الترقي من الأدنى إلى الأعلى لتقدم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره، لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه هو مستفيض بلطفه. وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو يزيح رقة الجنسية أو حب المال عن القلب. ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها والقدرة على إيصالها والداعية الباعثة عليه، والتمكن من الانتفاع بها والقوى التي بها يحصل الانتفاع إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره. أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها فيكون كالتتمة فيعطيه استنكافا عن معرة الخسة. وفي بعض النسخ «أو يزيح رقة الجنسية» أي يزيل بإنعامه الرقة العارضة على قلبه المقتضية للاضطراب الناشىء عن التجانس بينه وبين المنعم عليه.
ولا يخفى أن الرحمة بهذا المعنى تختص به تعالى لا يوصف بها غيره ضرورة أن الرحمة البالغة إلى هذه الغاية غير متحققة فيما عداه تعالى لأنهم لا يقدرون على شيء من هذه النعم الجسام وإن قدروا على شيء مما يسمى لطفا وإنعاما فلا يكون صدور ذلك منهم على طريق اللطف ومحض الجود والكرم بل لطلب عوض في مقابله.
قوله: (ثم إنه كالواسطة في ذلك) أي ثم إن من عداه تعالى من المنعمين بكسر العين ليس منعما حقيقيا بما أنعم به بل المنعم الحقيقي بذلك هو الله تعالى وإن من عداه تعالى كالواسطة في الوصول العارض لها والقدرة على إيصالها إلى مستحقها، وإن لم تكن مؤثرة حقيقة فإنها قدرة كاسبة خلقها الله تعالى في العبد. وكذا الداعية التي حملته على إيصالها إليه وكذا تمكن المنعم بتلك النعم والقوى الظاهرة والباطنة التي بها يتمكن من الانتفاع بها كل ذلك من خلقه تعالى لا يقدر عليه أحد غيره فثبت بذلك أنه لا يصدق المنعم الحقيقي على غيره تعالى. قوله: (أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأصولها) بناء على أن أبلغيته من الرحيم باعتبار الكيفية، والمقصود بالقصد الأولى في مقام التعريض لعظمة الله تعالى ولكبريائه توصيفه تعالى بكونه منعما بجلائل النعم وعظائمها دون دقائقها ولطائفها، واقتضى ذلك أن يبتدأ بوصفه تعالى بالرحمن الذي يدل على كونه منعما بجلائل النعم ولا يدل على كونه منعما بدقائقها فاحتمل أن يتوهم أن دقائق النعم لدناءتها بالنسبة إلى جلائلها لا تطلب من جنابه تعالى ولا ينبغي أن يتوجه لطلبها إلى بابه فوجب أن يتقدم وصفه تعالى بالرحمن لكون تقديمه أنسب بمقام توصيفه تعالى بجلال العظمة والكبرياء ثم يوصف بكونه رحيما ليكون كالتتمة لما قبله، ويدل على أنه تعالى مولى النعم كلها ظاهرها وباطنها جلائلها ودقائقها حتى لا يتوهم أن دقائق النعم مما لا يلتفت إليها ولا يسأل منه تعالى استحياء منه تعالى وزعما أن الحاجة اليسيرة لا تسأل إلا من منعم يسير القدر. فالله تعالى لما اتبع
صفحه ۵۸