المسلمين عشرة آلاف يسيرون إلى مكة - رجاء محمد أن يفتح أم القرى من غير إراقة الدماء - خروج العباس ومقابلته لأبي سفيان وأخذه إلى النبي بظاهر مكة - دخول المسلمين فاتحين - المكيون الذي تحرشوا بجيش خالد بن الوليد - عفو محمد عن خصومه جميعا - تطهير الكعبة من الأصنام - إسلام أهل مكة) ***
عاد جيش المسلمين بعد موقعة مؤتة ولواؤهم لخالد بن الوليد. عادوا لا منتصرين ولا منكسرين ولكن راضين من الغنيمة بالإياب. وقد ترك انسحابهم بعد موت زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، أثرا مختلفا أشد الاختلاف عند الروم وعند المسلمين المقيمين بالمدينة وعند قريش بمكة: أما الروم ففرحوا بانسحاب المسلمين وحمدوا ربهم أن لم يطل القتال بهم، مع أن جيش الروم كان مائة ألف على قول ومائتي ألف على قول آخر، في حين كانت عدة المسلمين ثلاثة آلاف. وسواء أكان فرح الروم راجعا إلى ما أبدى خالد بن الوليد من الاستماتة في الدفاع والقوة في الهجوم حتى لقد تحطمت في يده تسعة أسياف وهو يحارب بعد موت أصحابه الثلاثة، أم كان راجعا إلى مهارته في توزيع الجيش في اليوم الثاني وإحداث ما حدث من الجلبة حتى ظن الروم أن مددا جاءه من المدينة، فإن القبائل العربية المتاخمة للشام نظرت إلى فعال المسلمين بإعجاب أشد الإعجاب. وكان من ذلك أن أحد زعمائهم (فروة بن عمرو الجذامي، وكان قائدا لفرقة من جيش الروم) ما لبث أن أعلن إسلامه؛ فقبض عليه بأمر من هرقل بتهمة الخيانة. وكان هرقل على استعداد للإفراج عنه إذا هو عاد إلى المسيحية، بل كان على استعداد أن يرده إلى مركز القيادة الذي كان فيه. لكن فروة أبى وأصر على إبائه وعلى إسلامه فقتل. وكان من ذلك أيضا أن ازداد الإسلام انتشارا بين قبائل نجد المتاخمة للعراق والشام حين كان سلطان الروم في ذروته.
وزاد في انضمام الناس إلى الدين الجديد اضطراب أحوال الدولة البزنطية اضطرابا جعل أحد عمال هرقل، وقد كلف أن يدفع للجيش رواتبه، يصيح في وجه عرب الشام الذين اشتركوا في الحرب: «انسحبوا. فالإمبراطور لا يجد ما يدفع منه رواتب جنده إلا بمشقة. وليس لديه لذلك ما يوزعه على كلابه.» فلا عجب أن ينصرف هؤلاء عن الإمبراطور وعن جنده، وأن يزداد ضياء الدين الجديد أمامهم نورا إلى صدق الحقيقة السامية التي يبشر الناس بها. لذلك دخل في الإسلام في هذه الفترة ألوف من سليم وعلى رأسهم العباس بن مرداس، ومن أشجع وغطفان الذين كانوا حلفاء اليهود حتى نكب اليهود في خيبر، ومن عبس ومن ذبيان ومن فزارة. فكانت وقعة مؤتة بذلك سببا في استتباب الأمر للمسلمين في شمال المدينة إلى حدود الشام، وفي ازدياد الإسلام عزة وقوة ومنعة.
لكن أثرها في نفوس المسلمين المقيمين بالمدينة كان غير هذا الأثر؛ فهم ما لبثوا حين رأوا خالدا والجيش معه عائدين من تخوم الشام لم ينتصروا على جيش هرقل، أن صاحوا في وجوههم: «يا فرار، فررتم في سبيل الله.» ولقد بلغ من خجل بعض رجال الجيش أن لزم بيته، كيلا يؤذيه صبيان المسلمين وشبانهم بتهمة الفرار.
أما أثر مؤتة في نفس قريش فكان أنها هزيمة قضت على المسلمين وعلى سلطانهم، حتى لم يبق إنسان يأبه لهم أو يقيم لعهدهم وزنا. فلتعد الأمور كما كانت قبل عمرة القضاء. ولتعد الأمور كما كانت قبل عهد الحديبية. ولتعد قريش حربا على المسلمين ومن في عهدهم من غير أن تخشى من محمد قصاصا.
وصلح الحديبية كان قد قضى أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. وكانت خزاعة قد دخلت في عهد محمد، ودخلت بنو بكر في عهد قريش. وكانت بين خزاعة وبني بكر ثارات قديمة سكنت بعد صلح الحديبية وانحياز كل من القبيلتين إلى فريق من المتصالحين. فلما كانت مؤتة وخيل إلى قريش أن المسلمين قضي عليهم، وخيل إلى بني الديل من بني بكر بن عبد مناة أن الفرصة سنحت لهم ليصيبوا من خزاعة بثاراتهم القديمة، وحرضهم على ذلك جماعة من قريش منهم عكرمة بن أبي جهل وبعض سادات قريش وأمدوهم بالسلاح.
وبينما خزاعة ذات ليلة على ماء لهم يدعى الوتير إذ فاجأتهم بنو بكر فقتلوا منهم، ففرت خزاعة إلى مكة ولجئوا إلى دار بديل بن ورقاء، وشكوا إليه نقض قريش ونقض بني بكر عهدهم مع رسول الله، وسارع عمرو بن سالم الخزاعي فغدا متوجها إلى المدينة حتى وقف بين يدي محمد وهو جالس في المسجد بين الناس، وجعل يقص ما حدث ويستنصره. قال رسول الله: «نصرت يا عمرو بن سالم.» ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبي بما أصابهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم. عند ذلك رأى النبي أن ما قامت به قريش من نقض عهده لا مقابل له إلا فتح مكة، وأنه لذلك يجب أن يرسل إلى المسلمين في أنحاء شبه الجزيرة ليكونوا على أهبة لإجابة ندائه من غير أن يعرفوا وجهته بعد هذا النداء.
أما حكماء قريش وذوو الرأي فيها فما لبثوا أن قدروا ما عرضهم له عكرمة ومن معه من الشبان من خطر. فهذا عهد الحديبية قد نقض، وهذا سلطان محمد في شبه الجزيرة يزداد بأسا وقوة. ولئن فكر بعد الذي حدث في أن ينتقم لخزاعة من أهل مكة لتتعرضن المدينة المقدسة لأشد الخطر. فماذا تراهم يصنعون؟ أوفدوا أبا سفيان إلى المدينة ليثبت العقد وليزيد في المدة. ولعل المدة كانت سنتين فكانوا يريدونها عشرا. وخرج أبو سفيان قائدهم وحكيمهم يريد المدينة فلما بلغ من طريقه عسفان، لقيه بديل بن ورقاء وأصحابه، فخاف أن يكون قد جاء محمدا وأخبره بما حدث، فيزيد ذلك مهمته تعقيدا. وقد نفى بديل مقابلته محمدا لكنه عرف من بعر راحلة بديل أنه كان بالمدينة؛ لذلك آثر ألا يكون محمد أول من يلقى، فجعل وجهته بيت ابنته أم حبيبة زوج النبي.
ولعلها كانت قد عرفت عواطف النبي إزاء قريش وإن لم تكن تعلم ما اعتزمه في أمر مكة. ولعل ذلك كان شأن المسلمين بالمدينة جميعا. فقد أراد أبو سفيان أن يجلس على فراش النبي فطوته أم حبيبة. فلما سألها أبوها: أطوته رغبة بأبيها عن الفراش، أم رغبة بالفراش عن أبيها؟ كان جوابها: هو فراش رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس عليه. قال أبو سفيان: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر! وخرج مغضبا. ثم كلم محمدا في العهد وإطالة مدته، فلم يرد بشيء. فكلم أبا بكر ليكلم له النبي، فأبى. فكلم عمر بن الخطاب فأغلظ له في الرد وقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
ودخل أبو سفيان على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة، فعرض عليه ما جاء فيه واستشفعه إلى الرسول؛ فأنبأه علي في رفق أنه لا يستطيع أحد أن يرد محمدا عن أمر إذا هو اعتزمه. واستشفع رسول قريش فاطمة أن يجير ابنها الحسن بين الناس. فقالت: ما يجير أحد على رسول الله. واشتدت الأمور على أبي سفيان فاستنصح عليا؛ فقال له: والله ما أعلم شيئا يغني عنك شيئا. لكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك؛ وما أظن ذلك مغنيا، ولكني لا أجد لك غيره. فذهب أبو سفيان إلى المسجد وهناك أعلن أنه أجار بين الناس. ثم ركب راحلته وانطلق ذاهبا إلى مكة وقلبه يفيض أسى مما لقي من هوان على يد ابنته وعلى يد أولئك الذين كانوا قبل هجرتهم من مكة يرتجون منه نظرة عطف أو رضا.
عاد أبو سفيان إلى مكة؛ فقص على قومه ما لقي بالمدينة وما أجار بين الناس في المسجد بمشورة علي، وأن محمدا لم يجز جواره. قال قومه: ويلك! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك. وعادوا فيما بينهم يتشاورون.
أما محمد فقد رأى ألا يترك لهم الفرصة حتى يتجهزوا للقائه. ولئن كان واثقا من قوته ومن نصر الله إياه، لقد كان يرجو أن يبغت القوم في غرة منهم، فلا يجدوا له دفعا، فيسلموا من غير أن تراق الدماء؛ لذلك أمر الناس بالتجهيز، فلما تجهزوا أعلمهم أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد، ودعا الله أن يأخذ العيون الأخبار عن قريش حتى لا تقف من سيرهم على نبأ.
وبينما الجيش على أهبة السير كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا أعطاه امرأة من مكة مولاة لبعض بني عبد المطلب تسمى سارة، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا ليقفوا على ما أعد محمد لهم، وحاطب كان من كبار المسلمين، ولكن في النفس الإنسانية جوانب ضعف تطغى في بعض الأحيان عليها، وتهوي بها إلى ما لا ترضاه هي لنفسها. وما لبث محمد أن أحيط بالأمر خبرا. فسارع فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فأدركا سارة فاستنزلاها، فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا. فأنذرها علي إن لم تخرج الكتاب ليكشفنها. فلما رأت المرأة الجد منه قالت: أعرض. فحلت ذوائب شعرها فأخرجت الكتاب منها، فرداها إلى المدينة.
ودعا محمد حاطبا يسأله ما حمله على ذلك؟ قال حاطب: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله وما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس له في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. قال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. قال رسول الله: وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وكان حاطب من أصحاب بدر. وإذ ذاك نزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة .
1
وتحرك جيش المسلمين من المدينة قاصدا مكة ليفتحها، وليضع يده على البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا. تحرك هذا الجيش في عدد لا عهد للمدينة به؛ فقد بعثت القبائل، من سليم ومزينة وغطفان وغيرها من انضم إلى المهاجرين والأنصار وسار معهم في يلب
2
الحديد يسيلون في فسيح الصحراء، حتى كانوا إذا ضربوا خيامهم اكتست بها رمال البيداء فما يكاد يبدو منها للناظر شيء. تحركوا وأغذ هؤلاء الألوف سيرهم، وصاروا كلما تقدموا فيه انضم إليهم من سائر القبائل من زاد عددهم وزاد منعتهم، وكلهم ممتلئ النفس بالإيمان أن لا غالب لهم من دون الله.
وسار محمد على رأسهم وأكبر همه وكل تفكيره أن يدخل البيت الحرام من غير أن يهريق قطرة دم واحدة. وبلغ الجيش مر الظهران
3
وقد كملت عدته عشرة آلاف لم يصل إلى قريش من أمرهم خبر، فهي في جدل مستمر ماذا تصنع لاتقاء عدوة محمد عليها. أما العباس بن عبد المطلب عم النبي فقد تركهم في جدلهم وخرج مع أهله حتى لقي محمدا بالجحفة.
4
ولعل طائفة من بني هاشم كانت بنبأ أو شبه نبأ من خروج النبي، فأرادت أن تلحق به دون أن يصيبها أذى. فقد خرج سوى العباس أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عمته، حتى اتصلا بجيش المسلمين بنيق العقاب، واستأذنا على النبي، فرفض أن يأذن لهما، وقال لزوجه أم سلمة حين كلمته في أمرهما: لا حاجة لي بهما. أما ابن عمي فقد أصابني منه سوء. وأما ابن عمتي وصهري فقد قال بمكة ما قال. وبلغ أبا سفيان هذا الكلام فقال: والله ليؤذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا. فرق محمد، ثم أذن لهما فدخلا عليه فأسلما.
ورأى العباس بن عبد المطلب من جيوش ابن أخيه ومن قوته ما راعه وأزعجه. وهو إن كان أسلم فإن ذلك لم يخل قلبه من خشية ما يحل بمكة إذا دهمها هذا الجيش الذي لا قبل لقوة في بلاد العرب به. أوليس قد ترك مكة منذ حين، وله بها من الأهل والخلان والأصدقاء من لم يقطع الإسلام الذي دان به من وشائجهم؟! ولعله أفضى بمخاوفه هذه إلى الرسول وسأله؛ ماذا يصنع إذا ما طلبت قريش أمانه؟ ولعل ابن أخيه سر بمفاتحة العباس إياه في هذا، ورجا أن يتخذ منه سفيرا يلقي في قلوب القوم من قريش الرعب فيدخل مكة من غير أن يسفك دما، وتظل مكة حراما كما كانت وكما يجب أن تكون. وجلس العباس على بغلة النبي البيضاء وخرج عليها حتى جاء ناحية الأراك، لعله يجد حطابا أو صاحب لبن أو أي إنسان ذاهبا إلى مكة، يحمله إلى أهلها رسالة بقوة المسلمين وبأس جيوشهم، حتى يخرجوا إلى رسول الله فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. وكانت قريش قد بدأت، منذ نزل المسلمون مر الظهران، تشعر بأن خطرا يقترب منها؛ فأرسلت أبا سفيان بن حرب، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام قريب خديجة، يتنطسون الأخبار، ويستطلعون مبلغ الخطر الذي تحس قلوبها. وإن العباس ليسير على بغلة النبي البيضاء إذ سمع حديثا بين أبي سفيان بن حرب وبديل بن ورقاء كذلك يجري:
أبو سفيان :
ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا.
بديل :
هذه والله خزاعة حمشتها الحرب.
أبو سفيان :
خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
وعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه بكنيته قائلا: أبا حنظلة! وأجاب أبو سفيان بدوره: أبا الفضل. قال العباس: ويحك يا أبا سفيان؟ هذا رسول الله في الناس. وا صباح قريش إذا دخل مكة عنوة! قال أبو سفيان: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ فأركبه العباس في عجز البغلة ورد صاحبيه إلى مكة وسار به. والناس إذا رأوا البغلة عرفوها وتركوها تمر بمن عليها بين عشرة آلاف أوقدوا نيرانهم لتلقي الرعب في قلب مكة وأهلها. فلما مرت بنار عمر بن الخطاب ورآها عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع إلى خيمة النبي وطلب إليه أن يضرب عنقه. قال العباس: إني يا رسول الله قد أجرته. إزاء هذا الموقف في تلك الساعة من الليل، وبعد مناقشة لا تخلو من حدة بين العباس وعمر قال محمد: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به. فلما كان الصباح، وجيء بأبي سفيان في حضرة النبي وبمسمع من كبراء المهاجرين والأنصار، جرى الحوار الآتي:
النبي :
ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟!
أبو سفيان :
بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد.
النبي :
ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟!
أبو سفيان :
بأبي وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما والله هذا فإن في النفس منها حتى الآن شيئا!
فتدخل العباس موجها القول إلى أبي سفيان أن يسلم ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقه. ولم يجد أبو سفيان أمام هذا إلا أن يسلم. فتوجه العباس بالقول إلى النبي عليه السلام: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا. قال رسول الله: «نعم! من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.»
هذه الوقائع وارد عليها اتفاق المؤرخين وكتاب السيرة جميعا إلا أن بعضهم يسائل: أهي قد حدثت كلها بمحض المصادفة؟ فخروج العباس إلى النبي كان قصده منه أن يذهب إلى المدينة فإذا هو يلقى جيوش المسلمين بالجحفة، وخروج بديل بن ورقاء مع أبي سفيان بن حرب كان لمحض الاستطلاع، مع أن بديلا ذهب قبل ذلك إلى المدينة وقص على النبي ما لقيت خزاعة وعرف من النبي أنه ناصرها، وخروج أبي سفيان كان جهلا منه بأن محمدا قد سار لغزو مكة! أم أن شيئا من الاتفاق، قليلا أو كثيرا، كان قد حدث قبل ذلك، وأن هذا الاتفاق هو الذي أخرج العباس للقاء محمد، وأن هذا الاتفاق هو الذي جمع بين العباس وأبي سفيان، وأن أبا سفيان كان قد وثق، منذ ذهب إلى المدينة ليمد في عهد الحديبية ورجع صفر اليدين، بأن لا سبيل لقريش إلى رد محمد، وأيقن أنه إذا مهد للفتح السبيل فستبقى له رياسته في مكة ومقامة الكبير فيها، وأن الذي ربما كان وقع عليه الاتفاق من ذلك لم يتعد محمدا والأشخاص الذين يعنيهم الأمر، بدليل ما هم به عمر من قتل أبي سفيان؟ من المغامرة أن نحكم. لكنا نستطيع أن نقرر - مطمئنة نفوسنا - أنه سواء أكانت المصادفة هي التي ساقت ذلك كله أم أن شيئا من الاتفاق قد وقع عليه، فالحالان تدلان على دقة محمد ومهارته في كسب أكبر موقعة في تاريخ الإسلام من غير حرب ومن غير إراقة دماء.
لم يمنع إسلام أبي سفيان محمدا أن يتخذ لدخول مكة كل ما لديه من أهبة وحذر. وإذا كان النصر بيد الله يؤتيه من يشاء، فإن الله لا يؤتي النصر إلا من أعد له كل عدته، واحتاط لكل دقيقة وجليلة قد تقف في سبيله، لذلك أمر أن يحبس أبو سفيان بمضيق الوادي عند مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر به جنود المسلمين فيراها ليحدث قومه بها عن بينة، ولكي لا يكون في إسراعه إليهم خيفة مقاومة أيا كان نوعها. ومرت القبائل بأبي سفيان، فما راعه منها إلا الكتيبة الخضراء يحيط بمحمد فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. فلما عرف أبو سفيان أمره قال: يا عباس! ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! ثم انطلق إلى قومه يصيح فيهم بأعلى صوته: يا معشر قريش! هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
وسار محمد في الجيش، حتى إذا انتهى إلى ذي طوى، ورأى من هناك مكة لا تقاوم استوقف كتائبه، ووقف على راحلته، وانحنى لله شاكرا، أن فتح الله عليه مهبط الوحي ومقر البيت الحرام ليدخله والمسلمين آمنين مطمئنين. وفيما هو كذلك طلب أبو قحافة، ولم يكن قد أسلم كابنه، إلى حفيدة له أن تظهر به على أبي قبيس، وكان قد كف بصره. فلما ارتفعت به الجبل سألها ما ترى؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا. قال: تلك الخيل. ثم قالت: قد والله انتشر السواد. فقال: تلك الخيل دفعت إلى مكة، فأسرعي بي إلى بيتي. ولم يصل إلى بيته حتى كانت الخيل قد زحفت وتلقته قبل بلوغه إياه.
شكر محمد الله أن فتح عليه مكة، ولكنه ظل مع ذلك متخذا حذره؛ فقد أمر أن يفرق الجيش أربع فرق، وأمرها جميعا ألا تقاتل وألا تسفك دما إلا إذا أكرهت على ذلك إكراها واضطرت إليه اضطرارا. وجعل الزبير بن العوام على الجناح الأيسر من الجيش وأمره أن يدخل مكة من شمالها، وجعل خالد بن الوليد على الجناح الأيمن وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وجعل سعد بن عبادة على أهل المدينة ليدخلوا مكة من جانبها الغربي. أما أبو عبيدة بن الجراح فجعله محمد على المهاجرين، وسار وإياهم ليدخلوا مكة من أعلاها في حذاء جبل هند، وفيما هم يتأهبون سمع بعضهم سعد بن عبادة يقول: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة ...» وفي ذلك من نقض أمر النبي ألا يقتل المسلمون من أهل مكة ما فيه. لذلك رأى النبي حين بلغه ما قال سعد أن يأخذ الراية منه وأن يدفعها إلى ابنه قيس، وكان رجلا ضخما، لكنه كان أهدأ من أبيه أعصابا.
دخلت الجيوش مكة فلم يلق منها مقاومة إلا جيش خالد بن الوليد؛ فقد كان يقيم في هذا الحي من أسفل مكة أشد قريش عداوة لمحمد، ومن اشتركوا مع بني بكر في نقض الحديبية بالغارة على خزاعة. هؤلاء لم يرضهم ما نادى به أبو سفيان. بل أعدوا عدتهم للقتال، وأعد آخرون منهم عدتهم للفرار. وقام على رأسهم صفوان وسهيل وعكرمة بن أبي جهل. فلما دخلت فرقة خالد أمطروها نبالهم، لكن خالدا لم يلبث أن فرقهم، ولم يقتل من رجاله إلا اثنان ضلا طريقهما وانفصلا عنه. أما قريش ففقدوا ثلاثة عشر رجلا في رواية، وثمانية وعشرين في رواية أخرى. ولم يلبث صفوان وسهيل وعكرمة حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن ولوا الأدبار، تاركين وراءهم من حرضوهم على المقاومة يصلون بأس خالد وبطش أبطاله معه. وبينما كان محمد على رأس المهاجرين يرقى في مرتفع ينزل منه إلى مكة مطمئن النفس لفتحها في سكينة وسلم بصر بأم القرى وبما فيها جميعا، وبصر بتلماع السيوف أسفل المدينة وبمطاردة جيش خالد لمن هاجموهم. هنالك أسف وصاح مغضبا يذكر أمره ألا يكون قتال. فلما علم بما كان، ذكر أن الخيرة فيما اختاره الله.
ونزل النبي بأعلى مكة قبالة جبل هند، وهنالك ضربت له قبة على مقربة من قبري أبي طالب وخديجة. وسئل: هل يريد أن يستريح في بيته؟ فأجاب: كلا! فما تركوا لي بمكة بيتا. ودخل إلى القبة يستريح وقلبه مفعم بشكر الله أن عاد عزيزا منتصرا إلى البلد الذي آذاه وعذبه وأخرجه من بين أهله ودياره، وأجال بصره في الوادي وفي الجبال المحيطة به، في هذه الجبال التي كان يأوي إلى شعابها حين يشتد به أذى قريش وتشتد به قطيعتها، في هذه الجبال، ومن بينها حراء حيث كان يتحنث حين نزل عليه الوحي أن:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم .
5
أجال بصره في هذه الجبال وفي الوادي مبعثرة منازل مكة فيه يتوسطها البيت الحرام، فبلغ من خضوعه لله أن ترقرقت في عينه دمعة إسلام وشكر للحق لا حق إلا هو، إليه يرجع الأمر كله. وشعر ساعتئذ أن مهمة القائد قد انتهت، فلم يقم بالقبة طويلا بل خرج وامتطى ناقته القصواء وسار بها حتى بلغ الكعبة، فطاف بالبيت سبعا على راحلته يستلم الركن. بمحجن
6
في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة ففتح الكعبة، فوقف محمد على بابها وتكاثر الناس في المسجد، فخطبهم وتلا عليهم قوله تعالى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .
7
ثم سألهم: «يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: «خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم!» قال: «فاذهبوا فأنتم الطلقاء.» وبهذه الكلمة صدر العفو العام عن قريش وعن أهل مكة جميعا.
ما أجمل العفو عند المقدرة! ما أعظم هذه النفس التي سمت كل السمو، فارتفعت فوق الحقد وفوق الانتقام، وأنكرت كل عاطفة دنيا، وبلغت من النبل فوق ما يبلغ الإنسان! هؤلاء قريش يعرف محمد منهم من ائتمروا به ليقتلوه، ومن عذبوه وأصحابه من قبل ذلك، ومن قاتلوا في بدر وفي أحد، ومن حصروه في غزوة الخندق، ومن ألبوا عليه العرب جميعا، ومن لو استطاعوا قتله وتمزيقه إربا إربا لما ونوا في ذلك لحظة! هؤلاء قريش في قبضة محمد وتحت قدميه، أمره نافذ في رقابهم، وحياتهم جميعا معلقة بين شفتيه، وفي سلطانه هذه الألوف المدججة بالسلاح تستطيع أن تبيد مكة وأهلها في رجع البصر! لكن محمدا! لكن النبي! لكن رسول الله ليس بالرجل الذي يعرف العداوة أو يريد بها أن تقوم بين الناس. وليس هو بالجبار ولا بالمتكبر. لقد أمكنه الله من عدوه، فقدر فعفا، فضرب بذلك للعالم كله ولأجياله جميعا مثلا في البر والوفاء بالعهد، وفي سمو النفس سموا لا يبلغه أحد.
ودخل محمد الكعبة فرأى جدرانها صورت عليها الملائكة والنبيون، ورأى إبراهيم مصورا في يده الأزلام
8
يستقسم بها، ورأى بها تمثال حمامة من عيدان فكسرها بيده وألقاها إلى الأرض. أما صورة إبراهيم فنظر محمد إليها مليا وقال: قاتلهم الله! جعلوا شيخا يستقسم بالأزلام! ما شأن إبراهيم والأزلام؟! ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. أما الملائكة الذين صوروا نساء ذات جمال، فقد أنكر محمد صورهم أن ليست الملائكة ذكورا ولا إناثا. ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست. وكانت حول الكعبة الأصنام التي كانت تعبدها قريش من دون الله، قد شدت إلى جدرها بالرصاص، كما كان هبل في داخل الكعبة؛ فجعل محمد يشير إلى هذه الأصنام جميعا بقضيب في يده وهو يقول:
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .
9
وكبت الأصنام على وجوهها وظهورها، وطهر البيت الحرام بذلك منها. وأتم محمد بذلك في أول يوم لفتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة، وما حاربت مكة أشد الحرب فيه. أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
ورأى الأنصار من أهل المدينة ذلك كله، ورأوا محمدا يقوم على الصفا ويدعو، فخيل إليهم أنه تارك المدينة إلى وطنه الأول وقد فتحه الله عليه، وقال بعضهم لبعض: أترون رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ ولعلهم كانوا على حق في مخاوفهم. فهذا رسول الله، وبمكة البيت الحرام بيت الله، وبمكة المسجد الحرام. لكن محمدا ما لبث حين أتم دعاءه أن سألهم ما قالوا؟ فلما عرف بعد تردد منهم مخافتهم قال: «معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم.» فضرب بذلك للناس مثلا في البر بعهده في بيعة العقبة، وفي الوفاء لأنصاره الذين وقفوا ساعة الشدة إلى جانبه، برا ووفاء لا ينسيهما وطن ولا أهل ولا تنسيهما مكة البلد الحرام.
ولما أن طهرت الكعبة من أصنامها، أمر النبي بلالا فأذن فوقها، وصلى الناس بإمامة محمد. ومن يومئذ إلى يومنا الحاضر، مدى أربعة عشر قرنا مضت لا تنقطع، وبلال وخلفاء بلال من بعده ينادون بالأذان، كل يوم خمس مرات من فوق مسجد مكة، ومدى أربعة عشر قرنا مضت من يومئذ يؤدي المسلمون فرض الصلاة لله والصلاة على رسوله، متوجهين إلى الله بقلوبهم وعقولهم، مستقبلين هذا البيت الحرام الذي طهره محمد يوم الفتح من أوثانه وأصنامه.
وأذعنت قريش لما حل بها، واطمأنت لعفو محمد عنها، وأقامت تنظر إليه وإلى المسلمين من حوله بعيون كلها دهش وإعجاب يمازجها الخوف والحذر. لكن طائفة منها عدتها سبعة عشر رجلا، كان محمد قد استثناها من رحمته وأمر ساعة دخول مكة أن يقتل رجالها ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، كان قد آثر بعضها الاختفاء ولاذ بعضها بالفرار. ولم يكن قرار محمد قتلهم لحقد منه أو غضب عليهم؛ فهو لم يكن يعرف الحقد، ولكن لجرائم كبيرة ارتكبوها. فأحدهم عبد الله بن أبي السرح كان قد أسلم وكان يكتب لمحمد الوحي، فارتد مشركا إلى قريش زاعما أنه كان يزيف الوحي حين يكتبه. وعبد الله بن خطل كان قد أسلم ثم قتل مولى له وارتد مشركا وأمر جاريتيه فرتنى وصاحبتها فكانتا تغنيان بهجاء محمد، فأمر بقتلهما معه. وعكرمة بن أبي جهل، وكان من أشد الناس لددا في خصومة محمد والمسلمين خصومة لم تهدأ حتى بعد فتح مكة ودخول خالد بن الوليد من أسفلها.
أمر محمد بعد دخول مكة ألا يسفك بها دم أو يقتل فيها أحد غير هذه الطائفة. لذلك اختفى رجالها ونساؤها وفر منهم من فر. فلما استقر الأمر وهدأت الحال ورأى الناس من فسحة صدر الرسول ومن عفوه الشامل ما رأوا، طمع بعض أصحابه في أن يعفو حتى عن هؤلاء الذين أمر أن يقتلوا. فقام عثمان بن عفان، وكان أخا ابن أبي السرح للرضاعة، حتى أتى به النبي فاستأمن له. فصمت محمد طويلا، ثم قال: نعم، وأمته. وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام زوج عكرمة بن أبي جهل الذي فر إلى اليمن واستأمنت له محمدا فأمنه، فخرجت في طلبه وجاءت به. وعفا محمد كذلك عن صفوان بن أمية وكان قد صحب عكرمة في فراره إلى ناحية البحر يستقلانه إلى اليمن، فجيء بهما والسفينة التي تحملهما على أهبة إقلاعها. وعفا محمد كذلك عن هند زوج أبي سفيان التي مضغت كبد حمزة عم الرسول بعد استشهاده في أحد، كما عفا عن أكثر من أمر بقتلهم. ولم يقتل منهم إلا أربعة، منهم الحويرث الذي أغرى بزينب بنت النبي حين رجوعها من مكة إلى المدينة، ورجلان أسلما ثم ارتكبا بالمدينة جريمة القتل وفرا راجعين إلى مكة مرتدين إلى الشرك، وإحدى قينتي ابن خطل اللتين كانتا تؤذيان النبي بغنائهما، وفرت الأخرى، ثم استؤمن لها.
وفي غداة يوم الفتح عثرت خزاعة على رجل من هذيل وهو مشرك فقتلوه فغضب النبي وقام في الناس خطيبا فقال: «أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، أو يعضد
10
فيها شجرا، لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها، ثم رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب. فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن الله أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة. ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع. لقد قتلتم قتيلا لأدينه. فمن قتل بعد مقالي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله.»
11
ثم ودى بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة، وبهذا الخطاب وبتصرفه الذي زاد على السماحة والعفو أمس، كسب محمد قلوب أهل مكة بما لم يكونوا يقدرون، فأقبلوا على الإسلام، ونادى مناد فيهم: «من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يترك في داره صنما إلا حطمه.» ثم بعث جماعة من خزاعة ليصلحوا من العمد المحيطة بالبلد الحرام، مما دل أهل مكة على ما لها في نفسه من التقديس وما زادهم له حبا. فلما أخبرهم أنهم خير أمة يحب، وأنه ما كان ليتركهم أو يعدل بهن ناسا لولا أنهم أخرجوه، بلغ تعلقهم به غاية حدوده. وجاء أبو بكر بأبيه، الذي ارتقى أبا قبيس يوم الزحف، يقوده حتى وقف بين يدي النبي. فلما رآه محمد قال: هلا تركت الشيخ بمكانه حتى أكون أنا آتيه فيه! قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت. فأجلس النبي الشيخ بين يديه ومسح صدره ثم قال له: أسلم. فأسلم وحسن إسلامه. وكذلك أسرت أخلاق النبوة السامية هذا الشعب الذي كان ثائرا على محمد أشد الثورة، والذي أصبح اليوم يجله ويقدسه. وكذلك أسلمت قريش رجالا ونساء وبايعت.
وأقام محمد بمكة خمسة عشر يوما ينظم خلالها شئون مكة ويفقه أهلها في الدين. وفي هذه الأثناء بعث السرايا للدعوة إلى الإسلام لا للقتال، ولتحطيم الأصنام من غير سفك للدماء. وكان خالد بن الوليد قد خرج إلى نخلة ليهدم العزى - وكانت لبني شيبان - فلما هدمها خرج إلى جذيمة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح؛ فطلب إليهم خالد أن يضعوه فإن الناس قد أسلموا. قال رجل من جذيمة لقومه: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد. والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق. قال له قومه: أتريد أن تسفك دماءنا؟! إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأمن الناس . وما زالوا به حتى وضع سلاحه. عند ذلك أمر بهم خالد فغلوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم. فلما انتهى الخبر إلى النبي رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.» ثم بعث إليهم علي بن أبي طالب وقال له: اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. وخرج علي ومعه مال أعطاه النبي إياه. فلما بلغ القوم دفع الدية عن الدماء وعما أصيب من الأموال، حتى إذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وداه، أعطاهم بقية المال الذي بعث به رسول الله احتياطا لرسول الله مما لا يعلم.
وفي الأسبوعين اللذين أقام محمد بمكة عفى على كل آثار الوثنية فيها. ولم ينتقل إلى الإسلام من مناصب البيت الحرام إلا سدانة الكعبة، أقرها النبي في عثمان بن طلحة وأبنائه من بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها لا يأخذها منهم إلا ظالم، وسقاية الحاج من زمزم جعلها لعمه العباس.
وكذلك آمنت أم القرى ورفعت منار التوحيد ولواءه وأضاءت العالم خلال الأجيال والقرون بنوره الوضاء.
الفصل الخامس والعشرون
حنين والطائف
(تألب هوازن وثقيف بإمرة مالك بن عوف - تحصينهم بمضيق وادي حنين - خروج المسلمين إلى حنين تعجبهم كثرتهم - دخول المسلمين من مضيق الوادي في عماية الصبح - ضرب هوازن وثقيف إياهم من المرتفعات وارتدادهم منهزمين - ثبات محمد إلى الموت - صياح العباس بالمسلمين كي يعودوا - عودهم إلى رسول الله ومقاتلتهم وانتصارهم - الفيء - المسير إلى الطائف - حصارها وعدم إمكان اقتحامها - تحريق نخيلها - استرحامها النبي - رجوعه عن الحصار - إسلام هوازن - حديث الشيماء - العودة إلى الجعرانة وقسمة الفيء - العمرة - العودة إلى المدينة) ***
أقام المسلمون بمكة بعد فتحهم إياها فرحين بنصر الله إياهم، مغتبطين أن لم يسفك في هذا النصر العظيم إلا الدم القليل، مسارعين إلى البيت الحرام كلما أذن بلال بالصلاة، متدافعين حول رسول الله حيث أقام وحيث ذهب. يغشى المهاجرون منهم دورهم ويتصلون بأهليهم الذين هدى الله بعد الفتح، ونفوسهم جميعا مطمئنة إلى أن الأمر قد استقر للإسلام، وأن الجانب الأكبر من الجهاد قد كلل بالفوز والظفر . وإنهم لكذلك بعد خمسة عشر يوما من مقامهم بأم القرى إذ ترامت إليهم أنباء أيقظت استنامتهم للغبطة! تلك أن هوازن كانت تقيم على مقربة من مكة إلى جنوبها الشرقي في جبال هناك، فلما علمت بما تم للمسلمين من فتح مكة ومن تحطيم أصنامها. خشيت أن تدور عليها الدائرة وأن يقتحم المسلمون عليها منازلها، ففكرت فيما تصنع لاتقاء هذه الكارثة الوشيكة الوقوع ولصد محمد والكف من غلواء المسلمين الذين يعملون للقضاء على استقلال قبائل شبه الجزيرة وعلى ضمها كلها في وحدة يظلها الإسلام، لذلك جمع مالك بن عوف النصري هوازن وثقيفا، كما اجتمعت نصر وجشم ولم يتخلف عن الاجتماع من هوازن إلا كعب وكلاب.
وكان في جشم دريد بن الصمة. وكان يومئذ شيخا كبيرا لا نفع منه في الحرب، ولكنما كان الانتفاع برأيه بعد الذي عركه على السنين في وقائعها. اجتمعت هذه القبائل كلها ومعها أموالها ونساؤها وأبناؤها، وتم جمعها حين نزلت سهل أوطاس. فلما سمع دريد رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاء، سأل مالك بن عوف: لم ساق مع المحاربين أموالهم ونساءهم وصغارهم؟ فلما أجابه مالك بأنه إنما أراد أن يشجع بها المحاربين، قال دريد: وهل يرد المنهزم شيء؟! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. واختلف هو ومالك. وتبع الناس مالكا، وكان شابا في الثلاثين من عمره، قوي الإرادة ماضي العزيمة، وتابعهم دريد ما يرد لهم، على رغم سابقته في الحرب، رأيا.
وأمر مالك الناس أن ينحازوا إلى قمم حنين وعند مضيق الوادي؛ فإذا نزل المسلمون واديه فليشدوا عليهم شدة رجل واحد تضعضع صفوفهم، فيختلط حابلهم بنابلهم ويضرب بعضهم بعضا، وتدور عليهم الهزيمة، ويزول أثر انتصارهم حين فتحوا مكة، ويبقى لقبائل حنين في بلاد العرب جميعا فخار النصر على هذه القوة التي تريد أن تظل بسلطانها بلاد العرب جميعا. وامتثلت القبائل أمر مالك وتحصنت بمضيق الوادي.
أما المسلمون فبادروا بعد أسبوعين من مقامهم بمكة وعلى رأسهم محمد في عدة وعديد لم يكن لهم من قبل بها عهد قط. ساروا في اثني عشر ألفا من المقاتلين، منهم عشرة آلاف هم الذين غزوا مكة وفتحوها، وألفان ممن أسلم من قريش، وبينهم أبو سفيان بن حرب، وكلهم تلمع دروعهم، وفي مقدمتهم الفرسان والإبل تحمل الميرة والذخيرة. سار المسلمون في هذا الجيش الذي لم تعرف بلاد العرب من قبل مثاله، يتقدم كل قبيلة علمها وتمتلئ النفوس كلها إعجابا بهذه الكثرة، وبأن لا غالب اليوم لها؛ حتى لقد تحدث بعضهم بذلك إلى بعض وجعلوا يقولون: لن نغلب اليوم لكثرتنا. وبلغوا حنينا والمساء يقبل، فنزلوا على أبواب واديها وأقاموا بها حتى بكرة الفجر. هنالك تحرك الجيش، وركب محمد بغلته البيضاء في مؤخرته، على حين سار خالد بن الوليد على رأس بني سليم في المقدمة، وانحدروا من مضيق حنين في واد من أودية تهامة.
وإنهم لكذلك منحطون إلى الوادي إذ شدت عليهم القبائل بإمرة مالك بن عوف شدة رجل واحد وأصلوهم وابلا من النبال وهم جميعا ما يزالون في عماية الفجر. إذ ذاك اختلط أمر المسلمين واضطرب، وعادوا منهزمين قد أخذ الخوف والفزع منهم كل مأخذ، حتى أطلق بعضهم ساقيه للريح، وحتى قال أبو سفيان بن حرب وعلى شفته ابتسامة المغتبط لفشل أولئك الذين انتصروا بالأمس على قريش: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قد قتل في غزوة أحد. وقال كلدة بن حنبل: ألا بطل السحر اليوم! فرد عليه أخوه صفوان: اسكت فض الله فاك! فوالله لأن يربني
1
رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن. تقع هذه الأحاديث والجيش يختلط حابله بنابله والنبي في المؤخرة تمر عليه القبائل واحدة بعد الأخرى مهزومة لا تلوي على شيء.
ماذا تراه يصنع؟ أفتضيع تضحيات عشرين سنة في هذه اللحظة من عماية الصبح؟ أفتنحى عنه ربه وتخلى عنه نصر الله إياه؟! كلا! كلا! لن يكون هذا! دون هذا تبيد أمم وتفنى أقوام! ودون هذا الموت يدخل محمد في غماره لعل في الموت لدين الله نصرا. وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وثبت محمد مكانه، وأحاط به جماعة من المهاجرين والأنصار ومعه أهل بيته، وجعل ينادي في الناس إذ يمرون به منهزمين: أين أيها الناس؟! أين؟! لكن الناس كانوا فيما هم فيه من هول الفزع لا يسمعون إلى شيء ولا يدور بتصورهم إلا هوازن وثقيف منحدرتين من معتصمهما بالقمم تطاردانهم حتى تأتيا عليهم. ولم يخطئ تصورهم؛ فقد انحدرت هوازن من مكانها يتقدمها رجل على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، وهو كلما أدرك المسلمين طعن برمحه، وهوازن وثقيف وأنصارهما منحدرون من ورائه يطعنون، وثارت بمحمد حميته، فأراد أن يندفع ببغلته البيضاء في صدر هذا السيل الدافق من رجال العدو، وليكن بعد ذلك أمر الله. لكن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أمسك بخطام بغلته وحال دون تقدمها.
وكان العباس بن عبد المطلب رجلا جسيما جهوري الصوت قويه، فنادى بما أسمع الناس جميعا من كل فج: يا معشر الأنصار الذين آووا ونصروا! يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة! إن محمدا حي فهلموا! وكرر العباس النداء حتى تجاوبت في كل جنبات الوادي أصداؤه. وهنا كانت المعجزة: سمع أصحاب العقبة اسم العقبة فذكروا محمدا وذكروا عهودهم وشرفهم. وسمع المهاجرون اسم محمد فذكروا تضحياتهم وذكروا شرفهم. وسمع هؤلاء وأولئك بسكينة محمد وثباته في نفر قليل من المهاجرين والأنصار، كثباته يوم أحد، في وجه هذا العدو الزاحف، صورت لهم نفوسهم ما قد ينشأ عن خذلانهم إياه من تغلب المشركين على دين الله. وكان نداء العباس أثناء ذلك ما يزال يدوي في آذانهم وتهتز لأصدائه أوتار قلوبهم. هنالك تصايحوا من كل صوب: لبيك لبيك! وارتدوا إلى المعركة مستبسلين.
وبدأ الطمأنينة تعاود محمدا حين رآهم يعودون؛ فقد انحدرت هوازن من مكامنها وأصبحت وجها لوجه مع المسلمين في الوادي. وقد أضاء النهار وطغى النور على عماية الفجر. واجتمع حول رسول الله بضع مئات استقبلوا القبائل وصبروا لهم، وقد أخذ يزداد عددهم وتشتد بعودتهم عزائم من خارت من قبل عزائمهم، وجعل الأنصار يتصايحون: يا للأنصار! ثم تنادوا: يا للخزرج! ومحمد ينظر إلى تناحر القوم؛ حتى إذا رأى الصدام اشتد ورأى رجاله تسمو نفوسهم ويطيحون بخصومهم، نادى: الآن حمي الوطيس، إن الله لا يخلف رسوله وعده. ثم طلب إلى العباس فناوله حفنة من الحصى ألقى بها في وجوه العدو قائلا: شاهت الوجوه. واندفع المسلمون إلى المعركة مستهينين بالموت في سبيل الله، مؤمنين بأن النصر لا محالة آت، وأن من استشهد منهم فله من النصر أكبر من نصيب من بقي. وكان البلاء شديدا؛ حتى إن هوازن وثقيفا ومن معهم ما لبثوا، حين رأوا كل مقاومة غير مجدية وأنهم معرضون للفناء عن آخرهم، إن فروا منهزمين لا يلوون على شيء، تاركين وراءهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم غنيمة للمسلمين الذين أحصوها يومئذ اثنين وعشرين ألفا من الإبل وأربعين ألفا من الشاء وأربعة آلاف أوقية من الفضة. أما الأسرى وعددهم ستة آلاف فقد نقلوا محروسين إلى وادي الجعرانة حيث أووا إلى أن يعود المسلمون من مطاردة عدوهم ومن حصار ثقيف بالطائف.
وتابع المسلمون مطاردتهم لعدوهم. وزادهم إغراء بهذه المطاردة أن أعلن الرسول أن من قتل مشركا فله سلبه. وأدرك ابن الدغنة جملا عليه شجار
2
ظن به امرأة طمع في سلبها، فأناخ الجمل فإذا شيخ كبير لا يعرفه الفتى هو دريد بن الصمة. وسأل ربيعة: ما يريد به؟ قال: أقتلك وأهوى عليه بسيفه فلم يغن شيئا. قال دريد: «بئس ما سلحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل ثم اضرب به، وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أضرب به الرجال. ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب والله يوم قد منعت فيه نساءك.» ولما رجع ربيعة إلى أمه وأخبرها خبره قالت له: «حرق الله يدك، فإنما قال ذلك ليذكرنا نعمه عليك. فوالله لقد أعتق لك ثلاث أمهات في غداة: أنا وأمي وأم أبيك » وتبع المسلمون هوازن حتى بلغوا أوطاسا، وهناك أوقعوا بهم وهزموهم شر هزيمة، وسبوا من احتملوا من النساء والأموال وعادوا بهم إلى محمد. أما مالك بن عوف النصري فقد ثبت هنيهة ثم فر وقومه مع هوازن حتى افترق عنهم عند نخلة، ثم ولى وجهه نحو الطائف فاحتمى بها.
وكذلك كان نصر المؤمنين مؤزرا، وكانت هزيمة المشركين تامة بعد ذلك الفزع الذي أصاب المسلمين في عماية الصبح، وحين شد المشركون عليهم شدة رجل واحد ضعضعت صفوفهم وخلطت حابلهم بنابلهم، كان نصر المسلمين مؤزرا بفضل ثبات محمد والفئة القليلة التي أحاطت به. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم * يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم .
3
على أن المسلمين لم يحرزوا هذا النصر المؤزر رخيصا، بل دفعوا ثمنا غاليا لعلهم لم يكونوا يدفعونه لولا تخاذلهم الأول وتدافعهم مهزومين، ليقول فيهم أبو سفيان: إنهم لا يردهم إلا البحر. دفعوا الثمن غاليا من مهج الرجال وأرواح الأبطال الذين استشهدوا في الموقعة. ولئن لم تحص كتب السيرة كل القتلى، لقد ذكرت أن قبيلتين من المسلمين فنيتا أو كادتا، وأن النبي صلى على أرواحهم رجاء أن يدخلهم الله الجنة. لكنه كان النصر على كل حال: النصر التام تغلب فيه المسلمون على خصومهم وغنموا منهم وأسروا ما لم يغنموا ولم يأسروا من قبل. والنصر هو كل شيء في النضال أيا كان الثمن الذي يدفع فيه ما دام نصرا شريفا. لذلك اغتبط المسلمون بما جزاهم الله، وظلوا يرتقبون قسمة الفيء والعود بالغنيمة.
لكن محمدا كان يريده نصرا أكثر روعة وأعظم جلالا. وإذا كان مالك بن عوف هو الذي قاد هذه الجموع، ثم احتمى بعد هزيمتها مع ثقيف بالطائف، فليحاصر المسلمون الطائف وليضيقوا عليها الحصار. وتلك كانت خطة محمد في خيبر بعد أحد، وفي قريظة بعد الخندق. ولعله ادكر في موقفه هذا يوم ذهب إلى الطائف لسنوات قبل الهجرة يدعو أهلها إلى الإسلام، فسخروا منه وقذفه صبيانهم بالأحجار، حتى اضطر إلى الاحتماء من أذاهم بحائط
4
فيه كرم. ولعله ادكر كيف ذهب يومئذ منفردا ضعيفا، لا حول له ولا قوة إلا حول الله وقوته، وإلا هذا الإيمان العظيم الذي ملأ صدره والذي يدك الجبال. وها هو ذا الآن يذهب إلى الطائف في جمع من المسلمين لم تشهد جزيرة العرب في ماضي تاريخها جمعا مثله.
أمر محمد أصحابه إذن أن يسيروا إلى الطائف ليحاصروا بها ثقيفا وعلى رأسها مالك بن عوف. وكانت الطائف مدينة محصنة لها أبواب تغلق عليها كأكثر مدن العرب في ذلك العصر. وكان أهلها ذوي دراة بحرب الحصار، وذوي ثروة طائلة جعلت حصونهم من أمنع الحصون. وقد سار المسلمون إليها فمروا في مسيرتهم بلية حيث يقوم حصن خاص لمالك بن عوف فهدموه، كما خربوا أثناء مسيرتهم كذلك حائطا لرجل من ثقيف. وبلغ المسلمون الطائف، فأمر النبي عسكره فنزل على مقربة منها، وجمع أصحابه ليفكروا فيما يصنعون. لكن ثقيفا ما لبثت حين رأتهم من أعلى حصونها أن نالتهم بالنبل وقتلت جماعة منهم. ولم يكن من اليسير أن يقتحم المسلمون هذه الحصون المنيعة إلا أن يلجئوا إلى وسائل غير التي ألفوا حتى اليوم حين حاصروا قريظة وخيبر. أتراهم إن هم اكتفوا بالحصار يصلوا إلى تجويع ثقيف تجويعا يحملها على التسليم؟ وإذا هم أرادوا مهاجمتها فما عسى أن تكون هذه الوسائل الجديدة التي يهاجمونها بها؟ هذه أمور تحتاج إلى التفكير وإلى الوقت. فلينسحب العسكر إذن بعيدا عن مرمى النبل لكي لا يصيبه فيقتل رجال من المسلمين، ثم ليفكر محمد فيما عسى أن يصنع.
وأمر عليه السلام فنقل العسكر بعيدا عن مرمى النبل في مكان أقيم به مسجد الطائف بعد أن سلمت الطائف وأسلمت. ولم يكن من ذلك بد وقد قتلت نبال ثقيف ثمانية عشر من المسلمين، وجرح كثيرون، بينهم أحد أبناء أبي بكر. وفي جانب من هذا المكان البعيد عن مرمى النبال ضربت خيمتان من جلد أحمر لزوجتي النبي أم سلمة وزينب، وكانتا تسيران معه في كل هذه الوقائع منذ ترك المدينة. وبين هاتين الخيمتين كان محمد يقيم الصلاة. ولعل مسجد الطائف إنما أقيم في هذا المكان.
وأقام المسلمون ينتظرون ما الله صانع بهم وبعدوهم. قال أحد الأعراب للنبي: إنما ثقيف في حصنها كالثعلب في جحره، لا سبيل إلى إخراجه منه إلا بطول المكث، فإن تركته لم يلحقك منه ضر. لكنما شق على محمد أن يعود أدراجه دون أن يصيب من ثقيف شيئا. وكان لبني دوس (إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكة) علم بالرماية بالمنجنيق وبمهاجمة الحصون في حماية الدبابات. وكان أحد رؤسائها الطفيل قد صحب محمدا منذ غزا خيبر؛ وكان معه عند حصار الطائف؛ فأوفده النبي إلى قومه يستنصرهم؛ فجاء بطائفة منهم ومعهم أدواتهم فبلغوا الطائف بعد أربعة أيام من حصار المسلمين إياها، ورمى المسلمون الطائف بالمنجنيق، وبعثوا إليها بالدبابات دخل تحتها نفر منهم، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه. لكن رجال الطائف كانوا من المهارة بحيث أكرهوا هؤلاء على أن يلوذوا بالفرار. فقد أحموا قطعا من الحديد بالنار. حتى إذا انصهرت ألقوها على الدبابات فحرقتها، ففر جنود المسلمين من تحتها خيفة أن يحترقوا؛ فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت جماعة منهم. لم يفلح هذا المجهود إذن أيضا، ولم يستطع المسلمون التغلب على مناعة هذه الحصون.
ماذا عساهم بعد ذلك يصنعون؟ فكر محمد في هذا وفكر طويلا. ولكن ألم ينتصر على بني النضير ويجلها عن ديارها بإحراق نخيلها؟! وكروم الطائف أكبر قيمة من نخيل بني النضير، فهي كروم لها من ذيوع الاسم في بلاد العرب جمعاء ما تباهي به الطائف أخص بلاد العرب، وما جعل الطائف واحة كأنها الجنة وسط هذه الصحاري. وأمر محمد فبدأ المسلمون ينفذون، يقطعون ويحرقون الكروم التي ما يزال لها حتى اليوم مثل ما كان لها من شهرة وذيوع صوت. ورأى الثقفيون هذا وأيقنوا أن محمدا جاد فيه، فبعثوا إليه أن يأخذه لنفسه إن شاء وأن يدعه لله وللرحم لما بينه وبينهم من قرابة. استمهل محمد رجاله. ثم نادى في ثقيف إنه معتق من جاء إليه من الطائف. ففر إليه قرابة عشرين من أهلها. عرف منهم أن بالحصون من الذخيرة ما يكفي أمدا طويلا. هنالك رأى أن الحصار سيطول أمده، وأن جيوشه تود الرجوع لاقتسام الفيء الذي كسبوا، وأنه إن أصر على البقاء فقد ينفد صبرهم. هذا وكانت الأشهر الحرم قد آذنت ولا يجوز فيها قتال. لذلك آثر أن يرفع الحصار بعد شهر من وقوعه. وكان ذو القعدة قد هل فرجع بجيشه معتمرا، وذكر أنه متجهز إلى الطائف إذا انتهت الأشهر الحرم.
وانصرف محمد والمسلمون معه عن الطائف قافلين إلى مكة حتى نزلوا الجعرانة حيث تركوا غنائمهم وأسراهم. وهنالك نزلوا يقتسمون. وفصل الرسول الخمس لنفسه ووزع ما بقي على أصحابه. وإنهم بالجعرانة إذ جاء وفد من هوازن قد أسلموا وهم يرتجون أن يرد عليهم أموالهم ونساءهم وأبناءهم، بعد أن طال عنهم غيابهم، وبعد أن ذاقوا مرارة ما حل بهم. ولقي الوفد محمدا، وخاطبه أحدهم قائلا: يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللواتي كن يكفلنك. ولو أنا ملحنا
5
للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته علينا؛ وأنت خير المكفولين. ولم يخطئ هؤلاء في تذكير محمد بصلته بهم وقرابته منهم؛ فقد كانت بين السبايا امرأة تخطت الكهولة عنف عليها الجند المسلمون؛ فقالت لهم: تعلموا والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة. فلم يصدقوها وجاءوا بها محمدا، فعرفها فإذا هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى. وأدناها منه وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، وخيرها إن أحبت أبقاها وإن أحبت متعها ورجعها إلى قومها؛ فاختارت الرجوع إلى قومها .
طبيعي وتلك صلة محمد بهؤلاء الرجال الذين أقبلوا عليه من هوازن مسلمين، أن يعطف عليهم وأن يجيبهم إلى مطلبهم؛ فقد كان ذلك دائما شأنه مع كل من أسدى إليه يوما من الدهر يدا. كان عرفان الجميل بعض شأنه، والبر بكليم القلب في جبلته. فلما سمع مقالتهم سألهم: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا! بل ترد علينا نساءنا وأبناءنا فهم أحب إلينا. فقال عليه السلام: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم. ونفذت هوازن قول النبي، فأجابهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. قال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله، وكذلك قال الأنصار. أما الأقرع بن حابس عن تميم وعيينة بن حصن فرفضا، ورفض العباس بن مرداس عن بني سليم؛ لكن بني سليم لم يقروا العباس على رفضه. هنالك قال النبي: أما من تمسك منك بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه، وكذلك ردت نساء هوازن وأبناؤها إليها بعد أن أعلنت إسلامها.
وسأل محمد وفد هوازن عن مالك بن عوف النصري. فلما علم أنه ما يزال بالطائف مع ثقيف، طلب إليهم أن يبلغوه: أنه إن أتاه مسلما رد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل. ولم يبطئ مالك حين علم بوعد الرسول أن أسرج فرسه في سر من ثقيف، وأن نجا بها حتى لحق بالرسول، فأعلن إسلامه فأخذ أهله وماله ومائة من الإبل. وأوجس الناس خيفة إن أفشى محمد هذه الأعطيات لمن يفدون عليه أن تنقص من قسمتهم من الفيء، فألحوا في أن يأخذ كل فيأه وتهامسوا بذلك. فلما بلغ الهمس النبي وقف إلى جانب بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها وقال: «أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم.» وطلب إلى كل أن يرد ما غنم حتى تكون القسمة العدل، «فمن أخذ شيئا في غير عدل ولو كان إبرة كان على أهله عارا ونارا وشنارا إلى يوم القيامة.»
قال محمد هذه العبارة مغضبا بعد أن ردوا إليه رداءه الذي أخذوا، وبعد أن صاح بهم: ردوا إلي ردائي أيها الناس. فوالله لو أن لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا. ثم إنه خمس الغنيمة وأعطى من خمسه الذين كانوا إلى أيام أشد الناس عداوة له نصيبا على نصيبهم، فأعطى مائة من الإبل كلا من أبي سفيان وابنه معاوية والحارث بن الحارث بن كلدة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى والأشراف ورؤساء العشائر ممن تألف بعد فتح مكة؛ وأعطى خمسين من الإبل من كانوا دون هؤلاء شأنا ومكانة. وقد بلغ عدد الذين أعطاهم عشرات. وبدا محمد يومئذ غاية من السماحة والكرم مما جعل أعداء الأمس تنطلق ألسنتهم بجميل الثناء عليه. ولم يدع لأحد من هؤلاء المؤلفة قلوبهم حاجة إلا قضاها. أعطى عباس بن مرداس عددا من الإبل لم يرضه وعاتبه على أن فضل عليه عيينة والأقرع وغيرهما. فقال النبي: اذهبوا به فاقطعوا عني لسانه. فأعطوه حتى رضي، وكان ذلك قطع لسانه.
على أن هذا الذي تألف به النبي قلوب من كانوا إلى أمس أعداءه، قد جعل الأنصار يتحدث بعضهم إلى بعض فيما صنع الرسول ويقول بعضهم لبعض: «لقي والله رسول الله قومه.» ورأى سعد بن عبادة أن يبلغ النبي مقالة الأنصار ويؤيدهم فيها؛ فقال له النبي: «اجمع لي قومك في هذه الحظيرة.» فجمعهم سعد وأتاهم النبي فدار الحوار الآتي:
محمد :
يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟! ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟
الأنصار :
بلى! الله ورسوله أمن وأفضل.
محمد :
ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟!
الأنصار :
بماذا نجيبك يا رسول الله ولرسوله المن والفضل.
محمد :
أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة
6
من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
قال النبي هذه العبارات وكله تأثر، وكله فيض من الحب لهؤلاء الذين بايعوه ونصروه واعتزوا به وأعزوه، حتى بلغ من تأثره أن بكى الأنصار وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا.
وكذلك أظهر النبي رغبة عن هذا المال الذي غنم في حنين والذي بلغ ما لم يبلغه فيء من قبل. أظهر رغبته عنه، وجعله وسيلة تتألف بها قلوب الذين كانوا، إلى أسابيع قليلة، مشركين ليروا في الدين الجديد سعادة الدنيا والآخرة. وإذا كان محمد قد عناه أمر هذا المال في قسمته حتى لقد كاد المسلمون يتهمونه، وإذا هو كان قد أغضب الأنصار بما أعطى المؤلفة قلوبهم، فإنه قد أظهر من العدل ومن بعد النظر ومن حسن السياسة ما مكنه من أن يعود بهذه الألوف من العرب وكلهم راضية نفسه، مطمئن قلبه، مستعد لأن يهب حياته في سبيل الله.
وخرج الرسول من الجعرانة معتمرا إلى مكة. فلما قضى عمرته استخلف عتاب بن أسيد على أم القرى، وخلف معه معاذ بن جبل ليفقه الناس في دينهم ويعلمهم القرآن، وعاد هو والأنصار والمهاجرون قافلين إلى المدينة ليقيم النبي بها ريثما يرزقه الله ابنه إبراهيم، وليطمئن إلى شيء من سكينة الحياة زمنا ثم يتجهز إلى غزوة تبوك بالشام.
الفصل السادس والعشرون
إبراهيم ونساء النبي
(العودة إلى المدينة - بانت سعاد - وفاة زينب - مولد إبراهيم - غيرة نساء النبي من مارية - مظاهرة حفصة وعائشة - حديث المغافير - مارية في دار حفصة - هجرة النبي نساءه شهرا - حديث عمر مع النبي - سورة التحريم) ***
عاد محمد إلى المدينة بعد فتح مكة وبعد انتصاره في حنين وحصاره الطائف، وقد ثبت في نفوس العرب جميعا أن لم يبق لأحد قبل به في شبه الجزيرة كلها، وأن لم يبق للسان أن ينطق بإيذائه أو الطعن عليه. وعاد الأنصار والمهاجرون معه وكلهم مغتبط بفتح الله على نبيه بلد المسجد الحرام، وبما هدى أهل مكة إليه من الإسلام، وبما دان له العرب على اختلاف قبائلهم من الطاعة والإذعان. عادوا جميعا إلى المدينة ليطمئنوا إلى سكينة الحياة، بعد أن ترك محمد وراءه عتاب بن أسيد على أم القرى ومعاذ بن جبل ليفقه الناس دينهم وليعلمهم القرآن.
وقد ترك هذا النصر، الذي لم يعرف له في تاريخ العرب وفي رواياتهم نظير، أثرا بالغا في نفوس العرب جميعا: ترك أثرا في نفوس العظماء والسادة الذين كانوا لا يتوهمون مجيء يوم يدينون فيه لمحمد بطاعة، أو يرتضون دينه لأنفسهم دينا؛ وفي نفوس الشعراء الذين ينطقون بلسان هؤلاء السادة مقابل ما يلقون من عطفهم وتأييدهم، أو مقابل ما يلقون من تأييد القبائل ومؤازرتها؛ وفي نفس تلك القبائل البادية التي لم تكن تعدل بحريتها شيئا، ولا كان يدور بخاطرها أن تنضم تحت لواء غير لوائها الخاص أو تموت دون ذلك في حرب وطعان تفنى خلالها فناء تاما، وماذا يجدي على الشعراء شعرهم، وعلى السادة سيادتهم، وعلى القبائل احتفاظها بذاتيتها، أمام هذه القوة الخارقة للطبيعة، لا تقف قوة أمامها ولا يجرؤ سلطان على اعتراضها؟!
وقد بلغ الأثر في نفوس العرب أن كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب بعد منصرف النبي على الطائف يخبره أن محمدا قتل رجالا بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، وأن من بقي من هؤلاء الشعراء قد هربوا في كل وجه، وينصح إليه أن يطير إلى النبي بالمدينة؛ فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، أو ينجو بنفسه إلى حيث شاء من أغوار الأرض. وإنما قص بجير حقا؛ فلم يقتل بمكة أحد بأمر محمد خلا أربعة، منهم شاعر آذى النبي هجاؤه، ومنهم اثنان آذوا زينب ابنته حين أرادت بإذن زوجها أن تهاجر من مكة لتلحق أباها. وأيقن كعب صدق أخيه، وإنه إن لم يأت محمدا ظل حياته طريدا مشردا؛ لذلك أسرع إلى المدينة ونزل عند صديق له قديم. فلما أصبح غدا إلى المسجد واستأمن النبي وأنشده قصيدة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
فعفا النبي عنه وحسن من بعد ذلك إسلامه.
قبة المسجد النبوي مع الرواقات القديمة.
جانب من داخل أحد الرواقات الحديثة بالمسجد النبوي.
إحدى المنارات الحديثة بالمسجد النبوي.
وكان من هذا الأثر كذلك أن بدأت القبائل تقبل على النبي تقدم الطاعة بين يديه: قدم وفد من طيئ وعلى رأسهم سيدهم زيد الخيل، فلما انتهوا إليه أحسن استقبالهم، وتحدث إليه زيد؛ فقال النبي له: ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل فإنه ليبلغ كل ما فيه. ودعاه «زيد الخير» بديلا من «زيد الخيل.» وأسلمت طيئ وزيد على رأسها.
وكان عدي بن حاتم الطائي نصرانيا، وكان من أشد العرب كراهية لمحمد. فلما رأى أمره وأمر المسلمين في شبه الجزيرة، تحمل في إبله بأهله وولده ولحق بأهل دينه من النصارى بالشام، وإنما فر عدي حين أوفد النبي علي بن أبي طالب ليهدم صنم طيئ، وهدم علي الصنم واحتمل الغنائم والأسرى ومن بينهم ابنة حاتم أخت عدي التي حبست في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس فيها. ومر بها النبي فقامت إليه وقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الرافد، فامنن علي من الله عليك. وأعرض عنها النبي حين علم أن رافدها عدي بن حاتم الفار من الله ورسوله. لكنها راجعته، وذكر هو ما كان لأبيها في الجاهلية من كرم أعلى به ذكر العرب، فأمر بتسريحها وكساها كسوة حسنة وأعطاها نفقتها وحملها مع أول ركب قاصد إلى الشام. فلما لقيت أخاها وذكرت له ما أكرمها به محمد عاد إليه فألقى بنفسه إلى صفوف المسلمين.
وكذلك جعل السادة وجعلت القبائل تفد إلى محمد ، بعد فتح مكة وبعد انتصار حنين وحصار الطائف، تدين له بالرسالة وبالإسلام، وهو في مقامه ذاك بالمدينة مطمئن إلى نصر الله وإلى شيء من سكينة الحياة.
لكن سكينة حياته لم تكن يومئذ صفوا؛ فقد كانت زينب ابنته إذ ذاك مريضة مرضا خشي منه عليها. وهي منذ آذاها الحويرث وهبار حين خروجها من مكة أذى أفزعها فأجهضها، قد ظلت مهدمة العافية، وانتهى المرض بوفاتها. وبموتها لم يبق لمحمد من عقبه إلا فاطمة، بعد أن ماتت أم كلثوم كما ماتت رقية قبل زينب، وحزن محمد لفقدها وذكر لها رقة شمائلها وجميل وفائها لزوجها أبي العاص بن الربيع حين بعثت تفتديه من أبيها وقد أسره ببدر، وتفتديه مع ما كان من إسلامها وشركه، ومع ما كان من محاربته أباها حربا لو انتصرت قريش فيها لما أبقت لمحمد على حياة. ذكر محمد رقة شمائلها وجميل وفائها، وذكر ما لاقت من ألم المرض طوال أيامها منذ عادت من مكة إلى حين وفاتها. وكان محمد يشارك كل ذي ألم في ألمه، وكل ذي مصاب في مصابه، وكان يذهب إلى أطراف المدينة وإلى ضواحيها يعود المريض، ويواسي البائس، ويأسو جراح الكليم. فإذا أصابه المقدار في ابنته بعد ما أصابه من قبل في أختيها وكما أصابه قبل رسالته في أخويها، فلا جرم أن يحزن ويشتد به جوى الحزن، وإن وجد من بر الله ورفقه به ما يعزيه كيما يسلو.
ولم يطل انتظار التأساء؛ فقد رزقه الله من مارية القبطية غلاما دعاه إبراهيم تيمنا باسم إبراهيم جد النبي الحنيف المسلم. وكانت مارية إلى يومئذ ومنذ أهداها المقوقس إلى النبي في مرتبة السراري، فلم يكن لها من أجل ذلك منزل بجوار المسجد كما كان لأزواج النبي أمهات المؤمنين؛ بل أنزلها محمد بالعالية من ضواحي المدينة، في المحل الذي يقال له الآن مشربة أم إبراهيم، بمنزل تحيط به كروم؛ وكان يختلف إليها فيه كما يزور الرجل ملك يمينه. وكان قد اختارها حين أهداها المقوقس إليه مع أختها سيرين، وجعل سيرين لحسان بن ثابت. ولم يكن محمد يرجو أن يعقب بعد أن ظلت أزواجه جميعا من بعد وفاة خديجة ومنهن الفتاة الفتية، ومنهن النصف التي أعقبت من قبل لم تبشر إحداهن بخصب عشرة أعوام متتابعة. فلما حملت مارية ثم ولدت إبراهيم، وقد تخطى هو إلى الستين، فاضت بالمسرة نفسه، وامتلأ هذا القلب الإنساني الكبير أنسا وغبطة، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينه إلى مكانة سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه، وزادتها إلى ذلك عنده حظوة ومنه قربا.
كان طبيعيا أن يدس ذلك في نفوس سائر أزواجه غيرة تزايدت أضعافا بأنها أم إبراهيم وبأنهن جميعا لا ولد لهن. ولم تكن نظرة النبي إلى هذا الطفل إلا تزيد هذه الغيرة كل يوم في نفوسهن اشتعالا. فهو قد أكرم سلمى زوج أبي رافع قابلة مارية أيما إكرام. وهو قد تصدق يوم ولد بوزن شعره ورقا على كل واحد من المساكين. وهو قد دفعه لترضعه أم سيف وجعل في حيازتها سبعا من الماعز ترضعه لبنها. وهو كان يمر كل يوم بدار مارية ليراه وليزداد أنسا بابتسامة الطفل البريئة الطاهرة، ومسرة بنموه وجماله. أي شيء أشد من هذا كله إثارة للغيرة في نفوس أزواج لم يلدن؟! وإلى أي حد تدفع الغيرة أولئك الأزواج؟
حمل النبي إبراهيم يوما بين ذراعيه إلى عائشة وهو فياض بالبشر، ودعاها لترى ما بين إبراهيم وبينه من عظيم الشبه. فنظرت عائشة إلى الطفل وقالت إنها لا ترى بينهما شبها. ولما رأت النبي فرحا بنمو الطفل لاحظت في غضب أن كل طفل ينال من اللبن ما يناله إبراهيم يكون مثله أو خيرا منه نموا. وكذلك كان مولد إبراهيم سببا أثار في زوجات النبي امتعاضا لم يقف أثره عند هذه الإجابات الجافية بل تعداها إلى أكثر منها. وترك في تاريخ محمد وفي تاريخ الإسلام من الأثر ما نزل به الوحي وقدسه كتاب الله الكريم.
وكان طبيعيا أن يحدث هذا الأثر؛ فقد جعل محمد لنسائه من المكانة ما لم يكن معروفا قط عند العرب . قال عمر بن الخطاب في حديث له: «والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم. فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا، وما تكلفك في أمر أريده؟! فقالت لي: عجبا لك يا بن الخطاب! ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يظل يومه غضبان؟ قال عمر: فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة فقلت لها: يا بنية، إنك لتراجعين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه. فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. يا بنية لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إياها. ثم خرجت حتى أدخل على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها؛ فقالت لي أم سلمة: عجبا لك يا بن الخطاب! لقد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأزواجه!» قال عمر: فأخذتني أخذا كسرتني به عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها. وروى مسلم في صحيحه أن أبا بكر استأذن على النبي ودخل بعد أن أذن له، ثم استأذن عمر ودخل بعد الإذن، فوجد النبي جالسا وحوله نساؤه واجما ساكنا. فقال عمر: «لأقولن شيئا أضحك النبي
صلى الله عليه وسلم . ثم قال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة.
1
سألتني النفقة. فقمت إليها فوجأت
2
عنقها. فضحك رسول الله وقال: هن حولي يسألني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما ليس عنده؟! فقلن: والله لا نسأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أبدا شيئا ليس عنده.»
وإنما دخل أبو بكر وعمر على النبي لأنه عليه السلام لم يخرج للصلاة: فتساءل المسلمون بعدها عما منعه. وفي حديث أبي بكر وعمر مع عائشة وحفصة نزل قوله تعالى:
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما .
3
ثم إن نساء النبي كن يأتمرن به. فقد كان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن. فدخل على حفصة في رواية، وعلى زينب بنت جحش في رواية، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فأحدث ذلك الغيرة في نفوس سائر نسائه. وقالت عائشة: «فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها النبي
صلى الله عليه وسلم
فلتقل إني أجد ريح مغافير. أكلت مغافير» (والمغافير شيء حلو له ريح كريهة؛ وكان النبي لا يحب الرائحة الكريهة) فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له. وروت سودة، وكانت تواطأت على مثل ذلك مع عائشة، أن النبي لما دنا منها قالت له: أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة من عسل. قالت: جرست نحله العرفط.
4
ودخل على عائشة فقالت له ما قالت سودة، ثم دخل على صفية فقالت له مثل قولهما، فحرمه على نفسه. فلما فعل قالت سودة: سبحان الله! والله لقد حرمناه. فنظرت إليها عائشة نظرة ذات مغزى وقالت لها: اسكتي.
طبيعي وقد جعل النبي لأزواجه هذه المكانة، بعد أن كن كغيرهن من نساء العرب لا رأي لهن، أن يتغالين في الاستمتاع بحرية لم يكن لمثيلاتهن بها عهد، وأن تبلغ إحداهن من مراجعة النبي أن يظل يومه غضبان. وكم أعرض عنهن وكم هجر بعضهن حتى لا يدفعهن رفقه بهن إلى مزيد من غلوهن؛ وأن تخرج بإحداهن الغيرة إلى غير لائق بالسداد. فلما ولدت مارية إبراهيم خرجت الغيرة بأزواج النبي عما أدبهن به، حتى كان هذا الحديث بينه وبين عائشة إذ تنكر عليه كل شبه بين إبراهيم وبينه، ولتكاد تتهم مارية بما يعرف النبي براءتها منه .
وحدث أن كانت حفصة يوما قد ذهبت إلى أبيها فتحدثت عنده. وجاءت مارية إلى النبي وهو في دار حفصة وأقامت بها زمنا معه. وعادت حفصة فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وهي أشد ما تكون غيرة، وجعلت كلما طال بها الانتظار تزداد الغيرة بها شدة. فلما خرجت مارية ودخلت حفصة على النبي، قالت له: «لقد رأيت من كان عندك. والله لقد سببتني. وما كنت لتصنعها لولا هواني عليك.» وأدرك محمد أن الغيرة قد تدفع حفصة إلى إذاعة ما رأت والتحدث به إلى عائشة أو إلى غيرها من أزواجه، فأراد إرضاءها بأن حلف لها أن مارية عليه حرام إذا هي لم تذكر مما رأت شيئا. ووعدته حفصة أن تفعل. لكن الغيرة أكلت صدرها فلم تطق كتمان ما به، فأسرته إلى عائشة. وأومأت هذه إلى النبي بما رأى منه أن حفصة لم تصن سره. ولعل الأمر لم يقف عند حفصة وعائشة من أزواج النبي. ولعلهن جميعا وقد رأين ما رفع النبي من مكانة مارية قد تابعن عائشة وحفصة حين ظاهرتا على النبي على أثر قصة مارية هذه، وإن تكن لذاتها قصة لا شيء فيها أكثر مما يقع بين رجل وزوجه، أو بين رجل وما ملكت يمينه، مما هو حل له ومما لا موضع فيه لهذه الضجة التي أثارتها ابنتا أبي بكر وعمر محاولتين أن تقتصا لذاتيهما من ميل النبي لمارية. وقد رأينا أن شيئا من الجفوة وقع بين النبي وأزواجه في أوقات مختلفة بسبب النفقة، أو بسبب عسل زينب، أو لغير ذلك من الأسباب التي تدل على أن أزواج النبي كن يجدن عليه أن يكون لعائشة أحب، أو أن يكون لمارية أهوى.
وبلغ من أمرهن أن أوفدن إليه يوما زينب بنت جحش وهو عند عائشة تصارحه بأنه لا يعدل بين نسائه، وأنه لحبه لعائشة يظلمهن. ألم يجعل لكل امرأة يوما وليلة؟! ثم رأت سودة انصراف النبي عنها وعدم بشاشته لها، فوهبت يومها وليلتها لعائشة إرضاء للرسول. ولم تقف زينب من سفارتها عند الكلام في ميل النبي عن العدل بين نسائه؛ بل نالت من عائشة وهي جالسة بما جعل عائشة تتحفز للرد عليها لولا إشارات من النبي كانت تهدئ من حدتها. غير أن زينب اندفعت ولج بها الاندفاع وبالغت في النيل من عائشة، حتى لم يبق للنبي بد من أن يدع لحميرائه أن تدافع عن نفسها. وتكلمت عائشة بما أفحم زينب وسر النبي ودعاه إلى الإعجاب بابنة أبي بكر.
وبلغت منازعات أمهات المؤمنين في بعض الأحايين، بسبب إيثاره بعضهن بالمحبة على بعض، حدا هم النبي معه أن يطلق بعضهن لولا أنهن جعلنه في حل أن يؤثر من يشاء منهن على من يشاء. فلما ولدت مارية إبراهيم لجت بهن الغيرة أعظم لجاج، وكانت بعائشة ألج. ومد لهن في لجاج الغيرة بهن هذا الرفق الذي كان محمد يعاملهن به، وهذه المكانة التي رفعهن إليها. ومحمد ليس خليا فيشغل وقته بهذا اللجاج ويدع نفسه لعبث نسائه، فلا بد من درس فيه حزم وفيه صرامة يرد الأمور بين أزواجه إلى نصابها. ويدع له طمأنينة التفكير فيما فرض الله عليه من الدعوة إلى رسالته. وليكن هذا الدرس هجرهن والتهديد بفراقهن؛ فإن ثبن إلى رشادهن فذاك، وإلا متعهن وسرحهن سراحا جميلا.
وانقطع النبي عن نسائه شهرا كاملا لا يكلم أحدا في شأنهن، ولا يجرؤ أحد أن يفاتحه في حديثهن. وفي خلال هذا الشهر اتجه بتفكيره إلى ما يجب عليه وعلى المسلمين للدعوة إلى الإسلام، ولمد سلطانه إلى ما وراء شبه الجزيرة. على أن أبا بكر وعمر وأصهار النبي جميعا كانوا في قلق أشد القلق على ما قدر مصيرا لأمهات المؤمنين، وما يتعرضن له من غضب رسول الله، وما يجر إليه غضب الرسول من غضب الله وغضب ملائكته، بل لقد قيل: إن النبي طلق حفصة بنت عمر، بعد الذي كان من إفشائها ما وعدت أن تكتمه. وقد سرى الهمس بين المسلمين أن النبي مطلق أزواجه . وأزواجه خلال ذلك مضطربات نادمات، أن دفعتهن الغيرة إلى إيذاء هذا الزوج الرفيق بهن، هو منهن الأخ والأب والابن وكل ما في الحياة وما وراء الحياة. وجعل محمد يقضي أكثر وقته في خزانة له ذات مشربة، يجلس غلامه رباح على أسكفتها
5
ما أقام هو بالخزانة، ويرقى هو إليها على جذع من نخل هو الخشونة كل الخشونة.
وإنه لفي خزانته يوم أوفى الشهر الذي نذر فيه هجر نسائه على التمام، وقد أقام المسلمون بالمسجد مطرقين ينكتون الحصى ويقولون: طلق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نساءه، ويأسون لذلك أسى يبدو على وجوههم واضحا عميقا، إذ قام عمر من بينهم فقصد إلى مقام النبي بخزانته، ونادى غلامه رباحا كي يستأذن له على رسول الله. ونظر إلى رباح يروم الجواب، فإذا رباح لا يقول شيئا علامة أن النبي لم يأذن. فكرر عمر النداء؛ ولم يجب رباح مرة أخرى. فرفع عمر صوته قائلا: «يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فإني أظنه ظن أني جئت من أجل حفصة. والله لئن أمرني بضرب عنقها لأضربن عنقها.» وأذن النبي، فدخل عمر فجلس ثم أجال بصره فيما حوله وبكى. قال محمد: ما يبكيك يا بن الخطاب؟ وكان الذي أبكاه هذا الحصير الذي رأى النبي مضطجعا عليه وقد أثر في جنبه، والخزانة لا شيء فيها إلا قبضة من شعير ومثلها من قرظ وأفيق
6
معلق.
فلما ذكر عمر ما يبكيه علمه محمد من وجوب الإعراض عن الدنيا ما رد إليه طمأنينته، ثم قال عمر: يا رسول الله، ما يشق عليك من أمر النساء؟ إن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. ثم انعكف يحدث النبي حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى ضحك، فلما رأى عمر ذلك منه ذكر له أمر المسلمين بالمسجد وما يذكرون من طلاقه نساءه، فلما ذكر النبي أنه لم يطلقهن استأذنه في أن يفضي بالأمر إلى أولئك المقيمين بالمسجد ينتظرون. ونزل إلى المسجد. فنادى بأعلى صوته: لم يطلق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نساءه. وفي هذه القصة نزلت الآيات الكريمة:
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير * إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا .
7
وبذلك انتهى الحادث، وثاب إلى نساء النبي رشادهن، ورجع هو إليهن تائبات عابدات مؤمنات، وعادت إلى حياته البيتية السكينة التي يحتاج إليها كل إنسان لأداء ما فرض عليه أداؤه.
ما قصصت الآن، عن هجر محمد نساءه وتخييره إياهن ومقدمات هذا الهجر ونتائجه والوقائع التي سبقت وأدت إليه، هو في رأيي الرواية الصحيحة لتاريخ هذا الحادث. وهي رواية يتضافر على تأييدها ما جاء في كتب التفسير وفي كتب الحديث، وما جاء متفرقا عن أخبار محمد ونسائه في كتب السيرة المختلفة. بيد أنه لم تكن واحدة من هذه السير تقص الحوادث أن تضع المقدمات والنتائج بالصورة التي سردناها ههنا. وأكثر السير تمر بهذا الحادث مرا دون أن تقف عنده؛ وكأنما تجده خشن الملمس فتخشى أن تقربه. وبعضها يقف عند رواية خبر العسل والمغافير. ولا يشير بكلمة إلى مسألة حفصة ومارية. فأما المستشرقون فيجعلون مسألة حفصة ومارية وإفضاء حفصة إلى عائشة بما عاهدت النبي أن تكتمه، سبب كل الذي وقع؛ ليحاولوا بذلك أن يضيفوا جديدا لما يلقون في روع قرائهم عن النبي العربي من أنه كان رجلا محبا للنساء حبا معيبا.
وعندي أن المؤرخين المسلمين لا عذر لهم في إغفال هذه الوقائع ولها مغزاها الدقيق الذي سقنا شيئا من أمره، وأن المستشرقين يتخطون الدقة التاريخية متأثرين في ذلك بهواهم المسيحي. فالنقد التاريخ النزيه يأبى كل الإباء على أي إنسان ، بله عظيم كمحمد، أن يجعل من إفضاء حفصة لعائشة بأنها وجدت زوجها في بيتها مع مولاة له هي ملك يمينه، فهي بذلك حل له، سببا لهجر محمد نساءه جميعا شهرا كاملا، وتهديده إياهن جميعا بأن يطلقهن. والنقد التاريخي النزيه يأبى كذلك أن تكون حكاية العسل سبب هذا الهجر والتهديد. فإذا كان الرجل عظيما كمحمد، رقيقا كمحمد، واسع الصدر طويل الأناة متصفا بما لمحمد من سائر الصفات التي يقر له بها مؤرخوه جميعا على سواء، كان اعتبار أي الحادثين لذاته سببا لهذا الهجر والتهديد بالطلاق مما يزور عند النقد التاريخي وينأى عنه بجانبه أشد النأي، وإنما يطمئن هذا النقد ويستقيم منطق التاريخ إذا سيقت الحوادث المساق الذي لا مفر معه من أن تؤدي إلى نتائجها المحتومة، فتصبح بذلك أمورا طبيعية يسيغها العقل ويرضاها العلم. وما فعلنا نحن هو في نظرنا المساق الطبيعي للحوادث، وهو الذي يتفق مع حكمة محمد وعظمته وحزمه وبعد نظره.
ويتحدث بعض المستشرقين عما نزل من الآيات في مستهل سورة التحريم مما نقلنا هنا، ويذكر أن كتب الشرق المقدسة جميعا لم تشر إلى مثل هذا الحادث المنزلي على هذه الصورة. وما أحسبنا في حاجة إلى أن نذكر ما ورد بالكتب المقدسة جميعا، والقرآن من بينها، عن قوم لوط ونقيصتهم، وما كان من مجادلتهم الملكين ضيفي لوط، ولا ما ورد في هذه الكتب عن امرأته وأنها كانت من الغابرين. بل إن التوراة لتقص نبأ ابنتي لوط، إذ سقتا أباهما حتى ثمل ليلتين متتاليتين ليمس كل واحدة منهما ليلة كيما يخصبها فتلد، مخافة فناء آل لوط بعد أن أنزل الله بهم من الجزاء ما أنزل. ذلك بأن الكتب المقدسة جميعا جعلت من قصص الرسل وسيرهم وما صنعوا وما أصابهم عبرة للناس. وقد جاء في القرآن كثير من ذلك، قص الله فيه على رسوله أحسن القصص.
والقرآن لم ينزل لمحمد وحده، وإنما نزل للناس كافة. ومحمد نبي ورسول خلت من قبله الرسل الذين قص القرآن أخبارهم. فإذا قص القرآن من أخبار محمد وتناول من سيرته ليكون للمسلمين مثلا، وليكون للمسلمين فيه أسوة حسنة، وأشار إلى حكمته في تصرفاته فلا شيء من ذلك يخرج عما أوردت سائر الكتب المقدسة وما أورد القرآن من سير الأنبياء. فإذا ذكرت أن هجر محمد نساءه لم يكن لسبب منفرد من الأسباب التي رويت في شأنه، ولم يكن لأن حفصة أفضت إلى عائشة بما فعل محمد مع مارية مما يحق لكل رجل مع أزواجه وما ملكت يمينه، رأيت في هذه الملاحظة التي يبديها بعض المستشرقين ما لا يثبت أمام النقد التاريخي، ولا يتفق مع ما جرت به الكتب المقدسة في شأن الأنبياء وحياتهم وأخبارهم.
الفصل السابع والعشرون
تبوك وموت إبراهيم
(الخراج وجبايته - أنباء تهيؤ الروم - نفير محمد في المسلمين ليتهيئوا للقتال بالشام - الخوالف المنافقون - شدة محمد معهم - الجيش العرم - في لظى الطريق إلى الشام - انسحاب الروم خوفا من محمد - عهده ليوحنا والأمراء الحدود - العود إلى المدينة - مرض إبراهيم ووفاته وبكاء محمد إياه) ***
لم يغير هذا الحادث المنزلي وهذا الإضراب والاضطراب بين النبي وأزواجه من سير الشئون العامة شيئا. وكانت الشئون العامة بعد فتح مكة وإسلام أهلها قد بدأ يتضاعف خطرها، وقد بدأت العرب جميعا تحس جلال هذا الخطر. فالبيت الحرام كان بيت العرب المقدس يحجون إليه منذ أجيال طويلة. وهذا البيت الحرام وما يتصل به من سدانة ورفادة وسقاية وما يتصل بالحج من مختلف الشعائر، قد أصبح في حكم محمد وفي حكم الدين الجديد. فلا جرم إذن أن تزداد شئون المسلمين العامة لفتح مكة، وأن يزداد المسلمون إحساسا بسلطانهم في كل ناحية من شبه الجزيرة. وازدياد الشئون العامة يحتاج بطبعه إلى مزيد في النفقات العامة. لذلك لم يكن بد من أن يدفع المسلمون زكاة العشر، وأن يدفع العرب الذين أصروا على جاهليتهم ما يفرض عليهم من خراج. قد يحرجهم ذلك، وقد يدعوهم إلى التذمر وإلى أكثر من التذمر؛ لكن ما اتصل بالدين الجديد من نظام في شبه الجزيرة جديد لم يجعل من جمع العشر والخراج مخرجا.
ولهذه الغاية أوفد محمد عاشريه بعد قليل من عوده من مكة ليجمعوا له عشر إيراد القبائل التي دانت للإسلام من غير أن يتعرضوا لأصول أموالها. وذهب كل واحد من هؤلاء وجهته، فتلقتهم القبائل بالترحاب ودفعت لهم زكاة العشر طيبة بدفعها نفوسهم؛ لم يند عن ذلك غير فرع من بني تميم وغير بني المصطلق ... فبينما كان العاشر يقتضي قبائل في جوار بني تميم زكاة العشر وهم يدفعونها من إبلهم وأموالهم، سارعت إليه بنو العنبر (فخذ من بني تميم) قبل أن يطالبها بزكاتها تحمل نبالها وسيوفها وطردته من أرضها. فلما بلغ الخبر محمدا بعث إليهم عيينة بن حصن على رأس خمسين فارسا انقضوا عليهم في سر منهم ففروا، وأصاب المسلمون الأسرى والسبايا وهم يزيدون على خمسين رجلا وامرأة وطفلا وعادوا موفورين إلى المدينة، وحبس النبي هؤلاء الأسرى.
وكان من بني تميم جماعة أسلموا وقاتلوا إلى جانب النبي عند فتح مكة وفي حنين. وكان منهم من لا يزال على جاهليته. فلما عرفوا ما أصاب أصحابهم من بني العنبر أرسلوا إلى النبي وفدا من أشرافهم نزلوا إلى المدينة ودخلوا المسجد ونادوا النبي من وراء حجراته أن اخرج إلينا يا محمد. وآذى نداؤهم النبي، فما كان ليخرج إليهم لولا أن أذن لصلاة الظهر. فلما رأوه ذكروا ما صنع عيينة بأهلهم، كما ذكروا ما كان لمن أسلم منهم من جهاد إلى جانبه، وما لقومهم من مكانة بين العرب. ثم قالوا له: إنا جئناك نفاخرك. فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فقام خطيبهم عطارد بن حاجب؛ فلما فرغ دعا رسول الله ثابت بن قيس ليرد عليه. ثم قام شاعرهم الزبرقان بن بدر فأنشد، وأجابه حسان بن ثابت. فلما انتهت المفاخرة، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا. وأسلم القوم؛ فأعتق النبي الأسرى وردهم إلى قومهم.
فأما بنو المصطلق فإنهم لما رأوا الصيرف فر هاربا خافوا عاقبة أمرهم، وأوفدوا إلى النبي من ذكر له أن الخوف في غير محل له هو الذي أدى إلى ما وقع من سوء الفهم.
ولم تكن ناحية من نواحي شبه الجزيرة إلا بدأت تحس سلطان محمد. ولم تحاول طائفة أو قبيلة أن تقاوم هذا السلطان إلا بعث النبي إليها قوة تحملها على الإذعان بدفع الخراج والبقاء على دينها، أو الإسلام ودفع الزكاة.
وفيما كانت عينه على بلاد العرب جميعا حتى لا ينتقض فيها منتقض، وحتى يستتب الأمن في ربوعها من أقصاها إلى أقصاها، إذ اتصل به نبأ من بلاد الروم أنها تهيئ جيوشا لغزو حدود العرب الشمالية غزوا ينسي الناس انسحاب العرب الماهر في مؤتة، وينسي الناس ذكر العرب وسلطان المسلمين الزاحف في كل ناحية ليتاخم سلطان الروم في الشام وسلطان فارس في الحيرة. واتصل به هذا النبأ مجسما أيما تجسيم. فلم يتردد هنيهة في تقرير مواجهة هذه القوى بنفسه، والقضاء عليها قضاء يقضي في نفوس سادتها على كل أمل في غزو العرب أو في التعرض لهم. وكان الصيف لما ينته والقيظ في أوائل الخريف يصل إلى درجات تجعله أشد من قيظ الصيف في هذه الصحاري إرهاقا وقتلا. ثم إن الشقة من المدينة إلى بلاد الشام طويلة شاقة تحتاج إلى الجلد وتحتاج إلى المئونة وإلى الماء.
إذن لا مفر من أن يطالع محمد الناس بعزمه السير إلى الروم وقتالهم، حتى يأخذوا لذلك عدتهم. ولا مفر من أن يخالف بذلك تقاليده في سابق غزواته، حين كان يتوجه في كثير من الأحيان بجيشه إلى غير الناحية التي إليها يقصد، تضليلا للعدو حتى لا يفشو خبر مسيرته. وأرسل محمد في القبائل جميعا يدعوها للتهيؤ كيما تعد أكبر جيش يمكن إعداده، وأرسل إلى أثرياء المسلمين ليشاركوا في تجهيز هذا الجيش بما آتاهم الله من فضله، وليحرضوا الناس على الانضمام إليه حتى يكون من الأهبة بما يدخل الروع في نفوس الروم الذين عرفوا بوفرة عدتهم وكثرة عديدهم.
بم عسى أن يستقبل المسلمون هذه الدعوة إلى هجر أبنائهم ونسائهم وأموالهم في شدة القيظ ليقطعوا فيافي وصحاري مجدبة قليلة الماء، ثم ليلقوا عدوا غلب الفرس ولم يقهره المسلمون؟! أفيدفعهم إيمانهم وحبهم للرسول وشديد تعلقهم بدين الله إلى الإقبال على دعوته متدافعين بالمناكب حتى يضيق بهم فضاء الصحراء، دافعين أمامهم أموالهم وإبلهم، مدرعين بسلاحهم مثيرين أمامهم من النقع ما إن يكاد يبلغ العدو نبؤه حتى يولي الأدبار لا يلوي على شيء؟ أم تمسكهم مشقة الطريق وشدة الحر ومخافة الجوع والعطش فيتقاعسون ويتراجعون؟ لقد كان في المسلمين يومئذ من هؤلاء وأولئك: كان فيهم أولئك الذين أقبلوا على الدين بقلوب ممتلئة هدى ونورا. ونفوس غمرها ضياء الإيمان فلا تعرف غيره، وكان فيهم من دخل دين الله رغبا ورهبا؛ رغبا في مغانم الحرب بعد أن أصبحت قبائل العرب كلها لا تثبت أمام غزو المسلمين فتسلم لهم وتؤدي إليهم الجزية عن يد وهي صاغرة، ورهبا من هذه القوة التي تضرب أمامها كل قوة، ويخشى سلطانها كل ملك. فأما الأولون فأقبلوا يلبون دعوة رسول الله خفافا مسرعين. ومنهم الفقير الذي لا يجد الدابة يحمل نفسه عليها، ومنهم الغني ماله بين يديه يقدمه في سبيل الله راضية نفسه طامعا في الاستشهاد والانحياز إلى جوار الله، وأما الآخرون فتثاقلوا وبدءوا يلتمسون الأعذار، وجعلوا يتهامسون فيما بينهم. ويهزءون بدعوة محمد إياهم لهذا الغزو النائي في ذلك الجو المحرق. هؤلاء هم المنافقون الذين نزلت فيهم سورة التوبة، وفيها أعظم دعوة للجهاد وأشد تخويف من عذاب الله يصيب من تخلف عن إجابة رسوله.
قال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر؛ فنزل قوله تعالى:
وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون .
1
قال محمد للجد بن قيس أحد بني سلمة: «يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟» فقال: «يا رسول الله، أوتأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء مني. وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر.» (وبنو الأصفر هم الروم). فأعرض عنه رسول الله. وفيه نزلت هذه الآية:
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .
2
وانتهز الذين تنطوي قلوبهم على بغضاء محمد هذه الفرصة ليزيدوا المنافقين نفاقا وليحرضوا الناس على التخلف عن القتال. هؤلاء لم ير محمد أن يتهاون معهم خيفة أن يستفحل أمرهم، ورأى أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. بلغه أن ناسا منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس ويلقون في نفوسهم التخاذل والتخلف عن القتال؛ فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، فحرق عليهم بيت سويلم، ففر أحدهم من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم الباقون النار فأفلتوا، ولكنهم لم يعودوا لمثلها، ثم كانوا مثلا لغيرهم، فلم يجرؤ أحد بعدهم على مثل فعلهم.
وقد كان لهذه الشدة في أخذ المنافقين ومن معهم أثرها؛ فقد أقبل الأغنياء وذوو اليسار فأنفقوا نفقة عظيمة لتجهيز الجيش. أنفق عثمان بن عفان وحده ألف دينار، وأنفق كثيرون غيره، كل في حدود طاقته. وتقدم كل قادر على نفقة نفسه بعدته ونفقته. وأقبل كثيرون من الفقراء يريدون أن يحملهم النبي معه، فحمل منهم من استطاع، واعتذر إلى الباقين وقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. ولبكائهم هذا أطلق عليهم اسم البكائين. واجتمع لمحمد في هذا الجيش، الذي سمي جيش العسرة لشدة ما لاقى منذ يوم تكوينه، ثلاثون ألفا من المسلمين.
اجتمع الجيش وقام أبو بكر فيه يؤم الناس للصلاة في انتظار عود محمد من تدبير شئون المدينة في أثناء غيبته. وقد استخلف عليها محمد بن مسلمة وخلف علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم، وأصدر ما رأى أن يصدر من الأوامر، ثم عاد إلى الجيش يتولى قيادته. وكان عبد الله بن أبي قد خرج في جيش من قومه يسير به إلى جانب جيش محمد. لكن النبي رأى أن يظل عبد الله وجيشه بالمدينة، لأنه كان بعد ضعيف الثقة به وبصحة إيمانه. وأمر فتحرك الجيش، وثار النقع ، وصهلت الخيل، وارتقت نساء المدينة سقفها يشهدن هذا الجحفل الجرار، يتوجه مخترقا الصحراء صوب الشام، مستهينا في سبيل الله بالحر والظمأ والمسغبة، تاركا وراءه القواعد والخوالف ممن آثروا الظل والنعمة واللذة على إيمانهم وعلى رضا الله عنهم.
ولقد حرك منظر الجيش يتقدمه عشرة آلاف فارس ومنظر النسوة مأخوذات بجلاله وقوته بعض نفوس لم تحركها دعوة الرسول فتقاعست ولم تتبعه. رجع أبو خيثمة بعد أن رأى هذا المنظر، فوجد امرأتين له قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء وهيأ له فيه طعاما. فلما رأى الرجل ما صنعتا قال: رسول الله في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! هيئا لي زادا حتى ألحق به. فهيأتا له زاده ولحق بالجيش. ولعل جماعة من الخوالف قد فعلوا فعل أبي خيثمة، بعد أن رأوا ما في التقاعس والخوف من شنار ومذلة.
وسار الجيش حتى بلغ الحجر، وبها أطلال لمنازل ثمود منقورة في الصخر. هنالك أمر رسول الله بالنزول، فاستقى الناس من بئرها. فلما راحوا قال لهم: لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له. ذلك أن المكان لم يكن أحد يمر به، وكان تعصف فيه أحيانا عواصف الرمل تطمر الناس والإبل. ولقد خرج رجلان على خلاف أمر الرسول، فاحتملت أحدهما الريح وطمت الآخر الرمال. فلما أصبح الناس ألفوا هذه الرمال قد طمرت البئر فلم يبق بها ماء، ففزعوا خيفة الظمأ، وقدروا هول ما بقي من طول الطريق. وإنهم لكذلك إذ مرت بهم سحابة أمطرتهم، فارتووا وأصابوا من الماء ما شاءوا وزايلهم الفزع، وطار أكثرهم سرورا، وأقبل بعض منهم على بعض يقولون إنها معجزة. أما آخرون فقالوا: إنما هي سحابة مارة.
وانطلق الجيش بعد ذلك قاصدا تبوك، وكانت الروم قد بلغها أمر هذا الجيش وقوته، فآثرت الانسحاب بجيشها الذي كانت وجهت إلى حدودها ليحتمي داخل بلاد الشام في حصونها. فلما انتهى المسلمون إلى تبوك وعرف محمد أمر انسحاب الروم ونمى إليه ما أصابهم من خوف، لم ير محلا لتتبعهم داخل بلادهم.
وأقام عند الحدود يناجز من شاء أو ينازله أو يقاومه، ويعمل لكفالة هذه الحدود حتى لا يتخطى من بعد ذلك إليه أحد. وكان يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة أحد الأمراء المقيمين على الحدود. ولقد وجه إليه النبي رسالة أن يذعن أو يغزوه فأقبل يوحنا وعلى صدره صليب من ذهب، وقدم الهدايا والطاعة، وصالح محمدا وأعطاه الجزية، كما صالحه أهل الجرباء
3
وأذرح
4
وأعطوه الجزية.
وكتب رسول الله لهم كتب أمن، هذا نص أحدها - وهو ما كتب ليوحنا: «بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمحمد أخذه من الناس. وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر.» وإيذانا بالموافقة على هذا العهد أهدى محمد إلى يوحنا رداء من نسج اليمن وأحاطه بكل صنوف الرعاية، بعد أن اتفق على أن تدفع أيلة جزية قدرها ثلاثمائة دينار في كل عام.
لم يبق محمد في حاجة إلى القتال بعد انسحاب الروم، وبعد معاهدة البلاد الواقعة على الحدود معه، وبعد أن أمنه عودة الجيوش البزنطية من هذه الناحية لولا خيفة انتقاض أكيدر بن عبد الملك الكندي النصراني أمير دومة،
5
ومعاونته جيوش الروم إذا جاءت من ناحيته. ولذلك بعث النبي إليه خالد بن الوليد في خمسمائة فارس وانقلب بجيشه راجعا إلى المدينة. وأسرع خالد بالانتقاض على دومة في غفلة من مليكها الذي خرج في ليلة مقمرة ومعه أخ له يسمى حسان يطاردان بقر الوحش. ولم يلق خالد مقاومة تذكر، فقتل حسان وأخذ أكيدر أسيرا وهدده بالقتل إن لم تفتح دومة أبوابها . وفتحت المدينة الأبواب فداء لأميرها، وساق خالد منها ألفي بعير وثمانمائة شاة وأربعمائة وسق من بر وأربعمائة درع، وذهب بها ومعه أكيدر حتى لحق بالنبي في عاصمته. وعرض محمد الإسلام على أكيدر فأسلم وأصبح له حليفا.
لم يكن عود محمد على رأس هذه الألوف من جيش العسرة من حدود الشام إلى المدينة بالأمر الهين. فلم يدرك كثيرون من هؤلاء مغزى الاتفاق الذي عقد مع أمير أيلة والبلاد المجاورة له، ولم يقيموا كبير وزن لما حققه محمد بهذه الاتفاقات من تأمين حدود شبه الجزيرة، وإقامة هذه البلاد معاقل بينه وبين الروم، بل كان كل الذي نظروا إليه أنهم قطعوا هذه الشقة الطويلة وتحملوا في قطعها ما تحملوا من الأذى، ثم عادوا لم يغنموا ولم يأسروا، بل لم يقاتلوا: وكل الذي فعلوا أن أقاموا بتبوك قرابة عشرين يوما. فهل لهذا قطعوا الصحراء في شدة القيظ في حين كانت ثمار المدينة قد طابت وآن أن يستمتع الناس بها؟! وجعل جماعة منهم يستهزئون بما فعل محمد؛ ونقل من ملأ الإيمان قلوبهم نبأهم إليه. فأخذ المستهزئين بالشدة حينا وباللين حينا، والجيش يسير قافلا إلى المدينة ومحمد يحفظ النظام في صفوفه. حتى إذا انتهى إليها لم يلبث ابن الوليد أن لحقه بها؛ لحقه ومعه أكيدر، وما حمل من دومة من إبل وشاة وبر ودروع، وعلى أكيدر حلة من ديباج موشى بالذهب بهت أهل المدينة لمرآها.
هنالك اضطرب الذين تخلفوا عن اتباعه اضطرابا رد المستهزئين إلى صوابهم. جاء المتخلفون يعتذرون وأكثرهم يشوب معاذيره الكذب. وأعرض محمد عما صنعوا تاركا لله حسابهم. لكن ثلاثة صدقوا الله ورسوله فاعترفوا بتخلفهم واعترفوا بذنبهم. هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. وهؤلاء الثلاثة أمر محمد فأعرض المسلمون عنهم خمسين يوما لا يكلمهم أحد ولا تصل بينهم وبين مسلم تجارة. ثم تاب الله على هؤلاء الثلاثة وعفا عنهم ونزل فيهم قوله تعالى :
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم .
6
من يومئذ بدأ محمد يشتد في معاملة المنافقين شدة لم يألفوها من قبل؛ ذلك أن عدد المسلمين زاد زيادة تجعل عبث المنافقين بهم خطرا يخشى منه ويجب تلافيه وعلاجه. ولم يقم بنفس محمد ريب، بعد أن وعده ربه لينصرن دينه وليعلين كلمته في أنهم سيزدادون من بعد أضعاف زيادتهم اليوم، وعند ذلك يصبح المنافقون خطرا عظيما. ولقد كان له من قبل. حين كان الإسلام محصورا بالمدينة وما حولها أن يشرف بنفسه على ما يجري بين المسلمين. أما وقد انتشر الدين في أنحاء بلاد العرب جميعا، وها هو ذا يشارف الانتقال منها فكل تهاون مع المنافقين شر تخشى مغبته، وخطر ما أسرع ما يستشري إذا لم تجتث جرثومته. بنى جماعة مسجدا بذي أوان، بينه وبين المدينة نحو ساعة؛ وإلى هذا المسجد كان يأوي جماعة من المنافقين يحاولون أن يحرفوا كلام الله عن مواضعه، وأن يفرقوا بذلك بين المؤمنين ضرارا وكفرا. وطلبت هذه الجماعة إلى النبي أن يفتتح المسجد بالصلاة فيه. وكان طلبهم هذا قبل تبوك، فاستمهلهم حتى يعود. فلما عاد وعرف أمر المسجد وحقيقة ما قصد إليه من إقامته أمر بإحراقه، فضرب بذلك مثلا ارتعدت له فرائص المنافقين فخافوا وانزووا، ولم يبق لهم من يحميهم إلا عبد الله بن أبي شيخهم وقائدهم.
على أن عبد الله لم يعمر بعد تبوك غير شهرين مرض إثرهما ومات. ومع أن الحقد على المسلمين قد كان يأكل قلبه منذ نزل النبي المدينة؛ فقد آثر محمد ألا ينال المسلمون ابن أبي بسوء. ولم يلبث النبي حين دعي للصلاة عليه لما مات أن صلى وقام على قبره إلى أن دفن وفرغ منه. وبموته انهار ركن المنافقين، وآثر من بقي منهم أن يخلص لله توبته .
بغزوة تبوك تمت كلمة ربك في شبه الجزيرة كلها، وأمن محمد كل عادية عليها، وأقبل سائر أهلها وفودا عليه يقدمون الطاعة ويعلنون لله الإسلام. ولقد كانت هذه الغزوة خاتمة غزوات النبي - عليه السلام - ومن بعدها أقام محمد بالمدينة مغتبطا بما أفاء الله عليه.
وكان ابنه إبراهيم قرة عينه له ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا، فكان إذا فرغ من استقباله الوفود، ومن القيام بأمر المسلمين، ومن أداء حق الله ورسالته وحق أهله جميعا لهم، اطمأنت نفسه برؤية هذا الطفل الذي ظل يترعرع وينمو ويزداد شبهه بمحمد وضوحا مما يزيد أباه له حبا وبه تعلقا. وخلال هذه الأشهر جميعا كانت حاضنته أم سيف ترضعه وتسقيه لبن الماعز التي أهداها النبي إليها.
ولم يكن تعلق محمد بإبراهيم لغاية في نفسه لها اتصال برسالته أو بمن يخلفه؛ فقد كان - عليه السلام - في إيمانه بالله وبرسالته لا يفكر في ولده ولا فيمن يرثه؛ بل كان يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.» إنما هي العاطفة الإنسانية في أسمى معانيها؛ العاطفة الإنسانية التي بلغت من السمو في نفس محمد ما لم تبلغه في نفس أحد غيره؛ العاطفة الإنسانية التي جعلت العربي يرى فيمن يخلفه من الذكران صورة من صور الخلود - هذه العاطفة التي جعلت محمدا يخلع على إبراهيم كل هذا الحب؛ ويرمقه من العطف بما لا عطف بعده. ولقد زاد هذه العاطفة رقة وقوة في نفسه أن فقد ولديه القاسم والطاهر وهما ما يزالان طفلين في حجر أمهما خديجة، وأنه فقد بناته بعد خديجة واحدة بعد الأخرى بعد أن كبرن وصرن أزواجا وأمهات؛ فلم تبق له منهن غير فاطمة. هؤلاء الأبناء والبنات الذين تساقطوا من حوله فدفنهم بيده تحت صفائح الثرى، تركوا في نفسه قرحة ألم اندملت بمولد إبراهيم وأثمرت مكانها رجاء وأملا؛ وكان حلا له أن يمتلئ بهذا الأمل غبطة واستبشارا.
لكن هذا الأمل لم يكن ليطول إلا تلك الأشهر التي ذكرنا. فقد مرض إبراهيم بعدها مرضا خيف منه على حياته ، فنقل إلى نخل بجوار مشربة أم إبراهيم، وقامت من حوله مارية وأختها سيرين تمرضانه. ولم يطل بالطفل المرض. فلما كان في الاحتضار وأخبر النبي بأمره، أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف يعتمد عليه لشدة ألمه، حتى أتيا إلى النخل بجوار العالية التي تقوم المشربة اليوم مكانها. فوجد إبراهيم في حجر أمه يجود بنفسه، فأخذه فوضعه وقلبه يجف ويده تضطرب وقد ملك الحزن عليه فؤاده، وبدت صورة الألم على قسمات وجهه، وضعه في حجره وقال: «إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا.» ثم وجم وذرفت عيناه، والغلام يجود بنفسه، وأمه وأختها تصيحان فلا ينهاهما رسول الله! فلما استوى إبراهيم جثمانا لا حراك به ولا حياة فيه، وانطفأ بموته ذلك الأمل الذي تفتحت له نفس النبي زمنا، زادت عينا محمد تهتانا وهو يقول: «يا إبراهيم لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك أشد من هذا.» وبعد أن وجم هنيهة قال: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا يا إبراهيم عليك لمحزونون.»
ورأى المسلمون ما بمحمد من حزن، وحاول حكماؤهم أن يردوه عن الإمعان فيه، فذكروه بما نهى عنه؛ فقال: «ما عن الحزن نهيت وإنما نهيت عن رفع الصوت بالبكاء. وإن ما ترون بي أثر ما في القلب من محبة ورحمة. ومن لم يبد الرحمة لم يبد غيره عليه الرحمة.» أو كما قال. ثم إنه حاول كظم حزنه وتبريد لوعته، ونظر إلى مارية وإلى سيرين نظرة عطف، وطلب إليهما أن تهونا عليهما قائلا: «إن له لمرضعا في الجنة.» ثم إن أم بردة غسلته - أو غسله الفضل بن عباس، في رواية - وحمل من بيتها على سرير صغير، وشيعه النبي وعمه العباس وطائفة من المسلمين إلى البقيع حيث دفن بعد أن صلى النبي عليه. فلما تم دفنه أمر محمد بسد القبر ثم سوى عليه بيده ورش الماء وأعلم عليه بعلامة وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي. وإن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتقنه.»
ووافق موت إبراهيم كسوف الشمس؛ فرأى المسلمون في ذلك معجزة وقالوا إنها انكسفت لموته. وسمعهم النبي: أترى فرط حبه لإبراهيم وشديد جزعه لموته قد جعله يتعزى بسماع مثل هذه الكلمة، أو يسكت على الأقل عنها، أو يعذر الناس إذ يراهم مأخوذين بما يحسبونه المعجزة؟ كلا! فمثل هذا الموقف إن لاق بالذين يستغلون في الناس جهالتهم، أو لاق بالذين يخرجهم الحزن عن رشادهم، فهو لا يليق بالنزيه الحكيم، فما بالك بالرسول العظيم؟! لذلك نظر محمد إلى الذين ذكروا أن الشمس انكسفت لموت إبراهيم فخطبهم فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله بالصلاة.» أية عظمة أكبر من ألا ينسى الرسول رسالته في أشد المواقف التي تملأ نفسه بالفجيعة والهول؟! لقد وقف من تناول من المستشرقين هذا الحديث لمحمد موقف الإجلال والإعظام، ولم يستطيعوا كتم إعجابهم وإكبارهم وإعلان عرفانهم بصدق رجل لا يرضى في أدق المواقف إلا الصدق والحق.
ترى ماذا كان شعور أزواج النبي بفجيعته في إبراهيم وحزنه الشديد عليه؟ أما هو فتعزى بفضل الله، وبمتابعته أداء رسالته، وبازدياد الإسلام انتشارا في هذه الوفود التي كانت ما تفتأ تتوارد إليه من كل صوب؛ حتى لقد دعيت هذه السنة العاشرة من الهجرة سنة الوفود، وهي السنة التي حج أبو بكر فيها كذلك بالناس.
الفصل الثامن والعشرون
عام الوفود وحج أبي بكر بالناس
(دخول العرب أفواجا في دين الله - إسلام عروة بن مسعود الثقفي وقتل أهل الطائف له - أخذ القبائل المجاورة الطريق على ثقيف - وفدها إلى النبي وشروطه - إسلام الوفد وإسلام الطائف وهدم صنمها اللات - حج أبي بكر بالناس - لحاق علي بن أبي طالب به - سورة براءة - أساس الدولة الإسلامية المعنوي - الجهاد في الإسلام وتسويغه) ***
بغزوة تبوك تمت كلمة ربك في شبه جزيرة العرب كلها، وأمن محمد كل عادية عليها . والحق أنه لم يكد يستقر بعد أن عاد من هذه الغزوة إلى المدينة حتى بدأ كل من أقام على شركه من أهل شبه الجزيرة يفكر. ولئن كان المسلمون، الذين صحبوا محمدا في مسيره إلى الشام كابدوا من صنوف المشاق واحتملوا من القيظ والظمأ أهوالا، قد عادوا وفي نفوسهم شيء من السخط أن لم يقاتلوا ولم يغنموا بسبب انسحاب الروم إلى داخل الشام ليتحصنوا بمعاقلهم فيها. لقد ترك هذا الانسحاب في نفوس قبائل العرب المحتفظة بكيانها وبدينها أثرا عميقا، وترك في نفوس قبائل الجنوب باليمن وحضرموت وعمان أثرا أشد عمقا. أليس الروم هؤلاء هم الذين غلبوا الفرس واستردوا منهم الصليب وجاءوا به إلى بيت المقدس في حفل عظيم، وفارس كانت صاحبة السلطان على اليمن وعلى البلاد المجاورة لها أزمانا طويلة؟!
فإذا كان المسلمون على مقربة من اليمن ومن غيرها من البلاد العربية جمعاء، فما أجدر هذه البلاد بأن تتضام كلها في تلك الوحدة التي تستظل بعلم محمد، علم الإسلام، لتكون بمنجاة من تحكم الروم والفرس جميعا! وماذا يضر أمراء القبائل والبلاد أن يفعلوا وهم يرون محمدا يثبت من جاءه معلنا الإسلام والطاعة في إمارته وعلى قبيلته؟! فلتكن السنة العاشرة للهجرة إذن سنة الوفود، وليدخل الناس في دين الله أفواجا، وليكن لغزوة تبوك ولانسحاب الروم أمام المسلمين من الأثر أكثر مما كان لفتح مكة والانتصار في حنين وحصار الطائف.
ومن حسن صنيع القدر أن كانت الطائف - التي قاومت النبي في أثناء حصارها ما قاومت حتى انصرف المسلمون عنها دون اقتحامها - هي أول من أسرع إلى إعلان الطاعة بعد تبوك، وإن ترددت طويلا في إعلان هذه الطاعة. فقد كان عروة بن مسعود - أحد سادة ثقيف المقيمين بالطائف - غائبا باليمن في أثناء غزو النبي بلاده بعد موقعة حنين. فلما عاد إلى موطنه ورأى النبي انتصر في تبوك وعاد إلى المدينة، أسرع إليه يعلن إسلامه وحرصه على دعوة قومه للدخول في دين الله. ولم يكن عروة ليجهل محمدا وعظم أمره، وقد كان أحد الذين فاوضوه عن قريش في صلح الحديبية. وعرف النبي بعد إسلام عروة اعتزامه الذهاب إلى قومه يدعوهم إلى الدين الذي دخل فيه، وكان النبي يعرف من تعصب ثقيف لصنمها اللات ومن نخوتها وشدتها ما جعله يحذر عروة ويقول له: إنهم قاتلوك، لكن عروة اعتز بمكانه من قومه فقال: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم.
وذهب عروة فدعا قومه إلى الإسلام؛ فتشاوروا فيما بينهم ولم يبدوا له رأيا. فلما كان الصباح قام على علية له ينادي إلى الصلاة. هنالك صدقت فراسة الرسول، فلم يطق قومه صبرا، فأحاطوا به ورموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم قاتل. واضطرب من حول عروة أهله، فقال وهو يسلم الروح: «كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي. فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبل أن يرتحل عنكم.» ثم طلب أن يدفن مع الشهداء فدفنه أهله معهم.
ولم يذهب دم عروة هدرا، فإن القبائل التي تحيط بالطائف كانت قد أسلمت كلها، ولذلك رأت فيما صنعت ثقيف بسيد من ساداتها إثما منكرا. ورأت ثقيف من أثر ذلك أنهم صاروا لا يأمن لهم سرب. ولا يخرج منهم رجل إلا اقتطع، وأيقنوا أنهم إن لم يجدوا سبيلا إلى صلح أو هدنة مع المسلمين فمصيرهم لا ريب إلى الفناء. وأتمر القوم فيما بينهم، وتحدثوا إلى كبير منهم (عبد ياليل)، كي يذهب إلى النبي يعرض عليه صلح ثقيف معه. وخشي عبد ياليل أن يصيبه من قومه ما أصاب عروة بن مسعود، فلم يقبل أن يخرج إلى محمد حتى أوفدوا معه خمسة آخرين، اطمأن إلى أنه إذا خرج معهم ثم عادوا شغل كل رجل منهم رهطه. ولقي المغيرة بن شعبة القوم حين دنوا من المدينة، فأسرع يريد أن يخبر النبي خبرهم. ولقيه أبو بكر يشتد في السير؛ فلما عرف منه ما جاء فيه طلب إليه أن يدع له هذه البشرى يزفها إلى رسول الله، ودخل أبو بكر فأخبر النبي بقدوم وفد ثقيف.
وكان هذا الوفد ما يزال يعتز بقومه، وما يزال يذكر حصار النبي للطائف وانصرافه عنها. فمع ما علمهم المغيرة كيف يحيون النبي بتحية الإسلام لم يرضوا حين قابلوه إلا أن يحيوه بتحية الجاهلية، ثم إنهم ضربت لهم قبة خاصة في ناحية من المسجد أقاموا بها يصرون على الحذر من المسلمين وعدم الطمأنينة إليهم. وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله في مفاوضتهم إياه؛ فكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند النبي حتى يأكل منه خالد. وقام هذا بالسفارة، فأبلغ محمدا أنهم مع استعدادهم للإسلام، يطلبون إليه أن يدع لهم صنمهم اللات ثلاث سنين لا يهدمها، وأن يعفيهم من الصلاة.
وأبى محمد عليهم ما طلبوا من ذلك أشد إباء. ولقد نزلوا يطلبون أن يدع اللات سنتين، ثم أن يدعها سنة، ثم أن يدعها شهرا واحدا بعد انصرافهم إلى قومهم، لكن إباءه ذلك كان حاسما لا تردد فيه ولا هوادة. وكيف تريد من نبي يدعو إلى دين الله الواحد القهار ويهدم الأصنام فلا يذر منها باقية، أن يتهاون في أمر صنم منها، وإن كان لقومه من المنعة ما كان لثقيف بالطائف؟! فالإنسان إما أن يؤمن، وإما ألا يؤمن، وليس بين الطرفين إلا الارتياب والشك. والشك والإيمان لا يجتمعان في قلب كما لا يجتمع الإيمان والكفر. وبقاء اللات طاغية ثقيف علم على أنهم لا يزالون يداولون عبادتهم بينها وبين الله جل شأنه. وهذا إشراك بالله، والله لا يغفر أن يشرك به.
وطلبت ثقيف إعفاءها من الصلاة؛ فرفض محمد قائلا: إنه لا خير في دين لا صلاة فيه. ونزل الثقفيون عن بقاء اللات وقبلوا الإسلام وإقامة الصلاة، لكنهم طلبوا ألا يكسروا أوثانهم بأيديهم. إنهم حديثو عهد بإيمان، وقومهم ما يزالون في انتظارهم ليروا ما صنعوا، فليجنبهم محمد تحطيم ما كانوا يعبدون وما كان يعبد آباؤهم، ولم ير محمد أن يشتد في هذه، فسيان أن يكسر الثقفيون الصنم وأن يكسره غيرهم؛ فهو سيهدم، وستقوم في ثقيف عبادة الله وحده. قال عليه السلام: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، ثم أمر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سنا. أمره عليهم على حداثة سنه؛ لأنه كان أحرصهم على الفقه في الإسلام وتعلم القرآن، بشهادة أبي بكر والسابقين إلى الإسلام. وأقام القوم مع محمد ما بقي من رمضان، وصاموا وإياه وهو يبعث لهم بفطورهم وسحورهم. فلما آن لهم أن ينصرفوا إلى قومهم أوصى محمد عثمان بن أبي العاص قائلا: «تجاوز في الصلاة واقدر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة.»
وعاد القوم إلى بلادهم، فوجه النبي معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة، وكانت لهما بثقيف مودة وحرمة، ليقوما بهدم اللات. وقدم أبو سفيان والمغيرة لهدم الصنم، فهدمه المغيرة ونساء ثقيف حسرا يبكين، ولا يجرؤ أحد أن يقترب منه بعد الذي كان من اتفاق وفد ثقيف والنبي على هدمه. وأخذ المغيرة مال اللات وحليها فقضى منه، بأمر الرسول وبالاتفاق مع أبي سفيان، دينا كان على عروة والأسود. وبهدم اللات وبإسلام الطائف كانت الحجاز كلها قد أسلمت، وكانت سطوة محمد قد امتدت من بلاد الروم في الشمال إلى بلاد اليمن وحضرموت في الجنوب. وكانت هذه البلاد الباقية في جنوب شبه الجزيرة تتهيأ كلها لتنضم إلى الدين الجديد، ولتقف على الدفاع عنه وعن وطنها كل قوتها. وكانت وفودها تسير لذلك من جهات مختلفة، قاصدة كلها إلى المدينة لتعلن الطاعة ولتدين بالإسلام.
بينما كانت الوفود تقبل تترى إلى المدينة، كانت الأشهر يتلو أحدها الآخر حتى اقترب موعد الحج، ولم يكن النبي - عليه السلام - أدى الفريضة على تمامها يومئذ كما يؤديها المسلمون اليوم، أفتراه يخرج في عامه هذا شكرا لله على ما نصره على الروم، وما أدخل الطائف في حظيرة الإسلام، وما جعل الوفود تجيء إليه من كل فج عميق؟ إن شبه الجزيرة ما يزال بها من لم يؤمن بالله ورسوله، ما يزال بها الكفار وما يزال بها اليهود والنصارى. والكفار على عهدهم في الجاهلية ما يزالون يحجون إلى الكعبة في الأشهر الحرم. والكفار نجس. فليبق إذن بالمدينة حتى يتم الله كلمته وحتى يأذن الله له بالحج إلى بيته، وليخرج أبو بكر في الناس حاجا.
وخرج أبو بكر في ثلاثمائة مسلم قاصدا إلى مكة. ولكن العام قد يتلو العام والمشركون ما يزالون يحجون بيت الله الحرام. أليس بين محمد وبين الناس عهد عام ألا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم؟! أليست بينه وبين قبائل من العرب عهود إلى آجال مسماة؟! فما دامت هذه العهود فسيظل بيت الله يحج إليه من يشرك بالله ومن يعبد غير الله، وسيظل المسلمون يرون عبادة الجاهلية تؤدى بأعينهم حول الكعبة وهم بحكم هذه العهود الخاصة وهذا العهد العام لا قبل لهم بصد أحد عن حجه وعبادته.
وإذا كانت الأصنام التي يعبد العرب قد حطم الكثير منها وحطم منها كل ما كان في الكعبة أو حولها، فإن هذا الاجتماع في بيت الله المقدس، اجتماعا يضم الثائرين على الشرك وعلى الوثنية والمقيمين على هذا الشرك وهذه الوثنية، تناقض غير مفهوم. وإذا استطاع أحد أن يفهم حج اليهود والنصارى جميعا إلى بيت المقدس على أن أرض المعاد لليهود ومولد المسيح للنصارى، فلن يستطيع أحد أن يفهم اجتماع عبادتين حول بيت تحطم فيه الأصنام وتعبد فيه الأصنام التي حطمت. لذلك كان طبيعيا أن يحال بين المشركين وبين الاقتراب من البيت الذي طهر من الشرك ومحيت منه كل معالم الوثنية. وفي هذا نزلت الآيات من سورة براءة. لكن موسم الحج بدأ والمشركون قد أتى منهم من أتى من كل فج يقضي مناسك حجه. فليكن هذا الاجتماع أوان تبليغهم أمر الله بنقض كل عهد بين الشرك والإيمان إلا من عهد عقد لأجل فإنه يبق إلى أجله.
ولهذه الغاية أوفد النبي علي بن أبي طالب كي يلحق بأبي بكر، وكي يخطب الناس حين الحج يوم عرفة بما أمر الله ورسوله. وحضر علي، في أثر أبي بكر والمسلمين الذين برزوا إلى الحج معه، كي يؤدي رسالته. فلما رآه أبو بكر قال له: أمير أم مأمور! قال علي: بل مأمور. وأخبره بما جاء فيه، وأن النبي إنما بعثه في الناس لأنه من أهل بيته. فلما اجتمع الناس بمنى يؤدون مناسك الحج، وقف علي بن أبي طالب وإلى جانبه أبو هريرة، فنادى علي في الناس يتلو قوله تعالى:
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم * إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين * فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون * كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون * فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم * أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون * ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين * أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون * قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين * لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم * يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم * قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون * وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله * إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون * يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون * إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين .
1
وقف علي في الناس وهم يؤدون مناسك الحج بمنى، فتلا عليهم هذه الآيات من سورة التوبة نقلناها كاملة لغرض سنبينه. فلما أتم تلاوتها وقف هنيهة ثم صاح بالناس: «أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عهد فهو إلى مدته.» صاح علي في الناس بهذه الأوامر الأربعة، ثم أجل الناس أربعة أشهر بعد ذلك اليوم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم. ومن يومئذ لم يحج مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. ومن يومئذ وضع الأساس الذي تقوم عليه الدولة الإسلامية.
هذا الأساس هو الذي جعلنا نسجل هنا صدر سورة التوبة كله. والحرص على أن يدرك العرب جميعا هذا الأساس هو الذي دعا عليا إلى ألا يكتفي بقراءة هذه الآيات من براءة يوم الحج، على ما اتفقت عليه الرواية، بل جعله يقرؤها على الناس من بعد ذلك في منازلهم، على ما جاءت به روايات كثيرة. وإنك إذ تتلو صدر «براءة» وتعيد تلاوته بإمعان وروية لتشعر حقا بأنه الأساس المعنوي في أقوى صورة لكل دولة ناشئة تقوم. ونزول «براءة» كلها بعد آخر غزوة من غزوات النبي، وبعد أن جاء أهل الطائف يعلنون انضمامهم إلى الدين الجديد. وبعد أن أصبح الحجاز كله ومعه تهامة ونجد منضويا تحت راية الإسلام، وبعد أن أعلن كثير من قبائل الجنوب في شبه الجزيرة الإذعان لمحمد والانضواء إلى دينه، يجلو الحكمة التاريخية في نزول الآيات التي تنتظم أساس الدولة المعنوي في هذا الحين. فالدولة، لتكون قوية، يجب أن تكون لها عقيدة معنوية عامة يؤمن بها أهلوها ويدافعون جميعا عنها بكل ما أوتوا من عتاد وقوة. وأية عقيدة أعظم من الإيمان بالله وحده لا شريك له؟! أية عقيدة أكبر سلطانا على النفس من أن يحس الإنسان نفسه تتصل بالوجود في أسمى مظاهره، لا سلطان عليه لغير الله ولا رقيب غير الله على ضميره؟! فإذا وجد الذين يقومون في وجه هذه العقيدة العامة التي يجب أن تكون أساس الدولة، فأولئك هم الفاسقون، وأولئك هم نواة الثورة الأهلية والفتنة الماحقة، وأولئك يجب لذلك ألا يكون لهم عهد، ويجب أن تقاتلهم الدولة. فإن كانوا ثائرين على العقيدة العامة ثورة جامحة، وجب قتالهم حتى يذعنوا. وإن كانت ثورتهم على العقيدة العامة غير جامحة، كما هو شأن أهل الكتاب، وجب أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
النظر إلى المسألة من الجهة التاريخية والجهة الاجتماعية يهدينا إلى هذا التقدير لمغزى الآيات التي تلاها القارئ ههنا من سورة التوبة، وهو يهدي إلى هذا التقدير كل منصف نزيه القصد. لكن الذين أسرفوا في أحكامهم على الإسلام وعلى رسوله يذرون هذا النظر على نبأ ويعرضون لهذه الآيات القوية غاية القوة من سورة التوبة على أنها دعوة إلى التعصب لا تتفق مع ما ترضاه الحضارة الفاضلة من تسامح، دعوة إلى قتال المشركين وقتلهم حيث ثقفهم المؤمنون في غير رفق ولا هوادة، دعوة إلى إقامة الحكم على أساس البطش والجبروت. هذا كلام تقرؤه في كثير من كتب المستشرقين. وهو كلام تهوي إليه الأذهان التي لم تنضج فيها ملكة النقد الاجتماعي والتاريخي حتى من أبناء المسلمين، وهو كلام لا يتفق مع الحقيقة التاريخية ولا يتفق مع الحقيقة الاجتماعية في شيء، وهو لذلك يؤدي بأصحابه إلى تفسيرهم ما أوردنا من سورة التوبة، وما جاء من مشابهه في مواضع كثيرة من القرآن، تفسيرا يأباه منطق الحوادث في سيرة الرسول تمام الإباء، وتأباه حياة النبي العظيم في تسلسلها من يوم بعثه الله للدعوة إلى دين الحق إلى يوم اصطفاه الله إليه.
ويجمل بنا لبيان ذلك أن نسأل عن الأساس المعنوي للحضارة الحاكمة اليوم، ثم نقيس به هذا الأساس المعنوي الذي دعا محمد إليه. فالأساس المعنوي للحضارة الحاكمة اليوم هو حرية الرأي حرية لا حد لها، ولا حد للتعبير عنها إلا بالقانون، وحرية الرأي هذه هي لذلك عقيدة يدافع الناس عنها ويضحون في سبيلها ويجاهدون لتحقيقها ويحاربون من أجلها، ويعتبرون ذلك كله آية من آيات المجد التي يفاخرون بها الأجيال ويتباهون بها على ما سبقهم من العصور. ومن أجل ذلك يقول المستشرقون الذين أشرنا إليهم: إن دعوة الإسلام لمقاتلة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر دعوة إلى التعصب تتنافى وهذه الحرية. وهذه مغالطة مفضوحة إذا عرفت أن قيمة الرأي الدعوة له والعمل به. والإسلام لم يدع إلى مناوأة المشركين من أهل الجزيرة، إذا هم أذعنوا ولم يدعوا إلى شركهم ولم يعملوا به ويقيموا عبادته. والحضارة الحاكمة اليوم تحارب الآراء التي تناقض مواضع العقيدة منها بأشد مما كان يحارب المسلمون المشركين، وتفرض على من يعتبر كتابيا بالنسبة لهذه الحضارة الحاكمة ما هو شر من الجزية ألف مرة.
ولسنا نضرب المثل لذلك بما كان حين محاربة تجارة الرقيق، وإن آمن الذين كانوا يقومون بهذه التجارة بأنها غير محرمة. لا نضرب لهذا المثل حتى لا يقال: إننا لا نستنكر هذه التجارة وإن كان الإسلام لم يدع إلى أكثر من محاربة ما يستنكر. لكن أوروبا اليوم، أوروبا صاحبة الحضارة الحاكمة تؤيدها أمريكا وتعززها قوات الجنوب في آسيا والشرق الأقصى منها، قد حاربت البلشفية، وهي مستعدة لمحاربتها أشد الحرب. ونحن في مصر مستعدون للاشتراك مع الحضارة الحاكمة لمحاربة البلشفية. والبلشفية ليست مع ذلك إلا رأيا في الاقتصاد يحارب الرأي الذي تدين به الحضارة الحاكمة اليوم. أفتكون دعوة الإسلام إلى محاربة المشركين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه دعوة وحشية إلى التعصب وضد الحرية، وتكون الدعوة إلى محاربة البلشفية الهادمة للنظام الاجتماعي في الحضارة الحاكمة دعوة إلى الحرية في العقيدة والرأي وإلى احترامها؟!
ثم إن قوما رأوا في غير بلد من بلاد أوروبا أن التهذيب النفسي يجب أن يتصل به التهذيب الجسمي، وأن ما تواضع الناس عليه من ستر الجسم كله أو بعض أعضائه أشد إثارة للمعاني الجنسية في النفس، وأشد لذلك إفسادا للخلق من أن يسير الناس وكلهم عريان. وبدأ أصحاب هذا الرأي ينفذونه وأقاموا محلات العري في بعض المدن، وأقاموا أماكن يغشاها من شاء للتدرب على هذا التهذيب الجسمي. لكن هذا الرأي ما بدأ ينتشر حتى رأى القائمون بالأمر في كثير من البلاد أن في انتشار مظاهره إفسادا للتهذيب الخلقي يضر بالجماعة؛ فحرموا «محلات العري» وحاربوا القائمين بالرأي. ونهوا بالقانون عن إنشاء أماكن هذا التهذيب الجسمي. وما نشك في أن هذا الرأي، لو انتشر في أمة بأسرها لكان سببا لإعلان الحرب عليها من أمم أخرى على أنه مفسدة للحياة المعنوية في الإنسان، كما أثيرت حروب بسبب الرقيق، وكما تثار حروب أو ما يشبهها بسبب تجارة الرقيق الأبيض وبسبب الاتجار بالمخدرات. لماذا ذلك كله؟ لأن حرية الرأي على إطلاقها يمكن أن تحتمل ما بقيت حبيسة في حدود القول الذي لا يتصل منه بالجماعة ضر أو أذى. فإذا أوشك هذا الرأي أن يثير في الجماعة الإنسانية الفساد فقد وجبت محاربة هذه الثائرات، ووجبت محاربة مظاهر الرأي جميعا، بل وجبت محاربة الرأي نفسه، وإن اختلفت مظاهر هذه الحرب بمقدار ما يترتب على هذه المظاهر من فساد في الجماعة يخشى منه على قوامها الخلقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
هذه هي الحقيقة الاجتماعية المعترف بها والمقررة لدى الحضارة الحاكمة اليوم. ولو أردنا أن نستقصي مظاهر ذلك وآثاره في مختلف الشعوب لطال بنا البحث. وليس ها هنا موضعه. على أنك تستطيع أن تقول إن كل تشريع يراد به قمع أية حركة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية إنما هو حرب للرأي الذي تصدر عنه هذه الحركة. وهذه الحرب تجد ما يسوغها في مبلغ ما يصيب الجماعة الإنسانية من ضرر إذا نفذت الآراء تشب الحرب عليها. فإذا أردنا أن نقدر دعوة الإسلام إلى مقاتلة الشرك وأهله وحربهم حتى يذعنوا، وهل هذه الحرب مسوغة أو غير مسوغة، وجب أن ننظر فيما تمثله فكرة الشرك هذه وما تدعو إليه. فإن اتفقت الكلمة على فادح ضررها بالجماعة الإنسانية في مختلف عصورها كان لإعلان الإسلام الحرب عليها ما يسوغه بل ما يوجبه.
والشرك الذي كان موجودا حين قيام محمد - عليه السلام - بالدعوة إلى دين الله الحق لم يكن يمثل عبادة الأصنام وكفى، ولو أنه كان كذلك لوجبت محاربته؛ فمن الازدراء للعقل الإنساني وللكرامة الإنسانية أن يعبد الإنسان حجرا. ولكن هذا الشرك كان يمثل مجموعة من التقاليد والعقائد والعادات، بل كان يمثل نظاما اجتماعيا هو شر من الرق وشر من البلشفية وشر من كل ما يتصور العقل في هذا القرن المتم للعشرين. كان يمثل وأد البنات، وتعدد الزوجات إلى غير حد، حتى ليحل للزوج أن يتزوج ثلاثين وأربعين ومائة وثلاثمائة امرأة وأكثر من ذلك. وكان يمثل الربا في أفحش ما يستطيع الإنسان أن يتصور الربا. وكان يمثل الإباحية الخلقية في أسفل صورها، وكانت جماعة الوثنيين العرب شر جماعة أخرجت للناس. ونود من كل منصف أن يجيب على هذا السؤال: لو أن جماعة من الناس وضعت لنفسها اليوم نظاما فيه من العقائد والعادات وأد البنات، وتعدد الزوجات وإباحة الرق لسبب أو لغير سبب، واستغلال الأموال استغلالا فاحشا، ثم قامت ثورة على ذلك كله تحاول تحطيمه والقضاء عليه. أتتهم هذه الثورة بالتعصب وبالعمل ضد حرية الرأي؟!
وإذا افترضنا أن أمة اطمأنت إلى هذا النظام الاجتماعي المنحط وأوشكت العدوى أن تنتقل منها إلى غيرها من الدول فآذنتها هذه الدول بحرب، أتكون الحرب مسوغة أم غير مسوغة؟! أولا تكون مسوغة أكثر من الحرب الكبرى الأخيرة التي طاحت بملايين من أهل هذا العالم لغير سبب إلا الشره والجشع من جانب دول الاستعمار؟! وإذا كان ذلك شأنها فما عسى أن تكون قيمة نقد المستشرقين للآيات التي تلاها القارئ من سورة براءة، ولدعوة الإسلام إلى حرب الشرك وأهله ممن يدعون إلى إقامة نظام فيه ما ذكرنا وشر مما ذكرنا؟!
وإذا كانت هذه هي الحقيقة التاريخية في شأن هذا النظام الذي كان قائما في بلاد العرب يظله علم الشرك والوثنية، فهناك أيضا حقيقة تاريخية أخرى مستمدة من حياة الرسول. فهو قد أنفق منذ بعثه الله برسالته ثلاثة عشرة سنة حسوما يدعو الناس فيها إلى دين الله بالحجة ويجادلهم بالتي هي أحسن. وهو فيما قام به من غزوات لم يكن معتديا قط، وإنما كان مدافعا عن المسلمين دائما، مدافعا عن حريتهم في الدعوة إلى دينهم الذي يؤمنون به ويضحون بحياتهم في سبيله. هذه الدعوة القوية إلى قتال المشركين على أنهم نجس، وأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق، وأنهم لا يرعون في مؤمن إلا ولا ذمة، وإنما نزلت بعد آخر غزوة غزا النبي: تبوك. فإذا حل الإسلام ببلاد تفشى فيها الشرك وحاول أن يقيم فيها هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الهدام الذي كان قائما في شبه الجزيرة حين بعث النبي، فدعا المسلمون أهلها إلى ترك هذا النظام، وإلى الأخذ بما أحل الله وتحريم ما حرم فلم يذعنوا، فليس من منصف إلا يقول بالثورة عليهم، وبقتالهم حتى تتم كلمة الحق، وحتى يكون الدين كله لله.
ولقد أثمر هذا الذي تلا علي من «براءة» وما نادى في الناس بألا يدخل الجنة كافر، وبألا يحج بعد العام مشرك، وبألا يطوف بالبيت عريان، خير الثمرات، وأزال كل تردد من نفوس القبائل التي كانت ما تزال متباطئة في تلبية دعوة الإسلام.
وبذلك دخلت في الإسلام بلاد اليمن ومهرة والبحرين واليمامة، ولم يبق من يناوئ محمدا إلا عددا قليلا أخذتهم العزة بالإثم وغرهم بالله الغرور. من هؤلاء عامر بن الطفيل الذي ذهب مع وفد بني عامر ليستظلوا براية الإسلام؛ فلما كانوا عند النبي امتنع عامر ولم يسلم، وأراد أن يكون للنبي ندا. وأراد النبي أن يقنعه كيما يسلم، فأصر على إبائه، ثم خرج وهو يقول: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا. قال محمد: اللهم اكفني عامر بن الطفيل! وانصرف عامر يريد قومه، وإنه لفي بعض الطريق إذ أصابه الطاعون في عنقه وقضى عليه وهو في بيت امرأة من بني سلول؛ قضي عليه وهو يردد: «يا بني عامر! أغدة كغدة البعير وموتة في بيت سلولية؟!»
أما أربد بن قيس فقد أبى أن يسلم وعاد إلى بني عامر ولم يطل به المقام بل أحرقته صاعقة حين خرج على جمل له يبيعه. ولم يمنع إباء عامر وأربد قومهما من أن يسلموا. ومن هؤلاء بل هو شر منهم مكانا مسيلمة بن حبيب؛ فقد جاء في وفد بني حنيفة من أهل اليمامة وخلفه القوم على رحالهم وذهبوا إلى رسول الله فأسلموا وأعطاهم النبي، فذكروا له مسيلمة، فأمر له بمثل ما أمر للقوم، وقال: أما إنه ليس بشركم مكانا؛ وذلك لحفظه رحال أصحابه. فلما سمع مسيلمة قولهم ادعى النبوة، وزعم أن الله أشركه مع محمد في الرسالة، وجعل يسجع لقومه ويقول لهم فيما يقول محاولا مضاهاة القرآن: «لقد أنعم الله على الحبلى. أخرج منها نسمة تسعى. من بين صفاق وحشا.» وأحل مسيلمة الخمر والزنا، ووضع عن قومه الصلاة، وانطلق يدعو الناس إلى تصديقه. فأما من عدا هؤلاء من العرب فأقبلوا يدخلون في دين الله أفواجا من أطراف شبه الجزيرة، وعلى رأسهم رجال من أعز الرجال من أمثال عدي بن حاتم وعمر بن معدي كرب. وبعث ملوك حمير رسولا بكتاب منهم إلى النبي يعلنون فيه إسلامهم فأقرهم عليه وكتب إليهم بما لهم وما عليهم في شرع الله. فلما انتشر الإسلام في جنوب شبه الجزيرة، بعث محمد من السابقين إلى الإسلام من يفقههم في دينهم ويثبتهم فيه.
لم نطل الوقوف عند وفود العرب إلى النبي كما فعل بعض الأقدمين من كتاب السيرة ، لتشابه أمرهم في الانضواء تحت راية الإسلام. ولقد أفرد ابن سعد في طبقاته الكبرى لوفادات العرب على الرسول خمسين صفحة كبيرة، نكتفي بأن نذكر منها أسماء القبائل والبطون التي أوفدتها. فقد جاءت وفود من: مزينة، وأسد، وتميم، وعبس، وفزارة، ومرة، وثعلبة، ومحارب، وسعد بن بكر، وكلاب، ورؤاس بن كلاب، وعقيل بن كعب، وجعدة، وقشير بن كعب، وبني البكاء، وكنانة، وأشجع، وباهلة، وسليم، وهلال بن عامر، وعامر بن صعصعة، وثقيف. وجاءت وفود ربيعة من: عبد القيس، وبكر بن وائل، وتغلب، وحنيفة، وشيبان. وجاء من اليمن وفد من طيئ، وتجيب، وخولان، وجعفي، وصداء، ومراد، وزبيد، وكندة، والصدف، وخشين، وسعد هذيم، وبلي، وبهراء، وعدرة، وسلامان، وجهينة، وكلب، وجرم، والأزد، وغسان، والحارث بن كعب، وهمدان، وسعد العشيرة، وعنس، والداريين، والرهاويين (حي من مذجح)، وغامد، والنخع، وبجيلة، وخثعم، والأشعرين، وحضرموت، وأزد عمان، وغافق، وبارق، ودوس، وثمالة، والحدان، وأسلم، وجذام، ومهرة، وحمير، ونجران، وجيشان. وكذلك لم يبق في شبه الجزيرة بطن أو قبيلة حتى أسلم إلا من قدمنا.
وكان ذلك شأن المشركين من أهل شبه الجزيرة؛ سارعوا إلى الدخول في الإسلام، وتركوا عبادة الأوثان. وتطهرت بلاد العرب جميعا من الأصنام وعبادتهم، وتم ذلك كله بعد تبوك طواعية واختيارا، من غير أن تزهق نفس أن يهراق دم. فماذا صنع اليهود والنصارى مع محمد، وماذا صنع محمد معهم؟
الفصل التاسع والعشرون
حجة الوداع
(محمد وأهل الكتاب - موقفه من النصارى - مجادلته إياهم - وحدة موقف محمد منهم - بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن - دعوة محمد الناس للحج ومجيئهم إلى المدينة من كل صوب - مسيرتهم في نحو مائة ألف إلى مكة - مناسك الحج - خطبة محمد) ***
منذ تلا علي بن أبي طالب صدر سورة براءة على الحاج من مسلمين ومشركين، حين حج أبو بكر بالناس، ومنذ أذن فيهم بأمر محمد حين اجتمعوا بمنى أن لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عهد فهو له إلى مدته، أيقن المشركون من أهل بلاد العرب جميعا أن لم يبق لهم إلى المقام على عبادة الأوثان سبيل، وأنهم إن يفعلوا فليأذنوا بحرب من الله ورسوله. وكان ذلك شأن أهل الجنوب من شبه جزيرة العرب حيث اليمن وحضرموت؛ لأن أهل الحجاز وما والاها شمالا كانوا قد أسلموا واستظلوا براية الدين الجديد. وكان الأمر في الجنوب مقسما بين الشرك والمسيحية.
فأما المشركون فأقبلوا كما رأيت من قبل، يدخلون في دين الله أفواجا ويبعثون وفودهم إلى المدينة فيلقون من النبي كل حفاوة بهم تزيدهم على الإسلام إقبالا وترد أكثرهم إلى إماراته فتجعله أشد على دينه الجديد حرصا. وأما أهل الكتاب من اليهود النصارى فقد نزلت فيهم مما تلا علي من سورة التوبة هذه الآيات:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
1
إلى قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون .
يقف كثير من المؤرخين، أمام هذه الآيات من سورة التوبة ختام ما نزل من القرآن، يسائلون أنفسهم: هل أمر محمد - عليه السلام - في شأن أهل الكتاب بغير ما أمر به من قبل أثناء سني رسالته؟ ويذهب بعض المستشرقين إلى القول بأن هذه الآيات تضع أهل الكتاب والمشركين فيما يشبه المساواة؛ وأن محمدا، وقد ظفر بالوثنية في شبه الجزيرة بعد أن استعان عليها باليهودية والمسيحية، معلنا خلال أعوام رسالته الأولى أنه إنما جاء مبشرا بدين عيسى وموسى وإبراهيم والرسل الذين خلوا من قبل، قد جعل وجهته إلى اليهود الذين بدءوه بالعداوة، وظل بهم حتى أجلاهم عن شبه الجزيرة، وأثناء ذلك كان يتودد إلى النصارى وتنزل عليه الآيات تشيد بحسن إيمانهم وجميل مودتهم، وينزل عليه قوله تعالى:
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون .
2
وها هو ذا الآن يجعل وجهته إلى النصرانية يريد بها ما أراد باليهودية من قبل، فيجعل شأن النصارى كشأن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؛ وهو يصل إلى ذلك بعد أن أجار النصارى من اتبعه من المسلمين حين ذهبوا على الحبشة يستظلون بعدل نجاشيها، وبعد أن كتب محمد لأهل نجران وغيرهم من النصارى يقرهم على دينهم وعلى القيام برسوم عبادتهم. ويذهب أولئك المستشرقون إلى أن هذا التناقض في خطة محمد هو الذي أدى إلى استحكام العداوة بين المسلمين والنصارى من بعد، وأنه هو الذي جعل التقريب بين أتباع عيسى وأتباع محمد غير ميسور إن لم يكن في حكم المستحيل.
والأخذ بظاهر هذه الحجة قد يغري الذين يستمعون إليها إلى أنها تصف جانبا من الحق، إن لم تغرهم بتصديقها، فأما تتبع التاريخ والتدقيق في أحوال نزول الآيات وأسباب نزولها، فلا يدع محلا للريب ألبتة في وحدة موقف الإسلام وموقف محمد من الأديان الكتابية منذ بدء رسالته إلى ختامها. فالمسيح ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم. والمسيح ابن مريم عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبيا وجعله مباركا وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيا؛ ذلك ما نزل به القرآن منذ بدء الرسالة إلى ختامها.
والله أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؛ ذلك روح الإسلام وأساسه منذ اللحظة الأولى، وذلك روح الإسلام ما دام العالم. ولقد ذهب وفد من نصارى نجران إلى النبي يجادلونه في الله، وفي بنوة عيسى لله من قبل أن تنزل سورة التوبة بزمن طويل، ويسألون محمدا: إن عيسى أمه مريم فمن أبوه؟ وفي ذلك نزل قوله تعالى:
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين * قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
3
وفي هذه السورة، سورة آل عمران، يتوجه الحديث حديثا معجزا إلى أهل الكتاب يعاتبهم لم يصدون عن سبيل الله من آمن، ولم يكفرون بآيات الله وهي هي التي جاء بها عيسى وجاء بها موسى وجاء بها إبراهيم، قبل أن تحرف عن مواضعها وقبل أن يوجهها التأويل بما تهوى أغراض هذه الحياة الدنيا ومتاعها الغرور. وفي كثير من السور توجيه للحديث على النحو الذي وجه به في سورة آل عمران. ففي سورة المائدة يقول الله تعالى:
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون .
4
وفي سورة المائدة كذلك يقول تعالى:
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق .
5
إلى آخر الآيات التي نقلنا في تقديم هذا الكتاب. وسورة المائدة هي التي من بين آياتها الآية التي يحتج بها المؤرخون من النصارى، ويتخذونها دليلا على تطور موقف محمد منهم لتطور أحواله السياسية؛ إذ يقول تعالى:
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون .
6
والآيات التي نزلت في سورة براءة وتحدثت عن أهل الكتاب لم تتحدث عنهم في إيمانهم بالمسيح ابن مريم، وإنما تحدثت عنهم وعن شركهم بالله وفي أكلهم أموال الناس بالباطل وفي كنزهم الذهب والفضة. والإسلام يرى ذلك خروجا من أهل الكتاب على دين عيسى، يجعلهم يحلون ما حرم الله ويصنعون صنيع من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. وهو مع ذلك يجعل من إيمانهم بالله، على الرغم من ذلك كله، شفيعا لهم لا تجوز معه مساواتهم بالوثنيين، ويكفي معه، إن هم أصروا على أن يجعلوا الله ثالث ثلاثة وعلى أن يحلوا ما حرم الله، أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
كانت هذه الدعوة التي أذن علي بها، يوم حج أبي بكر بالناس، آية إسلام الناس من أهل الجنوب في شبه الجزيرة ودخولهم في دين الله أفواجا. فقد توالت الوفود تترى على المدينة كما قدمنا من قبل، ومن بينها وفود من المشركين ووفود من أهل الكتاب. وكان النبي يكرم كل وافد عليه ويرد الأمراء مكرمين إلى إماراتهم. من ذلك ما سبق لنا ذكره في الفصل الماضي، ومنه أن الأشعث بن قيس قدم في وفد كندة في ثمانين راكبا، دخلوا المسجد على النبي وقد رجلوا لممهم وتكحلوا ولبسوا جبب الحبر بطنوها بالحرير، فلما رآهم النبي قال: ألم تسلموا؟ قالوا: بلى. قال: فما هذا الحرير في أعناقكم؟! فشقوه. وقال له الأشعث: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار فتبسم النبي ونسب ذلك إلى العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث. وقدم وائل بن حجر الكندي مع الأشعث وكان أمير بلاد الشاطئ من حضرموت فأسلم، فأقره النبي على إمارته على أن يجمع العشر من أهل بلاده ليرده إلى جباة الرسول. وكلف النبي معاوية بن أبي سفيان أن يصحب وائلا إلى بلاده. وأبى وائل أن يردفه أو أن يعطيه نعليه يتقي بهما حمارة الغيظ مكتفيا بأن يدعه يسير في ظل بعيره. وقبل معاوية ذلك على مخالفته لما جاء به الإسلام من التسوية بين المسلمين ومن جعل المؤمنين إخوة، حرصا على إسلام وائل وقومه.
ولما انتشر الإسلام في ربوع اليمن، أوفد النبي معاذا إلى أهله يعلمهم ويفقههم وأوصاه قائلا: «يسر ولا تعسر. وبشر ولا تنفر. وإنك ستقوم على قوم من أهل الكتاب يسألونك: ما مفتاح الجنة؟ فقل: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.» وذهب معاذ ومعه طائفة من المسلمين الأولين ومن الجباة يعلمون الناس ويقضون بينهم بقضاء الله ورسوله. وبانتشار الإسلام في ربوع شبه الجزيرة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، أصبحت أمة واحدة يظلها لواء واحد هو لواء محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وتدين كلها بدين واحد هو الإسلام، وتتجه قلوبها جميعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ هذا بعد أن كانت إلى قبل عشرين سنة قبائل متنافرة، تشن إحداها الغارة على غيرها كلما وجدت في ذلك مغنما. وبانضوائها تحت لواء الإسلام طهرت من رجس الوثنية واستراحت إلى حكم الواحد القهار. وبذلك هدأت الخصومات بين أهلها؛ فلم يبق لغزو أو خصومة موضع، ولم يبق لأحد أن يستل سيفه من قرابه إلا أن يدافع عن وطنه أو يدفع المعتدي على دين الله.
على أن جماعة من نصارى نجران احتفظوا بدينهم، مخالفين في ذلك الأكثرين من قومهم بني الحارث الذين أسلموا من قبل. إلى هؤلاء وجه النبي خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام كي يسلموا من مهاجمته ولم يلبثوا حين نادى فيهم خالد أن أسلموا؛ فبعث خالد وفدا منهم إلى المدينة لقيه النبي فيها بالترحيب والمودة. ثم إن جماعة من أهل اليمن عز عليهم أن يخضعوا للواء الإسلام، لأن الإسلام ظهر بالحجاز، ولأن اليمن اعتادت أن تغزو الحجاز فلم يغزها الحجاز من قبل قط. إلى هؤلاء أرسل النبي علي بن أبي طالب يدعوهم إلى الإسلام. وقد استكبروا أول الأمر وقابلوا دعوة علي بمهاجمته؛ فلم يلبث علي أن شتتهم على صغر سنه وإن لم يكن معه إلا ثلاثمائة فارس . وارتد المنهزمون ينظمون من جديد صفوفهم. بيد أن عليا أحاط بهم وأوقع في صفوفهم الرعب ، فلم يجدوا من التسليم بدا، وسلموا وأسلموا وحسن إسلامهم، وأنصتوا إلى تعاليم معاذ وأصحابه، وكان وفدهم آخر وفد استقبله النبي بالمدينة قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى.
بينما كان علي يتأهب للعودة إلى مكة كان النبي يتجهز للحج ويأمر الناس بالتجهز له؛ ذلك أن أشهر السنة استدارت وأقبل ذو القعدة وأوشك أن يولي، ولم يكن النبي قد حج الحج الأكبر وإن يكن قد اعتمر فأدى الحج الأصغر قبل ذلك مرتين. وللحج مناسك يجب أن يكون عليه السلام قدوة المسلمين فيها. وما كاد الناس يعرفون ما صح عليه عزم النبي ودعوته إياهم للحج معه حتى انتشرت الدعوة في كل ناحية من شبه الجزيرة، وحتى أقبل الناس على المدينة ألوفا ألوفا من كل فج وحدب: من المدائن والبوادي، من الجبال والصحاري، من كل بقعة في هذه البلاد العربية المترامية الأطراف، التي استنارت كلها بنور الله ونور نبيه الكريم. وحول المدينة ضربت الخيام لمائة ألف أو يزيدون جاءوا تلبية لدعوة نبيهم رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. جاءوا إخوة متعارفين تجمع بينهم المودة الصادقة والأخوة الإسلامية، وكانوا إلى سنوات قبل ذلك أعداء متنافرين. وجعلت هذه الألوف المؤلفة تجوس خلال المدينة، وكل باسم الثغر، وضاح الطلعة، مشرق الجبين، يصف اجتماعهم انتصار الحق وانتشار نور الله انتشارا ربط بينهم وجعلهم جميعا كالبنيان المرصوص.
وفي الخامس والعشرين من ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة سار النبي وأخذ نساءه جميعا معه، كل في محفتها. سار وتبعه هذا الجمع الزاخر، يذكر طائفة من المؤرخين أنه كان تسعين ألفا، ويذكر آخرون أنه كان أربعة ومائة ألف. ساروا يحدوهم الإيمان وتملأ قلوبهم الغبطة الصادقة لسيرهم إلى بيت الله الحرام يؤدون عنده فريضة الحج الأكبر. فلما بلغوا ذا الحليفة نزلوا وأقاموا ليلتهم بها. فلما أصبحوا أحرم النبي وأحرم المسلمون معه، فلبس كل منهم إزاره ورداءه وصاروا ينتظمهم جميعا زي واحد هو أبسط ما يكون زيا ، وقد حققوا بذلك المساواة بأسمى معانيها وأبلغها. وتوجه محمد بكل قلبه إلى ربه ونادى ملبيا والمسلمون من ورائه: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. الحمد والنعمة والشكر لك لبيك. لبيك، لا شريك لك لبيك.» وتجاوبت الأودية والصحاري بهذا النداء تلبي كلها وتنادي بارئها مؤمنة عابدة. وانطلق الركب بألوفه وعشرات ألوفه يقطع الطريق بين مدينة الرسول ومدينة المسجد الحرام، وهو ينزل عند كل مسجد يؤدي فيه فرضه، وهو يرفع الصوت بالتلبية طاعة لله وشكرا لنعمته، وهو ينتظر يوم الحج الأكبر نافد الصبر مشوق القلب ممتلئ الفؤاد لبيت الله هوى ومحبة، وصحاري شبه الجزيرة وجبالها وأوديتها وزروعها النضرة في دهش مما تسمع وتتجاوب به أصداؤها مما لم تعرف قط قبل أن يباركها هذا النبي الأمي عبد الله ورسوله.
فلما بلغ القوم سرفا، وهي محلة في الطريق بين مكة والمدينة، قال محمد لأصحابه: من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا.
وبلغ الحجيج مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة، فأسرع النبي والمسلمون من بعده إلى الكعبة، فاستلم الحجر الأسود فقبله، وطاف بالبيت سبعا هرول في الثلاث الأولى منها على نحو ما فعل في عمرة القضاء. وبعد أن صلى عند مقام إبراهيم عاد فقبل الحجر الأسود كرة أخرى، ثم خرج من المسجد إلى ربوة الصفا، ثم سعى بين الصفا والمروة. ثم نادى محمد في الناس أن لا يبق على إحرامه من لا هدي معه ينحره. وتردد بعضهم، فغضب النبي لهذا التردد أشد الغضب وقال: ما آمركم به فافعلوا. ودخل قبته مغضبا. فسألته عائشة: ما أغضبك؟ فقال: وما لي لا أغضب وأنا آمر أمرا فلا يتبع؟! ودخل أحد أصحابه وما يزال غضبان، فقال: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار. فكان جواب الرسول: أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون؟! ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلوا. كذلك روى مسلم. فلما بلغ المسلمين غضب رسول الله حلل الألوف من الناس إحرامهم على أسف منهم، وحل نساء النبي وحلت ابنته فاطمة مع الناس، ولم يبق على إحرامه إلا من ساق الهدي معه.
وبينما المسلمون في حجهم أقبل علي عائدا من غزوته باليمن وقد أحرم للحج لما علم أن رسول الله حج بالناس. ودخل على فاطمة فوجدها قد حلت إحرامها. فسألها فذكرت له أن النبي أمرهم أن يحلوا بعمرة. فذهب إلى النبي فقص عليه أخبار سفرته باليمن. فلما أتم حديثه، قال له النبي: انطلق فطف بالبيت وحل كما حل أصحابك. قال علي: يا رسول الله، إني أهللت كما أهللت. قال النبي: ارجع فاحلل كما حل أصحابك. قال علي: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد. فسأله النبي: أمعه هدي؟ فلما نفى علي أشركه محمد في هديه، وثبت علي على إحرامه وأدى مناسك الحج الأكبر.
وفي الثامن من ذي الحجة يوم التروية ذهب محمد إلى منى، فأقام بخيامه فيها وصلى فروض يومه بها وقضى الليل حتى مطلع الفجر من يوم الحج، فصلى الفجر وركب ناقته القصواء حين بزغت الشمس ويمم بها جبل عرفات والناس من ورائه. فلما ارتقى الجبل أحاط به ألوف المسلمين يتبعونه في مسيرته، ومنهم الملبي ومنهم المكبر، وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء. وضربت للنبي قبة بنمرة، (قرية بشرق عرفات)، وكان ذلك بعض ما أمر به. فلما زاغت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت، ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنة، وهناك نادى في الناس وما يزال على ناقته بصوت جهوري كان يردده مع ذلك من بعده ربيعة بن أمية بن خلف وهو يقف بين عبارة وأخرى قائلا بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
خطبة الرسول الجامعة
أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.
أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا.
وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت.
فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
وإن كل ربا موضوع،
7
ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله.
وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ...
أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا. ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد، أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة. فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح. فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان
8
لا يملكن لأنفسهن شيئا. وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله.
فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا أمرا بينا: كتاب الله وسنة رسوله.
أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه. تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم.
اللهم هل بلغت؟!
كان النبي يقول هذا وربيعة يردده من بعده مقطعا مقطعا، ويسأل الناس أثناء ذلك ليحتفظ بيقظة أذهانهم. فكان النبي يكلفه أن يسألهم مثلا: إن رسول الله يقول: هل تدرون أي يوم هذا؟ فيقولون: يوم الحج الأكبر. فيقول النبي: قل لهم إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا. فلما بلغ خاتمة كلامه وقال: اللهم هل بلغت؟ أجاب الناس من كل صوب: نعم. فقال: «اللهم اشهد.»
ولما أتم النبي خطابه نزل عن ناقته القصواء، وأقام حتى صلى الظهر والعصر ثم ركبها حتى الصخرات؛ وهناك تلا عليه السلام على الناس قول الله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
9
فلما سمعها أبو بكر بكى أن أحس أن النبي وقد تمت رسالته قد دنا يومه الذي يلقى فيه ربه.
وترك النبي عرفات وقضى ليله بالمزدلفة، ثم قام في الصباح فنزل بالمشعر الحرام؛ ثم ذهب إلى منى وألقى في طريقه إليها الجمرات؛ حتى إذا بلغ خيامه نحر ثلاثا وستين ناقة، واحدة عن كل سنة من سني حياته، ونحر علي ما بقي من الهدي المائة التي ساق النبي منذ خروجه من المدينة. ثم حلق النبي رأسه وأتم حجه. أتم هذا الحج الذي يسميه بعضهم حجة الوداع، وآخرون حجة البلاغ، وغيرهم حجة الإسلام. وهي في الحق ذلك كله؛ فقد كانت حجة الوداع، رأى فيها محمد مكة والبيت الحرام للمرة الأخيرة. وكانت حجة الإسلام، أكمل الله فيها للناس دينه وأتم عليهم نعمته. وكانت حجة البلاغ، أتم النبي فيها بلاغه للناس ما أمره الله ببلاغه. وما محمد إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون.
الفصل الثلاثون
مرض النبي ووفاته
(تفكيره في غزو الروم - جيش أسامة - بدء مرض النبي - ذهابه إلى مقابر المسلمين وصلاته على أهل أحد - شكواه من وجع رأسه - الحمى - أمره أبا بكر أن يصلي بالناس - صحو الموت - اختيار الرفيق الأعلى) ***
تمت حجة الوداع وآن لعشرات الألوف ممن صحبوا النبي فيها أن يعودوا إلى ديارهم، فأنجد منهم أهل نجد، وأتهم أهل تهامة، وانحدر إلى الجنوب أهل اليمن وحضرموت وما حاذاها. وسار النبي وأصحابه ميممين المدينة حتى إذا بلغوها أقاموا بها في أمن من شبه الجزيرة كلها، وفي تفكير متصل من جانب محمد في أمر البلاد الخاضعة للروم والفرس بالشام ومصر والعراق. فهو قد أمن من ناحية شبه جزيرة العرب جمعاء بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا، وبعد أن جعلت الوفود تقبل تترى إلى يثرب تعلن الطاعة وتتفيأ ظلالها تحت لواء الإسلام، بعد أن انحاز العرب جميعا إليه في حجة الوداع. وكيف لا يخلص ملوك العرب في ولائهم للنبي ولدينه ولم يبق لهم أحد ما أبقاه لهم النبي الأمي من سلطان واستقلال ذاتي. أولم يبق بدهان عامل فارس على أرض اليمن في ملكه حين أعلن بدهان إسلامه وحرص على وحدة العرب وألقى نير المجوس؟ ولم يكن ما يقوم به بعضهم في أنحاء من شبه الجزيرة من حركات تشبه الانتقاض ليستغرق من النبي شيئا من التفكير أو ليثير في نفسه شيئا من المخاوف، بعد أن انبسط سلطان الدين الجديد على كل الأنحاء، وعنت الوجوه للحي القيوم، وآمنت القلوب بالله الواحد القهار.
لذلك لم يثر قيام الذين قاموا إذ ذاك يدعون النبوة عناية محمد ولا اهتمامه. صحيح أن بعض القبائل القاصية عن مكة كانت تسرع، بعد الذي عرفت عن محمد ونجاح دعوته، إلى الاستماع لمدعي النبوة من أهل قبيلتهم، وتود لو يكون لها من الحظ ما أوتيت قريش، وأن هذه القبائل كانت لبعدها عن مقر الدين الجديد لا تعرف كل أمره، لكن الدعوة الحق إلى الله كانت قد تأصلت في بلاد العرب، فلم تكن مقاومتها أمرا يسيرا. وما لاقى محمد في سبيل هذه الدعوة كان قد انتشر في الآفاق خبره، ولم يكن مستطاعا لغير ابن عبد الله احتماله. وكل ادعاء أساسه البهتان لا مفر أن ينكشف سريعا بهتانه. فكل ادعاء للنبوة لم يكن مقدرا له أي نجاح ذي بال. قام طليحة - زعيم بني أسد وأحد أشاوس العرب في الحرب ومن ذوي السلطان بنجد - وزعم أنه نبي ورسول، وأيد زعمه بالتنبؤ بموقع الماء في يوم كان قومه فيه يسيرون ويكاد الظمأ يقتلهم. لكنه بقي خائفا من الانتقاض على محمد طوال حياة محمد، ولم يعلن الثورة إلا بعد أن قبض الله إليه رسوله.
وهزم ابن الوليد طليحة في ثورته هذه، فانضم من جديد إلى صفوف المسلمين وحسن إسلامه . ولم يكن مسيلمة ولا كان الأسود العنسي خيرا مكانا من طليحة طيلة حياة النبي. بعث مسيلمة إلى النبي - عليه السلام - يقول: إنه نبي مثله، «وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون.» فلما تلا الخطاب نظر النبي لرسولي مسيلمة وأبدى لهما أنه كان يأمر بقتلهما لولا أن الرسل في أمن، ثم أجاب مسيلمة بأنه سمع إلى كتابه وما فيه من كذب، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين. والسلام على من اتبع الهدى.
وأما الأسود العنسي - صاحب اليمن بعد موت بدهان - فقد جعل يدعي السحر ويدعو الناس إليه خفية، حتى إذا عظم أمره سار من الجنوب وطرد عمال محمد على اليمن، وتقدم إلى نجران وقتل فيها ابن بدهان ووارث عرشه، وبنى بزوجه، ونشر في تلك الأصقاع سلطانه. ولم يثر استفحال أمره عناية محمد، ولا استدعى من اهتمامه أكثر من أن بعث إلى عماله باليمن كي يحيطوا بالأسود أو يقتلوه. ونجح المسلمون في تأليب اليمن من جديد على الأسود، وقتلته زوجه انتقاما منه لقتله زوجها الأول ابن بدهان.
كان تفكير محمد وكانت عنايته متجهين إذن إلى الشمال بعد عوده من حجة الوداع، وكان من ناحية الجنوب آمنا مطمئنا. والحق أنه منذ غزوة مؤتة، ومنذ عاد المسلمون قانعين من الغنيمة بالإياب، مكتفين بما أبدى خالد بن الوليد من مهارة في الانسحاب، كان محمد يحسب لناحية الروم حسابها، ويرى ضرورة توطيد سلطان المسلمين على حدود الشام حتى لا يعود إليها الذين جلوا عن شبه الجزيرة إلى فلسطين يناوئون أهلها. ولهذا جهز الجيش العرم الذي جهز حين بلغه تفكير الروم في مهاجمة حدود شبه الجزيرة، وسار هو على رأسه حتى بلغ تبوك، فألفى الروم قد انسحبوا إلى داخل بلادهم وحصونهم من هيبته. لكنه مع هذا ظل يقدر لناحية الشمال أن تثور الذكريات بحماة المسيحية وأصحاب الغلب في ذلك العصر من أهل الإمبراطورية الرومية، فيعلنوا الحرب على من أجلوا النصرانية عن نجران وغير نجران من أنحاء بلاد العرب. لذلك لم يطل بالمسلمين المقام بالمدينة بعد عودهم من حجة الوداع بمكة حتى أمر النبي بتجهيز جيش عرم إلى الشام، جعل فيه المهاجرين الأولين ومنهم أبو بكر وعمر، وأمر على الجيش أسامة بن زيد بن حارثة.
وكان أسامة بن زيد يومئذ حدثا لا يكاد يعدو العشرين من سنه، فكان لإمارته على المتقدمين الأولين من المهاجرين ومن كبار الصحابة ما أثار دهشة النفوس لولا إيمانها الصادق برسول الله. والنبي إنما أراد بتعيين أسامة بن زيد أن يقيمه مقام أبيه الذي استشهد في موقعة مؤتة، وأن يجعل له من فخار النصر ما يجزي به ذلك الاستشهاد، وما يبعث إلى جانب ذلك في نفس الشباب الهمة والحمية، ويعودهم الاضطلاع بأعباء أجسم التبعات. وأمر محمد أسامة أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين على مقربة من مؤتة حيث قتل أبوه، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عماية الصبح، وأن يمعن فيهم قتلا، وأن يحرقهم بالنار، وأن يتم ذلك دراكا حتى لا تسبق إلى أعدائه أنباؤه. فإذا أتم الله النصر لم يطل بقاءه بينهم، وعاد غانما مظفرا.
وخرج أسامة والجيش معه إلى الجرف (على مقربة من المدينة) يتجهزون للسفر إلى فلسطين.
وإنهم لفي جهازهم إذ حال مرض رسول الله، ثم اشتداد المرض به، دون مسيرهم. وقد يسأل إنسان: كيف يحول مرض رسول الله دون مسيرة جيش أمر بجهازه وسفره؟ لكن مسيرة جيش إلى الشام يقطع البيد والصحاري أياما طويلة ليست بالأمر الهين، ولم يكن يسهل على المسلمين، والنبي أحب إليهم من أنفسهم، أن يتركوا المدينة وهو يشكو المرض وهم لا يعلمون ما وراء هذا المرض. ثم إنهم لم يعرفوا قط من قبل أنه شكا مرضا ذا بال، فهو لم يصب من المرض بأكثر من فقد الشهية في السنة السادسة من الهجرة حين قيل كذبا إن اليهود سحروه، ومن ألم أصابه واحتجم من أجله حين أكل من الشاة المسمومة في السنة السابعة من الهجرة. ثم إن حياته وتعاليمه كانت تنأى به وبكل من يتبعها عن المرض.
فهذا الزهد في الطعام ونيل القليل منه، وهذه البساطة في الملبس والعيش، وهذه النظافة التامة نظافة يقتضيها الوضوء ويحبها محمد ويحرص عليها، حتى ليقول: إنه لولا خيفته أن يشق على قومه لفرض عليهم السواك في اليوم خمس مرات، وهذا النشاط الدائم؛ نشاط العبادة من ناحية ونشاط الرياضة من ناحية أخرى. وهذا القصد في كل شيء، وفي الملذات قبل كل شيء، وهذا السمو عن عبث الأهواء، وهذه الرفعة النفسية لا تدانيها رفعة، وهذا الاتصال الدائم بالحياة وبالكون في خير صور الحياة وأدق أسرار الكون - هذا كله يجنب صاحبه المرض ويجعل الصحة بعض حظه.
فإذا كان سليم التكوين، قوي الخلق، كما كان محمد، جفاه المرض ولم يعرف إليه سبيلا. فإذا مرض كان طبيعيا أن يخاف محبوه وأصحابه، وكان طبيعيا أن يخافوا وهم قد رأوا ما عاناه من مصاعب الحياة خلال عشرين سنة متتابعة. فهو منذ بدأ يجهر بدعوته في مكة مناديا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له وبترك الأصنام مما كان يعبد آباؤهم، قد لقي من العنت ما تنوء به النفوس مما شتت عنه أصحابه الذين أمرهم فهاجروا إلى الحبشة، وما اضطره للاحتماء بشعاب الجبل حين أعلنت قريش قطيعته.
وهو حين هاجر من مكة إلى المدينة بعد بيعة العقبة قد هاجر في أدق الأحوال وأشدها تعرضا للخطر، وهاجر وهو لا يعرف ما قدر له بالمدينة. وقد كان بها في الفترة الأولى من مقامه موضع دس اليهود وعبثهم. فلما نصره الله وأذن أن يدخل الناس من أنحاء شبه الجزيرة في دين الله أفواجا، ازداد عمله وتضاعف مجهوده وظل تعهده ذلك كله يقتضيه من بذل الجهود ما ينوء بالعصبة أولي القوة، وإن له - عليه الصلاة والسلام - في بعض الغزوات لمواقف تشيب من هولها الولدان.
وأي موقف أشد هولا من موقفه يوم أحد حين ولى المسلمون، وسار هو يصعد في الجبل ورجال قريش يشتدون في تتبعه، ويرمونه حتى كسرت رباعيته؟! وأي موقف أشد هولا من موقفه يوم حنين حين ارتد المسلمون في عماية الصبح مولين الأدبار، حتى قال أبو سفيان: إن البحر وحده هو الذي يردهم، ومحمد واقف لا يرتد ولا يتراجع وينادي في المسلمين: إلى أين، إلى أين؟! إلي إلي، حتى عادوا وحتى انتصروا! والرسالة! والوحي! وهذا المجهود الروحي المضني في اتصاله بسر الكون وبالملأ الأعلى، هذا المجهود الذي روى بسببه عن النبي أنه قال: شيبتني هود وأخواتها! رأى أصحاب محمد هذا كله، ورأوه يحمل العبء صلبا قويا لا يعرف المرض إليه طريقا. فإذا مرض من بعد ذلك، فمن حق أصحابه أن يخافوا وأن يتمهلوا في السير من معسكرهم بالجرف إلى الشام، حتى تطمئن نفوسهم إلى ما يكون من أمر الله في نبيه ورسوله.
وحادث وقع جعلهم أشد خوفا، فقد أرق محمد ليلة أول ما بدأ يشكو وطال أرقه، وحدثته نفسه أن يخرج في ليل تلك الأيام، أيام الصيف الرقيقة النسيم، فيما حول المدينة، وخرج ولم يستصحب معه أحدا إلا مولاه أبا مويهبة. أفتدري إلى أين ذهب؟ ذهب إلى بقيع الغرقد حيث مقابر المسلمين على مقربة من المدينة. فلما وقف بين المقابر قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يأهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى.» حدث أبو مويهبة أن النبي قال له أول ما بلغا بقيع الغرقد: «إني أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي.» فلما استغفر لهم وآن له أن يئوب، أقبل على أبي مويهة فقال له: «يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلود فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة.» قال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة. قال محمد: «لا والله يا أبا مويهبة! لقد اخترت لقاء ربي والجنة.»
تحدث أبو مويهبة بما رأى وما سمع؛ لأن النبي بدأ يشكو المرض غداة تلك الليلة التي زار فيها البقيع، فاشتد خوف الناس ولم يتحرك جيش أسامة. صحيح أن هذا الحديث الذي يروى عن أبي مويهبة يلقاه بعض المؤرخين بشيء من الشك، ويذكرون أن مرض محمد لم يكن وحده هو الذي حال دون تحرك الجيش إلى فلسطين، وأن تذمر الكثيرين من تعيين حدث كأسامة على رأس جيش يضم جلة المهاجرين الأولين والأنصار، كان أكبر من مرض محمد في عدم تحرك الجيش أثرا. وقد اعتمد هؤلاء المؤرخون في تدوين رأيهم هذا على وقائع يتلوها القارئ في هذا الفصل. وإذا كنا لا نناقش أصحاب هذا الرأي رأيهم في تفاصيل هذا الذي روى أبو مويهبة، فإننا لا نرى مسوغا لإنكار الحادث من أساسه، وإنكار ذهاب النبي إلى بقيع الغرقد واستغفاره لأهل المقابر من ساكنيه ودقة إدراكه اقتراب ساعته، ساعة الدنو من جوار الله، فالعلم لا ينكر في عصرنا الحاضر مناجاة الأرواح على أنها بعض المظاهر النفسية
. ودقة الإدراك لدنو الأجل يؤتاها الكثيرون حتى ليستطيع أي إنسان أن يقص مما عرف من وقائع ذلك شيئا غير قليل. ثم إن هذه الصلة بين الأحياء والموتى، وهذه الوحدة بين الماضي والمستقبل، وحدة لا يحدها زمان ولا مكان، قد أصبحت مقررة اليوم وإن كنا بطبيعة تكويننا نقصر عن استجلاء صورتها. فإذا كان ذلك بعض ما نرى اليوم وبعض ما يقره العلم، فلا محل لإنكار هذا الحادث الذي روى أبو مويهبة من أساسه، ولا محل لهذا الإنكار بعد الذي ثبت من اتصال محمد النفسي والروحي بعوالم الكون اتصالا يجعله يدرك من أمره أضعاف ما يدرك الموهوبون في هذه الناحية.
وأصبح محمد في الغداة ومر بعائشة، فوجدها تشكو صداعا في رأسها وتقول: وا رأساه. فقال لها وقد بدأ يحس ألم المرض: بل أنا والله يا عائشة وا رأساه. لكن شكوه لم يكن قد اشتد إلى الحد الذي يلزمه الفراش، أو يحول بينه وبين ما عود أهله وأزواجه من تلطف ومفاكهة. وكررت عائشة الشكوى من صداعها حين سمعته يشكو؛ فقال لها: وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟! وأثارت هذه الدعابة غيرة الأنوثة في نفس عائشة الشابة كما أثارت عندها حب الحياة والحرص عليها، فأجابت: «ليكن ذلك حظ غيري. والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك.» وتبسم النبي وإن لم يمكنه الألم من متابعة الدعابة، فلما سكن عنه الألم بعض الشيء قام يطوف بأزواجه كما عودهن. لكن الألم جعل يعاوده وتزداد به شدته. حتى إذا كان في بيت ميمونة لم يطق مغالبته، ورأى نفسه في حاجة إلى التمريض. هنالك دعا نساءه إليه في بيت ميمونة واستأذنهن، بعد أن رأين حاله، أن يمرض في بيت عائشة. وأذن له أزواجه في الانتقال؛ فخرج عاصبا رأسه، يعتمد في مسيرته على علي بن أبي طالب وعلى عمه العباس، وقدماه لا تكادان تحملانه حتى دخل بيت عائشة.
وزادت به الحمى في الأيام الأولى من مرضه، حتى لكان يشعر كأن به منها لهبا. لكن ذلك لم يكن يمنعه ساعة تنزل الحمى من أن يمشي إلى المسجد ليصلي بالناس. وظل على هذا عدة أيام، لا يزيد على الصلاة ولا يقوى على محادثة أصحابه ولا خطابهم، وإن لم يحل ذلك دون أن يصل الهمس إلى أذنه بما يقول الناس إنه أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار لغزو الشام. ومع أنه كان يزداد وجعه كل يوم شدة، لقد شعر من هذا الهمس بضرورة التحدث إلى الناس حتى يعهد إليهم؛ فقال لأزواجه وأهله: «هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم.» وجيء بالماء من آبار مختلفة، وأقعده أزواجه في مخضب
1
لحفصة، وصببن عليه ماء القرب السبع حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم. ولبس ثيابه وعصب رأسه وخرج إلى المسجد وجلس على المنبر، فحمد الله ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم وأكثر من الصلاة عليهم، ثم قال: «أيها الناس أنفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله.
وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقا لها.» وسكت محمد هنيهة خيم الصمت على الناس أثناءها. ثم عاد إلى الحديث فقال : «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا والآخرة وبين ما عنده فاختار ما عند الله.» وسكت محمد من جديد والناس كأنما على رءوسهم الطير. لكن أبا بكر أدرك أن النبي إنما يعني بهذه العبارة الأخيرة نفسه، فلم يستطع لرقة وجدانه وعظيم صداقته للنبي أن يمسك عن البكاء، فأجهش وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا! وخشي محمد أن تمتد عدوى التأثر من أبي بكر إلى الناس، فأشار إليه قائلا: على رسلك يا أبا بكر. ثم أمر أن تقفل جميع الأبواب المؤدية إلى المسجد إلا باب أبي بكر، فلما أقفلت قال: «إني لا أعلم أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه. وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.» ونزل محمد عن المنبر يريد أن يعود بعد ذلك إلى بيت عائشة، على أنه لم يلبث أن التفت إلى الناس وقال: «يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد. وإنهم كانوا عيبتي
2
التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم.»
ودخل محمد بيت عائشة. لكن المجهود الذي أنفقه يومئذ وهو في مرضه قد كان من شأنه أن زاد وطأة المرض شدة. وأي مجهود بالنسبة لمريض تساوره الحمى يخرج بعد أن تصب عليه سبع قرب من الماء، ويخرج تثقله أكبر الشواغل: جيش أسامة، ومصير الأنصار من بعده، ومصير هذه الأمة العربية التي ربط الدين الجديد بأقوى الأواصر وأمت الروابط بينها. لذلك حاول أن يقوم في غده ليصلي بالناس كما عودهم، فإذا هو لا يقدر. إذ ذاك قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. وكانت عائشة تحرص على أن يؤدي النبي الصلاة لما في ذلك من مظهر الصحة، فقالت: إن أبا بكر رجل رقيق ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن. قال محمد: مروه فليصل بالناس، فكررت عائشة قولها، فصاح محمد بها والمرض يهزه: إنكن صواحب يوسف! مروه فليصل بالناس. وصلى أبو بكر بالناس كأمر النبي. وإنه لغائب يوما إذ دعا بلال إلى الصلاة ونادى عمر أن يصلي بالناس مكان أبي بكر. وكان عمر جهير الصوت؛ فلما كبر في المسجد سمعه محمد من بيت عائشة فقال: «فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون.» ومن هنا ظن بعضهم أن النبي استخلف أبا بكر من بعده أن كانت الصلاة بالناس أول مظهر للقيام مقام رسول الله.
وبلغت به شدة المرض حدا آلمه؛ ذلك أن الحمى زادت به حتى لقد كانت عليه قطيفة، فإذا وضع أزواجه وعواده أيديهم من فوقها شعروا بحر هذا الحمى المضنية. وكانت ابنته فاطمة تعوده كل يوم، وكان يحبها ذلك الحب الذي يمتلئ به وجود الرجل للابنة الواحدة الباقية له من كل عقبه. لذلك كانت إذا دخلت على النبي قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه. فلما بلغ منه المرض هذا المبلغ دخلت عليه فقبلته؛ فقال: مرحبا بابنتي، ثم أجلسها إلى جانبه وأسر إليها حديثا فبكت، ثم أسر إليها حديثا آخر فضحكت. فسألتها عائشة في ذلك؛ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فلما مات ذكرت أنه أسر إليها أنه سيقبض في مرضه هذا فبكت، ثم أسر أنها أول أهله يلحقه، فضحكت، وكانوا لاشتداد الحمى به يضعون إلى جواره إناء به ماء بارد، فما يزال يضع يده فيه ويمسح بها على وجهه. وكانت الحمى تصل به حتى يغشى عليه أحيانا ثم يفيق وهو يعاني منها أشد الكرب؛ حتى قالت فاطمة يوما وقد حز الألم في نفسها لشدة ألم أبيها: واكرب أبتاه! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم. يريد أنه سينتقل من هذا العالم عالم الأسى والألم.
وحاول أصحابه يوما تهوين الألم على نفسه، فذكروا له نصائحه ألا يشكو المريض. فأجابهم إن ما به أكثر مما يكون في مثل هذه الحال برجلين منهم. وفيما هو في الشدة وفي البيت رجال قال: «إيتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا.» قال بعض الحاضرين: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، وحسبنا كتاب الله. ويذكرون أن عمر هو الذي قال هذه المقالة. واختلف الحضور، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. ومنهم من يأبى ذلك مكتفيا بكتاب الله، فلما رأى محمد خصومتهم قال: قوموا! ما ينبغي أن يكون بين يدي النبي خلاف. وما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنهم أضاعوا شيئا كثيرا بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد النبي إملاءه. أما عمر فظل ورأيه، أن قال الله في كتابه الكريم:
ما فرطنا في الكتاب من شيء .
3
وتناقل الناس ما بلغ من اشتداد المرض بالنبي، حتى هبط أسامة وهبط الناس معه من الجرف إلى المدينة. ودخل أسامة على النبي في بيت عائشة، فإذا هو قد أصمت
4
فلا يتكلم، فلما بصر بأسامة جعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها على أسامة علامة الدعاء له.
ورأى أهله وهذه حاله أن يسعفوه بعلاج، فأعدت أسماء قريبة ميمونة شرابا كانت عرفت أثناء مقامها بالحبشة كيف تعده، وانتهزوا فرصة إغماءة من إغماءات الحمى فصبوه في فيه. فلما أفاق قال: من صنع هذا؟ ولم فعلتموه؟ قال عمه العباس: خشينا يا رسول الله أن تكون بك ذات الجنب. قال: ذلك داء ما كان الله عز وجل ليقذفني به! ثم أمر بمن في الدار، خلا عمه العباس، أن يتناولوا هذا الدواء لم تستثن منهم ميمونة على رغم صيامها.
وكان عند محمد أول ما اشتد به المرض سبعة دنانير خاف أن يقبضه الله إليه وما تزال باقية عنده، فأمر أهله أن يتصدقوا بها. لكن اشتغالهم بتمريضه والقيام في خدمته واطراد المرض في شدته أنساهم تنفيذ أمره. فلما أفاق يوم الأحد الذي سبق وفاته من إغمائه سألهم: ما فعلوا بها؟ فأجابت عائشة إنها ما تزال عندها. فطلب إليها أن تحضرها، ووضعها في كفه ثم قال: «ما ظن محمد بربه لو لقي الله عنده هذه.» ثم تصدق بها جميعا على فقراء المسلمين.
وقضى محمد ليله هادئا مطمئنا نزلت عنه الحمى، حتى لكأن الدواء الذي سقاه أهله قد فعل فعله وقضى على المرض عنده. وبلغ من ذلك أن استطاع أن يخرج ساعة الصبح إلى المسجد عاصبا رأسه معتمدا على علي بن أبي طالب والفضل بن العباس. وكان أبو بكر ساعتئذ يصلي بالناس. فلما رأى المسلمون النبي وهم في صلاتهم قد خرج إليهم كادوا يفتنون فرحا به وتفرجوا. فأشار إليهم أن يثبتوا على صلاتهم. وسر محمد بما رأى من ذلك أكبر سرور واغتبط له أعظم الغبطة. وأحس أبو بكر بما صنع الناس، وأيقن أنهم لم يفعلوه إلا لرسول الله، فنكص عن مصلاه يريد أن يتخلى لمحمد عن مكانه. فدفعه محمد في ظهره وقال: صل بالناس؛ وجلس هو إلى جنب أبي بكر فصلى قاعدا عن يمينه. فلما فرغ من صلاته أقبل على الناس رافعا صوته حتى سمعه من كان خارج المسجد فقال: «أيها الناس، سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علي بشيء. إني والله لم أحل إلا ما أحل القرآن ولا أحرم إلا ما حرم القرآن. لعن الله قوما اتخذوا قبورهم مساجد.»
ولقد عظم فرح المسلمين بما رأوا من مظاهر التقدم في صحة النبي، حتى أقبل عليه أسامة بن زيد يستأذنه في مسيرة الجيش إلى الشام، وحتى مثل بين يديه أبو بكر قائلا: يا نبي الله إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب، واليوم يوم بنت خارجة، أفآتيها؟ فأذن النبي له في ذلك، وانطلق أبو بكر إلى السنح بأطراف المدينة حيث تقيم زوجه. وانصرف عمر وعلي لشئونهما. وتفرق المسلمون وكلهم سعيد مستبشر، بعد أن كانوا إلى أمس عابسين مغمومين لما يتصل بهم من أخبار النبي ومرضه واشتداد الحمى به وإغمائه. وعاد هو إلى بيت عائشة والسرور لرؤية هؤلاء المسلمين قد امتلأ بهم المسجد يفعم قلبه، وإن كان يحس جسمه ضعيفا غاية الضعف، وعائشة تنظر إلى هذا الرجل الذي يمتلئ قلبها تقديسا لجلال عظمته، وقد ملكها الإشفاق عليه لضعفه ومرضه، فهي تود لو تبذل له حشاشة نفسها لترد إليه القوة والحياة.
لكن خروج النبي إلى المسجد لم يكن إلا الصحو الذي يسبق الموت. فقد كان يزداد بعد دخوله إلى البيت في كل لحظة ضعفا. وكان يرى الموت يدنو، ولم يبق لديه ريب في أنه لم يبق له في الحياة إلا سويعات. ترى ماذا عساه كان يشهد في هذه السويعات الباقية له على فراق الحياة؟ أفكان يستذكر حياته منذ بعثه الله هاديا ونبيا، وما لاقى فيها، وما أتم الله عليه من نعمته، وما شرح به صدره من فتح قلوب العرب لدين الحق؟ أم كان يقضيها مستغفرا ربه متوجها إليه بكل روحه على نحو ما كان يفعل كل حياته؟ أم كان يعاني هذه الساعات الأخيرة من آلام النزع ما لم يبق لديه قوة الاستذكار؟ تختلف الروايات في ذلك اختلافا كبيرا، وأكثرها على أنه دعا في هذا اليوم القائظ من أيام شبه الجزيرة، 8 يونيو سنة 632م، بإناء فيه ماء بارد كان يضع يده فيه ويمسح بمائه وجهه؟ وأن رجلا من آل أبي بكر دخل على عائشة وفي يده سواك، فنظر إليه محمد نظرا دل على أنه يريده، فأخذته عائشة من قريبها ومضغته له حتى لان وأعطته إياه فاستن به؛
5
وأنه وقد شق عليه النزع، توجه إلى الله يدعوه: اللهم أعني على سكرات الموت. قالت عائشة، وكان رأس النبي في هذه الساعة في حجرها: «وجدت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة.» قلت: خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق. وقبض رسول الله بين سحري
6
ونحري ودولتي لم أظلم فيه أحدا. فمن سفهي وحداثة سني أنه
صلى الله عليه وسلم
قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي.»
أمات محمد حقا؟ ذلك ما اختلف العرب يومئذ فيه اختلافا كاد يثير بينهم الفتنة، وما تؤدي الفتة إليه من حرب أهلية، لولا أن أراد الله بهم وبدينه الحق الحنيف خيرا.
الفصل الحادي والثلاثون
دفن الرسول
(اختلاف المسلمين هل مات محمد - عمر يخطب الناس بأنه لم يمت - أبو بكر يعود فيخطبهم بأنه مات ويتلو عليهم القرآن - اقتناع المسلمين بقول أبي بكر - خوف الاختلاف فيمن يقوم بأمر المسلمين - بيعة السقيفة، ثم البيعة العامة لأبي بكر - تجهيز النبي وغسله - مرور الناس به رجالا فنساء فصبيانا - دفنه حيث قبض - إنفاذ جيش أسامة إلى الشام وانتصاره - آخر ما قال الرسول) ***
اختار النبي الرفيق الأعلى في بيت عائشة ورأسه في حجرها، فوضعت رأسه على وسادة وقامت تلتدم وتضرب وجهها مع النساء اللاتي أسرعن إليها لأول ما بلغهن الخبر. وفوجئ المسلمون بالمسجد بهذه الضجة؛ لأنهم رأوا النبي في الصباح وكل شيء يدل على أنه عوفي، مما جعل أبا بكر يذهب إلى زوجه بنت خارجة بالسنح. لذلك أسرع عمر إلى حيث كان جثمان النبي وهو لا يصدق أنه مات. ذهب فكشف عن وجهه فألفاه لا حراك به: فحسبه في غيبوبة لا بد أن يفيق منها. وعبثا حاول المغيرة إقناعه بالحقيقة الأليمة؛ فقد ظل مؤمنا بأن محمدا لم يمت، فلما ألح المغيرة قال له: كذبت. وخرج معه إلى المسجد وهو يصيح: «إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
توفي؛ وإنه والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران؛ فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات. والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات.»
واستمع المسلمون بالمسجد إلى هذه الصيحات من جانب عمر يرسل الواحدة تلو الأخرى وهم في حالة أشبه شيء بالذهول، ألا إن كان محمد قد مات حقا فوا حر قلباه! ويا للهم الناصب لأولئك الذين رأوه وسمعوا له، وآمنوا بالله الذي بعثه بالهدى ودين الحق، هم يذهل القلب ويذهب باللب. وإن كان محمد قد ذهب إلى ربه، كما يقول عمر، فذلك أدعى للذهول؛ وانتظار أوبته حتى يرجع كما رجع موسى أشد إمعانا في العجب. لذلك أحاطت جموعهم بعمر وهم أدنى إلى تصديقه وإلى الإيمان بأن رسول الله لم يمت.
وكيف يموت وقد كان معهم منذ ساعات يرونه ويسمعون إلى صوته الجهوري وإلى دعائه واستغفاره؟! وكيف يموت وهو خليل الله الذي اصطفى لتبليغ رسالته، وقد دانت له العرب كلها، وبقي أن يدين له كسرى وأن يدين له هرقل بالإسلام؟! وكيف يموت وهو هذه القوة التي هزت العالم مدى عشرين سنة متوالية، وأحدثت فيه أعنف ثورة روحية عرف التاريخ؟! لكن النساء هناك ما زلن يلتدمن ويضربن وجوههن علامة أنه مات.
ولكن عمر ها هنا في المسجد ما فتئ ينادي بأنه لم يمت، وبأنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، وبأن الذين يقولون بموته إنما هم المنافقون؛ هؤلاء المنافقون الذين سيضرب محمد أيديهم وأعناقهم بعد رجعته. أي الأمرين يصدق المسلمون؟ لقد أخذهم الفزع أول الأمر، ثم ما زالت بهم أقوال عمر تبعث إلى نفوسهم الأمل برجعة النبي حتى كادوا يصدقون أمانيهم، ويصورون منها لأنفسهم حقائق يكادون يستريحون إليها.
وإنهم لكذلك إذ أقبل أبو بكر آتيا من السنح وقد بلغه الخبر الفادح. وبصر بالمسلمين وبعمر يخطبهم، فلم يقف طويلا ولم يلتفت إلى شيء، بل قصد إلى بيت عائشة فاستأذن ليدخل، فقيل له: لا حاجة لأحد اليوم بإذن. فدخل فألفى النبي مسجى في ناحية من البيت عليه برد حبرة،
1
فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أقبل عليه يقبله وقال: ما أطيبك حيا وما أطيبك ميتا! ثم إنه أخذ رأس النبي بين يديه وحدق في معارف وجهه التي بقيت لم ينكرها عدوان الموت عليها، وقال: بأبي أنت وأمي! أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا. ثم أعاد الرأس إلى الوسادة ورد البرد على وجهه وخرج وعمر ما يزال يكلم الناس ويقنعهم بأن محمدا لم يمت. وفسح الناس لأبي بكر طريقا. فلما دنا من عمر ناداه: على رسلك يا عمر! أنصت! لكن عمر أبى أن يسكت أو ينصت واستمر يتكلم. فأقبل أبو بكر على الناس وأشار إليهم بأنه يكلمهم. ومن كأبي بكر في هذا المقام؟! أليس هو الصديق صفي النبي ومن لو اتخذ خليلا لاتخذه خليلا؟!
لذلك أسرع الناس إلى تلبية دعوته وانصرفوا إليه عن عمر. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا قوله تعالى:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
2
وكان عمر قد أنصت حين رأى انصراف الناس إلى أبي بكر، فلما سمع أبا بكر يتلو هذه الآية خر إلى الأرض ما تحمله رجلاه موقنا أن رسول الله قد مات. وأما الناس فقد أخذوا من قبل بأقوال عمر، حتى لقد ألفوا أنفسهم إذ سمعوا هذه الآية يتلوها أبو بكر وكأنهم لم يكونوا يعلمون أنها نزلت. وكذلك زايل القلوب كل شك في أن محمدا قد اختار جوار الرفيق الأعلى، وأن الله قد ضمه إليه.
أفكان عمر غاليا حين اقتنع بأن محمدا لم يمت، وحين دعا الناس إلى مثل اقتناعه؟ كلا! وإن العلماء ليحدثوننا اليوم بأن الشمس ستظل تتناثر على حقب الدهور حتى يجيء يوم تفنى فيه. أفيصدق أحد هذا الكلام من غير أن تساوره الشكوك في إمكانه؟ هذه الشمس التي ترسل من ضيائها ومن حرارتها ما يحيا العالم به، كيف تفنى وكيف تنطفئ ثم يبقى العالم بعدها يوما؟ ومحمد لم يكن أقل من الشمس ضياء، ولا حرارة، ولا قوة. وكما أن الشمس محسنة، فقد كان محمد محسنا. وكما أن الشمس تتصل بالكائنات كلها، فقد كان روح محمد متصل بالكائنات جميعا، وما زال ذكره
صلى الله عليه وسلم
يعطر الكون كله. فلا عجب إذا اقتنع عمر بأن محمدا لا يمكن أن يموت. وهو حقا لم يمت ولن يموت.
وكان أسامة بن زيد قد رأى النبي صباح ذلك اليوم حين خرج إلى المسجد، وظن كما ظن المسلمون جميعا أنه تعافى، فذهب ومن كان قد عاد إلى المدينة من الجيش المسافر إلى الشام ولحق بالمعسكر بالجرف، وأمر الجيش بالتجهز للمسير. وإنه لكذلك إذ لحق به الناعي نذيرا بوفاة النبي، فعاد أدراجه وأمر الجيش فرجع كله إلى المدينة؛ ثم ذهب هو فركز علمه عند باب عائشة، وانتظر ما سيكون من أمر المسلمين من بعد.
وفي الحق أن المسلمين كانوا من أمرهم في حيرة. فهم لم يلبثوا حين سمعوا أبا بكر وحين أيقنوا أن محمدا قد مات، أن تفرقوا، فانحاز حي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز المهاجرون ومعهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل إلى أبي بكر. وإن أبا بكر وعمر لكذلك إذ أتى آت ينبئهما بنبأ الأنصار الذين انحازوا إلى سعد بن عبادة، ثم يردف النبأ بقوله: فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
في بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله. قال عمر موجها حديثه إلى أبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه. وإنهم لفي طريقهم إذ لقيهم من الأنصار رجلان صالحان، فذكرا للمهاجرين ما تمالأ عليه القوم وسألاهم: أين يريدون؟ فلما علما أنهم يريدون الأنصار قالا: لا عليكم ألا تقربوهم؛ يا معشر المهاجرين اقضوا أمركم. قال عمر: والله لنأتينهم. وانطلقوا حتى نزلوا بهم في سقيفة بني ساعدة فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل. قال عمر بن الخطاب: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، به وجع. فلما جلس المهاجرون قام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة من قومكم وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر.
وكانت هذه روح الأنصار أثناء حياة النبي، لذلك لم يكد عمر يسمع هذا الكلام حتى أراد أن يدفعه: فأمسك به أبو بكر مخافة شدته وقال: على رسلك يا عمر! ثم قال موجها كلامه للأنصار: «أيها الناس! نحن المهاجرين أول الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأكثرهم ولادة في العرب، وأمسهم رحما برسول الله: أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان .
3
فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار؛ إخواننا في الدين وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو. وأما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأنتم أجدر بالثناء من أهل الأرض جميعا. فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش. فمنا الأمراء ومنكم الوزراء.» هناك استشاط أحد الأنصار غضبا وقام فقال: «أنا جذيلها
4
المحكك، وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.» قال أبو بكر: بل منا الأمراء ومنكم الوزراء، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم؛ وأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بينهما. هنالك كثر اللغط وارتفعت الأصوات وخيف الاختلاف؛ فنادى عمر بصوته الجهوري: ابسط يدك يا أبا بكر. فبسط أبو بكر يده فبايعه وهو يقول: «ألم يأمرك النبي بأن تصلي أنت يا أبا بكر بالمسلمين؟! فأنت خليفته؛ ونحن نبايعك فنبايع خير من أحب رسول الله منا جميعا.» ومست هذه الكلمات قلوب الحاضرين من المسلمين أن كانت معبرة حقا عما ظهر من إرادة النبي حتى هذا اليوم الأخير الذي رآه الناس فيه، فقضى ذلك على ما بينهم من خلاف، وأقبلوا فبايع المهاجرون ثم بايع الأنصار.
وإذ كان الغد من ذلك اليوم، جلس أبو بكر على المنبر، وتقدم ابن الخطاب فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إني قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا ويبقى ليكون آخرنا. وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله. فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له. وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه.» فبايع الناس أبا بكر البيعة العامة بعد بيعة السقيفة.
وقام أبو بكر بعد أن تمت البيعة فألقى في الناس هذا الخطاب الذي يعتبر آية من آيات الحكمة وفصل الخطاب. قال - رضي الله عنه - بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أما بعد، أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله. فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.»
وبينما المسلمون يختلفون ثم يتفقون على بيعة أبي بكر بيعة السقيفة ثم البيعة العامة، كان جثمان النبي حيث كان على سرير موته يحيط به الأقربون من أهله. فلما تمت البيعة لأبي بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله كي يدفنوه. وقد اختلفوا فيما بينهم أين يدفن. قال جماعة من المهاجرين: يدفن في مكة مسقط رأسه وبين أهله. وقال غيرهم: بل يدفن في بيت المقدس حيث دفن الأنبياء قبله. وما أدري كيف قال أصحاب هذا الرأي، وبيت المقدس كان ما يزال بأيدي الروم، وكان بين الروم والمسلمين عداوة منذ مؤتة وتبوك حتى جهز رسول الله جيش أسامة للثأر. ولم يرض المسلمون هذا الرأي ولا هم رضوا أن يدفن النبي بمكة، ورأوا أن يدفن بالمدينة التي آوته ونصرته والتي استظلت قبل غيرها بلواء الإسلام. وتحدثوا أين يدفن؟ قال فريق منهم: يدفن بالمسجد حيث كان يخطب الناس ويعظهم ويصلي بهم؛ ورأى هؤلاء أن يدفن حيث يقوم المنبر أو إلى جانبه. لكن هذا الرأي لم يلبث أن رفض؛ لما روي عن عائشة أن النبي كان عليه رداء أسود حين اشتد وجعه، فكان يضعه مرة على وجهه ويكشفه عنه مرة وهو يقول: قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد! ثم قضى أبو بكر بين الناس إذ قال: إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض. ثم تقرر أن يحفر له مكان الفراش الذي قبض فوقه.
وتولى غسل النبي أهله الأقربون، وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وولداه الفضل وقثم وأسامة بن زيد. وكان أسامة بن زيد وشقران مولى النبي هما اللذان يصبان الماء عليه وعلي يغسله وعليه قميصه؛ فقد أبوا أن ينزعوا عنه القميص. وكانوا أثناء ذلك يجدون به طيبا حتى كان علي يقول: بأبي أنت وأمي! ما أطيبك حيا وميتا! ويذهب بعض المستشرقين إلى أن هذه الرائحة الذكية ترجع إلى ما اعتاد النبي طوال حياته من التطيب حتى كان يرى الطيب بعض ما حبب إليه من هذه الحياة الدنيا. فلما فرغوا من غسله وعليه قميصه كفن في ثلاثة أثواب: ثوبين صحاريين
5
وبرد حبرة أدرج فيها إدراجا. ولما تم الجهاز على هذا النحو ترك الجثمان حيث كان، وفتحت الأبواب للمسلمين يدخلون من ناحية المسجد يطوفون، يلقون على نبيهم نظرة الوداع، ويصلون على النبي، ثم يخرجون وقد هوى الحزن بنفوسهم إلى قرار سحيق.
وامتلأت الحجرة حين دخل أبو بكر وعمر يصليان مع المسلمين لا يؤمهم في صلاتهم هذه أحد. فلما استوى الناس بالمكان وقد علاهم الصمت قال أبو بكر: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. نشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه وجاهد في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه، وأنه وفى بوعده، وأمر ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له. وكان المسلمون يجيبون عند كل جملة من كلام أبي بكر في هيبة وخشوع: آمين آمين. فلما فرغ الرجال من صلاتهم وخرجوا أدخل النساء، ثم أدخل الصبيان من بعدهم. وهؤلاء وأولئك جميعا كل واجب قلبه محزون فؤاده يفري الأسى كبده لفراق رسول الله خاتم النبيين، وتساوره على دين الله أشد الخشية من بعده.
وإني لأستعيد الساعة، بعد أكثر من ألف وثلاثمائة سنة من ذلك اليوم، صورة هذا المشهد الرهيب المهوب فتمتلئ نفسي هيبة وخشوعا ورهبة. هذا الجثمان المسجى في ناحية من الحجرة التي ستصبح غدا قبرا والتي كانت إلى أمس بساكنها حياة ورحمة ونورا؛ وهذا الجثمان الطاهر لذلك الذي دعا الناس إلى الهدى والحق، وكان لهم المثل الأعلى في البر والرحمة والإقدام والإباء وإنصاف المظلوم والانتصاف من كل معتد أثيم؛ وهذه الجموع تمر به كاسفة البال كسيرة الطرف، وكل رجل وكل امرأة وكل صبي يذكر في هذا الرجل الذي اختار جوار ربه أباه وأخاه وصاحبه ووفيه ونبي الله ورسوله! أي شعور تمتلئ به تلك القلوب العامرة بالإيمان الممتلئة إشفاقا مما يخبئ الغد بعد موت الرسول - أستعيد الساعة صورة هذا المشهد الرهيب؛ فأراني شاخصا له مأخوذا به ممتلئ القلب من جلال هيبته، أكاد لا أجد إلى الانصراف عنه سبيلا.
وكان من حق المسلمين أن تساورهم الخشية. فمنذ ذاع النبأ بموت النبي في المدينة وترامى إلى قبائل العرب المحيطة بها، اشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وتبلبلت عقائد المستضعفين من العرب. وهم أهل مكة بالرجوع عن الإسلام، بل أرادوا ذلك، حتى خافهم عتاب بن أسيد عامل النبي على أم القرى فتوارى منهم. ولولا أن قام سهيل بن عمرو بينهم، فقال بعد أن ذكر وفاة النبي: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه؛ ثم قال: يأهل مكة، كنتم آخر من أسلم فلا تكونوا أول من ارتد، والله ليتمن الله عليكم هذا الأمر كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، لما رجعوا عن ردتهم!
وقد كان للعرب في حفر قبورهم طريقتان: إحداهما لأهل مكة يحفرون القبر مسطح القاع، والأخرى لأهل المدينة يحفرونه مقوسا. وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وأبو طلحة زيد بن سهل هو الذي يحفر لأهل المدينة. وحار أهل النبي أي الطريقتين يسلكون في حفر قبره. فبعث عمه العباس رجلين يدعو أحدهما أبا عبيدة ويدعو الآخر أبا طلحة. فأما المبعوث إلى أبي عبيدة فلم يعد به وجاء المبعوث إلى أبي طلحة به، فلحد لرسول الله على طريقة أهل المدينة، فلما كان المساء وبعد أن مر المسلمون بالجثمان الطاهر وودعوه الوداع الأخير، اعتزم أهل النبي دفنه، فانتظروا حتى مضى هزيع من الليل، وفرشوا القبر برداء أحمر كان النبي يلبسه، ثم أنزله الذين تولوا غسله إلى المقر الأخير لرفاته، وبنوا فوقه باللبن وأهالوا التراب فوق القبر. قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل، وقالت فاطمة مثل هذا القول. وكان دفنه ليلة الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الأول؛ أي بعد يومين من اختياره الرفيق الأعلى.
وظلت عائشة من بعد ذلك تعيش بمنزلها في الحجرة المجاورة لحجرة القبر سعيدة بهذا الجوار الكريم. ولما مات أبو بكر دفن إلى جوار النبي، كما دفن عمر إلى جواره من بعد. ويروى أن عائشة كانت تزور حجرة القبر سافرة إلى أن دفن عمر بها إذ لم يكن بها يومئذ غير أبيها وزوجها. فلما دفن عمر كانت لا تدخل إلا محتجبة لابسة كامل ثيابها.
ولم يكد المسلمون يفرغون من جهاز رسول الله ودفنه حتى أمر أبو بكر أن ينفذ جيش أسامة لغزو الشام تنفيذا لما كان قد أمر رسول الله به. وقد أبدى بعض المسلمين من الاعتراض على ذلك ما أبدوا أيام مرض النبي. وانضم عمر إلى المعترضين ورأى ألا يشتت المسلمون، وأن يحتفظ بهم في المدينة مخافة أمر قد يدعو إليهم. لكن أبا بكر لم يتردد لحظة في تنفيذ أمر الرسول، ورفض أن يستمع إلى قول الذين أشاروا بتعيين قائد أسن من أسامة وأكثر منه في الحرب دربة. وتجهز الجيش عند الجرف وأسامة على رأسه، وخرج أبو بكر يودعه. هنالك طلب إلى أسامة أن يعفي ابن الخطاب من الذهاب معه ليبقى بالمدينة يشير على أبي بكر. ولم تمض عشرون يوما على مسيرة الجيش حتى أغار المسلمون على البلقاء، وحتى انتقم أسامة للمسلمين ولأبيه الذي قتل بمؤتة أشد انتقام. وقد كانت صيحة الحرب في تلك الأيام المظفرة: «يا منصور أمت.» وكذلك نفذ أبو بكر ونفذ أسامة أمر النبي، وعاد بالجيش إلى المدينة ممتطيا الجواد الذي قتل أبوه بمؤتة عليه، يتقدمه اللواء الذي عقده رسول الله بيده.
ولما قبض النبي طلبت فاطمة ابنته إلى أبي بكر أن يرد عليها ما ترك من أرض بفدك وخيبر. لكن أبا بكر أجابها بقول أبيها: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.» ثم قال لها: فأما إن كان أبوك قد وهب لك هذا المال فإني أقبل كلمتك في ذلك وأنفذ ما أمر به، وأجابت فاطمة بأن أباها لم يفض إليها بشيء من ذلك، وإنما أخبرتها أم أيمن بأن ذلك كان قصده. عند ذلك أصر أبو بكر على استبقاء فدك وخيبر وردهما إلى بيت مال المسلمين.
وكذلك خرج محمد من هذه الحياة الدنيا لم يترك شيئا من عرضها الزائل لأحد بعده؛ خرج منها كما دخل إليها وقد ترك فيها للناس هذا الدين القيم، ومهد فيها لهذه الحضارة الإسلامية الكبرى التي تفيأ العالم ظلالها من قبل وسيتفيأ ظلالها من بعد، وأقر فيها التوحيد، وجعل فيها كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وقضى فيها على الوثنية في كل صورها ومظاهرها القضاء المبرم، ودعا الناس فيها أن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وترك من بعده كتاب الله هدى للناس ورحمة، وكان فيها المثل الأسمى والأسوة الحسنة. وكان من آخر ما ضربه للناس من الأمثلة أن قال للناس يوم كلمهم أثناء مرضه: «أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد مني. ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه. ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء فهي ليست من شأني.» وادعى عليه رجل ثلاثة دراهم فأعطاه عوضها. ثم ترك العالم بعد ذلك مخلفا هذا الميراث الروحي العظيم الذي لا يزال ينتشر في العالم حتى يتم الله كلمته، وينصر دينه على الدين كله ولو كره الكافرون.
صلى الله عليه وسلم.
خاتمة في مبحثين
(1) الحضارة الإسلامية كما صورها القرآن
خلف محمد هذا الميراث الروحي العظيم الذي أظل العالم ووجه حضارته خلال عدة قرون مضت، والذي سيظله من بعد ويوجه حضارته حتى يتم الله في العالم نوره. وإنما كان لهذا الميراث كل هذا الأثر فيما مضى، وسيكون له مثله وأكثر من بعد، لأنه أقام دين الحق ووضع أساس حضارة هي وحدها كفيلة بسعادة العالم. والدين والحضارة اللذان بلغهما محمد للناس بوحي ربه، يتزاوجان حتى لا انفصال بينهما. ولئن قامت هذه الحضارة الإسلامية على أساس من قواعد العلم وهدى العقل، واستندت في ذلك إلى ما تستند إليه الحضارة الغربية في عصرنا الحاضر؛ ولئن استند الإسلام من حيث هو دين إلى التفكير الذاتي، وإلى المنطق التجريدي (الميتافيزيقي)؛ إن الصلة مع ذلك وثيقة بين الدين ومقرراته والحضارة وأساسها؛ ذلك بأن الإسلام يربط بين التفكير المنطقي والشعور الذاتي، وبين قواعد العقل وهدى العلم، برابطة لا مفر لأهله من البحث عنها والاهتداء إليها ليظلوا مسلمين وطيدا إيمانهم. وحضارة الإسلام تختلف من هذه الناحية عن الحضارة الغربية المتحكمة اليوم في العالم، كما تختلف عنها في تصوير الحياة والأساس الذي يقوم هذا التصوير عليه. وهذا الاختلاف بين الواحدة والأخرى من هاتين الحضارتين جوهري إلى الحد الذي يجعل أساس كل واحدة منهما نقيض الأساس الذي تقوم عليه الأخرى.
يرجع هذا الاختلاف إلى أسباب تاريخية، أشرنا إليها في تقديم هذا الكتاب وفي تقديم طبعته الثانية. فقد أدى النزاع في الغرب المسيحي بين السلطتين الدينية والزمنية - وبعبارة هذا العصر: بين الكنيسة والدولة - إلى الفصل بينهما وإلى إقامة سلطان الدولة على إنكار سلطان الكنيسة. وكان لهذا التنازع على السلطان أثره في التفكير الغربي كله. وفي مقدمة النتائج التي ترتبت على هذا الأثر ما كان من تفريق بين الشعور الإنساني والعقل الإنساني، وبين منطق العقل المجرد ومقررات العلم الواقعي المستندة إلى الملاحظة المادية.
وكان لانتصار التفكير المادي أثره البالغ في قيام النظام الاقتصادي أساسا رئيسيا للحضارة الغربية. فقد نشأ من ذلك أن قامت في الغرب مذاهب تريد أن تجعل كل ما في عالمنا خاضعا لحياة هذا العالم الاقتصادية، كما أراد غير واحد أن يضع تاريخ الإنسانية في أديانها وفنها وفلسفتها وتكفيرها وعلمها بوحي ما كان من مد أو جزر اقتصادي في أممها المختلفة. ولم يقف أمر هذا التفكير عند التاريخ وكتابته، بل أقامت بعض مذاهب الفلسفة الغربية قواعد الخلق على أسس نفعية مادية بحتة. ومع ما بلغته هذه المذاهب من براعة في التفكير وقوة في الابتكار، لقد أمسكها التطور الفكري في الغرب في حدود المنفعة المادية المشتركة، تقيم عليها قواعد الخلق جميعا، وترى ذلك من المقتضيات المحتومة للبحث العلمي. فأما المسألة الروحية فهي في نظر الحضارة الغربية مسألة فردية صرفة، فلا محل لأن يعنى الناس أنفسهم جماعة بها.
ومن ثم كانت الإباحة في العقيدة بعض ما قدسه أهل الغرب، وكان أشد تقديسا لها من تقديسهم الإباحة في الخلق؛ وهم أشد تقديسا للإباحة في الخلق منهم لحرية الحياة الاقتصادية المقيدة بالقانون تقييدا ينفذه الجندي وتنفذه الدولة بكل ما أوتيت من قوة.
في اعتقادي أن حضارة تجعل الحياة الاقتصادية أساسا، وتقيم قواعد الخلق على أساس هذه الحياة الاقتصادية، ولا تقيم للعقيدة وزنا في الحياة العامة، تقصر عن أن تمهد للإنسانية سبيل سعادتها المنشودة. بل إن هذا التصوير للحياة لجدير أن يجر على الإنسانية ما تعانيه من محن في هذه العصور الأخيرة، جدير أن يجعل كل تفكير في منع الحرب وفي توطيد أركان السلام في العالم قليل الجدوى غير مرجو الثمرة. فما دامت صلتي بك أساسها الرغيف الذي آكل أنا أو تأكل أنت وتنازعنا عليه ونضالنا في سبيله، قائمة بذلك على أساس القوة الحيوانية في كل منا، فسيظل كل منا يرقب الفرصة التي يحسن فيها الاحتيال للحصول على رغيف صاحبه؛ وسيظل كل منا ينظر إلى الآخر على أنه خصمه لا على أنه أخوه، وسيظل الأساس الخلقي الكمين في النفس أساسا حيوانيا بحتا ، وإن بقي كمينا حتى تدفع الحاجة إلى ظهوره، وستظل المنفعة وحدها قوام هذا الأساس الخلقي، على حين تنزلق عليه المعاني الإنسانية السامية والمبادئ الخلقية الكريمة، مبادئ الإيثار والمحبة والأخوة، فلا يكاد يمسكها ولا تكاد تعلق به.
وما هو واقع في العالم اليوم خير مصداق عملي لما أذكره؛ فالتنافس والنضال هما المظهر الأول للنظام الاقتصادي، وهما لذلك أول مظهر لحضارة الغرب. وهما كذلك في المذهب الفردي وفي المذهب الاشتراكي على سواء. في المذهب الفردي ينافس العامل العامل، وينافس رب المال رب المال، والعامل ورب المال فيه خصمان يتنافسان. وأرباب هذا المذهب يرون في هذا التنافس وهذا النضال كل خير للإنسانية ولتقدمها. فهما عندهم الحافز للإتقان والحافز لتقسيم العمل، وهما المعيار العادل لتوزيع الثروة. أما المذهب الاشتراكي فيرى في نضال الطوائف، نضالا يفنيها جميعا حتى يرد الأمر كله للعمال، بعض ما تحتمه الطبيعة، وما دام التنافس والنضال على المال هما جوهر الحياة، وما دام النضال بين الطوائف طبيعيا، فالنضال بين الأمم طبيعي كذلك، وللغاية التي يقع من أجلها نضال الطوائف. ومن ثم كانت فكرة القوميات أثرا محتوما بحكم الطبيعة لهذا النظام الاقتصادي. أما ونضال الأمم في سبيل المال طبيعي، أما والاستعمار لذلك طبيعي أيضا، فكيف يمكن أن تمتنع الحرب ويستقر السلام في العالم؟! لقد شهدنا في هذا القرن المتم للعشرين المسيحي وما نزال نشهد البينات على أن السلام في عالم هذا أساس حضارته حلم لا سبيل إلى تحقيقه، وأمنية معسولة، ولكنها سراب كذوب.
تقوم الحضارة الإسلامية على أساس هو النقيض من أساس الحضارة الغربية؛ فهي تقوم على أساس روحي يدعو الإنسان إلى حسن إدراك صلته بالوجود ومكانه منه قبل كل شيء. فإذا بلغ من هذا الإدراك حد الإيمان، دعاه إيمانه إلى إدامة تهذيب نفسه وتطهير فؤاده، وإلى تغذية قلبه وعقله بالمبادئ السامية: مبادئ الإباء والأنفة والأخوة والمحبة والبر والتقوى. وعلى أساس هذه المبادئ ينظم الإنسان حياته الاقتصادية. هذا التدرج هو أساس الحضارة الإسلامية كما نزل الوحي بها على محمد. فهي حضارة روحية أولا. والنظام الروحي فيها هو أساس النظام التهذيبي وأساس قواعد الخلق. والمبادئ الخلقية هي أساس النظام الاقتصادي، فلا يجوز أن يضحى بشيء من مبادئ الخلق في سبيل التنظيم الاقتصادي.
هذا التصوير الإسلامي للحضارة هو في يقيني التصوير الجدير بالإنسانية الكفيل بسعادتها، ولو أنه استقر في النفوس، وانتظم الحياة انتظام الحضارة الغربية اليوم إياها، لتبدلت الإنسانية غير الإنسانية، ولانهارت مبادئ يؤمن الناس اليوم بها، ولقامت مبادئ سامية تكفل معالجة أزمات العالم الحاضر على هدى نورها.
والناس اليوم في الغرب والشرق يحاولون حل هذه الأزمات دون أن يتنبه أحد منهم، ودون أن يتنبه المسلمون أنفسهم إلى أن الإسلام كفيل بحلها؛ فأهل الغرب يتلمسون اليوم جدة روحية تنقذهم من وثنية تورطوا فيها، وكانت سبب شقائهم وعلة ما ينشب من الحروب بينهم؛ تلك عبادة المال. وأهل الغرب يتلمسون هذه الجدة في مذاهب الهند والشرق الأقصى على حين هي قريبة منهم؛ يجدونها مقررة في القرآن، مصورة خير صورة فيما ضربه النبي العربي للناس من مثل أثناء حياته.
لست أطمع في أن أصور هنا هذه الحضارة الإسلامية ونظامها؛ فهذا التصوير يقتضي بحثا مستفيضا، ويستغرق كتابا في حجم هذا الكتاب أو أكثر منه؛ وإنما أريد أن أجمل صورة هذه الحضارة، بعد أن أشرت إلى الأساس الروحي الذي تقوم عليه، لعلي بذلك أصور الدعوة المحمدية في مجموعها وأمهد بهذا التصوير لمباحث أكثر استفاضة وعمقا. وإني ليجمل بي قبل ذلك أن أشير إلى أن تاريخ الإسلام خلا من النزاع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية؛ أي بين الكنيسة والدولة، فأنجاه ذلك مما ترك هذا النزاع في تفكير الغرب وفي اتجاه تاريخه. وترجع نجاة الإسلام من هذا النزاع وآثاره إلى أنه لم يعرف شيئا اسمه الكنيسة أو السلطة الدينية على نحو ما عرفت المسيحية. فليس لأحد من المسلمين، ولو كان خليفة، أن يفرض أمرا على الناس باسم الدين، وأن يزعم أنه قدير مع ذلك على الغفران لمن خالف هذا الأمر. وليس لأحد من المسلمين، ولو كان خليفة، أن يفرض على الناس غير ما فرضه الله في كتابه. بل المسلمون أمام الله سواسية، لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى.
وليس لولي الأمر على مسلم طاعة في معصية ولا فيما لم يأمر الله به. يقول أبو بكر الصديق حين خطب المسلمين يوم بايعوه بالخلافة: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. ومع ما آل إليه الأمر في الإسلام بعد ذلك من ملك عضوض، ومع ما قام بين المسلمين من ثورات أهلية، لقد أقام المسلمون على تمسكهم بهذه الحرية الذاتية العظيمة التي قررها لهم دينهم؛ هذه الحرية التي جعلت العقل حكما في كل شيء، والتي جعلته حكما في الدين وفي الإيمان نفسه. لقد تمسكوا بهذه الحرية حتى بعد أن ادعى أمراء المؤمنين أنهم خلفاء الله لا خلفاء رسوله على الأرض، وأنهم يملكون من أمر المسلمين كل شيء حتى الحياة والموت. يشهد بذلك ما حدث في عصر المأمون حين اختلف على القرآن أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فقد خالف الكثيرون رأي الخليفة مع علمهم بما يستهدف له المخالف من عقاب وغضب.
جعل الإسلام العقل حكما في كل شيء، وجعله حكما في الدين وفي الإيمان نفسه. يقول تعالى:
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون .
1
ويفسر الشيخ محمد عبده هذه الآية فيقول: «إن الآية صريحة في أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وإن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به. فمن ربي على التسليم بغير عقل، والعمل ولو صالحا بغير فقه، فهو غير مؤمن. فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم فيعمل الخير لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته.»
وهذا الذي يقوله الشيخ محمد عبده تفسيرا لهذه الآية قد جاء به القرآن صريحا في آيات كثيرة غيرها. فهو يدعو الناس إلى النظر في الكون ومعرفة أنبائه ليهديهم نظرهم إلى وجود الله ووحدته جل شأنه، يقول الله سبحانه وتعالى:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون .
2
ويقول تعالى:
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون * وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون * وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون * وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين .
3
والدعوة إلى النظر في الكون لاستنباط سننه وللاهتداء إلى الإيمان ببارئه يكررها القرآن مئات المرات في سوره المختلفة، وكلها موجهة إلى قوى الإنسان العاقلة تدعوه إلى التدبر والتأمل ليكون إيمانه عن عقل وبينة، وتحذره الأخذ بما وجد آباءه عليه من غير نظر فيه وتمحيص له وثقة ذاتية بمبلغه من الحق.
هذا هو الإيمان الذي دعا الإسلام إليه، وهو ليس هذا الإيمان الذي يسمونه إيمان العجائز، إنما هو إيمان المستنير المستيقن الذي نظر ونظر، ثم فكر وفكر، ثم وصل من النظر والتفكير إلى اليقين بالله جلت قدرته، وما أحسب رجلا نظر بعقله وقلبه ثم لم يهتد إلى الإيمان، وهو كلما أنعم نظره وأطال تأمله وتدبره، وحاول الإحاطة بالزمان والمكان وما تشتمله وحدتهما التي لا نهاية لها من عوالم دائمة المور، شعر بنفسه ذرة من هذه العوالم تجري كلها على سنن تمسكها، وإلى غاية عند بارئها علمها، وتيقن من ضعفه وقصور علمه إذا لم يستعن على إدراك هذا الوجود بقوة فوق حسه وفوق عقله، تصل بينه وبين هذه العوالم جميعا، وتجعله يشعر بمكانته منها. وتلك قوة الإيمان.
فالإيمان إذن شعور روحي يحس به الإنسان يملأ نفسه كلما اتصل بالكون وفني في لا نهاية المكان والزمان، وامتثل الكائنات كلها في نفسه، فرآها تجري كلها على سنن تمسكها، ورآها كلها تسبح بحمد ربها؛ بارئها ومنشئها. أما أنه جل شأنه ماثل فيها متصل بها، أو هو مستقل بنفسه منفصل عنها، فهذه مضاربات جدلية عقيمة تضل ولا تهدي، وتضر ولا تنفع. وهي بعد لا تزيدنا علما. ولقد طالما أجهد الكتاب والفلاسفة أنفسهم يحاول بعضهم حلها، ويحاول بعضهم معرفة جوهر الخالق جل شأنه، فذهب جهدهم عبثا، وأقر بعضهم بأنها فوق ما نطيق إدراكه. ولئن قصر عقلنا دون هذا الإدراك ليكونن هذا القصور أدنى إلى تثبيت إيماننا. فشعورنا اليقيني بوجوده جل شأنه وبإحاطته بكل شيء علما، وبأنه الخالق المصور إليه يرجع الأمر كله، من شأنه أن يقنعنا بأنا لن نستطيع أن ندرك كنهه على شدة إيماننا به، وإذا كنا حتى اليوم لا ندرك ما الكهربا وإن شهدت أعيننا آثارها، وكانت تكفينا هذه الآثار لنؤمن بالكهربا والأثير، فما أشدنا غرورا ونحن نشهد كل يوم من بديع صنع الله إذا نحن لم نؤمن به حتى نعرف كنهه، تنزه جل شأنه عما يصفون.
والواقع في الحياة أن الذين يحاولون تصوير ذاته جل شأنه هم الذين يعجز إدراكهم عن السمو إلى تصور ما فوق حياتنا الإنسانية، والذين يريدون أن يقيسوا الوجود وخالق الوجود بمقاييسنا النسبية المحصورة في حدود علمنا القليل. أما الذين أوتوا العلم حقا فيذكرون قوله تعالى:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
4
وتمتلئ قلوبهم إيمانا بخالق الروح وخالق الكون كله ، ثم لا يزجون بأنفسهم في مضاربات عقيمة لا ثمرة لها ولا نتيجة.
ويفرق القرآن بين الإسلام بعد الإيمان والإسلام دون إيمان. يقول تعالى:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .
5
فمثل هذا الإسلام إذعان لدعوة الداعي عن رغبة أو رهبة أو إعجاب وتقديس دون امتثال النفس هذه الدعوة وفهمها إياها إلى حد الإيمان بها. فصاحبه لم يهده الله للإيمان عن طريق النظر في الكون ومعرفة سننه، والاهتداء من هذا النظر وهذه المعرفة إلى خالقه، وإنما أسلم لرغبة أو هوى أو لأنه وجد آباءه مسلمين. وهو لذلك لم يدخل الإيمان في قلبه على رغم إسلامه. من أمثال هذا المسلم من يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. وهؤلاء الذين يسلمون دون إيمان، وإنما يسلمون عن رغبة أو رهبة أو هوى، تظل نفوسهم ضعيفة وعقائدهم مزعزعة وقلوبهم مستعدة للإذعان للناس والخضوع لأمرهم. فأما الذين تصل عقولهم وقلوبهم إلى أن تؤمن بالله من طريق النظر في الكون إيمانا صادقا، يدعوهم إلى أن يسلموا لله وحده أمرهم، فأولئك لا يعرفون لغير الله خضوعا ولا إذعانا. وهم لا يمنون على أحد إسلامهم
بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين .
6
فمن أسلم وجهه لله وهو مؤمن فأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولئك لا يخافون في الحياة فقرا ولا مذلة لأن الإيمان غاية الغنى وغاية العزة. والعزة لله جميعا وللمؤمنين.
والنفس الراضية المطمئنة إلى هذا الإيمان لا تستريح إلا في الدأب لمعرفة أسرار الكون وسننه كيما تزداد بالله اتصالا. وسبيلها إلى هذه المعرفة البحث والنظر في خلق الله مما في الكون نظرا علميا دعا القرآن إليه وجد المسلمون الأولون فيه، وهو الطريقة العلمية الحديثة في الغرب. على أن الغاية منه تختلف في الإسلام عنها في الحضارة الغربية. فهي في الإسلام ترمي إلى أن يجعل الإنسان من سنة الله في الكون سنته ونظامه، على حين ترمي في الغرب إلى الاستفادة المادية مما في الكون. وهي في الإسلام ترمي أولا وقبل كل شيء، إلى حسن العرفان بالله كلما ازداد زادنا إيمانا به جل شأنه. وهي ترمي إلى حسن العرفان من جانب الجماعة كلها لا من جانب الفرد وحده. فالكمال الروحي ليس مسألة فردية صرفة، فلا محل لأن يعني الناس أنفسهم جماعة بها، بل هو أساس الحضارة للجماعة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها. وواجب لذلك على الإنسانية أن تدأب في سبيل هذا الكمال الروحي أكثر من دأبها للوقوف على حقيقة المحسوسات، وأن تجعل من معرفة أسرار الأشياء وسنن الكون وسيلتها إلى هذا الكمال أكثر مما تجعل من هذه المعرفة وسيلة للسلطان المادي على الأشياء.
ليس يكفي لبلوغ هذه المرتبة من الكمال الروحي أن نستعين بمنطقنا وحده، بل يجب أن نمهد لقلوبنا وعقولنا سبيل الوصول إلى أسمى ما نستطيع الوصول إليه من هذا المنطق. وإنما يكون ذلك بالتماس العون من الله واتجاه الإنسان إليه تعالى بقلبه وروحه، إياه يعبد، وإياه يستعين، للاهتداء إلى أسرار الكون وسنن الحياة. وهذا هو الاتصال بالله شكرا لله على نعمته، ليزيدنا اهتداء إلى ما لم نهتد إليه. قال تعالى:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ،
7
وقال جل شأنه:
واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون .
8
الصلاة هي هذا الاتصال بالله إيمانا به والتماسا للعون منه. وليس القصد منها حركات الركوع والسجود، وتلاوة ما يتلى من القرآن، أو تلاوة التكبير والتعظيم لله جل شأنه، دون أن تمتلئ النفس إيمانا به والقلب تقديسا له والفؤاد سموا إليه، وإنما القصد منها، ومما فيها من تكبير وتلاوة وركوع وسجود إلى هذا السمو والتقديس والإيمان وإلى عبادته عبادة خالصة لوجهه نور السموات والأرض. يقول تعالى:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
9
فالمؤمن الصادق الإيمان هو من يتوجه بقلبه إلى الله ساعة الصلاة، يشهد على تقواه ويستعينه على أداء واجب الحياة، ويستمد منه هدايته، ويستلهمه توفيقه لإدراك سر الكون وسننه ونظامه.
والمؤمن الصادق الإيمان بالله يشعر بنفسه أثناء صلاته، ويشعر بها دائما شيئا ضئيلا أمام عظمة الله العلي الكبير. إننا إذ نرتفع في طائرة من الطائرات ألفا أو بضعة آلاف من الأمتار، نرى الجبال والأنهار والمدن مظاهر صغيرة على هذه الأرض، ونراها ترتسي أمام باصرتنا وكأنها خطوط مرسومة على خريطة من الورق، وكأنها قد تساوى سطحها فلا ارتفاع لجبل ولا لبناء، ولا انخفاض لبئر ولا لنهر. ولا شيء أكثر من ألوان تتوالى وتتمازج وتزداد تمازجا كلما ازددنا نحن ارتفاعا. وأرضنا كلها ليست إلا كوكبا صغيرا في عالم ألوف الأفلاك والكواكب، وليست إلا كما ضئيلا جدا في لا نهاية هذا الكون. فما أصغرنا وما أضعفنا شأنا أمام بارئ هذا الوجود ومدبره جلت عن أفهامنا عظمته! وما أجدرنا ونحن نتوجه بقلوب خالصة إلى جلال قدسه الأسمى نلتمس منه العون لتقوية ضعفنا وهدايتنا إلى الحق، أن نرى مبلغ تساوي الناس جميعا في الضعف الذي لا يشد من أزره أمام الله مال ولا جاه، وإنما يشد من أزره الإيمان الصادق والخضوع لله والبر والتقوى.
شتان ما بين هذه المساواة التامة الصحيحة أمام الله، وبين ما كانت تتحدث عنه الحضارة الغربية في العصور الأخيرة من المساواة أمام القانون. ولقد بلغت هذه الحضارة الآن أن كادت تنكر هذه المساواة أمام القانون، ولا توجب احترامه على طائفة من الناس. شتان ما بين هذه المساواة أمام الله، مساواة تمسها حقيقة ملموسة في ساعة الصلاة وتهتدي إليها برأيك الحر، وبين مساواة في النضال لكسب المال نضالا يبيح الخديعة والنفاق، ثم ينجو صاحبه من سلطان القانون ما مهر في التحايل عليه وبرع في حسن العبث به .
هذه المساواة أمام الله تدعو إلى الإخاء الصادق؛ لأنها تشعر الناس جميعا بأنهم إخوة في العبودية لخالقهم والعبودية له وحده. وهذا إخاء يقوم على تقدير سليم ونظر حر وتدبر فرضه القرآن. وهل حرية وإخاء ومساواة أعظم من وقوف هذا الجمع أمام الله تعنو له جميعا جباههم، إياه يكبرون وله يركعون ويسجدون، لا تفاوت في ذلك بين أحدهم وأخيه، وكلهم مستغفر تائب مستعين، وليس بين أحدهم وبين الله إلا عمله الصالح وما قدم من بر وتقوى؟! إخاء هذا شأنه يصفي القلوب ويطهرها من قذى المادة، ويكفل للناس السعادة كما يؤدي بهم إلى إدراك سنة الله في الكون ما هداهم الله بنوره إلى هذا الهدى.
الناس جميعا ليسوا سواء في القدرة على ما أمر الله به من التقوى. فقد يثقل جسمنا روحنا وتغطى ماديتنا على إنسانيتنا إذا لم ندم رياضة الروح ولم نتوجه بقلوبنا لله أثناء صلواتنا، واكتفينا بأوضاع الصلاة من ركون وسجود وتلاوة؛ لذلك وجب جهد الطاقة أن نكف عما يجعل الجسم يثقل الروح ويجعل المادية تطغى على الإنسانية. ولذلك فرض الإسلام الصوم وسيلة لبلوغ مرتبة التقوى. قال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون .
10
والتقوى والبر سواء، فالبر من اتقى، والبر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين، وقام بما ورد في الآية التي أسلفنا.
وإذا كان القصد من الصوم ألا يثقل الجسم الروح، وألا تطغى ماديتنا على إنسانيتنا، فالوقوف به عند الإمساك من الفجر إلى الليل والإمعان بعد ذلك في الاستمتاع باللذات تفويت لهذا القصد. فالإمعان في الاستمتاع مفسدة لذاته ومن غير صيام، ما بالك به إذا صام المرء أو أمسك طيلة نهاره عن كل طعام وشراب ولذة، فإذا انقضى وقت الصيام أسلم نفسه لما يحسبها حرمته أثناء النهار من نعمة؟! إنه إذن ليشهد الله على أنه لم يصم تطهيرا لجسمه وسموا بإنسانيته، ولم يصم لذلك مختارا إيمانا منه بفائدة الصوم في حياتنا الروحية، بل صام أداء لفرض لا يدرك بعقله ضرورته، ويرى فيه حرمانا له من حرية سرعان ما يستردها آخر النهار حتى ينهمك في لذاته استعاضة عما حرم بالصوم منها. ومن يفعل ذلك فشأنه كشأن من لا يسرق لأن القانون يحرم عليه السرقة، لا لأنه يسمو بنفسه عنها ويحرمها على نفسه وعلى غيره مختارا.
وفي الحق أن النظر إلى الصيام على أنه حرمان وحد من حرية الإنسان نظر خاطئ يجعل الصيام عبثا لا محل له. إنما الصيام طهور للنفس يوجبه العقل عن اختيار من الصائم كي يسترد به حرية إرادته وحرية تفكيره. فإذا استردهما استطاع السمو بهما إلى عليا مراتب الإيمان الحق بالله. وهذا هو المقصود بقوله تعالى، بعد ذكره أن الصيام كتب على المؤمنين كما كتب على الذين من قبلهم:
أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون .
11
قد يبدو غريبا ما أقول من أنا نسترد بالصيام حرية الإرادة وحرية التفكير إذا قصدنا من الصيام إلى ما فيه من خير لحياتنا الروحية. وهو إنما يبدو غريبا لأن التفكير الحديث أفسد في أذهاننا صورة الحرية، حين هدم حدودها الروحية والنفسية، ثم استبقى حدودها المادية التي ينفذها الجندي بسيف القانون. فالإنسان ليس حرا بحكم هذا التفكير الحديث في أن يعتدي على مال غيره أو على شخصه، ولكنه حر في أمر نفسه وإن جاوز في ذلك كل ما يقره العقل أو تمليه قواعد الخلق. والواقع في الحياة غير هذا. والواقع أن الإنسان عبد العادة؛ فهو معتاد أن يتناول طعامه في الصباح وفي الظهيرة وفي المساء؛ فإذا قيل له: بل تناوله في الصباح وفي المساء فقط، اعتبر هذا اعتداء على حريته، في حين هو اعتداء على عبوديته لعادته، إن صح هذا التعبير. ومن اعتاد أن يدخن إلى حد استعباد التدخين إياه؛ فإذا قيل له: اقض نهارك لا تدخن، اعتبر هذا اعتداء على حريته، في حين هو لا يزيد على أنه اعتداء على عبوديته لعادته. ومنهم من اعتاد تناول القهوة أو الشاي أو غيرهما من ألوان الشراب في أوقات معينة له؛ فإذا قيل له اعدل عن هذه الأوقات إلى غيرها عد الاعتداء على عبوديته لعادته اعتداء على حريته. وهذه العبودية للعادة مفسدة للإرادة، مفسدة للفكرة الصحيحة من الحرية في صورتها الصادقة. وهي بعد مفسدة لسلامة التفكير؛ لأنها تخضعه للتأثر بضرورات الجسم المادية التي طبعتها العادة فيه. ولهذا يعكف كثيرون على ألوان مختلفة من الصوم يزاولونها في فترات من كل أسبوع أو من كل شهر. لكن الله أراد بالناس اليسر، إذ كتب عليهم الصيام أياما معدودات يكونون أثناءها جميعا سواء، وإذ جعل لهم الفدية وإذ أعفى من كان منهم مريضا أو على سفر على أن يؤدي هذا الصيام في أيام أخر.
ولفرض الصيام أياما معدودات من توطيد معنى الإخاء والمساواة أمام الله ما له من رياضة روحية. فالناس إذ يمسكون جميعا من مطلع الفجر إلى الليل، تتم بينهم المساواة كما تتم في صلاة الجماعة، ويشعرون خلال ذلك بإخائهم شعورا يضعفه تفاوتهم في الاستمتاع بما رزق الله كلا منهم من أسباب الاستمتاع في الحياة. ومن ثم كان الصيام موطدا لمعاني الحرية والإخاء والمساواة في نفس الإنسان مثلما توطدها الصلاة.
إذا أقبلنا على الصيام مختارين، مدركين أن أمر الله لا يمكن أن يختلف عن حكم العقل ما أدرك العقل أغراض الحياة في أسمى صورها قدرنا ما في الصيام من تحرير لنا من رق العادة، ومن رياضة لإرادتنا وحريتنا، وذكرنا أن ما يفرضه الإنسان على نفسه بإذن الله، من حدود روحية ونفسية لحريته بالتحرير من بعض عاداته وشهواته، هو خير ما يكفل لتفكيره أن يبلغ مراتب الإيمان العليا. وإذا كان التقليد في الإيمان ليس إيمانا بل هو إسلام من غير إيمان، فالتقليد في الصوم ليس صوما، ولذلك يعتبره المقلد حرمانا وحدا من حريته، بدل أن يدرك ما فيه من تحرير من قيود العادة ومن غذاء نفسي وروحي عظيم.
إذا بلغ الإنسان، من طريق هذه الرياضة الروحية، أن اهتدى إلى سنن الكون وأسراره، وأن عرف مكانه ومكان بني الإنسان منه، ازداد لإخوانه بني الإنسان حبا، وتحاب بنو الإنسان جميعا في الله، وتعاونوا على البر والتقوى، ورحم قويهم ضعيفهم، ونزل غنيهم لفقيرهم عن حظ من ماله، وهذه هي الزكاة والمزيد عليها هو الصدقة.
والقرآن يقرن الزكاة إلى الصلاة في كثير من المواضع. وقد تلوت قوله تعالى:
ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة .
12
ويقول تعالى:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين .
13
ويقول جل شأنه:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون .
14
والآيات التي تقرن الزكاة إلى الصلاة كثيرة.
وما ورد في القرآن عن الزكاة وعن الصدقة مستفيض قوي غاية القوة. وهو يضع الصدقة في المكان الأول من فعل الخير الذي يجزى الإنسان عليه الجزاء الأوفى. بل هو يضعها إلى جانب الإيمان بالله حتى لتشعر بأنها تكاد تعدله بقوله تعالى:
خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين .
15
ويقول جل شأنه:
وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .
16
ويقول تبارك وتعالى:
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
17
ولا يقف القرآن عند ذكر الصدقات، ومثوبة صاحبها عند الله كمثوبة من آمن به وأقام الصلاة، بل ينظم أدب هذه الصدقات تنظيما هو السمو كله. يقول تعالى:
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم .
18
ويقول:
قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم * يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى .
19
ويقول جل شأنه في بيان من تكون لهم الصدقات:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم .
20
الزكاة والصدقة فريضة من فرائض الإسلام، وركن من أركانه، لكن أعبادة هذا الفرض، أم هو أدخل في الأخلاق وتهذيبها؟ هو عبادة لا ريب؛ فالمؤمنون إخوة، ولا يتم إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. فالمؤمنون يتحابون بنور الله بينهم. وفريضة الزكاة والصدقة تتصل بهذا الإخاء، ولا تتصل بالأخلاق وتهذيبها ولا بالمعاملات وتنظيمها. وما اتصل بالإخاء اتصل بالإيمان بالله. وكل ما اتصل بالإيمان فهو عبادة. ولذلك كانت الزكاة ركنا من أركان الإسلام الخمسة. ومن أجل ذلك قام أبو بكر بعد وفاة النبي يطالب المسلمين بأدائها، فلما رأى بعضهم النكول عنها، رأى خليفة محمد في هذا النكول ضعفا في إيمانهم وتفضيلا للمال عليه، وخروجا على النظام الروحي الذي نزل به القرآن، وارتدادا بذلك عن الإسلام، فكانت حروب الردة التي ثبت بها أبو بكر رسالة الإسلام كاملة، والتي بقيت فخرا على الأيام.
واعتبار الزكاة والصدقة فرضا متصلا بالإيمان، يجعلهما بعض النظام الروحي الذي يجب أن ينتظم حضارة العالم. وهذا أسمى ما تبلغ إليه الحكمة وما يكفل للناس سعادتهم. فالمال والحرص عليه والاستكثار منه واتخاذه وسيلة لاستعلاء الإنسان على الإنسان، كان ولا يزال سببا لشقاء العالم ومصدرا للثورات والحروب فيه. وعبادة المال كانت ولا تزال سبب التدهور الخلقي الذي أصاب العالم، والذي لا يزال العالم يرزح تحت أعبائه. والاستكثار من المال والحرص عليه هو الذي قضى على الإخاء الإنساني، وجعل الناس بعضهم لبعض عدوا. ولو أنهم كانوا أصح نظرا وأسمى تفكيرا؛ لرأوا الإخاء أدعى للسعادة من المال، ولرأوا بذل المال للمحتاج أكبر جاها عند الله والناس من إذلال الناس لهذا المال. ولو أنهم آمنوا بالله حقا لتآخوا فيما بينهم، ولكان أدنى مظاهر تآخيهم إغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، ومحو الشقاء عمن تجر المتربة ويجر الفقر عليهم هذا الشقاء. وإذا كانت بعض الدول السامية الحضارة، في وقتنا الحاضر، تقيم شعوبها المستشفيات والمنشآت الخيرية لإيواء البائس ، والبر بالمحروم، ورعاية الفقير، باسم الشفقة الإنسانية، فإن إقامة هذه المنشآت بدافع الإخاء والتحاب في الله والشكر له على نعمته أسمى في الفكرة وأدعى إلى سعادة الناس جميعا. قال تعالى:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين .
21
هذا الإخاء الإنساني يزيد الناس بعضهم لبعض محبة. وليس يجوز في الإسلام أن تقف هذه المحبة عند حدود وطن بالذات، ولا أن تنتهي إلى حدود قارة من القارات، بل يجب ألا تعرف حدودا البتة.
لذلك يجب أن يتعارف الناس من أطراف الأرض جميعا، ليزداد بعضهم لبعض في الله محبة، ولتزيدهم محبتهم هذه بالله إيمانا. ووسيلة ذلك أن يجتمعوا من أطراف الأرض في صعيد واحد. وخير مكان يجتمعون فيه، إنما هو المكان الذي انبثق فيه نور هذه المحبة، وهذا المكان هو بيت الله بمكة؛ وهذا هو الحج. والمؤمنون إذ يجتمعون فيه وإذ يؤدون شعائره، يجب أن تكون حياتهم مثلا أثناءه ساميا للإيمان بالله وإخلاص القصد في التوجه إليه. يقول تعالى:
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب .
22
في هذا الصعيد الذي يحج المؤمنون إليه ليتعارفوا، وليرتبطوا بأقوى روابط الإخاء فيزيدهم إخاؤهم إيمانا، يجب أن تسقط كل الفوارق وألا يكون بين هؤلاء المؤمنين جميعا تفاوت ما، ويجب أن يشعروا بأنهم جميعا أمام الله سواسية، وأن يتوجهوا إليه بقلوبهم مستجيبين لدعوته، مؤمنين بوحدانيته، شاكرين لنعمته. وأية نعمة أكبر من نعمة الإيمان به جل شأنه مصدر كل خير ونعمة؟! أمام نور هذا الإيمان تنقشع أوهام الحياة، ويزول باطل غرورها من مال وبنين وجاه وسلطان. وبفضل نوره يصل الإنسان إلى إدراك ما في الوجود من حق وخير وجمال، وما يجري عليه الكون من سنن الله الخالدة لا تحويل لها ولا تبديل. وهذا الاجتماع العام يحقق معاني الإخاء والمساواة بين المؤمنين جميعا في أوسع صورها وأكثرها سموا وصفاء.
هذه قواعد الإسلام وفرائضه كما نزل بها الوحي على محمد عليه السلام. وهي أركان الإيمان كما رأيت في الآيات التي أثبتناها هنا، وأركان الحياة الروحية الإسلامية. ومن اليسير عليك أن تقدر بعد ذلك ما يمكن أن تقوم على هذا الأساس من قواعد الخلق. هي قواعد سامية غاية السمو، بلغت من ذلك ما لا نظير له في أية حضارة من الحضارات ولا في أي عصر من العصور. وقد نص القرآن فيها على ما يصل بالإنسان إلى غاية كماله إذا هو هذب نفسه على موجبها وأدبها بأدبها. وهي لم ترد في سورة واحدة من سور القرآن، بل وردت متفرقة فيه، فلا تكاد تتلو سورة منه حتى تسمو بنفسك إلى ذروة من الرقي لم تبلغها حضارة من قبل ولا يمكن أن تبلغها حضارة من بعد. وحسبك قيام أدب النفس على أساس روحي مصدره الإيمان بالله ورياضة العقل والقلب على هذا الأساس، دون النظر إلى أية منفعة مادية يجنيها الإنسان من وراء التأدب بهذا الأدب، لترى رفعة هذه الذروة التي بلغتها.
لقد طالما صور الكتاب في مختلف العصور والأمم صورة الرجل الكامل. صوره الشعراء والكتاب والفلاسفة والمسرحيون. صوروا هذه الصورة في العصور القديمة وما يزالون يصورونها حتى اليوم. مع ذلك لن تجد صورة لهذا الرجل الكامل كهذه الصورة الفذة التي وردت في سياق سورة الإسراء؛ وهي ليست إلا ما أوحى الله إلى رسوله من الحكمة، لا يقصد بها إلى تصوير الرجل الكامل، وإنما يقصد بها أن يذكر الناس بعض ما يجب عليهم. يقول تعالى:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا * ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا * وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا * وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا * ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا * إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا * ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا * ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا * ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا * وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا * ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا * ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها .
23
أي سمو بالنفس كهذا السمو، وأي كمال لها كهذا الكمال، وأي طهر للذيل كهذا الطهر؟! وإن كل آية من هذه الآيات لتقف قارئها أمامها، مقدسا لما جمعت بين القوة والروعة وسحر البيان وسمو المعنى والإعجاز في التصوير. وليت المقام هنا يتسع لهذه الوقفات! ولكن كيف يتسع والحديث عما تنطوي عليه هذه الآيات الست عشرة جديرة بأن يستوعب مؤلفا ضخما؟!
ولو شئنا أن نجيء بطرف مما في القرآن في أدب النفس، وتهذيب الأخلاق، لانفسح المجال إلى ما لا تنفسح له خاتمة الكتاب. وحسبنا أن نذكر أنه ما حض كتاب على الخير والفضل ما حض القرآن، وما سما كتاب بالنفس الإنسانية ما سما بها القرآن، وما تحدث كتاب عن البر والرحمة، وعن الإخاء والمودة، وعن التعاون والوفاق، وعن الصدقة والإحسان، وعن الوفاء وأداء الأمانة، وعن سلامة القلب وصدق الطوية، وعن العدل والمغفرة، وعن الصبر والثبات، وعن التواضع والإذعان، وعن الخير والمعروف، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالقوة والإقناع والإعجاز في الأداء، ما تحدث القرآن. وما نهى كتاب عن الضعف والجبن، وعن الأثرة والحسد، وعن البغض والظلم، وعن الكذب والنميمة، وعن التبذير والبخل، وعن البهتان واللمز، وعن الاعتداء والإفساد، وعن الغدر والخيانة، وعن كل رذيلة ومنكر، ما نهى القرآن، وبالقوة والإقناع والإعجاز التي نزل بها الوحي على النبي العربي.
وما من سورة تتلوها إلا وجدت فيها من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتوجه إلى الكمال، ما تسمو به نفسك غاية السمو. واسمع إلى قوله تعالى في التسامح:
ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون .
24
ويقول تعالى:
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم .
25
لكن هذا التسامح الذي يدعو القرآن إليه لا يدفع إليه ضعف، وإنما يدفع إليه الخلق وحرص على استباق الخيرات وترفع عن الدنايا. يقول تعالى:
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها .
26
ويقول:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .
27
وهذا صريح في أن الدعوة إلى التسامح دعوة إلى الفضل لا شيء من الضعف فيها، وإنما هي السمو النفساني الذي لا تشوبه شائبة.
هذا التسامح الذي يدعو القرآن إليه عن فضل، إنما أساسه الإخاء الذي جعله الإسلام دعامة حضارته. والذي أراد به أن يكون إخاء بين الناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها. والإخاء الإسلامي يتضافر فيه العدل والرحمة من غير ضعف ولا استكانة. وهو إخاء متساو في الحق والخير والفضل غير متأثر بالعاجلة من المنافع، بل يؤثر الآخذون به على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. والآخذون به يخشون الله ولا يخشون غيره. وهم لذلك الإباء والأنفة. وهم مع ذلك التواضع الجم. وهم الصادقون الموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرون في البأساء والضراء وحين البأس، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، لا يصعر أحدهم خده ولا يمشي في الأرض مرحا، وقاهم الله شح أنفسهم، لا يقولون على الله ولا على عباده الكذب، ولا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يستغفرون، يكظمون غيظهم ويعفون عن الناس، يجتنبون كثيرا من الظن ولا يتجسسون ولا يغتاب بعضهم بعضا، لا يأكلون أموالهم بينهم بالباطل ولا يدلون بها إلى الحكام ليأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم، تتنزه نفوسهم عن الحسد وعن الخديعة وعن لغو القول وعن كل منقصة.
وهذه الصفات والأخلاق التي يقوم عليها أدب النفس ويهذب الخلق على مقتضاها، إنما تستند - كما قدمنا - إلى النظام الروحي الذي نزل به القرآن والذي يتصل بالإيمان بالله. وهذا هو الأمر الجوهري فيها. وهذا هو ما يكفل تمكن هذا النظام الخلقي من النفس وبقاءه مطهرا من كل دنس، بعيدا عن أن تتسرب إليه أسباب تفسده. فالأخلاق التي تقوم على أساس من المنفعة وتبادلها يسرع إليها الضعف ما اطمأنت إلى أن هذا الضعف لا يجر على منافعها أذى. وهذه الأخلاق القائمة على تبادل المنفعة يغلب في صاحبها أن يكون باطنه غير ظاهره، ومكنون أمره غير ما يبدو للناس به؛ فهو يصطنع الأمانة وليس ما يمنعه أن يتخذها ذريعة لتصيد المنافع. وهو يتظاهر بالصدق، ولا يصده عن مجافاته شيء ما كان في مجافاته جلب منفعة له. أخلاق ذلك ميزانها ما أسرع ما يضعف صاحبها أمام المغريات، وما أسرع ما يجري وراء الأهواء والغايات!
وهذا الضعف هو الظاهرة البادية للعيان في عالمنا الحاضر. فما أكثر ما يسمع الناس بفضائح تقع في بلد أو في آخر من بلاد العالم المتحضر، سببها الحرص على المال وعلى السلطان أكثر من الحرص على الخلق الكريم وعلى الإيمان الصادق. وكثيرون من هؤلاء الذين ينحدرون إلى مهاوي هذه المآسي الخلقية والذين يرتكبون أتعس الجرائم، تراهم أول أمرهم على خلق كريم، لكن المنفعة كانت أساس هذا الخلق. كانوا يرون النجاح في الحياة رهنا بالاستقامة، فاستقاموا لينجحوا، لا لأن الاستقامة متصلة بعقيدتهم؛ فهم يقفون عند حدودها ولو جنت عليهم. فلما رأوا الاستهانة بالاستقامة بعض أسباب النجاح في حضارة هذا العصر استهانوا بها. ومنهم من يظل أمره مستورا عن الناس، فلا تناله الفضيحة وسيظل مرموقا بعين الإكبار، ومنهم من ينكشف أمره فيفتضح وتصل به الفضيحة إلى الانتحار أحيانا.
بناء النظام الخلقي على المنفعة يعرضه، إذن، لهذا البلاء ما بين حين وحين. أما بناؤه على هدى النظام الروحي على نحو ما نزل به القرآن، فهو الكفيل ببقائه متينا لا يتسرب إليه وهن. فالنية التي يصدر العمل عنها هي قوام هذا العمل والمقياس الذي يجب أن يقاس به. والرجل الذي يشتري ورقة نصيب لبناء مستشفى من المستشفيات لا يشتريها بنية فعل الخير وبقصد الإحسان، بل يشتريها طمعا في الربح. والرجل الذي يعطي لأن سائلا ألحف عليه في المسألة فأراد التخلص منه، ليس كمن يعطي من تلقاء نفسه أولئك الذين لا يسألون الناس إلحافا يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. والرجل الذي يقول الحق للقاضي مخافة عقاب القانون لشاهد الزور، ليس كمن يقول الحق لأنه يؤمن بفضيلة الصدق. ولن تكون الأخلاق التي تقوم على أساس المنفعة وتبادلها في متانة الأخلاق التي يؤمن صاحبها بأنها متصلة بكرامته الإنسانية، متصلة بإيمانه بالله، قائمة في نفسه على الأساس الروحي الذي يقوم عليه الإيمان بالله.
وقد حرص القرآن على أن يظل حكم العقل سليما، لا يتسرب إليه ما يؤثر في حسن تصوره الإيمان والخلق. لذلك اعتبر الخمر والميسر رجسا من عمل الشيطان؛ ولئن كان فيها منافع للناس لإثمهما أكبر من نفعهما، ومن ثم وجب اجتنابهما. فالميسر يصرف ذهن المقامر عما سواه، ويستنفد من وقته ويغريه بما يلهيه عن موجب الخلق الفاضل. والخمر تذهب العقل والمال على حد تعبير عمر بن الخطاب حين دعا أن يبين الله فيها. وطبيعي أن يضل حكم العقل إذا ذهب أو تغير، وأن يهون ضلاله على صاحبه مؤاتاة الدنية بدل أن يسمو عن أن يمر به طيف الفاحشة.
هذا النظام الخلقي الذي نزل به القرآن للمدينة الفاضلة، لا يدعو إلى حرمان النفس مما خلق الله من أنعم، حتى لا يؤدي بها الحرمان إلى ما يؤدي إليه الإمعان في التقشف من انصراف عن التفكير في الكون، وزهد في العلم بما فيه. وهو لا يرضى أن يسلم الإنسان نفسه للاستمتاع حتى لا يغرقها في لجة الترف وينسيها كل ما سواه. بل هو يجعل الناس أمة وسطا، ويوجههم وجهة الفضيلة الخالصة ووجهة المعرفة للكون وكل ما فيه. والقرآن يتحدث عما في الكون من خلق الله حديثا يوجهنا إلى غاية ما نستطيع معرفته من أمره. فهو يتحدث عن الأهلة، وعن الشمس والقمر، وعن الليل والنهار، وعن الأرض وما خلق فيها، والسماء وزينة كواكبها، وعن البحر يزجي الله الفلك فيه لنبتغي من فضله، وعن الأنعام التي نركبها وزينة، وعن كل ما في الكون من علم وفن. يتحدث القرآن عن هذا كله، ويدعو إلى النظر فيه وإلى دراسته، وإلى الاستمتاع بآثاره وثمراته شكرا لله على نعمته. أما وقد أدب القرآن الناس بأدبه ودعاهم إلى السعي وإلى الدأب لمعرفة كل ما في الكون، فما أجدرهم أن يصلوا من نظرهم من طريق العقل إلى غاية ما يستطيع العقل إدراكه! وما أجدرهم أن يقيموا نظامه الاقتصادي على أساس فاضل!
النظام الاقتصادي، الذي يقوم على ما قدمنا من أسس خلقية وروحية، جدير بأن يصل بالناس إلى السعادة، وبأن يمحو من الأرض الشقاء. فهذه المبادئ السامية التي يحرص القرآن على أن تحل من النفس محل العقيدة والإيمان تأبى على صاحبها أن يرى في الأرض شقاء أو نقصا يستطيع إزالته ثم لا يزيله. وأول ما ينكره من تأدب بهذا الأدب، الربا: أساس الحياة الاقتصادية الحاضرة، ومصدر شقاء الناس جميعا؛ ولذلك حرمه الإسلام تحريما قاطعا. يقول تعالى:
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس .
28
ويقول:
وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون .
29
تحريم الربا قاعدة أساسية للحضارة التي تكفل للعالم سعادته. فالربا في أقل صوره ضررا إنما هو اشتراك رجل لا يعمل في ثمرات عمل غيره بلا سبب إلا أنه أقرضه مالا، بحجة أنه أعان هذا الغير بما أقرضه على إدراك هذه الثمرات، وأنه لو لم يفعل لما استطاع مدينه أن يعمل وأن يجني هذه الثمرات. ولو أن هذه الصورة كانت وحدها صورة الربا لما كانت مع ذلك مسوغة له. فلو أن الذي يقرض المال كان قديرا على أن يثمره بنفسه لما أقرضه غيره. ولو أنه أبقاه عنده لبقي معطلا لا يؤتي ثمرة، ولأكله صاحبه شيئا فشيئا. فإذا أراد الاستعانة بغيره في تثمير ماله مقابل الحصول على حظ من ثمرته، لم تكن وسيلة ذلك أن تفرض لرأس المال فائدة معينة، وإنما تكون وسيلته أن يشارك صاحب المال من يثمر هذا المال في مقابل حصته من الثمرة. فإن ربح المثمر كان لرب المال من ذلك الربح نصيبه، وإن خسر كان عليه من الخسارة نصيبه. فأما أن تفرض لرأس المال فائدة ولو لم يفد من ثمره شيئا فذلك هو الاستغلال غير المشروع.
ولا يعترض بأن المال عرض كغيره يؤجر كما تؤجر الأرض أو كما تؤجر الدابة، وأن فائدة النقل تقابل إيجار غيره من العروض؛ فبين المال الذي يصلح للإنفاق كما يصلح للتثمير والذي ينتفع به في الخير وتجلب به أسباب الإثم، وبين غيره من الأموال الثابتة والمنقولة فرق كبير. فالإنسان لا يستأجر أرضا أو بيتا أو دابة أو أيا من العروض إلا لينتفع به فيما يصلح له ما لم يكن سفيها أو معتوها لا تلزمه تصرفاته. فأما رءوس الأموال فأكثر ما تقترض في خير الوجوه للتجارة. والتجارة عرضة دائما للكسب والخسارة. أما إجارة العقار أو المنقول لاستغلاله فقل أن تتعرض للخسارة إلا في أحوال شاذة لا يوضع التشريع العادي لها. فإذا حدثت هذه الأحوال الشاذة تدخل المشروع بين الملاك والمستأجرين على نحو ما حدث في بلاد العالم كله غير مرة لرفع الحيف عن المستأجر، وإنقاذه من أن يأكل المالك ثمرة عمله. فأما تحديد فائدة النقد بسبعة أو تسعة في المائة أو بأكثر من ذلك أو أقل، فلا يغير من أن المقترض معرض لخسارة المال نفسه فضلا عن تعرضه لخسارة عمله. فإذا طولب مع ذلك بالفائدة كان هذا هو الإثم ، وكان من أثر ذلك أن تقوم الشحناء بين الناس مقام الإخاء، وأن تحل البغضاء بينهم محل المحبة؛ وذلك مصدر الشقاء، ومبعث ما تعانيه الإنسانية في عصرنا الحاضر من أزمات.
وإذا كان هذا شأن الربا في أقل صوره ضررا، وكانت هذه بعض النتائج التي تترتب عليه، فكيف به في صوره الأخرى حين يكون المقرض أدنى إلى الوحش المفترس منه إلى الإنسان، أو حين يكون المقترض في حاجة إلى المال لسبب غير التثمير؟! فقد يكون في حاجة إلى المال لإقامة أوده ولإنفاقه في قوته وفي قوت عياله. حينذاك يكون إنظاره إلى ميسرة، حتى يتهيأ له عمل يطمئن به إلى العيش ويستطيع أن يرد منه ديونه، بعض ما توجبه الإنسانية في أولى مراتبها؛ وذلك ما يفرضه القرآن الكريم. أليس الإقراض بالربا في مثل هذه الأحوال عملا وحشيا، وجريمة كجريمة القتل سواء؟! وأشنع من هذه الجريمة التحايل من طريق الربا على سلب ثروات الضعفاء الذين لا يحسنون القيام على أموالهم. هذا التحايل لا يقل إثما عن السرقة الدنيئة، ويجب أن يعاقب من يقدم عليه عقاب السارق أو أشد منه.
والربا هو بعض ما جر على العالم مصائب الاستعمار، وما أدى الاستعمار إليه من شقاء. فالاستعمار يبدأ أكثر أمره بطائفة من المرابين أفرادا أو شركات ينزلون بلدا من البلاد يقرضون أهله أموالهم، ثم يتغلغلون حتى يصلوا إلى وضع أيديهم على منابع الثروة فيه، فإذا أفاق أهله وأرادوا الذود عن أنفسهم وأموالهم، استعدى هؤلاء الأجانب عليهم دولهم، فدخلت باسم حماية رعاياها، ثم تغلغلت هي كذلك، ثم وضعت يدها مستعمرة، وفرضت إرادتها حاكمة، وحرمت الناس حريتهم، واستولت على الكثير مما رزقهم الله في بلادهم. لذلك تضيع سعادتهم، ويخيم الشقاء على ربوعهم، ويمد البؤس يده إلى قلوبهم، ويرين الضلال على عقولهم، فتضعف أخلاقهم، ويتضعضع إيمانهم، وينزلون عن مرتبة الإنسانية الصحيحة إلى مكان من الضعة لا يرضاه لنفسه من يؤمن بالله، وبأن الله وحده هو الذي تجب له العبادة.
والاستعمار مصدر الحروب، ومصدر الشقاء الذي ينيخ بكلكله على الإنسانية كلها في هذا العصر الحاضر. وما دام الربا، وما دام الاستعمار، فلا أمل في العود إلى عهد إخاء ومحبة بين الناس؛ ولا أمل في العود إلى مثل هذا العهد إلا أن تقوم الحضارة على الأساس الذي جاء به الإسلام، ونزل به الوحي في القرآن.
وفي القرآن اشتراكية لم تبحث بعد. وهي اشتراكية لا تقوم على أساس من حرب رأس المال ونضال الطوائف، شأن الاشتراكية اليوم في الحضارة الغربية، وإنما تقوم على أساس خلقي سام يكفل إخاء الطوائف وتكافلها وتعاونها على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. ومن اليسير أن يرى الإنسان قيام هذه الاشتراكية على الإخاء فيما فرضه القرآن من زكاة ومن صدقة، وأن يقدر أنها ليست اشتراكية تسود فيها طائفة طائفة أو تتحكم بها جماعة في جماعة.
فالحضارة التي صور القرآن لا تعرف سيادة ولا تحكما، بل أساسها الإخاء الصادق عن إيمان ثابت بهذا الإخاء؛ إيمان يجعل من التحدث بنعمة الله إعطاء الفقير والبائس والمحروم ما يحتاجون إليه من غذاء ومأوى ودواء وتعليم وتهذيب، وإعطاءهم ذلك من غير من ولا أذى. بذلك يزول الشقاء ويتم الله نعمته على الناس وتسودهم السعادة.
والاشتراكية الإسلامية لا تقتضي إلغاء التملك إطلاقا، كما تقتضيه الاشتراكية الغربية. وقد أثبت الواقع في روسيا البلشفية وفي كل بلاد سادتها الاشتراكية، أن إلغاء التملك أمر غير ممكن. لكن المرافق العامة يجب أن تكون ملكا عاما مشاعا بين الناس جميعا. وتحديد المرافق العامة متروك أمره للدولة.
ولذلك وقع الخلاف على هذا التحديد منذ الصدر الأول للإسلام؛ فكان من بين أصحاب النبي غلاة في الاشتراكية يجعلون كل ما خلق الله ملكا مشاعا ومرفقا عاما؛ ولذلك يجعلون شأن الأرض وما تحتويه شأن الماء والهواء، لا يجوز تملك شيء منه. وإنما يقع التملك على الثمرات ينال منها كل على قدر سعيه ومجهوده. وكان منهم من لا يرون هذا الرأي، ويقولون بجواز تملك الأرض، ويعتبرونها من العروض التي يقع عليها التبادل.
على أن الاتفاق منعقد بينهم على قاعدة اشتراكية مقررة اليوم في أوروبا، تقضي بأنه يجب على كل إنسان أن يبذل للجماعة كل كفاياته، ويجب على الجماعة أن تبذل لكل فرد منها ما يسد حاجاته. فلكل مسلم حق في أن ينال من بيت مال المسلمين ما يكفل حاجاته وحاجات من يعول ما دام لا يجد عملا يرتزق منه، أو ما دام العمل الذي يزاوله غير كاف لرزقه ورزق عياله. وما دامت قواعد الخلق التي قرر القرآن هي ما قدمنا فلن يكذب أحد، ولن يزعم أحد أنه متعطل على حين هو في الحقيقة لا يريد أن يعمل، ولن يزعم أحد أنه لا يجد من عمله ما يكفيه على حين يدر عليه الكفاية. وقد كان أمراء المؤمنين في الصدر الأول يفرضون على أنفسهم أن يتفقدوا أمور المؤمنين ليبذلوا للمحتاج منهم حقه، وليدفعوا عنه عادية الحاجة.
ومن ثم نرى الاشتراكية في الإسلام ليست اشتراكية المال وتوزيعه، وإنما هي اشتراكية عامة أساسها الإخاء في الحياة الروحية، وفي الحياة الخلقية، وفي الحياة الاقتصادية. وإذا كان المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فالمرء لا يكمل إيمانه إذا لم يحض على طعام المسكين ولم ينفق للخير العام مما رزقه الله سرا وعلانية. وكلما ازداد المرء إيثارا على نفسه كان أقرب إلى الله وأدنى إلى رضاه، وكانت نفسه أكثر طمأنينة وقلبه أشد غبطة. وإذا كان الله قد جعل الناس بعضهم فوق بعض درجات، وكان يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر فإن الناس لا صلاح لهم إلا إذا وقر صغيرهم كبيرهم، ورحم كبيرهم صغيرهم، وأعطى غنيهم فقيرهم، ابتغاء وجه الله وشكرا لله وتحدثا بنعمته.
ما أحسبنا في حاجة إلى ذكر ما جاء في القرآن من تفاصيل النظام الاقتصادي في المواريث والوصية والعقود والتجارة وما إليها؛ فمحاولة الإشارة أوجز الإشارة إلى ما جاء فيه من هذه الشئون الفقهية ومن الشئون الاجتماعية، تقتضي عدة فصول كهذا الفصل. وحسبنا أن نذكر أن ما ورد فيه من ذلك لم يرد إلى اليوم ما هو خير منه في أية شريعة من الشرائع. بل إن الإنسان لتأخذ منه الدهشة كل مأخذ حين يجد بعض تفاصيل، كالكتابة في الدين إلى أجل مسمى إلا أن تكون تجارة، وكإرسال الحكمين إذا وقع الشقاق بين الزوجين خيفة الفرقة، وكالقيام بالإصلاح بين طائفتين اقتتلوا، ومقاتلة الطائفة التي تبغي ولا ترضى الصلح حتى تفيء إلى أمر الله - تأخذ الإنسان الدهشة إذ يرى هذه الأمور، ويوازن بينها وبين ما ورد في الشرائع المختلفة، فإذا أحسن التشريع ما وافق هذه القواعد التي وضعها القرآن. فلا عجب إذن - وما ذكرنا عن الربا وعن الاشتراكية الإسلامية هو أساس النظام الاقتصادي المصور في القرآن، وهذه التفاصيل التشريعية هي خير ما وصل التشريع إليه في مختلف العصور - أن تكون الحضارة الإسلامية هي الحضارة الجديرة بالإنسانية الكفيلة حقا بإسعادها.
ربما ذهب بعض كتاب الغرب - بعد اطلاعهم على ما قدمنا من تصوير القرآن للحضارة وأساسها - إلى أن طبيعة الإنسان لا تألف هذا النظام الذي يكلفها من السمو إلى ما فوق فطرتها ما لا تطيق، وأن نظاما ذلك شأنه ليس مقدورا له أن يحيا أو أن يطول بقاؤه. فالإنسان في رأيهم إنما يحركه الخوف والرجاء، وتحركه الأهواء والشهوات، شأنه في ذلك شأن الحيوان، وهو بعد حيوان ناطق، فحمل الإنسانية على الأخذ بنظام كالذي صوره الإسلام للحضارة أمر غير مستطاع، أو هو على الأقل غير ميسور. وغاية ما نطيق في نظم هذه الحياة للجماعة الإنسانية أن نهذب الشهوات، وأن نحسن توجيه فكرة الخوف والرجاء من الناحية الاقتصادية المادية البحتة. فأما ما وراء ذلك فأمر لا قبل للجماعة به. ولعل الدليل عندهم على ذلك أن النظام الإسلامي - على النحو الذي صوره القرآن وحاولت إيجازه هنا - لم يستقر في الجماعة الإسلامية نفسها إلا أيام النبي وفي الصدر الأول، ولو أن النظام كان صالحا للحياة لاستقر في تلك الجماعات الإسلامية الأولى ولانتشر منها في أنحاء العالم. أما وذلك لم يحدث، بل حدث نقيضه، فالزعم بأن هذا النظام أجدر بالإنسانية وأكفل بسعادتها زعم لا يصدقه الواقع.
ويكفي لإدحاض هذا الاعتراض اعتراف أصحابه بأن النظام الإسلامي قام وطبق في عهد النبي وفي الصدر الأول. ولقد كان محمد خير أسوة في تطبيقه. واتبع خلفاؤه الأولون أسوته الحسنة وساروا بهذا النظام إلى حيث يجب أن يبلغ كماله. لكن الدسائس والأهواء ما لبثت بعد ذلك أن طغت شيئا فشيئا على أسسه الصحيحة من طريق الإسرائيليات تارة، ومن طريق الشعوبية أخرى وكان من أثر ذلك أن عاد الناس شيئا فشيئا إلى تغليب المادة على الروح، والحيوانية على الإنسانية، وإلى الوقوف في دائرة الحدود التي تقف المدنية الحاضرة فيها اليوم، والتي تجر على الإنسانية شر أهوال الشقاء.
كان محمد خير أسوة في تطبيق الحضارة كما صورها القرآن. وقد رأيت من ذلك خلال هذا الكتاب كيف كان إخاؤه لبني الإنسان جميعا إخاء تاما صادقا؛ كان إخوانه بمكة متساوين وإياه في احتمال البأساء والضراء؛ وكان هو أشد منهم للبأساء والضراء احتمالا، فلما هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار فيها إخاء جعل له حكم إخاء الدم. وكان إخاء المؤمنين عامة إخاء محبة لإصلاح دعامة الحضارة الناشئة في ذلك العهد؛ وكان يقوي هذا الإخاء إيمان صادق بالله بلغ من قوته أن كان محمد يسمو به إلى الاتصال بالله جل شأنه. وموقفه في غزوة بدر حين ناشد ربه النصر الذي وعده إياه، وجعل يستنجزه هذا النصر، ويذكر له أن فئة بدر إن هزمت لم يعبد، مظهر قوي من مظاهر هذا الاتصال. ومواقفه في غير بدر من المواطن تدل على أنه كان دائم الاتصال بالله في غير الساعات التي ينزل فيها عليه الوحي. وكان اتصاله هذا من طريق إيمانه الصادق إيمانا جعله يستهين بالموت ويقبل عليه ويتمناه. فكل صادق في إيمانه لا يهاب الموت بل يتمناه؛ فلكل أجل كتاب، والناس أينما يكونوا يدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة.
وهذا هو الذي جعل محمدا يثبت حين فر المسلمون منهزمين عندما بدأت غزوة حنين، ويدعو الناس إليه غير آبه للموت المحيط به وبالعدد القليل الذين ثبتوا معه. وهذا الإيمان هو الذي جعله يعطي عطاء من لا يخشى فاقة، ويبر اليتيم وابن السبيل وكل بائس وكل محروم، ويسمو إلى ذروة ما دعا إليه كتاب الله من فضائل. ذلك كله، واحتذاء المسلمين مثاله في الصدر الأول، جعل الإسلام يسرع إلى الانتشار في العقود الأولى من السنين التي تلت اختيار الله نبيه إلى جواره؛ وينتشر لينتشر في كل قطر رفرفت عليه أعلامه أسمى ما قررته هذه الحضارة، ولينشئ بذلك من هذه الأمم المنحلة المتهدمة شعوبا قوية ودولا ذات بأس تقبل على العلم وتصل من طريقه إلى الاتصال بكثير من أسرار الكون، وتبدع لذلك في الحياة من المنشآت ما تفاخر به هذا العصر الحاضر الذي يزعمونه عصر النور والعلم، من غير أن يجني على سعادة الإنسانية بسبب عبادة المادة وضعف الإيمان بالله.
وإنما اندست في الحضارة الإسلامية أهواء الشعوبية والإسرائيليات، كما اندست في غيرها من الحضارات؛ لأن طائفة من العلماء الذين يجب عليهم أن يكونوا ورثة الأنبياء، قد آثرت السلطان على الحق، والجاه على الفضيلة؛ فاتخذت من علمها وسيلة تضلل بها سواد الناس وناشئتهم، كما يضلل كثيرون من علماء هذا العصر سواد أهله وناشئته. هؤلاء العلماء هم أنصار الشيطان، وهم لذلك أثقل الناس تبعة أمام الله. وأول واجب على كل عالم مخلص حقا لعلمه ولله أن يحاربهم وأن يستأصل بذور فسادهم؛ لأنهم يفتنون الناس عن الحق والهدى ويضلونهم عن سواء السبيل. وإذا جاز أن يكون لهؤلاء العلماء المضلين مجال حيث تقتتل الكنيسة والعلم على السلطان في الغرب، فلا مجال لهم في البلاد الإسلامية حيث تزاوج الحضارة بين الدين والعلم، وحيث يكون الدين بغير علم كفرا، والعلم بغير دين تجديفا. ولو أن العالم استظل بحضارة الإسلام على ما صورها القرآن، ولم تجن عليه فتوح المغول وغيرهم ممن دخلوا في الإسلام ولم يعملوا بمبادئه ولا عملوا على نشرها، بل اتخذوه وسيلة لحكم سواد المسلمين على مبادئ تناقض مبادئ الإخاء الإسلامي، لتبدل الأمر في العالم غير الأمر ، ولنجت الإنسانية من كثير مما ترزح اليوم تحته من أهوال الشقاء.
وإني لواثق أن تسود الحضارة التي صورها القرآن العالم إذا قام جماعة من العلماء يدعون إليها على طريقة علمية بعيدة عن الجمود والتعصب. فهذه الحضارة تخاطب القلب كما تخاطب العقل، وتكفل إقبال الناس من كل الأمم عليها إقبالا لن تستطيع مطامع أصحاب المطامع صده. ولا يطلب إلى هؤلاء العلماء أكثر من أن يكونوا مؤمنين حقا، يدعون الناس إلى الله وإلى هذه الحضارة مخلصين له الدين حنفاء. يومئذ يسعد الناس بالإخاء في الله كما سعدوا به في عهد النبي.
وما كان في عهد النبي وفي الصدر الأول، ينهض دليلا على ما قلته في مقدمة هذا الكتاب من أن البحث العلمي في الثورة الروحية التي أفاض محمد على العالم ضياءها جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تتلمسها، وأنا لا أرتاب في ذلك لحظة. لكن لعلماء الغرب بعض اعتراضات يبدونها، ينسبونها إلى الروح الذي صدرت عنه فكرة الحضارة الإسلامية، ويقيمون على أساسها حكمهم بأن الإسلام كان سببا في تدهور الأمم التي دانت به. وأهم هذه الاعتراضات ما يذهبون إليه من أن الجبرية الإسلامية أضعفت همة المسلمين، وقعدت بهم عن الكفاح في الحياة؛ فهانوا وذلوا. ودفع هذا الاعتراض وما يجري مجراه هو موضوع المبحث الثاني من هذه الخاتمة. (2) المستشرقون والحضارة الإسلامية
واشنجتون إيرفنج من أعلام الكتاب الذين فاخرت بهم الولايات المتحدة الأمريكية غيرها من الأمم في القرن التاسع عشر المسيحي. وقد كتب سيرة النبي العربي في كتاب عرض فيه هذه السيرة عرضا فيه قوة بيانية تملك قارئه في كثير من أجزائه، وفيه إلى جانب هذه القوة إنصاف أحيانا وتحامل أحيانا أخرى. وقد وضع للكتاب خاتمة عرض فيها لقواعد الإسلام وما حسبه المصادر التاريخية التي استندت إليها هذه القواعد، وفي مقدمتها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ثم قال: القاعدة السادسة والأخيرة من قواعد العقيدة الإسلامية هي الجبرية. وقد أقام محمد جل اعتماده على هذه القاعدة لنجاح شئونه الحربية. فقد قرر أن كل حادث يقع في الحياة قد سبق في علم الله تقديره، فكتب في لوح الخلد قبل أن يبرأ الله العالم، وأن مصير كل إنسان وساعة أجله قد عينت تعيينا لا مرد له، فلا يمكن أن تتقدم أو أن تتأخر بأي مجهود من مجهودات الحكمة الإنسانية أو بعد النظر. بهذا الاقتناع كان المسلمون يخوضون غمار المعارك دون أن ينال منهم الخوف. فما دام الموت في هذه المعارك هو عدل الاستشهاد الذي يسرع بصاحبه إلى الجنة؛ فقد كانت لهم الثقة بالفوز في حالي الاستشهاد أو الانتصار.
هذا المذهب الذي يقرر أن الناس غير قادرين بإرادتهم الحرة على اجتناب الخطيئة أو النجاة من العقاب، يعتبره بعض المسلمين منافيا لعدل الله ورحمته. وقد تكونت عدة فرق جاهدت وما تزال تجاهد لتهوين هذا المذهب المحير وإيضاحه. لكن عدد هؤلاء المتشككة قليل. وهم لا يعتبرون من أهل السنة.
وقد ألهم محمد مذهب الجبرية من وحي الساعة، فكان ذلك إلهاما معجزا لحدوثه في أنسب أوقاته. فقد حدث توا بعد غزوة أحد المنكودة التي ذهبت فيها أرواح عدد غير قليل من أنصاره، ومن بينهم عمه حمزة. عندئذ، وفي ساعة وجوم وهلع تحطمت أثناءها قلوب أصحابه المحيطين به، أصدر هذا القانون ينبئهم أن لا مفر لإنسان من أن يتوفى في ساعة أجله، في فراشه كان أو في ساحة الوغى.
أية عقيدة يمكن أن يصورها صاحبها أدق من هذا التصوير ليدفع بها للغزو طائفة من الجنود الجهلاء الأغرار دفعا وحشيا؛ إذ يقنعهم عن يقين بالفيء لمن يبقى، والجنة لمن يموت؟! ولقد جعلت هذه العقيدة جند المسلمين لا يكاد يغلبه غالب؛ لكنها احتوت كذلك السم الذي يقضي على سلطانه. فمنذ اللحظة التي كف فيها خلفاء النبي عن أن يكونوا غزاة فاتحين، ومنذ أغمدوا سيوفهم بصفة نهائية، بدأت العقيدة الجبرية تعمل عملها الهدام، فقد أرهف السلم أعصاب المسلمين كما أرهفها المتاع المادي الذي أباحه القرآن، والذي يفصل فصلا حاسما بين مبادئه ودين المسيح دين الطهر والإيثار؛ فصار المسلم ينظر إلى ما يصيبه من بأساء على أنها بعض ما قدر الله عليه وما لا مفر منه، وما يجب الإذعان له واحتماله، ما دام كل جهد وكل حكمة إنسانية عبثا لا نفع له.
ولم تكن قاعدة «أعن نفسك يعنك الله.» مما يرى أتباع محمد تنفيذه، بل كان عكسها نصيبهم؛ من ثم محق الصليب الهلال. وبقاء الهلال إلى اليوم في أوروبا حيث كان يوما ما بالغا غاية القوة إنما يرجع إلى اختيار الدول المسيحية الكبرى، أو يرجع بالأحرى إلى تنافسها. ولعل الهلال باق ليكون دليلا جديدا على أن «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.»
هذا كلام واشنجتون إيرفنج. وهو كلام رجل لم تمكنه دراسته من إدراك روح الإسلام وأساس حضارته؛ فذهب هذا المذهب الخاطئ في تأويل مسألة القضاء والقدر وكتاب الأجل. ولعل له من العذر أنه وقف في بعض الكتب الإسلامية على ما جعله يذهب هذا المذهب: فأما القرآن فلا تقاس إلى جانب ما ورد فيه عبارة «أعن نفسك يعنك الله.» من حيث القوة في الدعوة إلى التعويل على الذات، وأن الناس مجزيون بأعمالهم وبالنية التي تصدر هذه الأعمال عنها. قال تعالى:
قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها .
30
وقال تعالى:
من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
31
وقال:
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب .
32
وقال:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
33
ومثل هذا في القرآن كثير. وهو صريح في الدلالة على أن إرادة الإنسان وعمله هما مصدر مثوبته وعقابه. وقد حض الله الناس أن يسعوا في مناكب الأرض وأن يأكلوا من رزقه، وأمرهم بالجهاد في سبيله بآيات قوية غاية القوة تلوت شيئا منها في أثناء هذا الكتاب. وهذا لا يتفق وما يقوله إيرفنج وما يقول بعض رجال الغرب من أن الإسلام دين تواكل وقعود، وأنه يعلم أهله أنهم لا يملكون لأنفسهم بعملهم نفعا ولا ضرا، فلا فائدة لهم من السعي والإرادة؛ لأن السعي والإرادة معلقان بمشيئة الله؛ فإذا سعينا وكان مقدرا ألا يثمر سعينا لم يثمر، وإذا لم نسع وكان مقدرا أن نصبح أغنياء أو أقوياء أو مؤمنين أصبحنا كذلك من غير سعي ولا عمل. فالآيات التي قدمنا تناقض هذا الرأي وتنفيه.
ألم يعتمد هؤلاء الذين ينسبون تواكل المسلمين في هذه العصور الأخيرة إلى دينهم على ما جاء في القرآن من آيات القدر، كقوله تعالى:
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا .
34
وكقوله:
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .
35
وكقوله:
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير .
36
وكقوله:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون .
37
إن يكن ذلك ما يعتمدون عليه فقد فاتهم معنى هذه الآيات وأمثالها، وما تصوره من صلة وثيقة بين العبد وربه، ودعاهم ذلك إلى الظن بأن الإسلام يدعو إلى التواكل مع أنه الدين الذي يدعو إلى الجهاد وإلى الاستشهاد وإلى الإباء والأنفة، كما يقيم حضارته على أساس من الإخاء والرحمة.
والواقع أن هذه الآيات وما جرى مجراها تصور حقيقة عملية قررتها كثرة فلاسفة الغرب وعلمائه وأطلقوا عليها مذهب الجبرية كذلك، ونسبوا الجبر فيها إلى سنة الكون ومجموع الحياة فيه بدل أن ينسبوها إلى الله وعلمه وقدرته. وهذا المذهب الذي تقره كثرة فلاسفة الغرب أقل سعة وتسامحا وانطباقا على خير الجماعة الإنسانية من المذهب الفلسفي الذي يستخلص من القرآن الكريم، كما سنرى من بعد. وهذه الجبرية العلمية تذهب إلى أن ما لنا من اختيار في الحياة إنما هو اختيار نسبي ضئيل القدر وأن القول بهذا الاختيار النسبي يرجع إلى ضرورات الحياة الاجتماعية من ناحية علمية أكثر مما يرجع إلى حقيقة علمية أو فلسفية. فلو لم يتقرر مذهب الاختيار لتعذر على الجماعة أن تجد أساسا تقيم عليه تشريعها وحدودها، وتنظم بذلك حياتها ، وتفرض به على كل إنسان جزاء تصرفاته جزاء جنائيا أو مدنيا.
صحيح أن بين العلماء والفقهاء من لا يقيمون أساس الجزاء على الجبر ولا على الاختيار، وإنما يقيمون على ما يحدث من رد الفعل الذي تقوم به الجماعة محافظة على كيانها، كما يقوم الفرد بمثله محافظة على كيانه. وسيان عند الجماعة إذ تقوم برد الفعل هذا أن يكون الفرد مختارا وأن يكون غير مختار. على أن الاختيار في التصرف ما يزال الأساس للجزاء عند أكثر الفقهاء، ودليلهم عليه أن مسلوب الحرية والاختيار، كالمجنون والصغير والسفيه، لا يجزى عن عمله ما يجزى الرشيد الذي يميز بين الخير والشر. فإذا تخطينا هذه الاعتبارات العملية في الفقه والتشريع وأردنا أن نخلص إلى الحقيقة العلمية والفلسفية، ألفينا الجبرية هي هذه الحقيقة. فليس لأحد اختيار للعصر الذي يولد فيه، ولا للأمة التي يولد من أبنائها، ولا للبيئة التي ينشأ بينها، ولا لأبويه وفقرهما وغناهما وفضلهما ونقصهما، ولا لأنه ذكر أو أنثى، ولا لما يحيط به من أحداث لها، أغلب الأمر، الأثر الأكبر في توجيه أعماله وحياته. وقد عبر الفيلسوف الفرنسي «هيبوليت تين» عن هذا المذهب بقوله: «المرء ثمرة بيئته.» وقد ذهب غير واحد من العلماء والفلاسفة في تأييد ذلك إلى حد القول بأن علمنا لو استطاع أن يصل من معرفة سنن الحياة الإنسانية وأسرارها إلى مثل ما وصل إليه من معرفة سنن الأفلاك، لاستطاع أن يحدد بالدقة مصير كل فرد وكل أمة، كما يحدد الفلكيون بالدقة مواقيت كسوف الشمس وخسوف القمر.
مع ذلك لم يقل أحد في الغرب ولا في الشرق بأن هذا المذهب الجبري يحول بين المرء والسعي للنجاح في الحياة أو يحول بين الأمم والوثوب إلى خير مكان، ولم يقل أحد بأن هذا المذهب يؤدي إلى تدهور الأمم التي تأخذ به. هذا مع أن المذهب الجبري في الغرب لا تؤيده في السعي والعمل آيات كالتي تلوت من آيات القرآن عن تبعة الإنسان عن عمله
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى . أفلا ينهض هذا وحده دليلا على تحامل المستشرقين الذين يزعمون أن جبرية الإسلام قد أدت إلى تدهور الأمم الآخذة به؟
بل إن الجبرية الإسلامية لأكثر حضا على السعي إلى الخير والفضل وإلى ابتغاء الرزق من الجبرية الغربية. فكلتاهما متفقة على أن للكون سننا لا تحويل لها ولا تبديل، وأن ما في الكون جميعا خاضع لهذه السنن، وأن الإنسان خاضع لها خضوع سائر ما في الكون. لكن الجبرية الغربية تخضع المرء لبيئته ووراثته خضوع إذعان لا محيص عنه ولا مفر منه، وتجعل إرادة الإنسان بعض ما يخضع لبيئته، فلا سبيل له لذلك إلى أن يغير نفسه. فأما القرآن فيدعو إرادة كل فرد لتتوجه بحكم العقل إلى ناحية الخير، ويذكر لهم أنه إذا كان قد قدر لهم الخير فبما كسبت أيديهم، وأنهم لا ينالون هذا الخير اعتباطا من غير سعي.
يقول تعالى:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
38
ففي مقدورهم إذن أن يفكروا وأن يتدبروا بعد أن هداهم الله بكتبه إلى الواجب عليهم، وبعد أن دلهم أنبياؤه ورسله على طريق الحق، وبعد أن دعوا إلى النظر في الكون وتدبر سننه ومشيئة الله فيه. ومن يؤمن بهذا، ومن يوجه نفسه وجهته، فلن يصيبه إلا ما كتب الله عليه. فإذا كان قد كتب عليه أن يموت في سبيل الحق أو الخير الذي أمر الله به فلا خوف عليه، وهو وأمثاله أحياء عند ربهم يرزقون. أية دعوة إلى الإقدام وإلى السعي وإلى الإرادة كهذه الدعوة؟ وأين فيها ما يزعم إيرفنج والمستشرقون من تواكل؟!
التواكل ليس من التوكل على الله في شيء. فالتوكل على الله لا يكون بقعود المرء والتخلف عن أمر ربه، بل بالعمل الجدي لما أمر به. وذلك قوله تعالى:
فإذا عزمت فتوكل على الله . فالعزم والإرادة يجب إذن أن يسبقا التوكل. وأنت ما عزمت ثم توكلت على الله بالغ نهاية أمرك بفضل منه. وأنت ما ابتغيت وجهه وحده، وما خشيته وحده، وما سلكت سبيله وحده، مهتد إلى الخير بحكم سنة الله في الكون، وسنة الله لا تحويل لها ولا تبديل. وأنت بالغ هذا الخير، أدى بك سعيك إلى النجاح والفوز، أو أدى بك إلى الموت. وما ينالك من الخير فمن عند الله. أما ما يصيبك من مكروه فبما كسبت يداك وباتباعك سبيلا غير سبيل الله. فالخير كله بيد الله، والضلال والشر من نزغ الشيطان وعمله ...
أما علم الله بكل ما يقع في الوجود قبل أن يبرأ الله الوجود، وأنه جل شأنه
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ،
39
فيرجع إلى أن الله برأ للكون سننا لا تحويل لها ويجب أن تنشأ عنها آثارها. وإذا كان العلماء يذهبون إلى ما قدمنا من أن العلم الواقعي يستطيع إذا عرف أسرار الحياة الإنسانية وسننها، أن يعرف ما قدر لكل فرد ولكل أمة على وجه اليقين، كما يعرف مواقيت الكسوف والخسوف، فإن الإيمان بالله يقتضي حتما الإيمان بعلمه بكل شيء من قبل أن يبرأ العالم. وإذا كان المهندس الذي يصنع «تصميم» دار أو قصر ويراقب تنفيذ هذا التصميم، يستطيع أن يعلم مدى ما يعيش هذا البناء وما قد تتعرض له أجزاؤه المختلفة على مضي السنين، وكان علماء الاقتصاد يذهبون إلى أن السنن الاقتصادية تهديهم على سبيل القطع إلى معرفة ما ينشأ في حياة العالم الاقتصادية من أزمة أو رخاء، فإن مناقشة علم الله بكل صغيرة وكبيرة مما خلق في الكون تجديف لا يقبله عقل منطقي. وهذا العلم لا يصح أن يقف الناس عن التفكير في مآلهم، والعمل جهد الطاقة لاتباع جادة الحق وتنكب طريق الضلال؛ فعلم الله غيب عليهم وهم مهتدون آخر الأمر إلى الحق ولو بعد حين. والله قد كتب على نفسه الرحمة، وهو يقبل توبة التائب من عباده ويعفو عن كثير. وما دامت رحمته وسعت كل شيء فليس لإنسان أن ييأس من الاهتداء إلى الحق والخير ما دام ينظر في الكون ويتدبر ما فيه. وليس لإنسان أن يقنط من رحمة الله إذا هداه نظره آخر الأمر إلى سبيل الله. وإنما الويل لمن ينكر إنسانيته ويستكبر عن النظر والتفكير ابتغاء الهدى. أولئك يعاندون الله ولا يبتغون وجهه، وأولئك ختم الله على قلوبهم، فلهم جهنم ولهم سوء الدار.
أفيرى أولئك المستشرقون سمو الجبرية الإسلامية وانفساح مداها؟! وهل يرون فساد ما يزعمونه من أنها تدعو إلى القعود عن السعي أو قبول المذلة أو الرضا بالخضوع لغير الله؟! ثم هي من بعد تجعل باب الرجاء في مغفرة الله ورحمته مفتوحا دائما لمن تاب وأناب. فما يزعمونه من أنها تدعو المسلم إلى النظر لما يصيبه من خير أو شر على أنه بعض ما كتب الله فيقعد لذلك صابرا محتملا الضر والمذلة، بعيد عن الحقيقة في أمر هذه الجبرية التي تدعو إلى دوام الدأب ابتغاء رضا الله، وإلى عزم الأمر قبل التوكل على الله. فإذا لم يوفق الإنسان للخير اليوم، فليعمل لعله يوفق له غدا؛ وله من دائم الرجاء في الله أن يسدد خطاه أو يتوب عليه وأن يغفر له، خير حافز إلى التفكير المتصل والسعي الدائب لبلوغ الغاية من رضا الله، إياه يعبد وإياه يستعين، منه جل شأنه الهدى، وإليه يرجع الأمر كله.
ما أعظم القوة التي تبعثها هذه التعاليم السامية إلى النفس! وما أوسع أفق الرجاء الذي تفتتحه أمامها! فأنت موفق للخير ما ابتغيت بعملك وجه الله. وأنت إن أضلك الشيطان مقبولة توبتك ما غالب عقلك هواك فغلبه وعاد بك إلى الصراط المستقيم. والصراط المستقيم هو سنة الله في خلقه، سنة نهتدي إليها بقلوبنا وعقولنا، وبتفكيرنا فيما خلق الله، وبدأبنا في السعي لمعرفة أسراره. فإذا ظل من الناس بعد ذلك من يشرك بالله، ومن يبغي الفساد في الأرض، ومن يعميه الاستئثار عن كل معنى من معاني الأخوة، فإنما هو المثل الذي يضربه الله للناس ليروا عاقبة أمر الله فيه لتكون لهم العبرة من مثله. وهذا عدل الله في الناس ورحمته بهم جميعا، لا يحول دونهما ولا يحد منهما أن يضل ضال فيناله العذاب جزاء ما قدمت يداه.
ولكن! لماذا يفكر الناس ولماذا يعملون والموت لهم بالمرصاد، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون؟ ولماذا يفكر الناس ولماذا يعملون وقد كتب للسعيد منهم أن يكون سعيدا وعلى الشقي منهم أن يكون شقيا؟ هذا تكرار للسؤال الذي أجبنا عنه سقناه قصدا، لننظر في مسألة كتاب الأجل من ناحية أخرى: فما كتب الله إنما هو سنة الكون من قبل أن يبرأ الكون، ومن قبل أن يقول له كن فيكون، ولا أدل على دقة هذا التصوير من قوله تعالى:
كتب ربكم على نفسه الرحمة . ومعنى هذا أن الرحمة صفة لله وسنة من سننه في الكون وليست فرضا فرضه على نفسه؛ فالفرض لا يجوز عليه جل شأنه. ويقول الله تعالى:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . فإذا ضل قوم لم يبعث الله لهم رسولا قضت سنة الله ألا يعذب منهم أحدا. وعلم الله بآثار سنته في الكون بديهي لكل من آمن بأن الله هو الذي خلق الكون. فإذا بعث الله لقوم رسولا ثم قضت سنة الكون ومشيئة الله فيه أن يصر إنسان من هؤلاء القوم على الضلال بعد إذ دعي إلى الهدى، فإساءته على نفسه وهو لغيره عبرة ومثل.
ومن السذاجة القول بأن هذا الذي ضل فجوزي بضلاله قد ظلم ما دام الضلال قد كتب عليه. نقول من السذاجة بدل أن نقول من التجديف؛ لأن أبسط قسط من التفكير يهدينا إلى أن من ضل يظلم نفسه ولا يظلمه الله. وقد يكفينا في بيان ذلك مثل الأب البار العطوف يدني النار من طفله، فإذا أراد أن يمسكها بعد بها عنه مشيرا إليه أنها تحرقه. ثم هو يدنيها منه مرة بعد مرة، ولا بأس بأن تحترق إصبع الطفل كي يكون له من حسه الذاتي ما ينبهه إلى الحقيقة الملموسة التي تظل ماثلة أمامه طيلة حياته. فإذا أقدم بعد رشاده فأمسك بالنار أو ألقى بنفسه فيها فجزاؤه ما يصيبه منها، ولا تثريب على أبيه، ولا يطلب أحد إلى هذا الأب أن يحول بينه وبينها.
كذلك مثل الأب الذي يدل ابنه على مضرة القمار أو الخمر، فإذا بلغ الابن رشاده واجترح ما نهاه عنه أبوه فأصابه الشر لم يكن أبوه ظالما إياه، وإن كان في مقدوره أن يحول بينه وبين ما يصنع. وأبوه أبعد عن ظلمه إن كان قد ترك الابن يجترح من ذلك ما يجترح مزدجر وعبرة لأهله وإخوته، فإذا كان الأهل والإخوة يعدون بالمئات أو بالألوف في مدينة كثرت فيها أسباب الغواية بطبيعة نواميسها، فمن الخير ومن العدل أن يكون فيما يصيب بعض هؤلاء من الآثار المحتومة جزاء أعمالهم ما تستقيم به أمور هذه الجماعة على أسف منها لما أصاب الظالمين من أبنائها. وهذه أبسط صور العدل على ما نتصوره في جماعتنا الإنسانية، فما بالك بها حين نتصورها بالنسبة للعالم كله وملايين الملايين من خلائقه في لا نهايات الزمان والمكان؟! إن ما يصيب فردا أو جماعة بظلمهم، في هذه الصورة التي يكاد يعجز عن تصورها خيالنا، إنما هو العدل في أبسط صوره.
لو أننا نسبنا الظلم لأب ترك ابنه الذي ضل يلقى جزاء ضلاله ما دام الضلال قد كتب عليه، لحق علينا أن ننسب الظلم لأنفسنا لأننا نقتل برغوثا يؤذينا اتقاء وخوفا من عدوى ينقلها إلينا قد تكون وبالا علينا وعلى الجماعة إذا انتقلت منا إلى غيرنا، أو لأننا نفتت حصاة في المرارة أو الكلى خيفة ما تجره علينا من آلام وشقوة، أو لأننا نبتر عضوا من أعضائنا مخافة أن يستشري منه الفساد إلى سائر الجسم فيقتله، ولو أننا لم نفعل؛ لأن ذلك قد كتب علينا، ثم شقينا أو هلكنا فلا نلومن إلا أنفسنا بما يصيبنا من السوء ما دام الله قد فتح لنا باب الشفاء كما فتح للمذنب باب التوبة. والجاهلون وحدهم هم الذين يقبلون الألم والشقاء زعما منهم أنه كتب عليهم؛ وذلك حماقة منهم وسخف. فكيف بنا ونحن نرى قتل البرغوث واستئصال الحصاة وبتر العضو المريض عدلا كل العدل، وإن كان قد كتب في سنة الكون أن يؤذي البرغوث وأن ينقل إلى الإنسان العدوى وأن تفسد الحصاة وأن يفسد العضو المريض سائر الجسد فيقضي عليه؛ كيف بنا ونحن نرى هذا ألا نعتبر سذاجة بلهاء لا مسوغ لها إلا الاستئثار الضيق الأفق أن نقف من أمر هذه العدالة عند ذواتنا، وألا نعديها إلى الجماعة الإنسانية كلها، وألا نعديها أكثر من ذلك إلى الكون كله؟!
وما البرغوث وما الحصاة وما الإنسان إلى جانب الكون؟! بل ما الإنسانية كلها إلى جانب الكون؟ هذا الكون الفسيح يحاول خيالنا العاجز تصوير حدوده بالزمان والمكان وبالأزل والأبد، وبأمثال هذه الألفاظ التي لا سبيل لنا غيرها إلى أن نرسم لأنفسنا صورة من الكون ناقصة غاية النقص، يتفق نقصها مع ما أوتينا من العلم، وما أوتينا من العلم إلا قليلا. وهذا القليل قد هدانا إلى أن سنة الله في الكون سنة نظام وعدل لا تبديل لها ولا تحويل. وإنما نهتدي إلى هذه السنة وقد جعل الله لنا السمع والأبصار والأفئدة لنشهد بديع صنعه ونقف في الكون على سنته، فنسبح بحمده ونعمل الخير بأمره. وعمل الخير عن إيمان هو أرقى مظهر لعبادة الله لقوم يعقلون.
فأما الموت فخاتمة حياة وبدء حياة؛ لذلك لا يجزع منه إلا الذين ينكرون الحياة الآخرة ويخشونها لسوء صنيعهم في الحياة الدنيا. أولئك لا يتمنون الموت بما كسبت أيديهم؛ وإنما يتمنى الموت صدقا المؤمنون حقا والذين عملوا في الدنيا صالحا.
يقول تعالى:
الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور .
40
ويقول جل شأنه مخاطبا نبيه:
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون .
41
ويقول:
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين * قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين .
42
ويقول :
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون .
43
هذه الآيات قوية غاية القوة تنقض ما يقال عن دعوة الجبرية الإسلامية للقعود وعدم السعي. فالله خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملا. وعملهم في الحياة، وجزاؤهم عنه بعد الموت. فإذا لم يعملوا، وإذا لم يمشوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزق الله، وإذا لم يصدقوا مما آتاهم الله، وإذا لم يؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، عصوا الله، وكان من يفعل ذلك كله أحسن منهم عند الله عملا وأحسن في الآخرة جزاء ومثوبة. والله يبلونا في الحياة بالخير والشر فتنة. وعلينا أن نميز بعقولنا بين الخير والشر. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومنم يعمل مثقال ذرة شرا يره. ولئن لم يصبنا إلا ما كتب الله لنا ليكونن ذلك أشد إمعانا بنا في سبيل الخير لنرى الخير. وسواء علينا بعد ذلك اختارنا الله إليه أقوياء عاملين مجاهدين، أم رددنا إلى أرذل العمر لكيلا نعلم من بعد علم شيئا. فليس مقياس الحياة عدد السنين التي يقضي المرء فيها، وإنما مقياسها ما يقوم به الإنسان فيها من أعمال باقيات صالحات. والذين يتوفون في سبيل الله أحياء عند ربهم، وهم أحياء بيننا بذكرهم. وكم من أسماء باقية على مر الدهور والقرون لأن أصحابها وهبوا أنفسهم ومجهوداتهم للخير؛ فهم بيننا معشر الأحياء وإن كان الله قد اختارهم إليه منذ مئات السنين.
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . هذا هو الحق، وهو وحده الذي يتفق مع سنة الكون. فللإنسان أجل لا يعدوه، كما أن للشمس وللقمر مواقيت للكسوف والخسوف لا تتغير، لا تستقدم ولا تستأخر. وهذا الأجل المحتوم أدعى إلى أن يسارع الإنسان إلى الخيرات، وأن يعمل صالحا، وأن يبذل في ذلك كل جهده؛ فهو لا يدري متى تكون منيته، فإذا جاءت فجزاؤه ما قدم. وإن أمامنا كل يوم لدليلا على أن الأجل قدر لا مفر منه، فمن الناس من يأتيه الموت فجأة ولا يعرف أحد له مرضا، ومنهم المريض الذي يكافح مرضه ويئن من أهواله عشرات السنين حتى يرد إلى أرذل العمر. وطائفة من الأطباء اليوم يقولون: إن الإنسان يولد وفي تكوينه جرثومة انتهاء حياته، وإن الأمد الذي تعمل فيه هذه الجرثومة لتبلغ غايتها يمكن معرفته لو استطعنا معرفة الجرثومة نفسها. ومعرفة هذه الجرثومة ليس بالأمر المستطاع، فهي قد تكون مادية في الجسم كامنة في عضو من أعضائه الرئيسية أو غير الرئيسية، وقد تكون معنوية في التفكير متصلة بتلافيف المخ تدفع صاحبها إلى المغامرة وإلى المخاطرة، أو إلى الشجاعة والإقدام. والله الذي أحاط بكل شيء علما، عنده علم الساعة التي تحين فيها منية كل إنسان بحكم سنة الكون التي لا تحويل لها ولا تبديل.
ومن آيات رحمته جل شأنه أنه لا يعذب حتى يبعث رسولا يهدي الناس إلى الحق ويبين لهم سبيل الخير، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة، لكنه يؤخرهم إلى أجل مسمى ليسمعوا إلى الرسل فيتبعوا الهدى ولا تغرهم الحياة الدنيا بزخرفها ... ولم يبعث الله رسله من الملوك ولا من الأغنياء وذوي الجاه ولا من العلماء؛ وإنما بعثهم من أبناء الشعب؛ فإبراهيم نجار وأبوه نجار، وعيسى نجار الناصرة، وغير واحد من الأنبياء كانوا رعاة غنم؛ ومن هؤلاء خاتمهم عليه الصلاة والسلام. وإنما يبعث الله رسله من أبناء الشعب ليدل عباده على أن الحقيقة ليست في ملك الأغنياء ولا الأقوياء، بل هي في ملك من يبتغي الحق لوجه الحق وحده. والحقيقة الأزلية الخالدة أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ولا تجزون إلا ما كنتم تكسبون. والحقيقة الكبرى أن الله حق، لا إله إلا هو.
الموت خاتمة حياة وبدء حياة؛ خاتمة الحياة الدنيا وبدء الحياة الآخرة. ولسنا نعلم من أمر الحياة الدنيا إلا قليلا. لسنا نعلم إلا ما تتصل به حواسنا، وترشدنا إليه عقولنا، وتكشف لنا عنه قلوبنا . أما الحياة الآخرة فلا علم لنا من أمرها إلا ما علمنا الله منه. وسنن الكون فيها غيب علينا، علمه عند عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. فحسبنا ما ذكر الله في كتابه العزيز من أمرها وأنها دار الجزاء، ولنعد أنفسنا في الدار الدنيا بعملنا وبعزمنا أمورنا وبتوكلنا بعد ذلك على الله لهذا الجزاء العدل؛ فأما ما وراء ذلك فأمره لله وحده.
أفيرى الذين يلفون لف واشنطون إيرفنج من المستشرقين وغير المستشرقين مبلغ خطئهم في تصوير الجبرية الإسلامية؟ إننا لم نثبت هنا شيئا غير ما ورد في القرآن الكريم؛ لأننا لا نريد أن نضع الأمر موضع مجادلة في آراء المتكلمين والمتصوفة وغيرهم من فرق المسلمين وفلاسفتهم. وإيرفنج أبلغ خطأ حين يزعم أن القضاء والقدر وكتاب الأجل إنما نزل ما نزل من القرآن فيه بعد غزوة أحد ومقتل حمزة سيد الشهداء فيها. فمن الآيات التي اقتبسنا هنا آيات مكية نزلت قبل الهجرة وقبل أن تبدأ غزوات المسلمين. وإنما يقع إيرفنج ومن على شاكلته في هذا الخطأ لأنهم لا يعنون أنفسهم ببحث مسألة هذا مبلغ خطرها بحثا علميا دقيقا، بل يصورون لأنفسهم عن الإسلام الفكرة التي تتفق مع ميولهم المسيحية ثم يلفقون لها الدليل بما تهوى أنفسهم، ظنا منهم أن دليلهم يقنع قراءهم ثم لا يفنده بعدهم أحد.
ولو أدرك المستشرقون الجبرية الإسلامية على نحو ما صورنا هنا لقدروا فكرتها الفلسفية البالغة غاية السمو، العميقة غاية العمق، والتي تصور الحياة تصويرا يصف أدق النظريات العلمية والفلسفية التي وصل إليها التفكير في مختلف عصوره، وما ناله فيها من تطور وتقدم. وهذه الفكرة الفلسفية الإسلامية فكرة توفيقية لا تضيق بالجبرية العلمية، ولا بالعالم كإرادة وتمثل، ولا بالتطور المنشئ،
44
بل هي تسلك هذه المذاهب جميعا في نظامها على أنها بعض سنن الكون والحياة. ولئن لم يتسع المقام هنا لبسط هذه الصورة لأحاولن مع ذلك إيجازها بكل ما أستطيع من دقة ووضوح . وأحسب الذين يتلون ما أكتب يوافقونني على أن سمو الفكرة وانفساح مداها وعمقها قد بلغ الغاية من كل ما نعرف من نظريات حتى اليوم، وأنها تفسح الطريق إلى ما قد يسمو إليه الفكر الإنساني من بعد.
وأريد قبل أن أبدأ هذا الإيضاح الوجيز أن أثبت هنا ملاحظتين أرجو ألا ينساهما في هذا المقام أحد: أولاهما أنني لا أقصد من ذلك إلى معارضة نظرية مسيحية. فما جاء به عيسى قد أقره الإسلام كما ذكرت غير مرة في غضون هذا الكتاب. وإنما جاء الإسلام جامعا ومتوجا للنبوات والرسالات التي سبقته. ولقد أثبتت الأناجيل قول المسيح لأصحابه: «ما جئت لأنقض الناموس ولكن جئت لأكمله.» كذلك أثبت القرآن إيمان المسلمين بإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين من قبل. وإنما جاء الإسلام مكملا لما أرسلهم الله به، مصححا لما حدث من تحريف أتباعهم الكلم عن مواضعه. والثانية أن المذهب الفلسفي الإسلامي الذي استنبطته من القرآن قد سبقني إليه غيري، ولكن على نحو غير النحو الذي أقرره اليوم؛ وإنما اهتديت في هذا النحو بهدي القرآن، ونهجت فيه نهج الطريقة العلمية الحديثة، فإن وفقني الله للصواب فله جل شأنه الفضل والمنة. وإن جفاني التوفيق في شيء منه كان من أكبر التحدث بنعمة الله أن يهديني أولو العلم إلى ما جفاني التوفيق فيه.
وأول ما يقرره القرآن أن لله في الكون سننا ثابتة لا تحويل لها ولا تبديل. والكون ليس أرضنا وما عليها وكفى، ولا هو محصور فيما يقع عليه حسنا من كواكب وأفلاك، وإنما الكون مجموع ما خلق الله من محسوس وغير محسوس، حاضر وغيب. وحسبك أن تتصور هذا لتدرك حقا أننا لم نؤت من العلم إلا قليلا. فهذا الأثير بيننا وبين الكواكب، وهذه الكهربا التي تملأ الأثير وتملأ أرضنا، وهذه الأبعاد الشاسعة التي تفصل بيننا وبين الشمس وما هو أبعد من الشمس من أفلاك، وما وراء الأفلاك التي تبعد عن الشمس بألوف السنين الضوئية، ثم ما وراء ذلك من لا نهايات لا سبيل لخيالنا أن يحيط بها وعند الله علمها - هذا كله يجري على سنة ثابتة لا تتغير. وما نعرفه من هذا كله معرفة علمية - على حد تعبيرنا اليوم - قليل يختلط فيه الخيال بالواقع، ثم يتضاءل الواقع إلى جانب الخيال حتى يبلغ غاية الضآلة، ثم يبقى هذا الواقع مع ذلك غاية ما نعلم وما نقيم عليه أقيستنا وما نقرر على ضوئه ما نسميه سنن الكون والحياة. ولو أننا أردنا أن نطلق للخيال عنانه لنتصور ضآلة هذا الذي نعرف لانفسح أمامنا مجال الأمثال بما يضيق عنه هذا المقام. افترض مثلا أن أهل المريخ أقاموا عندهم «مذيعا» قوته مائة مليون كيلوات ليسمعونا - أهل الأرض - ما يدور عندهم وليرونا إياه من طريق «التليفزيون» أترانا بعد ذلك نستطيع أن نمسك علينا عقولنا؟ والمريخ ليس أبعد الكواكب عنا ولا أشدها ازورارا عن الاتصال بنا.
وهذا الكون الذي لم نؤت من علمه إلا قليلا يؤثر كل ما فيه في وجود أرضنا وما عليها. فلو أن واحدا من هذه الأفلاك اختلف بقدر من الله مداره، لتغيرت سنة الكون، ولتغيرت لذلك حياتنا القصيرة الضئيلة المتأثرة، بكل ما حولنا، وبأتفه ما حولنا. وهي أكثر تأثرا وخضوعا بطبيعة الكون لعظائم ما في الكون وجلائله. وهي في تأثرها ذاك قد تسلك سبيل الخير وقد تنحرف عنها. وهي في سلوكها هذه السبيل وفي انحرافها عنها لا تندفع في هذه أو تلك من الناحيتين بحكم ما يؤثر فيها من عوامل الحياة وحده، بل بحكم استعدادها كذلك لتلقي آثار الحياة، وسلطانها على ذاتها في تلقي هذه الآثار. ورب عامل معين أثر في نفوس كثيرين آثارا مختلفة، فاندفعت كل واحدة منها إلى ناحية، كانت إحداها الفيصل بين الخير والشر، ثم كانت سائرها درجات نحو الخير ودرجات نحو الشر.
فما في الحياة من خير أو شر إنما هو أثر لما يقع بين عوامل الحياة والنفس الإنسانية من تفاعل؛ ومن ثم كان الخير والشر بعض ما في الكون من آثار سنته الثابتة، وكانا لذلك من مستلزمات وجوده، كما أن السالب والموجب من مستلزمات وجود الكهربا ، وكما أن وجود بعض المكروبات من مستلزمات الحياة لجسم الإنسان.
وليس شيء شرا لذاته ولا خيرا لذاته، بل للغاية التي يوجه إليها، وللأثر الذي يترتب عليه. فما يكون شرا أحيانا يكون ضرورة ملحة وخيرا محضا أحيانا أخرى. ومن المدمرات التي تستعمل في الحروب لإهلاك ملايين بني الإنسان وتخريب أبدع ما أقام الإنسان من الآثار ما له أيام السلم أكبر الفائدة. فلولا الديناميت لتعذر شق الأنفاق ومد السكك الحديدية خلالها؛ ولتعذر الكشف عن المناجم التي تحتوي أثمن الكنوز وأنفس الأحجار والمعادن. والغازات الخانقة التي يلقي المحاربون قذائفها على الوادعين من أبناء الأمة التي تحاربهم، والتي تعتبر لذلك عارا وشنارا على الإنسانية ومظهرا من مظاهر وحشيتها وجبنها؛ هذه الغازات تصلح في السلم لأغراض نافعة أعظم النفع، منقذة للإنسانية من كثير من الأمراض المعدية وأهوالها. فمن هذه الغازات ما تنقى به المياه من المكروبات الضارة كغاز الكلور، ومنها ما يصلح في حياة السفن إذ يقتل بعضه الجرذان فيها، ويدل بعضه على مواطن الغازات الأخرى التي تعرض حياة الملاحين للخطر.
وقديما خيل إلى الناس أن من الحشرات والطيور والحيوان ما لا فائدة البتة من وجوده، ثم تبين لهم بعد البحث والدرس ما لهذه الحشرات والطيور والحيوان من فائدة للإنسان، حتى لقد صدرت في ممالك مختلفة قوانين تحمي هذه الخلائق من القتل أو الصيد تقديرا لخيرها للإنسانية. والذين درسوا هذه الخلائق قد لاحظوا أنها أشد حرصا على مسالمة الحياة المحيطة بها في حدود الاحتفاظ بوجودها كي تقوم بقسطها من الخير الذي فطرت على القيام به، وأنها لا تؤذي إلا دفاعا عن نفسها حين يهاجمها مهاجم أو يغريها مغر بالأذى.
وأعمالنا - نحن بني الإنسان - ليست خيرا كذلك لذاتها ولا شرا لذاتها، بل للغاية التي توجه إليها والأثر الذي يترتب عليها. أليس القتل إثما محرما؟! ولكن الله مع ذلك إذ يحرم القتل يقول:
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . والقتل بالحق لا إثم فيه.
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب . والجلاد الذي يقتل مجرما حكم عليه بالقتل، والرجل الذي يقتل نفسا دفاعا عن نفسه، والجندي الذي يقتل دفاعا عن وطنه ، والمؤمن الذي يقتل حتى لا يفتنه أحد عن دينه، هؤلاء جميعا لا يرتكبون إثما ولا معصية حين يقتلون. هم إنما يؤدون لله حقا فرضه الله عليهم ولهم عنه جزاء المحسنين. وما يقال في القتل يقال كذلك في غيره من الأعمال المتداولة بين الخير والشر. فالعالم الذي يكتشف بعض المدمرات للدفاع عن وطنه أو لما تفيد هذه المدمرات العالم حين السلم، وصانع الأسلحة وكل عامل وكل إنسان على الأرض، إنما يعمل الخير أو يرتكب المعصية حسب الوجهة التي يولي وجهه شطرها والأثر الذي يترتب على عمله.
هذه إرادة الله وهي سنته في الكون، ولما كان الله قد خلق الناس بعضهم فوق بعض درجات في الاستعداد لإدراك هذه السنة، فجعل منهم من يحصرون كل نشاطهم في البقعة التي ينشئون فيها وهي تثميرها والقيام عليها، ووهب آخرين موهبة الصناعة، وجعل لغير هؤلاء وأولئك من المواهب في الأعمال والفنون والعلوم ما لا يتيسر لهم معه الاهتداء إلى هذه السنة، ولما كانت معرفتها أساسية للإنسان كي يهتدي في الحياة، فقد وهب لأفراد موهبة النبوة واصطفى آخرين لرسالاته ليبينوا لنا الخير والشر، ووهب لآخرين مواهب العلم والمنطق ليكونوا ورثة الأنبياء فيهدونا إلى ما يجب علينا أن نعمله وما يجب علينا أن نتجنبه، وركب فينا قوى العقل والعاطفة لندرك ما يلقى إلينا من التعاليم، فنروض أنفسنا برياضتها كي نحسن التوجه في الحياة إلى الخير وكي نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. فإذا التبس الأمر مع ذلك على بعض الناس فارتكبوا المعصية فجزتهم الجماعة عن معصيتهم، احتفاظا بكيانها أن تجني هذه المعصية عليه، لم يكن ذلك سدا بينهم وبين التوبة والأوبة إلى الحق. فمن ارتكب الخطيئة أو الإثم بجهالة ثم حاسب نفسه وغير ما بها وعاد إلى الله طائعا منيبا، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وتاب عليه. ومن ثم كان للخاطئ والآثم أن يستفيد من عبر الأيام وأن يطهر قلبه، وأن يرجع إلى طريق الحق تائبا فيقبل الله منه؛ إنه هو التواب الرحيم.
هذا التصوير للحياة، يوفق ما بين مذاهب فلسفية شتى يحسب أصحابها أن لا سبيل إلى التوفيق بينها، فهو صريح في أن الوجود إرادة
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون . والكون يمثل ما يقع عليه الحس وما ينقطع الحس دونه. وللكون سنن ثابتة نستطيع في حدود علمنا الواقعي أن نقف منها على ما يهدينا العقل إليه، وما يزداد بازدياد مجهودنا للكشف عنه. والخير قوام الكون. ولكن الشر يغالبه فيه ويكاد يتغلب عليه أحيانا. ومغالبة الخير للشر هي هذا التطور المنشئ الذي خطا بالكون وبالإنسانية خطوات واسعة حتى بلغت من طريقها إلى الكمال ما بلغته اليوم.
وأنت ترى أن هذا التصوير ينطوي على فكرة التقدم إلى الكمال كخير ما عرف التفكير الفلسفي تصويرا من نوعه. يدلك على ذلك، فضلا عما سبق تصوير القرآن للتطور الروحي في الحياة منذ خلق الله الأرض ومن عليها. فقد خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش. أفهذه الأيام الستة من أيامنا على الأرض أم هي أيام يصح فيها قوله تعالى:
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ؟
45
ليس هذا محل بحثنا وإن وجدت فيه نظرية التطور - وإنه بعض سنة الله في الكون - مجالا للقول فسيحا. وخلق الله آدم وحواء وقال للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. ولم يرد إبليس عن إبائه أن علم الله آدم الأسماء كلها. قال تعالى:
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون * يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون * يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون .
46
وهبط آدم وحواء من الجنة بعض ذريتهما لبعض عدو. هبطوا يجاهدون في الحياة بما وهب لهم الله من قوة، وتتعاقب فيها أجيالهم حتى تتم كلمة ربك.
وكانت القسوة وكان التعصب أول مظهر لحياة الإنسان على الأرض. يقول تعالى:
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين * من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون .
47
وظاهر ما في قتل الأخ أخاه من استئثار وحسد وقسوة طبع وغلظة كبد. لكن الأخ التقي الذي يخاف الله لم يرد، حين قال له أخوه: لأقتلنك، أن يستغفر الله له، بل قال له: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وهذه غلبة الطبيعة الإنسانية ومنطق القصاص على السمو الروحي وجمال العفو.
وكثر بنو آدم على الأرض، وأرسل الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين. لكنهم أصروا على ضلالهم ، وبقيت حياتهم الروحية جامدة وقلوبهم مقفلة. أرسل نوحا إلى قومه فنادى فيهم: أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم، فكذبه قومه وما آمن معه إلا قليل. وتواترت النبوات بعد نوح، وتواترت الرسالات بالدعوة إلى الله وحده؛ فتغلب جمود الناس عليها وقعدت عقولهم دون إدراكها، واتخذوا من مظاهر الخلق آلهة. وكلما جاءهم رسول من عند ربهم ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون. لكن جمودهم تزعزع بتواتر الرسالات التي كانت بذورا صالحة أبطأ نباتها، غير أنها تركت مع ذلك أثرها. وهل ذهبت كلمة الحق ضياعا أو هباء في يوم من الأيام؟! ولئن دفع الغرور الناس لينأوا بجانبهم عنها وليستهزئوا أكثر الأمر بصاحبها لقد كانوا يستعيدونها إذا خلوا إلى أنفسهم يسألونها عن مبلغ الحق فيها. وكان الذين يدركون ما تنطوي عليه من حق قلة وكانوا يستكبرون.
كانت مصر على عهد الفراعنة يؤمن كهنتها بالوحدانية، ويعلمون الناس غيرها ويعددون لهم آلهتهم. وإنما دعاهم إلى ذلك حرصهم على الاحتفاظ بسلطانهم على الناس وجاههم فيهم؛ حتى لقد حاربوا موسى وأخاه هارون حين جاءا يدعوان فرعون إلى الله ويطلبان إليه أن يرسل معهما بني إسرائيل.
ويذكر القرآن نبأ هؤلاء الأنبياء الذين تعاقبوا على الإنسانية أجيالا طوالا فظلت ممعنة في الضلال إلا قليلا هدى الله إلى الحق. وفي قصص الأنبياء ظاهرة يقف عندها النظر، ويحسن بنا - لبيانها - أن نرجع إلى عهد موسى وعيسى وما كان بعدهما من رسالة محمد عليه السلام.
هذه الظاهرة هي الانفصال أو ما يشبهه أول الأمر بين حكم العقل ومنطقه والإيمان القائم على المعجزات والخوارق. فقد آزر الله كلا من أنبيائه بمعجزة لقومه حتى يصدقوه، ولم يصدقه مع ذلك منهم إلا قليل. ولم تكفهم عقولهم ومنطقها ليدركوا أن الله خلق كل شيء، وأنه الملك الحق لا إله إلا هو.
ولما قضى الله أن يبعث موسى من مصر، خرج منها قبل بعثه خائفا يترقب حتى ورد ما مدين وتزوج من أهلها. فلما أذن الله له أن يعود
نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين * اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين .
48
ولم يؤمن سحرة فرعون بدعوة موسى حتى لقفت عصاه ما صنعوا؛ إذ ذاك ألقي السحرة سجدا قالوا: آمنا برب هارون وموسى. ومع ذلك ظل بنو إسرائيل في غيهم حتى قالوا لموسى: أرنا الله جهرة. ولما قبض موسى عادوا يذكرون عبادة العجل. وجاءهم أنبياؤهم من بعد موسى يدعونهم إلى الله فقتلوهم بغير حق. فلما عادوا من بعد ذلك إلى ذكر الله انتظروا أن يقوم فيهم نبي يرد إليهم ملكا يحكمون به العالم حكما زمنيا.
وليس هذا الحادث بالبعيد عنا في ظلمات التاريخ؛ فهو لا يرجع إلى أكثر من خمسة وعشرين قرنا. وهو مع ذلك صريح في الدلالة على غلبة منطق الحس على منطق العقل، والتصور المادي على التصور الروحي؛ وبعد أن انقضت عليه خمسة قرون أو ستة جاء عيسى يدعو قومه إلى الله يؤيده الله بروح القدس من عنده. ولما كان عيسى يهوديا، حسب اليهود أول ما نمى إليهم خبره أنه نبيهم المنتظر ليرد إلى أرض المعاد ملكها المضاع، وكانوا أكثر لهفة على هذا الملك بعد أن طال عليهم حكم الرومان وقسوتهم. على أنهم انتظروا ليتبينوا الحق من أمر عيسى. أفتراه خاطبهم بمنطق العقل وحده؟ كلا! بل كانت المعجزة طريقه إلى إقناعهم. ولئن صحت الرواية المسيحية لقد كان تحويله الماء خمرا في عرس «قانا الجليل» أول ما لفت نظر الناس إليه. وبعد ذلك كانت معجزة الأرغفة والسمكات ومعجزات إبراء المرضى وإحياء الموتى هي التي طوعت له أن يقوم بتعليم الناس من طريق القلب والعاطفة دون أن يكون للعقل ومنطقه الحظ الأول في تعاليمه. لكن هذا الحظ كان مع ذلك أوفر من حظ من سبقه من الرسل. كانت تختلط في تعاليمه دعوة العاطفة إلى الرحمة والمغفرة والمحبة بدعوة عقلية غير مدعومة بالدليل المنطقي إلى ملكوت الله. فإذا تسرب الشك إلى النفوس في أمر هذه الدعوة العقلية أذن الله بمعجزة جديدة تزيد الناس بالمسيح تعلقا وعليه إقبالا. وكان من معجزاته إبراء الأبرص والأكمه وإحياء الميت أن بلغت بمن اتبعوه في تعلقهم به مدى بعيدا، حتى حسبه بعضهم ابن الله، وحسب آخرون أنه الله تجسد على الأرض ليفتدي خطايا البشر. وهذا صريح في الدلالة على أن منطق العقل لم يكن إلى ذلك العهد قد بلغ من النضج ما يجعله وحده قديرا على إدراك الحقيقة العليا في أمر الخالق جل شأنه، وأنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
في هذا الزمن الذي جاء فيه موسى وعيسى كانت علوم مصر الفرعونية وفلسفتها وتشريعها قد انتقلت إلى اليونان وإلى رومية، وغزت بسلطانها وبمنطقها الأفكار، وأوحت إلى الفلسفة اليونانية وإلى الأدب اليوناني خير ما فيهما. وكانت يقظة العقل ومنطقه قد نبهت الناس إلى أن الخوارق لا تنهض بذاتها دليلا عقليا على شيء. وكان من أثر ذلك أن جعلت الفلسفة اليونانية من جوارها للمسيحية في مصر وفلسطين والشام ما عدد مذاهب المسيحية، على ما أشرنا إليه في أثناء هذا الكتاب. وقد كتب الله في سنته أن يكون منطق العقل تاج هذه الحياة الإنسانية، على ألا يكون منطقا جافيا خاليا من العاطفة ومن الروح، بل على أن يكون منطقا توفيقيا، ينتظم العقل والعاطفة والروح جميعا حتى يستطيع اكتناه غاية ما تستطيعه الإنسانية من أسرار الكون. وكذلك كتب الله في لوح هذا الوجود أن يقوم نبي الإسلام داعيا إلى الحق بمنطق العقل تؤازره العاطفة والروح، وأن تكون معجزة هذا المنطق البالغة في الكتاب الكريم الذي أوحاه إلى نبيه، به أكمل الله للناس دينهم وأتم عليهم نعمته، وبه توج الرسالات وختمها. وإنما كان ذلك بعد هذا المجهود العظيم المتصل الذي قام به الأنبياء والرسل ووجهوا به الإنسانية في تطورها الروحي حتى بلغت الدعوة الإسلامية إلى صفاء التوحيد وإلى الإيمان بالله وحده.
ولتكمل هذه العقيدة أحيط الإيمان بها بما ذكرنا من فرائض في البحث الأول من هذه الخاتمة. وليصل المؤمن إلى الذروة منها يجب أن يدأب للوقوف على سنة الله في الكون دأبا يتصل حتى يبعث الله الأرض ومن عليها. وهذا ما بدأ به المسلمون في الصدر الأول وفي العصر الذي تلاه حتى آن للزمن أن يدور دورته.
هذه الحجج التي قدمت تدحض ما أول به المستشرقون الجبرية الإسلامية، وما أولوا به ما جاء في القرآن عن القضاء والقدر وكتاب الأجل. وهي تثبت بوجه لا يحتمل أي ريب، أن الإسلام دين سعي وكفاح وجهاد في نواحي الحياة الروحية والعلمية والدينية والدنيوية جميعا، وأن الله كتب في سنة الكون أن الإنسان إنما يجزى بعمله، وأنه جل شأنه لا يظلم أحدا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وهم يظلمون أنفسهم حين يظنون أنهم يصلون إلى رضا الله بالقعود والتواكل باسم التوكل على الله.
ومع أن هذه الحجج دامغة في الغرض الذي سقتها له، فإنني لا أستطيع أن أغفل حجة أخيرة أعتبرها بالغة، تلك هي الحجة المستفادة من قوله تعالى:
المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا .
49
فليس شيء في الحياة يحفزنا للعمل والسعي كما يحفزنا كسب الرزق وطلب المال. ففي سبيل الله ينفق الأكثرون من الناس أعظم الجهد ويقومون بما يفوق الطاقة أحيانا. ونظرة يلقيها الإنسان على عالمنا الحاضر تنبئ عما يهتز به هذا العالم من دأب ومشقة، ومن سلم وحرب، ومن ثورات واضطرابات، في سبيل المال. في سبيله تقلب الملوكيات جمهوريات، وفي سبيله تراق الدماء وتزهق الأنفس والبنون! أفلاذ أكبادنا التي تمشي على الأرض، أية مشقة لا نحتملها من أجلهم؟! وأي مر لا يحلو مذاقه ما دام يؤدي إلى طمأنينتهم وإلى كفالة رخائهم ومجدهم؟! كل عسير يصبح في جانب سعادتهم يسيرا، وكل صعب يصبح في سبيل رضاهم سهلا. بل إن من الناس من يستهين في سبيل المال والبنين بما يحسبه مستحيلا عليه لولا المال والبنون. ومن الناس من يبالغ في ذلك ليضحي في سبيله بهناءته، بل بحياته.
ومع ذلك فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا. وليست الزينة شيئا إلى جانب الجوهر. ولا يضحي بالجوهر في سبيل الزينة إلا الجهلاء والحمقى: إلا المرأة التي تستهين بصحتها لتظهر جميلة سويعة أو سويعات من زمان، وإلا الشاب المغرور الذي يضحي بعقله وبكرامته وسط صحب يسخرون منه حين يحسب أنه سيدهم لأنه يبعثر بينهم ماله، وإلا أمثال هؤلاء من المأفونين الذين يخدعهم المظهر عن الحقيقة، واليوم عن الغد. والذين يسعون لزينة الحياة من مال وبنين وينسون ما سواهما ليسوا أقل من هؤلاء أفنا وحمقا. فالمال والبنون زينة. أما جوهر الحياة فالباقيات الصالحات من أعمال الخير. ولهذه الباقيات الصالحات يجب أن نبذل من السعي والجهد أكثر مما نبذل لزينة الحياة من مال وبنين.
أرأيت سمو الغاية التي تصورها هذه الآية من الذكر الحكيم؟ فأنت إذا بذلت جهودك ودمك في سبيل الزينة؛ وجب أن تبذل روحك وقلبك في سبيل الجوهر، ووجب أن تخضع الزينة للجوهر، ووجب لذلك أن تجعل كل حياتك وكل مالك وكل بنيك مقصودا بها هذا الجوهر من الباقيات الصالحات، فهي خير عند ربك ثوابا وخير أملا.
كيف انقلب الأمر في تفكير المسلمين من هذا المنطق السليم الواضح إلى اعتقادات لا تتفق معه في شيء؟ أشرنا إلى ذلك لماما في البحث الأول من هذه الخاتمة حين أشرنا إلى تبدل الأمر عند المسلمين بحكم الغزاة الذين توالوا على الإمبراطورية الإسلامية منذ انتهاء العهد العباسي، كما أشرنا في تقديم الطبعة الثانية إلى ما كان من تبدل من الشورى في الصدر الأول إلى ذلك الملك العضوض أيام الأمويين، فإلى الحق الإلهي أيام العباسيين. وندع الكلمة الآن في شيء من تفصيل ذلك إلى المغفور له الأستاذ الإمام محمد عبده؛ إذ يقول في كتاب «الإسلام والنصرانية» ما نصه:
كان الإسلام دينا عربيا ، ثم لحقه العلم فصار علما عربيا بعد أن كان يونانيا، ثم أخطأ خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيرا له. ظن أن الجيش العربي قد يكون عونا لخليفة علوي؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي
صلى الله عليه وسلم . فأراد أن يتخذ له جيشا أجنبيا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه ولا تعين طالب مكانه من الملك، وفي سعة أحكام الإسلام ما يبيح له ذلك. هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميا.
خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه. أكثر من ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه؛ فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم. ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم. لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم. وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته. ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم ومنهم من تولى أمره. أي عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرف الناس منزلتهم، ويكشف لهم قبح سيرهم؟! فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم، أما العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة. وحملوا كثيرا من أعوانهم أن ينتظموا في سلك العلماء وأن يتسربلوا بسرابيله ليعدوا من قبيله، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه. ودخلوا عليهم وهم أغرار من باب التقوى وحماية الدين. زعموا الدين ناقصا ليكملوه، أو مريضا ليعللوه، أو متداعيا ليدعموه، أو يكاد أن ينقض ليقيموه.
نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم من الأمم النصرانية، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو براء منه. لكنهم نجحوا في إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره . والغوغاء عون القائم، وهم يد الظالم؛ فخلقوا لنا هذه الاحتفالات، وتلك الاجتماعات، وسنوا لنا من عبادة الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة، وأركس الناس في الضلالة، وقرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر وتجمد العقول. ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم؛ ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعنيه؛ وأن ما يظهر من فساد الأعمال؛ واختلال الأحوال، ليس من صنع الحكام وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه. ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك، وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام. وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين، وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة القدر مثبطا للعزائم، وغلا للأيدي عن العمل. والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين وموافقة الهوى. أمور إذا اجتمعت أهلكت. فاستتر الحق تحت ظلام الباطل، ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم، كما يقال.
هذه السياسة - سياسة الظلمة وأهل الأثرة - هي التي روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه، وسلبت من المسلم أملا كان يخترق به أطباق السموات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات ... فجل ما تراه الآن مما تسميه إسلاما فهو ليس بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج ومن الأقوال قليلا منها حرفت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دينا. نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه. فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سموه إسلاما.
50
هذه الحال التي صورها الشيخ محمد عبده أدت إلى ذيوع مبادئ متناقضة نشرها أصحابها على أنها من الإسلام وأنها بعض ما أمر به الله ورسوله. من هذه المبادئ مذهب الجبرية الذي صوره المتأخرون تصويرا يخالف ما جاء في القرآن. قد رأيت تصوير القرآن لهذا المذهب فيما سبق. أما أولئك المتأخرون فدعوا إلى القعود والاستسلام، وقالوا: إن العيش ليس بالسعي ولا التدبير، وإنما هو بالرزق والتقدير، دون أن يكون لعمل الإنسان فيه فضل. وهذه جبرية مخطئة أتاحت لبعض أهل الغرب أن يتهم الإسلام بها باطلا من غير حق. ومن هذه المبادئ مذهب ازدراء المادة وعدم الأخذ منها بأي نصيب. وهذا مذهب الرواقيين اليونانيين، وهو مذهب انتشر في بعض العصور عند طوائف المسلمين مع مخالفته لقوله تعالى:
ولا تنس نصيبك من الدنيا . ومع هذه المخالفة كان لهذا المذهب أدب مترامي الأطراف في العصر العباسي وما بعده، والقرآن إنما يدعو إلى قصد السبيل؛ فلا يرضى هذا الحرمان، كما أنه لا يرضى الإباحية التي زعم إيرفنج أنها غمست المسلمين في الترف وصرفتهم عن الجهاد، وهوت بالأمم الإسلامية إلى حيث هي اليوم.
ويزعم الكاتب الأمريكي أن المسيحية تدعو إلى الطهر والإيثار على نقيض ما يتقوله هو على الإسلام. ولست أريد أن أوازن بين الإسلام والمسيحية في هذه المسألة؛ لأنهما فيها متفقان غير مختلفين. وكثيرا ما تجر الموازنة إلى جدل وتنابز لا خير للمسيحية ولا للإسلام فيه. لكني ألاحظ - وأقف عند الملاحظة - أن بين سيرة عيسى - عليه السلام - وما ينسب إلى المسيحية، من دعوة إلى الرواقية والإمعان في الزهد، اختلافا بينا. فلم يكن المسيح رواقيا؛ بل كانت أولى معجزاته أن أحال الماء خمرا في عرس «قانا الجليل» حيث كان مدعوا، وحيث أراد ألا يحرم الناس الخمر بعد نفادها. وهو لم يكن يأبى دعوة الفريسيين إلى مآدبهم الفخمة ولا كان يأبى على الناس أن يستمتعوا بأنعم الله. وسيرة محمد في ذلك أشد إمعانا في قصد السبيل. صحيح أن عيسى كان يدعو الأغنياء إلى البر بالفقراء ومحبتهم من غير من. والقرآن في هذا وفي الدعوة إليه أبلغ ما عرف البشر. وقد تلا القارئ من ذلك عند الكلام عن الزكاة وعن الصدقة، ما يغنينا عن معاودة القول فيه.
وحسبنا ردا على إيرفنج وأمثاله أن القرآن دعا إلى قصد السبيل في كل شيء.
بقيت العبارة الأخيرة من كلام إيرفنج: هذه العبارة التي يعيرنا الغرب بمثلها على حين هي عار الغرب ووصمته وجرثومة القضاء على كبريائه وعلى حضارته. يقول إيرفنج: «إن بقاء الهلال حتى اليوم في أوروبا، حيث كان يوما ما بالغا غاية القوة، إنما يرجع إلى اختيار الدول المسيحية الكبرى، أو يرجع بالأحرى إلى تنافسها. ولعله الهلال باق ليكون دليلا جديدا على أن: «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ».» «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» هذه آية الإنجيل يوجهها إيرفنج باسم المسيحية إلى الإسلام. يا عجبا! لعل لإيرفنج من العذر أنه قالها منذ قرن مضى حيث لم يكن الاستعمار الغربي في تعبيرنا - المسيحي في تعبيره - قد بلغ من الشره والجشع ومن الأخذ بالسيف ما بلغ اليوم. ولكن الماريشال اللنبي، الذي استولى على بيت المقدس في سنة 1918 باسم الحلفاء، قد قال مثل هذه العبارة إذ نادى عند هيكل سليمان: «اليوم انتهت الحروب الصليبية.» وقال الدكتور بيترسن سميث في كتابه عن سيرة المسيح: «إن هذا الاستيلاء على بيت المقدس كان حربا صليبية ثامنة أدركت المسيحية فيها غايتها.» ولقد يكون من الحق أن هذا الاستيلاء لم ينجح بمجهود المسيحيين، وإنما نجح بمجهود اليهود الذين سخروهم ليحققوا حلم إسرائيل القديم فيجعلوا أرض المعاد وطنا قوميا لليهود. «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» لئن صدقت كلمة الإنجيل هذه على قوم لهي أشد ما تكون صدقا اليوم على أوروبا المسيحية. أما الإسلام فلم يأخذ بالسيف، ولن يؤخذ لذلك بالسيف. وأوروبا المسيحية قد أخذت بالسيف في العصر الأخير إمعانا في الإباحية والترف مما ينسبه إيرفنج باطلا للإسلام والمسلمين. أوروبا المسيحية تقوم اليوم بالدور الذي قام به المغول والتتار حين اتشحوا ظاهرا برداء الإسلام ثم فتحوا الممالك دون أن يبعثوا بتعاليم الإسلام فيها، فحقت عليهم وعلى المسلمين الكلمة، وكان هذا التدهور والانحلال الذي أصاب الشعوب الإسلامية. وأوروبا المسيحية اليوم أقل فضلا من أولئك التتار والمغول. فالممالك التي فتحها هؤلاء سرعان ما دخلت في الإسلام حين رأت عظمته وبساطته. أما أوروبا فلا تغزو لتنشر عقيدة ولا لتدعو إلى حضارة. إنما هي تريد استعمارا، وتريد أن تجعل من العقيدة المسيحية مطية هذا الاستعمار؛ لذلك لم تنجح الدعاية التبشيرية الأوروبية لأنها دعاية غير مخلصة. وهي لم تنجح ولن تنجح في الأمم الإسلامية خاصة؛ لأن عظمة الإسلام وبساطته وأخذه بحكم العقل والعلم لا تجعل لأية دعاية دينية أملا في النجاح بين أبنائه. «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» هذا حق. وهو إن انطبق على المتأخرين من المسلمين الذين غزوا ليفتحوا الممالك وليستعمروا لا ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم، لهو اليوم أشد انطباقا على هذا الغرب الذي يغزو ويفتح ليذل الشعوب ويستعمرها، فأما المسلمون الأولون من عهد النبي وخلفائه ومن جاءوا بعدهم فلم يغزوا للفتح والاستعمار، وإنما غزوا دفاعا عن عقيدتهم حين هددتها قريش وحين هددها العرب، ثم حين هددها الروم وهددها الفرس، وهم في هذا الغزو لم يفرضوا على أحد دينهم؛ فلا إكراه في الدين. وهم في هذا الغزو لم يقصدوا إلى الاستعمار، فقد ترك النبي ملوك العرب وأمراءها على إماراتهم وممالكهم؛ إنما أرادوا حرية الدعوة للعقيدة. ولما كانت العقيدة الإسلامية قوية بالحق الذي تنادي به، قوية بأنها لا تجعل فضلا لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وبأنها لا تجعل لغير الله على الإنسان سلطانا، أسرعت إلى الانتشار في ربوع الأرض كلها كما تسرع كل حقيقة صادقة إلى الانتشار. فلما جاء المتأخرون ممن دخلوا في الإسلام وغزوا للفتح وأخذوا بالسيف أخذوا من بعد ذلك بالسيف. لكن الإسلام لم يأخذ بالسيف ولن يؤخذ بالسيف. هو لم يأخذ بالسيف شيئا قط، بل استولى على العقول والقلوب والضمائر بقوة سلطانه؛ لذلك تعاقبت على أممه دول حكمتها وقهرتها وتحكمت فيها، فلم يغير ذلك من إسلامها ولا غير من إيمانها. وما تزال أوروبا اليوم تحكم الشعوب الإسلامية وتتحكم فيها، ولن يغير ذلك من إيمانها بالله شيئا. فأما الذين يأخذون المسلمين اليوم بالسيف فمصيرهم، كي تصدق عليهم كلمة الإنجيل، أن يؤخذوا بالسيف جزاء وفاقا.
رد النبي الأمراء إلى إماراتهم والملوك إلى ممالكهم. ولقد كانت بلاد العرب في آخر عهده عصبة أمم عربية إسلامية، ولم تكن فيها مستعمرة خاضعة لمكة أو ليثرب. كان العرب يومئذ جميعا سواسية أمام الله في إيمانهم المتين به وكانوا جميعا يدا واحدة على من اعتدى عليهم أو حاول فتنتهم عن دينهم. وظلت الأمم الإسلامية من بعد ذلك وإلى عهد الانحلال عصبة أمم إسلامية، مقر الخليفة فيها هو مقر العصبة. لم تستأثر دار الخلافة بالسلطة الروحية ولا استأثرت بالعلم ونوره؛ بل كانت كل الأمم الإسلامية لا تعرف سلطة روحية غير أمر الله. وكانت العواصم الإسلامية كلها عواصم للعلم والفن والصناعة؛ وظل ذلك شأنها حتى تغير المسلمون للإسلام، وأنكروا مبادئه الكريمة، ونسوا أخوة المؤمنين، ونسوا أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. هنالك غلبت عليهم الأثرة.
وهنالك لعبت السياسة المدمرة أدوارها فصار السيف حكما. ومن يأخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ؛ لذلك نهضت أوروبا المسيحية منذ القرن الخامس عشر الميلادي إلى حياة روحية جديدة، ربما كانت تفيد العالم حقا لولا أن أسرع إليها الفساد الذي لم يكن منه بد بسبب تفرق المسيحية شيعا. على أنها في فترة النهوض هذه واجهت الأمم الإسلامية التي نسيت الإسلام فأخذتها بالسيف وظلت ممعنة في أخذها به، ثم جعلته بينها وبين الأمم الإسلامية حكما. ومتى حكم السيف فقل على العقل وعلى العلم وعلى الخير وعلى المحبة وعلى الإيمان، بل على الإنسانية نفسها، العفاء.
وحكم السيف العالم اليوم هو سبب هذه الأزمة الروحية والنفسية التي يجتازها العالم ويئن من هولها. وقد آمنت الدول التي تحكم العالم بالسيف أثناء الحرب الكبرى الماضية - أي منذ عشرين سنة - بهذه الحقيقة؛ فأرادت أن تقر حكم السلام في العالم، وأقامت عصبة الأمم لتحقيق هذه الغاية. وعهدة هذه العصبة تتخلص كلها في قوله تعالى:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
51
لكن روح السلام لم تسد العالم بعد؛ لأن أساس الحضارة الغالبة فيه هو الاستعمار؛ الاستعمار القائم على أساس القوميات وتنافسها ومحاولة كل دولة قوية استغلال الدول الضعيفة. ومن حق كل أمة مغلوبة على أمرها، بل أول واجب عليها أن تعمل لتحطيم نير الغالب؛ ولذلك كان الاستعمار بذرة الثورة والحرب ونواتهما. فما بقي الاستعمار فلن يكون للسلام الغلب ولن تضع الحرب أوزارها إلا ظاهرا، وستظل الأمم ينظر بعضها إلى بعض نظرة التوجس والحذر، بل نظرة التربص للاغتيال. وأنى يكون سلام وهذه النفسية باقية؟! إنما يكون السلام يوم يغير الناس في مختلف أمم الأرض ما بأنفسهم، ويوم يؤمنون بالسلام إيمانا حقا، ويقيمون على أساسه تعاليمهم، ويجمعون أمرهم بإخلاص على الوقوف في وجه كل محاول تعكير صفوه.
وإنما يكون ذلك يوم لا يكون الاستعمار أساس حضارة العالم، ويوم يرى الناس جميعا في مختلف بقاع الأرض أن واجبهم الأول أن يعين قويهم ضعيفهم، وأن يرحم كبيرهم صغيرهم، وأن يهذب عالمهم جاهلهم، وأن ينشروا لواء العلم في نواحي الأرض جميعا، حرصا على أن يسعد الناس به، لا على أن يتخذ أداة لاستغلال الشعوب باسم العلم، وباسم الصناعة التي تستفيد من العلم.
يوم يؤمن العالم كله بهذا المبدأ، ويوم يشعر الناس جميعا بأن العالم كله وطن لهم وأنهم جميعا إخوة يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه؛ يومئذ يسود بين الناس التسامح وتسود بينهم المودة، ويومئذ يتخاطبون بلغة غير التي يتخاطبون اليوم بها، ويتبادلون الثقة فيما بينهم وإن بعد بينهم المزار، ويعملون الخير جميعا لوجه الله؛ ويومئذ تنتفي الخصومة والبغضاء، وتعلو كلمة الحق ويسود السلام الوجود كله، ويرضى الله عن الناس ويرضون عنه.
يقول تعالى:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
52
أرأيت في باب التسامح أفسح من هذا الأفق؟! من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم، لا فرق بين المؤمنين ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام على حقيقتها من غير تشويه من اليهود والنصارى والصابئين.
53
ويقول جل شأنه:
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب .
54
أين هذا مما يسود العالم اليوم باسم الحضارة الغربية، من تعصب للقومية وللدين وما يجره هذا التعصب من حروب وكوارث؟!
هذا الروح السامي في تسامحه هو الذي يجب أن يسود العالم إذا أريد أن تستقر في العالم كلمة السلام ليسعد الناس به. وهذا الروح هو الذي يجعل كل دراسة لحياة من أوحى الله هذا الكلام إليه، دراسة علمية خالصة لوجه العلم وحده، جديرة بأن تجلو أمام العلم من المسائل النفسية والروحية ما يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تلتمسها. وكل تعمق في هذه الدراسة يكشف عن أسرار كثيرة ظن الناس زمنا أن لا سبيل إلى تعليلها تعليلا علميا، ثم إذا مباحث علم النفس تفسرها وتجلوها واضحة للمتعقلين. فحياة محمد - كما رأيت - حياة إنسانية بلغت من السمو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ، وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه القدر أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق الإيمان والعمل الصالح. أي سمو في الحياة كهذا السمو الذي جعل حياة محمد قبل الرسالة مضرب المثل في الصدق والكرامة والأمانة، كما كانت بعد الرسالة كلها التضحية في سبيل الله وفي سبيل الحق الذي بعثه الله به، تضحية استهدفت حياته من جرائها للموت مرات، فلم يصده عنه أن أغراه قومه، وهو في الذروة منهم حسبا ونسبا، بالمال وبالملك وبكل المغريات؟!
بلغت هذه الحياة الإنسانية من السمو ومن القوة ما لم تبلغه حياة غيرها، وبلغت هذا السمو في نواحي الحياة جميعا. وما بالك بحياة إنسانية اتصلت بحياة الكون من أزله إلى أبده، واتصلت بخالق الكون بفضل منه ومغفرة؟! ولولا هذا الاتصال، ولولا صدق محمد في تبليغ رسالة ربه، لرأينا الحياة على كر الدهور تنفي مما قال شيئا. لكن ألفا وثلاثمائة وخمسين سنة انقضت وما يزال بلاغ محمد عن ربه آية الحق والهدى. وبحسبنا على ذلك مثلا واحدا نضربه: ذلك ما أوحى الله إلى محمد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين. انقضت أربعة عشر قرنا لم يقل أحد خلالها إنه نبي أو إنه رسول رب العالمين فصدقه الناس. قام في العالم أثناء هذه القرون رجال تسنموا ذروة العظمة في غير ناحية من نواحي الحياة فلم توهب لأحدهم هبة النبوة والرسالة. ومن قبل محمد كانت النبوات تتواتر والرسل يتتابعون فينذر كل قومه أنهم ضلوا ويردهم إلى الدين الحق، ولا يقول أحدهم إنه أرسل للناس كافة أو إنه خاتم الأنبياء والمرسلين، أما محمد فيقولها فتصدق القرون كلامه. ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وهدى ورحمة للعالمين.
وغاية ما أرجو أن أكون قد وفقت لما قصدت إليه من هذا البحث، وأن أكون قد مهدت به السبيل إلى مباحث في موضوعه أكثر استفاضة وعمقا. ولقد بذلت من الجهد في ذلك ما وسعته طاقتي وما يسره الله لي.
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .
55
تقدير وشكر
نوهت، في آخر الطبعة الأولى لهذا الكتاب؛ بما بذله لي المغفور له محمد طلعت حرب باشا، وكان يومئذ مدير بنك مصر وشركاته، من مختلف صور العون، فكان له فضل معاونتي أكبر المعاونة في الإسراع إلى إصدار الكتاب وفي أن أجعل من نسخ تلك الطبعة العشرة الآلاف ألفا للجمعية الخيرية الإسلامية. ونوهت كذلك بتأنق المرحوم محمود بك خاطر - مدير مطبعة مصر يومئذ - تأنقا أظهر الكتاب لقرائه في خير ثوب له. وذكرت معاونة المرحوم الأستاذ عبد الرحيم محمود المصحح بدار الكتب في تصحيح الكتاب وضبط الأعلام والآيات فيه، كما ذكرت ما للأساتذة الخطاطين محمد حسني، وسيد إبراهيم، والمرحوم مصطفى بك غزلان من فضل في تنسيق صحفه الأولى، وما للأساتذة إبراهيم الأبياري، وعبد الحفظ شلبي والشيخ أحمد عبد العليم البردوني، وعلي أحمد الشهداوي، المصححين بدار الكتب، من مجهود في وضع فهارسه. وأشرت إلى الأستاذ علي فودة الذي كان عوني وعون الأستاذ عبد الرحيم محمود في التصحيح. واعتذرت لسائر من عاونوني عن عدم ذكر أسمائهم مخافة أن يجني النسيان على بعضهم، وكررت الشكر لهؤلاء جميعا حين صدرت الطبعة الثانية.
وقد تواتر العون منذ ظهور الطبعة الأولى إلى أن تمت الطبعة الثانية من كثيرين لا أنسى لهم فضلهم. فقد تفضل الأستاذ الشيخ أحمد مصطفى المراغي - وكان يومئذ مدرسا بكلية اللغة العربية بالأزهر - فراجع الكتاب في نسخته الخاصة وبعث بها إلي وعلى هوامشها بعض ملاحظات لغوية أخذت بالكثير منها في الطبعة الثانية. كذلك أرسل إلي غير واحد مثل هذه الملاحظات، فأعرتها ما هي جديرة به من العناية. وأرسل إلي بعض الأصدقاء مؤلفات لهم راجعتها، واستعنت بها. من ذلك كتاب صديقي الفلسطيني الأستاذ إسعاف النشاشيبي «الإسلام الصحيح». ومنها كتابان للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، أحدهما «مفتاح كنوز السنة» الذي ترجمه عن المستشرق فنسنك ثم أكمله، والآخر «تفصيل آيات القرآن الحكيم» الذي وضعه على نظام المستشرق جول لابوم. وهذا الكتاب الأخير جم الفائدة لكل من أراد الرجوع إلى القرآن في مباحثه؛ فهو يجمع ما جاء في الكتاب في كل موضوع جمعا دقيقا نظامه غاية الدقة. وقد رجعت فيما خلا ذلك إلى كتب أخرى أضفتها إلى سجل المراجع.
ومنذ بدأت الطبعة الثانية بمطبعة دار الكتب رأيت رجال الدار جميعا يبدون من العناية بالكتاب ما لا يبدي إنسان أكثر منه لو أن الكتاب كان كتابه. كان ذلك شأن مدير الدار يومئذ الأستاذ محمد «بك» أسعد براده، ومدير المطبعة الأستاذ محمد نديم، وشأن القسم الأدبي كله بدار الكتب برياسة المرحوم الأستاذ أحمد زكي العدوي. وكم من مرة شاركني رجال هذا القسم الأدبي في تحقيق بعض مسائل اختلفت عليها كتب الحديث وكتب السيرة، كي تصل إلى غاية ما يستطاع من الدقة والضبط! وكم من مرة اشتركنا في تحقيق لفظ من الألفاظ، أو تركيب من التراكيب من حيث اللغة وعلومها، لننفي كل دخيل على الكتاب ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. والقسم الأدبي هو الذي وضع من هوامش الكتاب التنبيه إلى مواضع الآيات من سور القرآن، وشرح بعض الألفاظ اللغوية التي رآها في حاجة إلى الشرح.
وقد تفضل المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي فاطلع على ما جد في الطبعة الثانية من فصول.
أما العناية بالطبع وإخراج الكتاب لقرائه على ما رأوه من دقة وتأنق فيرجع فضلها إلى الأستاذ محمد نديم مدير المطبعة وإلى أعوانه من رجال الفن في الطباعة. وهم في ذلك إنما يعملون بقوله عليه والسلام: «إن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتقنه.»
ورأيت حقا علي، عند الطبعة الثالثة، أن أضاعف الشكر لرجال دار الكتب وللقائمين على مطبعتها. فقد حالت مشاغلي دون الاشتراك في هذه الطبعة بأكثر من مراجعة التجارب الأخيرة والإذن بالطبع. فأما ما خلا ذلك من وضع عناوين الصفحات ومن المزيد في دقة الضبط، فالفضل فيه لهم، ولما بيني وبين رجال الدار جميعا، وعلى رأسهم مديرها يومئذ الدكتور منصور فهمي باشا من مودة صادقة.
لذلك فإن كل شكر أبذله لهم وكل تقدير مني لجميلهم دون مجهودهم قدرا؛ فليتول الله جزاءهم على حسن صنيعهم. وعنده جل شأنه حسن الجزاء.
واليوم، ولمناسبة هذه الطبعة الرابعة التي طبعت من جديد بمطبعة مصر، أرى حقا علي أن أشكر للأستاذ يوسف بهجت مدير المطبعة، وللأستاذ محمد إبراهيم عثمان رئيسها، ولجميع رجال مطبعة مصر ما بذلوا من همة وعناية، حتى خرج الكتاب في هذا الثوب القشيب من الدقة وجمال الطبع وأناقته. كما أشكر للأستاذ أحمد عبد العليم البردوني معاونته الصادقة في ضبط فهرس هذه الطبعة.
وفي هذه الطبعة الخامسة يسرني أن أشكر للدكتور سيد نوفل - مدير الإدارة التشريعية بمجلس الشيوخ - دقة المراجعة لتجاربها ولتجارب الطبعة الرابعة.
وأحمد الله وأرجو أن يوفقنا للخير ولحسن أداء واجبنا في الحياة.
محمد حسين هيكل
صفحه نامشخص