حیات مسیح
حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث
ژانرها
ولم يخف عنهم أنهم ملاقون ويلا من الناس، فليكونوا حكماء كالحيات، وبسطاء كالحمام، أما إذا جد الجد فلا يخافن من يهلك الجسد، وليخافن من يهلك الروح.
وقد أثمرت رياضة الحب في تدريب هذا الجند الروحاني ما لا تثمره رياضة القسوة والصرامة في تدريب جنود القتال؛ فخرجوا يعملون وهم يعلمون أن الوناء في أداء الأمانة يصغرهم أمام أنفسهم، ويصغرهم أمام الله، وليس أقسى على النفوس من الشعور بهذا الصغار.
وما هو إلا حان موعدهم ليعملوا وينتشروا في الأرض، حتى خرجوا إلى كل وجهة، وأبعدوا الرحلة في كل مكان معمور، فمنهم من وصل إلى جزر الهند الشرقية كالرسول توما، ومنهم من وصل إلى سكيثية وآسيا الصغرى كالرسول أندراوس، ومنهم من شغل بنفسه في البلاد الأوربية، فأرسل صحابته إلى إفريقية الشمالية، وعمت الدعوة مصر وبلاد العرب والعراق، فضلا عن الدعوة في فلسطين.
ولكنهم لم يحفلوا بخطاب أبناء اليهودية، كما حفلوا بخطاب «الأمم» في الجليل وآسيا الصغرى والإسكندرية، وأفادهم التمهيد الذي سبقهم به طوائف اليهود وأصحاب النحل السرية في تنظيم الدعوة، فعملوا كما كان يعمل الآسون والغلاة الغيورون، يخرجون اثنين اثنين، وينشرون الخلايا في كل بقعة، ويحفظون الصلة بين تلك الخلايا بالمراسلة والزيارة، وهنا يصح أن يقال إن الدعوة الجديدة استفادت من الدعوات التي سبقتها في العصر السابق لعصر الميلاد، ولا جرم يكون أكبر النجاح الذي أصابوه ملحوظا في آسيا الصغرى والإسكندرية، حيث عرف من قبل نظام الخلايا والسياح المتنقلين من الوعاظ.
كذلك يبدو أثر «الحالة العالمية» في انتشار الدعوة الجديدة من ظاهرة رائعة تكررت في كل أمة، فقد كان المدعوون إلى الدين الجديد من جماهير الناس سراعا إلى القبول، حراصا على المعاونة والتأييد، ولم يصب الرسل خطر إلا من قبل «السلطة» الغالبة، حيث تصطدم عبادة القياصرة بعبادة الله.
وكان أشدهم حماسة لدينه يلجأ إلى المجاملة رجاء أن تكسبه هذه المجاملة بعض المؤمنين الذين يعرضون عن الدعوة إذا واجهتهم الصراحة بغير تقية، فكان بطرس في أنطاكية يجامل المحافظين، ويعاشر أبناء الأمم كلما أحس حوله بقوم من «آل يعقوب»، فوبخه الرسول بولس علانية، وحذره من مخالفة الدعوة في سبيل مرضاة الناس.
على أن بولس نفسه كان يتألف القلوب ببعض المجاملة، وكان كما قال في سفر كورنثوس الأول «... استعبدت نفسي للجميع لكي أربح الأكثرين، وصرت لليهودي كيهودي لأربح اليهود، وللناموسيين كالناموسيين، ولغيرهم كأنني بغير ناموس ... صرت لكل كل شيء؛ لعلي أستخلص من كل حال قوما ...»
ومن ثم - ولا شك - خالط المسيحيين الأول أناس ممن تحولوا إلى المسيحية من الوثنية، ونقلوا معهم بعض عاداتها وشعائرها، وشملهم الأعضاء حينا، لعلهم بعد هجر الوثنية يستقيمون على مناهج الدين الجديد.
ومن بدع القرن العشرين سهولة الاتهام، كلما نظروا في تواريخ الأقدمين، فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها، وصفات لا يشاهدونها، ولا يعقلونها، ومن ذلك اتهامهم الرسل بالكذب فيما كانوا يثبتونه من أعاجيب العيان، أو أعاجيب النقل والرواية، ولكننا نعتقد أن التاريخ الصحيح يأبى هذا الاتهام؛ لأنه أصعب تصديقا من القول بأن أولئك الدعاة أبرياء من تعمد الكذب والاختلاق، فشتان عمل المؤمن الذي لا يبالي الموت تصديقا لعقيدته، وعمل المحتال الذي يكذب ويعلم أنه يكذب، وأنه يدعو الناس إلى الأكاذيب، مثل هذا لا يقدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة، وهو أول من يعلم زيفها وخداعها ، وهيهات أن يوجد بين الكذبة العامدين من يستبسل في نشر دينه كما استبسل الرسل المسيحيون، فإذا كان المؤرخ الصادق من يأخذ بأقرب القولين إلى التصديق، فأقرب القولين إلى التصديق هو أن الرسل لم يكذبوا فيما رووه، وفيما قالوا إنهم رأوه، أو سمعوا ممن رآه، وليس بالمخالف للمعهود في كل زمن أن يصدق الإنسان عيانا ما يصدقه في قرارة نفسه، وبخاصة حين يجمع الألوف على تصديقه، ولا يوجد بين قائليه وسامعيه من يحسبه من المستحيل.
وليذكر أدعياء التمحيص في عصرنا هذا أننا نطلب من الرجل في القرن الأول للميلاد أن يكذب إنسانا لغير سبب، وهو يطمئن إليه، ولا يتهمه بالتلفيق والاختلاق، ومن التكذيب لغير سبب في ذلك العصر أن يبادر السامعون إلى تكذيب الرواة كلما تحدثوا عن المعجزات، فذلك شبيه في عصرنا هذا بمن يكذب إنسانا لأنه سمعه يتحدث عن ظاهرة فلكية وصناعية لا غرابة فيها، ولا سيما إذا كان المتكلم غير معهود فيه أن يتعمد الكذب والاختلاق.
صفحه نامشخص