المعنى، كما في قطع وقطع وكبار وكبار، وذلك إنما تؤخذ تارة باعتبار الكمية وأخرى باعتبار الكيفية. فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن. وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جسام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة. وإنما قدم والقياس يقتضي كونه كثير الكمية نظرا إلى كثرة متعلقة فهو قليل الكيفية لقلة الدنيا وسرعة انصرامها وكثرة شوائبها، والواصل في الآخرة مع كونه قليل الكمية باعتبار قلة من يصل إليه وهم الذين ماتوا على الإسلام فهو كثير الكيفية لكونه مستلزما للملك المؤبد والنعيم المخلد. فإن نظر إلى أن زيادة المعنى في رحمن باعتبار الكمية يقال: يا رحمن الدنيا أي يا من كثرت آثار رحمته في الدنيا من حيث إنها تصل إلى كل مخلوق، ويقال: يا رحيم الآخرة لأن كمية آثار رحمته في الآخر ليس مثل كميتها في الدنيا لأنها تختص بالمؤمن في الآخرة، وإن نظر إلى زيادة المعنى في رحمن باعتبار الكيفية يقال: يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا أي يا من قويت وجلت آثار رحمته في الدارين ولا يقال: يا رحمن الدنيا بل يقال: يا رحيم الدنيا لأن النعم الدنيوية منها جليلة وحقيرة. قوله: (وإنما قدم) جواب عما يقال: لما كان الرحمن أبلغ من الرحيم كان ينبغي أن يقدم الرحيم لتظهر فائدة ذكر الرحمن بعده لأنه لما كان أبلغ من الرحيم كان مشتملا على معنى الرحيم مع زيادة فيفيد ذكره بعد ذكر الرحيم، وأما إذا قدم الأبلغ فلا يكون لذكر الأدنى بعده فائدة. فأوجه تقديم الأبلغ ههنا؟ وأجاب عنه بأربعة أوجه: تقرير الوجه الأول أن أبلغيه الرحمن باعتبار الكمية ودلالته على كثرة آثار رحمته فتكون الرحمة المدلول عليها بلفظ الرحمن هي الرحمة الدنيوية وهي متقدمة في الوجود على الرحمة الأخروية فناسب أن يقدم اللفظ الدال عليها في الذكر أيضا، وتقرير الوجه الثاني أن الرحمن من حيث إنه لا يوصف به غيره تعالى صار كالعلم المختص بذاته تعالى فناسب أن يقارن ذكره ذكر لفظ الجلالة الذي هو علم بخلاف الرحيم فإنه يوصف به غيره تعالى، وإنما قلنا إن الرحمن لا يوصف به غيره تعالى لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وكونه منعما حقيقيا إشارة إلى أن اتصافه تعالى بهذه الصفة اتصاف حقيقي بحيث لا يشوبه شائبة تجوز وتوسط غير وكونه بالغا في الرحمة غايتها إشارة إلى أنه إنما ينعم على عباده بمجرد الرحمة والعناية للمحتاج بقضاء حاجته وأنه لا يستعيض أي لا يطلب عوضا بوجه ما من المنعم عليه بمقابلة لطفه وإنعامه، فإن الباء في قوله: «بلطفه» وإنعامه للمقابلة وذلك العوض إما جلب نفع أو دفع ضر وأشار إلى الأول بقوله: «يريد به جزيل ثواب» من الحق تعالى في العقبى: «أو جميل ثناء» من الخلق في الدنيا. وأشار إلى الثاني بقوله: «أو يزيح» أي يزيل «ربقة الخسة» أي عارها والاستنكاف عنها فإن من يمسك ماله عن فقير يستحقه يعد خسيسا
صفحه ۵۷