86

حیات مسیح

حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث

ژانرها

وقد علم المسيح أنه لن يبقى طويلا مع طلاب التلمذة عليه إلى الأبد، وأنه لن يبقى معهم حتى يبلغوا من الدراية والإيمان تلك الغاية المثلى التي ليس فوقها غاية، فإن صمد معه أناس يضعفوا تارة، ولا يحسنوا فهمه تارة أخرى، ولكنهم يحسنون الظن، ويترقبون الأمل في الخلاص من هذا الطريق، فأولئك على علاتهم خير من المتتلمذين الذين يسيئون الفهم، ويستكبرون ويأتمرون به ليقضوا عليه. •••

والشائع أن التلاميذ كانوا طائفة من صيادي السمك في بحر الجليل، والمفهوم من هذا عند أناس ممن يعرفونهم بالصناعة على السماع أنهم في طبقة عمال الصيد الأميين، ولكنه فهم متعجل مبني على قياس غير صائب، إذ الواقع أنهم كانوا طائفة تقرأ وتكتب وتتردد على مجامع الوعظ والصلاة، وتراجع ما قيل عن النبوءات، لم يبلغوا في العلم مبلغ الفقهاء في زمانهم، وهو خير؛ لأنهم لو كانوا من فقهاء زمانهم لركبهم الغرور، وقابلوا الدعوة بالتحدي والمكابرة، ولكنهم لم يبلغوا كذلك مبلغ الأمية الجاهلية في الغباء، وكان منهم من نسميه في عصرنا هذا بكاتب الحسابات أو مأمور التحصيل، وهو متى العشار صاحب الإنجيل المعروف باسمه، وقدرته على كتابة إنجيل - باللغة اليونانية كما هو الأرجح - قدرة لا تتأتى لغير المثقفين، ومنهم يوحنا الذي ينسب إليه الإنجيل الرابع، وهو ابن خالة المسيح أو من بني خئولته، وكان صاحب عمل ناجح في تجارة السمك يشاركه فيه أخوه يعقوب، كما يؤخذ من إنجيل مرقس حيث يقول: إنهما تركا أباهما في السفينة مع الأجراء، وذهبا وراء السيد المسيح.

ومنهم جيمس قريب المسيح، ويوحنا، و«ابن الرعد» كما سماه المسيح لقوته في الإنذار وتشديد النكير، ومنهم بطرس وهو متكلم جريء صلب العزيمة، مدرب على حمل السلاح كما يؤخذ من بعض أخبار الإنجيل، وكلهم كانوا على استعداد للمناقشة والمساجلة ومخاطبة الناس في أمر الدعوة، وأكثرهم واجه الموت في عمله لنشر الدعوة، ولم يحفل بمقاومة ذوي البأس والسلطان.

وقد استمالت الدعوة إليها في عصر المسيح وبعد عصره طائفة من المثقفين العلماء، مثل نيقوديمس عضو المجمع الأعلى، ومثل الطبيب لوقا صاحب بولس الرسول، ومنهم بولس الرسول نفسه، وهو أستاذ في فقه الدين عالم بالتواريخ، وأكثر هؤلاء المثقفين مالوا إلى الدعوة عطفا على التلاميذ المجاهدين الذين نكلت بهم السطوة الغاشمة؛ لأنهم خارجون على نظام من العقيدة والعادة يحتقره أولئك المثقفون، ولا يجهلون فعل المحاسبة الروحية في تقويضه أو الإجهاز عليه. •••

ومن المعاصرين من يحلو له أن يحسب السيد المسيح داعيا إلى الفوضى السياسية متحللا من النظام؛ لشدة إنحائه على الشريعة، والجامدين عليها، والمنافقين باسمها، وفاتهم أن الشريعة الفاسدة في أيدي الجامدين أو المنافقين هي الفوضى في صورة أخرى، ومن يدحضها وينحى عليها لن يكون من الفوضويين، ولا أعداء النظام.

أما البينة في الواقع على سخف هذا الحسبان فهو تنظيمه لتلاميذه، وترويضه لهم على الطاعة وإنكار الذات، وتقسيمه للأعمال في مجتمعه الصغير - مجتمع التلاميذ - بين أمين للصندوق، ومباشر لمطالب الجماعة، وراع يرعى القطيع في غيبة السيد، وهم فئة قليلة لا تجاوز العشرين مع حسبان التلاميذ، وغيرهم من الطارئين.

وأدخل من هذا في باب التنظيم أنه اختار أولا اثني عشر تلميذا، ثم اختار بعدهم سبعين وأوصاهم أن ينطلقوا بالدعوة اثنين اثنين في كل اتجاه، وأنهم حين عادوا من رحلتهم أخذهم ناحية في الجبل؛ ليستمع منهم، ويراجع أعمالهم، ويزيدهم من الوصية والإرشاد.

وقد جعل كل مناسبة للدعوة مناسبة لتعليم أولئك التلاميذ المختارين، وكان يحذرهم على الدوام من الفتنة الموبقة التي يتحطم عليها نظام كل جماعة، وهي فتنة التنافس على الرئاسة، فعلمهم أن الأول فيهم هو خادمهم الأول، وضرب لهم مثلا فذا في تاريخ الدعوات؛ ليقوا جماعتهم غواية الرئاسة كلما ذكروه، فجمعهم في محفل؛ ليغسل أقدامهم بيديه، ونفر بعضهم أول الأمر، ولكنهم عادوا فأذعنوا حين علموا العبرة التي عناها بهذه القدوة، وقال الذين نفروا أول الأمر من هذا التقليد إنهم يودون لو يأمرهم بأن يطيعوه في غسل الأيدي والرءوس.

وحصر جهده كله في تعويدهم «إنكار الذات» وهو فضيلة الفضائل في الأعمال العامة، فعلمهم أن يعملوا ولا ينتظروا جزاء على عملهم، ثم أذن لهم أن يقبلوا ضيافة البيوت التي يدخلونها لدعوة أهلها، ولكنه قال لهم: «لا تحملوا كيسا ولا مزودا ولا أحذية ... وأي بيت دخلتموه فقولوا: سلام. وأي مدينة دخلتموها، ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى سبلها، وانفضوا غبارها من أرجلكم.»

وكرر لهم الوصية بالبساطة في العمل والكلام، فأمرهم «ألا يشغلوا بالهم كيف ومتى يتكلمون؛ لأنهم يلهمون في تلك الساعة ما يقولون، وليسوا هم المتكلمين، بل هو روح أبيهم يتكلم فيهم».

صفحه نامشخص