حواء الجديدة

نیکولا حداد d. 1373 AH
54

حواء الجديدة

حواء الجديدة

ژانرها

فعادت الخادمة تقول: «يرجو منك إعذاره؛ لأنه لا يقدر أن يزورك»، فازداد تغيظي واشتد حزني وعاد إلي يأسي الماضي، ولكن خطر لي في الحال أن أمضي إلى الصديقة التي كانت واسطة الصلة بيننا؛ لكي أرجو منها أن تستطلع أفكاره لعلها تقدر تزيل سبب نقضه العهد، فدخلت عليها وكل عضلة من عضلاتي تختلج اضطرابا، ودفعت إليها رسالة خطيبي فقرأتها وقالت: إني أدرك مقدار غمك يا حبيبتي وأعتقد أنك مظلومة، ولكن ليس خطيبك الذي ظلمك بل تقاليد البشر وعاداتهم، إني أرثي لك جدا. - إذن تعرفين السبب، فأخبريني. - أظنك عرفته من نفسك.

فتزلزل فؤادي عند هذا الجواب، وشعرت كأنه وقع من بين جنبي؛ لأني أدركت أن سري انكشف لغير خطيبي أيضا، فوهت قوتي واستلقيت على المقعد لا أكاد أستطيع كلاما، وبعد قليل تجلدت وسألتها: أخبريني تفاصيل الحكاية أيتها الصديقة العاذرة. - يعز علي جدا يا حبيبتي أن أنقل إليك ما يسوءك. - لا تحاذري فقد تخرق هذا القلب من السهام التي أصابته، وكيفما رمي هذا السهم الجديد يقع في ثقب قديم. - مسكينة، إنك تعسة يا حبيبتي فالله يأخذ بيدك، علمت أنك فررت من بيت أهلك وساكنت المسيو (...) مدة كخليلة له لا كحليلة، وقد رزقت منه طفلة أخذتها أمك منك إلى باريس إذ رحلت مع أخيك من وجه العار الذي لحق بهما بسببك، إن هذا الكلام يؤلمك يا عزيزتي جدا وأنا أشفق عليك. - تكلمي يا حبيبتي فإني مخلوقة لهذه الآلام؟ - ... وإن ذلك الفتى تركك بعد أن كان مصمما على استرضاء أهله على أن يتزوجك زواجا شرعيا، ولكن أهله أقنعوه أنك فاسدة الطبع سيئة التربية، وأنه لا يمكن أن يثق بأمانتك له في المستقبل، فإذا كنت قد خنت نفسك وأنت عذراء شديدة الحرص على عرضك فلا بد تخونينه وأنت زوجة حين لا يتعذر عليك أن تصلي عشاقك متسترة بزوجيتك؟

عند ذلك شعرت أن دمي الفائر يتدفع في عروقي إلى رأسي وأطرافي، حتى خلته يتفجر من بدني تفجر الماء من الصخرة، فرميت ذراعي على مداهما واستلقيت على المقعد وقلت: ويلي! أين الجبال فتنقلب علي. - لا تقنطي يا حبيبتي، أعتقد أن حكم الناس عليك قاس. - أكملي حديثك فإني عجيبة الجلد. - بلغ ذلك إلى خطيبك فجاهد في تكذيبه؛ لأنه لم يستطع تصديقه لما يعلمه من حسن خصالك، ولكن الدلائل على صحة الوشاية كانت كالصبح، وقد ثبتت بشهود فاقتنع.

ففهمت أن خطيبي لم يبح بسري الذي كشفته له معترفة بزلتي، ولكنه لما عرف أن سري أصبح مفضوحا تتداوله ألسنة الناس استنكف صلته بي، فقلت جريئة: نعم وأنا أعترف بتهمة الوشاية، أقر أني أثمت إذ استسلمت لذلك المخادع بعد جهاده الطويل في إغوائي، وتمنيتي بالأماني العديدة المغررة، وإغرائي بوعوده المؤيدة بأيامينه العظيمة، حتى إنه لم يخطر في بالي قط أنه يخونني ولو افتدى وفاءه بدمه، ولكنني كنت حديثة السن جاهلة طبائع البشر ضعيفة الإرادة فوقعت في فخه، زللت زلة واحدة، ولما استفقت من غفلتي وصحوت لنفسي وثبت لي غدر ذلك الخئون جمعت قواي، وجاهدت في أن أسترد عرضي المفقود وشرفي الضائع فلم أفلح، فاضطررت أن أتقمص باسم آخر لكي أستر عاري، وأثبت حسن سيرتي ففزت بأمنيتي هذه إذ اتضح لكل معارفي أني آية العفاف ونموذج الحشمة ... - إني أشهد بذلك علانية. - ولكن الناس الذين عرفوا سري لم يقبلوا توبتي، ولا اغتفروا إثمي بل تفرغوا لمؤاذاتي، ووقفوا قواهم على مكايدتي مجانا، فماذا يضرهم أن يكتموا عاري، ويعاونوني على إظهار نفسي امرأة جديدة باسم جديد وبثوب أدبي نقي طاهر. - إن الذين فضحوا سرك هم أعداؤك الغادرون المجانيون. - أيجوز لي أن أسألك من هم؟ - هم أهل ذلك الخائن.

عند ذلك لم أتمالك أن أنشبت أصابعي في صدري، ومزقت ثوبي عنه تغيظا وحرقت الأرم وصرخت: آه، يا لرداءة الإنسان! أيتبعني أذى أولئك الأردياء إلى الأبدية؟

ضاع صوابي وأغمي علي وما صحوت إلا وتلك الصديقة المخلصة تعالجني بالمنبهات، ولما سكن روعي استرسلت في البكاء، فكانت تبكي معي، حارت في كيف تعزيني ولكنها بعد قليل قالت: خففي عنك يا عزيزتي، إن الله يجازي من نفس العمل، ذلك الخائن ينال الآن بعض جزائه.

فالتفت إليها متيقظة لكلامها وسألتها: إلام تشيرين؟ - إلى حالة ذلك الرجل الآن مع امرأته. - أرى أنك تعرفين عنه كثيرا. - نعم إني أعرفه وأعرف أهله جيدا الآن. - إذن تزوج؟ - نعم، عرفت أسرته في السنة الماضية إذ كنت في مصر، وكان حينئذ يبحث عن فتاة ليتزوجها، فما سمع بخبر آنسة إلا سعى وأهله إلى رؤيتها، وبحثوا عن سيرتها جيدا ودرسوها، طافوا بيوتا كثيرة وتعرفوا بأسرات عديدة، فلم تعجبهم فتاة ممن رأوا. - أما عرف أهل الفتيات بخيانته لي؟ - كلهم عرفوا. - وسمحوا له أن يرى بناتهم؟ - كانوا يتنافسون في استرضائه لأنه غني. - يا لسفالة البشر، إذن لم ينظروا إلى فساد قلبه ولا حسبوا فعله معرة. - ألا تعلمين أن حياة الشباب، ولطخة العار كالزيت والماء لا تمتزجان. - حيرتني اصطلاحات الناس التي يسمونها آدابا ونظامات اجتماعية، أنا وذلك الماكر اشتركنا بإثم واحد، وهو السبب الأول فيه؛ لأنه جرني إليه متذرعا بكل صنوف الخداع، وقد قاومته بكل قوتي ولكنه تغلب علي وأشركني فيه، فلماذا يسامحونه من غير أن يتوب، ويكفر عن جرمه ويعاقبونني غير مكترثين بتوبتي وكفارتي؟

فتأملت تلك الصديقة كلامي وقالت: إن هذا ظلم ثقيل وهو وصمة في محيا الإنسانية، والأنكى أن ذلك النذل كان ينتقد كل فتاة عرفها ويحسب عليها أقل عيب فيها، وكان يقول: «أطلب فتاة لم يمسها النسيم قط»، يا لضياع الإنصاف! دنس يطلب عفيفة طاهرة بل ملاكا كريما، وعذراء وديعة لا تجد إلا خاطبا أنفق شبابه في الفساد. - وأخيرا ماذا كان من أمره؟ - بعد ما اختبر كل الفتيات انتخب فتاة اعتقد أنها مثال العفاف وجبلة الطهارة، وقد دفعها إليه أهلها فرحين وهم يعلمون أنه قازورة رجاسة، وما مضى على قرانهما بضعة أشهر حتى صارت تلك المرأة متنازع العاشقين. - يا لله وماذا فعل بعلها؟ - لم يستطع كبح جماحها، فهو وأهله صابرون على الضيم كاظمون غمهم، يموهون على دنس تلك المرأة الخائنة بالثناء على سيرتها، ويسترون عارهم بامتداح خصالها، والناس لا يزالون يجلون مقامها، ويكرمونها في مجالسهم وحفلاتهم كأنها العذراء، مع أنهم يعرفون حقيقة أمرها؛ ذلك لأنها تفعل منكراتها متوارية وراء بعلها، ومستترة بزوجيتها الشرعية. •••

أرأيت يا موريس مبلغ فساد الهيئة الاجتماعية الحاضرة؟ لا أظنك تجهل أن بين المحصنات ألوفا يبذلن أعراضهن لغير أزواجهن حتى لخدمهن، ومع ذلك يغض الناس نظرهم عن دنسهن، ولكنهم يسددون سهام التعيير والازدراء بغير إشفاق إلى نسوة أسقطهن الحدثان، بيد أنهن بقين يتعززن على الأمراء والنبلاء.

كم يد يتناولها المتباهون بالشرف والطهر؛ ليقبلوها تشرفا بها، وهي أدنس من قدم المومس التي يبصقون في وجهها؟ على أنهم لو تسامحوا مع هذه كما تسامحوا مع تلك، وأخذوا بيدها لرفعوها إلى مقامها الأصلي.

صفحه نامشخص