7
أفكانت تحيط بالكعبة منذ إنشائها مناصب كالتي تولاها قصي بن كلاب في منتصف القرن الخامس الميلادي حين اجتمع له ملك مكة؟ فقد اجتمعت لقصي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والقيادة. والحجابة سدانة البيت؛ أي تولي مفاتيحه. والسقاية إسقاء الحجيج الماء العذب الذي كان عزيزا بمكة، وإسقاؤهم كذلك نبيذ التمر. والرفادة إطعام الحاج جميعا. والندوة رياسة الاجتماع كل أيام العام، واللواء راية يلوونها على رمح وينصبونها علامة للعسكر إذا توجهوا إلى عدو. والقيادة إمارة الجيش إذا خرجوا إلى حرب، وكانت هذه المناصب كلها معتبرة في مكة وكأنها تحيط بالكعبة متجه أنظار العرب جميعا في عبادتهم. وأحسبها لم تنبت كلها دفعة واحدة منذ أقيم البيت، بل نشأت الواحدة تلو الأخرى مستقلا بعضها عن الكعبة ومكانتها الدينية، متصلا بعضها بالكعبة من طبعه.
لم تكن مكة حين بناء الكعبة - على خير ما يمكن أن يصوره خيالنا - لتزيد على قبائل من العماليق ومن جرهم، فلما استقر بها إسماعيل ورفع قواعد البيت مع أبيه إبراهيم اقتضى تطور مكة، لتصير حضرا أو ما يشبه الحضر، زمانا طويلا، ونقول: ما يشبه الحضر أن ظلت مكة وما تزال وفي طباع أهلها بقايا متخلفة من معاني البداوة الأولى. ولا يأبى بعض المؤرخين أن يذكر أنها ظلت على بداوتها إلى أن اجتمع أمرها لقصي في منتصف القرن الخامس للميلاد، وعسير أن نتصور بقاء بلد له ما لمكة وبيتها العتيق من التقديس في حالة البادية، مع ما يثبت التاريخ من أن أمر البيت بقي بعد إسماعيل في يد جرهم أخوال بنيه أجيالا متعاقبة أقاموها حوله، ومع أن مكة كانت ملتقى طرق القوافل إلى اليمن وإلى الحيرة وإلى الشام وإلى نجد، كما كانت تتصل من البحر الأحمر القريب منها بتجارة العالم - عسير أن نتصور بقاء بلد له هذه المكانة من غير أن يدنيه اتصاله بالعالم من مراتب الحضارة. فمن الحق لذلك أن نقدر أن مكة - وقد دعاها إبراهيم بلدا ودعا الله له أن يكون آمنا مطمئنا - قد عرفت حياة الاستقرار أجيالا طويلة قبل قصي.
وظل أمر مكة لجرهم بعد أن غلبوا العماليق عليها إلى عهد مضاض بن عمرو بن الحارث. وقد راجت تجارة مكة خلال هذه الأجيال رواجا أمر مترفيها وجعلوا ينسون أنهم بواد غير ذي زرع وأنهم في حاجة لذلك إلى الدأب المتصل واليقظة الدائمة. وبلغ من نسيانهم أن نضب ماء زمزم وأن فكر عرب خزاعة في الوثوب إلى مناصب الأمر في البلد الحرام.
ولم يجد تحذير مضاض قومه عاقبة ما انغمسوا فيه من ترف، وأيقن أن الأمر زائل عنه وعنهم؛ فعمد إلى زمزم فأعمق حفرها، وإلى غزالتين من ذهب كانتا بالكعبة مع طائفة من الأموال التي كانت تهدى إلى البيت الحرام فدفعها بقاع البئر وأهال الرمال عليها، آملا أن يعود له الأمر يوما فيفيد من الكشف عنها، وخرج ومعه بنو إسماعيل من مكة. ووليت خزاعة أمرها. وظلت تتوارثه حتى آل إلى قصي بن كلاب الجد الخامس للنبي.
وكانت أم قصي فاطمة بنت سعد بن سهل قد تزوجت من كلاب فولدت له زهرة وقصيا. ثم هلك كلاب وقصي طفل في المهد. وتزوجت فاطمة من ربيعة بن حرام؛ فرحل بها إلى الشام وهناك ولدت له دراجا. وكبر قصي وهو لا يعرف لنفسه أبا غير ربيعة. ووقع بينه وبين آل ربيعة شر فعيروه أنه في جوارهم وأنه ليس منهم. وشكا قصي إلى أمه ما عير إياه، فقالت: يا بني إنك والله لأكرم منهم أبا، أنت ابن كلاب بن مرة، وقومك بمكة عند البيت الحرام.
وقدم قصي مكة وأقام بها، وعرف عنه فيها من الجد وحسن الرأي ما جعله موضع احترام أهلها وأهله فيها. وكانت سدانة البيت في خزاعة لحليل بن حبشية، وكان رجلا ثاقب النظر حسن التقدير؛ فما لبث حين خطب قصي إليه ابنته حبى أن رحب به وزوجه منها. واستمر دأب قصي في السعي والتجارة، فكثرت أمواله كما كثر أولاده وعظم بين قومه شرفه. ومات حليل بعد أن أوصى بمفتاح البيت الحرام لحبى زوج قصي، واعتذرت حبى عن ذلك وجعلت المفتاح لأبي غبشان الخزاعي. وكان أبو غبشان سكيرا، فأعوزه الشراب يوما فباع مفتاح البيت قصيا بزق خمر. وقدرت خزاعة ما يصيب مكانتها بمكة إذا بقيت سدانة الكعبة لقصي بعد أن كثر ماله وبعد أن بدأت قريش تجتمع حوله، فأنكروا أن يكون لغيرهم منصب من المناصب المتصلة بالبيت الحرام. واستنفر قصي قريشا، ورأت بعض القبائل أنه أحكم المقيمين بمكة وأعظمهم قدرا فانضموا له وأجلوا خزاعة عن مكة، واجتمعت مناصب البيت كلها لقصي، وأقر القوم له بالملك عليهم.
وذهب البعض - كما قدمنا - إلى أن مكة لم يكن بها بناء غير الكعبة إلى أن تولى قصي أمرها. ويعللون ذلك بأن خزاعة وجرهما قبلها لم يريدوا أن يكون إلى جوار بيت الله بيت غيره، وأنهم لم يكونوا يقيمون ليلهم بالحرم بل يذهبون إلى الحل. ويضيف هذا البعض أن قصيا لما تم له أمر مكة جمع قريشا وأمرهم أن يبنوا بها، وابتدأ هو فبنى دار الندوة يجتمع فيها كبراء أهل مكة تحت إمرته ليتشاوروا في أمور بلدهم. فقد كان من عادتهم ألا يتم أمر إلا باتفاقهم؛ فلم تكن تنكح امرأة ولا يتزوج رجل إلا في هذه الدار. وبنت قريش بأمر قصي حول الكعبة دورها، وتركوا مكانا كافيا للطواف بالبيت، وتركوا بين كل بيتين طريقا ينفذ منه إلى المطاف.
كان عبد الدار أكبر أبناء قصي، ولكن أخاه عبد مناف كان قد تقدم عليه أمام الناس وقد شرف فيهم. فلما كبر قصي وضعف بدنه ولم يبق قادرا على تولي أمور مكة جعل الحجابة لعبد الدار وسلم إليه مفتاح البيت، كما أعطاه السقاية واللواء والرفادة. وكانت الرفادة قسطا تخرجه قريش كل عام من أموالها فتدفعه إلى قصي يصنع منه في موسم الحج طعاما ينال منه من الحاج من لم يكن ذا سعة ولا زاد. وكان قصي أول من فرض الرفادة على قريش حين جمعهم واعتز بهم وأخرج وإياهم خزاعة من مكة. فرضها عليهم وقال لهم: «يا معشر قريش! إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل حرمه، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الأضياف بالكرامة ، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم.»
وتولى عبد الدار مناصب الكعبة كأمر أبيه وتولاها أبناؤه من بعده. لكن أبناء عبد مناف كانوا أشرف في قومهم وأعظم مكانة: لذلك أجمع هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل بنو عبد مناف على أن يأخذوا ما بأيدي أبناء عمومتهم، وتفرق رأي قريش: تنصر طائفة هؤلاء وأخرى أولئك. وعقد بنو عبد مناف حلف المطيبين؛ لأنهم غمسوا أيديهم في طيب جاءوا به إلى الكعبة وأقسموا لا ينقضون حلفهم. وعقد بنو عبد الدار حلف الأحلاف. وكان هؤلاء وأولئك يوشكون أن يقتتلوا في حرب تذيب قريشا لولا أن تداعى الناس إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تبقى الحجاجة واللواء والندوة لبني عبد الدار. ورضي الفريقان بذلك، وظل الأمر عليه إلى أن جاء الإسلام.
صفحه نامشخص