135

1

إذ ذاك تزوجها فأطفأ بزواجها لاذع حبه ومتوهج غرامه. فأي نبي هذا؟! وكيف يبيح لنفسه ما حرمه على غيره؟! وكيف لا يخضع للقانون الذي يقول إن الله أنزله عليه؟! وكيف يخلق هذا «الحريم» الذي يثير في النفس ذكر الملوك المترفين بدل أن يثير فيها ذكر الأنبياء الصالحين المصلحين؟! ثم كيف يبلغ منه الخضوع لسلطان الحب في شأن زينب حتى يصل بمولاه زيد إلى تطليقها ثم يتزوجها من بعده؟! وكان ذلك محرما في الجاهلية، فأباحه نبي المسلمين إرضاء لهواه، واستجابة لداعي حبه.

ويطلق المبشرون والمستشرقون لخيالهم العنان حين يتحدثون من تاريخ محمد في هذا الموضوع، حتى ليصور بعضهم زينب ساعة رآها النبي وهي نصف عارية أو تكاد، وقد انسدل ليل شعرها على ناعم جسمها الناطق بما يكنه من كل معاني الهوى، وليذكر آخرون أنه حين فتح باب بيت زيد لعب الهواء بأستار غرفة زينب وكانت ممددة على فراشها في ثياب نومها، فعصف منظرها بقلب هذا الرجل الشديد الولع بالمرأة ومفاتنها، فكتم ما في نفسه وإن لم يطق الصبر على ذلك طويلا!

وأمثال هذه الصورة التي أبدعها الخيال كثير، تراه في موير وفي درمنجم وفي واشنطن إرفنج وفي لامنس وغيرهم من المستشرقين والمبشرين. ومما يدعو إلى أشد الأسف أن هؤلاء جميعا اعتمدوا في روايتهم على ما ورد في بعض كتب السيرة والكثير من الحديث، ثم أقاموا على ما صوروا قصورا من الخيال في شأن محمد وصلته بالمرأة، واستدلوا على ذلك بكثرة أزواجه حتى بلغن تسعا في القول الراجح، وحتى بلغن أكثر من ذلك في بعض الروايات.

كان في مقدورنا أن نجبه هذه الأقوال جميعا بقولنا: فلتكن صحيحة؛ فماذا فيها مما يطعن على عظمة محمد أو على نبوته ورسالته؟! إن القوانين التي تجري على الناس لا سلطان لها على العظماء، فأولى ألا يكون لها سلطان على المرسلين والأنبياء. ألم ير موسى - عليه السلام - خلافا بين رجلين هذا من شيعته وهذا من عدوه، فوكز الذي من عدوه فقضى عليه، وهذا قتل محرم في غير حرب ولا شبه حرب، وهذا مخالف للقانون. مع ذلك لم يخضع موسى للقانون ولم يطعن ذلك في نبوته ولا في رسالته، ولم يطعن في عظمته. وشأن عيسى في مخالفة القانون أكبر من شأن موسى ومن شأن محمد ومن شأن الأنبياء والمرسلين جميعا. فليس يقف أمره عند بسطة في القوة أو الرغبة، بل خرج بمولده وبحياته على قوانين الطبيعة وسننها جميعا. تمثل لأمه مريم روح الرحمن بشرا سويا، ليهب لها غلاما زكيا، فعجبت وقالت: أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ؟! قال الرسول: إن الله يريد أن يجعله آية للناس، فلما جاءها المخاض قالت : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا. وأتت به قومها تحمله، فقالوا: لقد جئت شيئا فريا. فحدثهم عيسى في مهده قال: إني عبد الله ... إلى آخر ما قال.

ومهما يكن من إنكار اليهود لهذا كله، ومن نسبتهم عيسى إلى يوسف النجار نسبة لا يزال بعض العلماء من أمثال رينان يأخذون اليوم بها. فقد كانت عظمة عيسى ونبوته ورسالته دليل معجزة الله فيه وخرقه لنواميس الكون وسنن الطبيعة وقوانين الخلق من أجله. فمن عجب أن يدعو المسيحيون المبشرون إلى الإيمان بهذا الخروج على سنة الكون في أمر عيسى، وأن يأخذوا محمدا بما هو دونه، وما لا يزيد على أنه سمو من الخضوع لقانون المجتمع يسمح به لكل عظيم، ويسمح به للملوك ورؤساء الدول الذين تقدسهم الدساتير وتجعل ذواتهم مصونة لا تمس.

كان في مقدورنا أن نجبه هذه الأقوال جميعا بهذا الرد، وكان فيه من غير شك ما يسقط حجة المبشرين ومن ينهجون نهجهم من المستشرقين. لكنا في هذا كنا نجني على التاريخ ونجني على عظمة محمد وجلال رسالته. فهو لم يكن، كما صور هؤلاء وأولئك، رجلا يأخذ بعقله الهوى، وهو لم يتزوج من تزوج من نسائه بدافع من شهوة أو غرام. وإذا كان بعض الكتاب المسلمين في بعض العصور قد أباحوا لأنفسهم أن يقولوا هذا القول، وأن يقدموا لخصوم الإسلام عن حسن نية هذه الحجة، فذلك لأنهم انحدر بهم التقليد إلى المادية، فأرادوا أن يصوروا محمدا عظيما في كل شيء، عظيما حتى في شهوات الدنيا. وهذا تصوير خاطئ ينكره تاريخ محمد أشد إنكار، وتأبى حياته كلها أن تقره.

فهو قد تزوج خديجة وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وهو في شرخ الصبا وريعان الفتوة ووسامة الطلعة وجمال القسمات وكمال الرجولية. مع ذلك ظلت خديجة وحدها زوجه ثمانيا وعشرين سنة حتى تخطى الخمسين، هذا على حين كان تعدد الزوجات أمرا شائعا بين العرب في ذلك العهد. وعلى حين كان لمحمد مندوحة في التزوج على خديجة، أن لم يعش له منها ذكر، في وقت كانت توأد فيه البنات، وكان الذكور وحدهم هم الذين يعتبرون خلفا. وقد ظل محمد مع خديجة سبع عشرة سنة قبل بعثه وإحدى عشرة سنة بعده وهو لا يفكر قط في أن يشرك معها غيرها في فراشه. ولم يعرف عنه في حياة خديجة ولم يعرف عنه قبل زواجه منها أنه كان ممن تغريهم مفاتن النساء في وقت لم يكن فيه على النساء حجاب، بل كانت النساء يتبرجن فيه ويبدين من زينتهن ما حرم الإسلام من بعد ...

فمن غير الطبيعي أن تراه وقد تخطى الخمسين ينقلب فجأة هذا الانقلاب الذي يجعله ما يكاد يرى بنت جحش، وعنده نساء خمس غيرها من بينهن عائشة التي أحب وظل يحب طوال حياته، حتى يفتن بها وحتى تستغرق تفكيره ليله ونهاره. وليس من الطبيعي أن تراه، وقد تخطى الخمسين، يجمع في خمس سنوات أكثر من سبع زوجات، وفي سبع سنوات تسع زوجات، وذلك كله بدافع من الرغبة في النساء، رغبة صورها بعض كتاب المسلمين، وحذا الإفرنج حذوهم، تصويرا لا يليق في ضعته برجل مادي بله عظيما استطاعت رسالته أن تنقل العالم وأن تغير مجرى التاريخ، وما تزال على استعداد لأن تنقل العالم مرة أخرى وتغير مجرى التاريخ طورا جديدا.

وإذا كان هذا عجيبا وكان غير طبيعي، فمن العجيب كذلك أن نرى محمدا تلد له خديجة ما ولدت من بنيه وبناته إلى ما قبل الخمسين، وأن نرى مارية تلد له إبراهيم وهو في الستين، وألا تلد غير هاتين من نسائه، وكلهن بين شابة في مقتبل العمر لا يمنع من ناحيتها ولا من ناحيته أن تحمل وأن تلد، وبين امرأة كملت لها أنوثتها فتخطت الثلاثين أو تخطت الأربعين وكان لها ولد من قبل. فكيف تفسر هذه الظاهرة العجيبة من ظاهرات حياة النبي، هذه الظاهرة التي لا تخضع للقوانين الطبيعية في تسع نسوة جميعا؟! هذا وقد كانت نفس محمد، باعتبار أنه إنسان، تميل من غير ريب إلى أن يكون له ولد، وإن كان مقام النبوة والرسالة قد جعله من الناحية الروحية أبا للمسلمين جميعا.

صفحه نامشخص