عبقرية شكسبير
شكسبير - ولا أتوخى وصف مقدرته الفنية التي لم يجاره فيها أحد - كان أصدق الناس خبرة بقلوب الناس. انقسموا في ذهنه إلى سلاسل، كل سلسة تتشاكل من ناحية المزاج الجسدي والتكوين العقلي، والأثر الوراثي، والاندفاع بعوامل الزمان والمكان، ولها مثلها الأعلى.
وجه مصباح فكره النقاد إلى كل ما يشهده من سير المعاصرين، أو يطالعه من سير المتقدمين، وتبين به أين تجتمع القوى المحركة لبروز فضيلة ما بأظهر صورها أو رذيلة ما بأنكر مقدماتها ونتائجها، واتخذ ممن اجتمعت فيه تلك القوى شخصا يرفعه إلى أفق الإبداع، وينطقه بأخفى ما تجيش به النفس، وأجمعه لأشتات النوازع، في أجهر ما يكون الصوت، وأفصح ما يكون اللفظ، وأبلغ ما ينساق المعنى وراء المعنى، ليقع أشد مواقعه من آذان السامعين، ومن أذهان المطالعين أبد الدهر، وأبعد ما تترامى الحدود بطبقات العالمين، لا فرق في الشخص الذى يهيئه بين أن يكون أميرا أو أجيرا، بطلا محاربا أو وادعا أمينا، مطماعا قديرا أو قنوعا مستكينا، مشاء بنميم، مضمرا للكيد، أو مكشوف السريرة سليم النية، فيضيفه إلى المئات من الأشخاص الذين أبرز سرائرهم الخاصة في قصصه، وأعاد بهم خبايا الإنسانية مرفوعة عنها الحجب، ومحصورة بإيجاز جامع مانع في تلك السلاسل المحدودة المتفرعة عليها أنواعها المنوعة بلا حد ولا نهاية.
قوة ذهنية فائقة كأن الله (سبحانه وتعالى) جلا لها سر إبداعه وتقديره في عباده. وقد شهد جمهور الأدباء وأرباب الفن في كل بلد من بلدان العالم، أن قصة «هملت» هي الرائعة الأولى بين الروائع الكبرى التي ولدتها قريحة «شكسبير»، ولهذا مثلت في كل مسارح الأمم من غربية وشرقية على توالي ما تناقلتها وتدارستها الأمم، وتكرر تمثيلها في كل حواضرها، وقد ساهمت مصر بحظ في الاستمتاع بمشاهدة تلك الرائعة الباهرة، فتداولتها مسارحها منذ أعوام، وما زالت في كل عام تزداد أخذا بألباب الجمهور، كما أن الجمهور يزداد إعجابا بمحاسنها، وإكبارا لآيات الفصاحة والبلاغة فيها.
مقدمة
هملت أمير دانمرك
أصبحت «جرترود» (Gertrude)
ملكة «دانمرك» أرملة بعد أن توفي زوجها الملك «هملت» فجأة، ولكنها لم تلبث أرملة بعد وفاته إلا أقل من شهرين، ثم تزوجت بأخيه «كلوديوس». وعد الناس كلهم وقتئذ هذا الزواج أمرا غريبا ينطوي على الطيش وبلادة الحس، أو على ما هو شر منهما. ذلك أن «كلوديوس» هذا لم يكن يشبه زوجها الأول في خلقه أو خلقه بل كان دميما في مظهره، وحقيرا دنيئا في مخبره. وارتاب بعض الناس في أمره فقالوا: إنه قد عمل في الخفاء على التخلص من أخيه الملك السابق؛ لتتاح له فرصة الزواج بأرملته، والجلوس على عرش الدانمرك، مكان وارثه الشرعى الأمير الصغير ابن الملك السابق.
ولم يؤثر هذا العمل الطائش الذى أقدمت عليه الملكة في أحد تأثيره في الأمير الشاب، الذى كان يحب أباه الميت ويجل ذكراه إجلالا يكاد يبلغ حد العبادة. وكان هذا الشاب مرهف الحس، دقيق الشعور بالشرف، جم الأدب، كثير التجمل والظرف في سلوكه، فآلمه وحز في قلبه مسلك أمه «جرترود» الشائن. وأثر فيه حزنه على أبيه وما لحقه من المهانة بزواج أمه، فاستسلم للهم والكآبة، وفقد بشره ومرحه وجمال منظره، ولم يبق له شيء من ولعه السابق بكتبه، وكره كل ما يلائم شبابه من ضروب الرياضة والألعاب، وسئم العالم الذي خال أن الشر قد طغى عليه حتى لم يبق فيه موضع للخير.
ولم يكن ذلك الذي أحزنه وأمر عيشه أنه سيحرم حقه الموروث في الجلوس على العرش، وإن كان هذا الحرمان في ذاته مما يفت في عضد أمير شاب عزيز النفس ويسقط منزلته. ولكن الذى آلم قلبه، وأكسف باله، وقضى على ما كان له من مرح وبهجة، هو ما أظهرته أمه من استخفاف بذكرى أبيه، ذلك الأب الذي كان لها زوجا محبا، لين الجانب، دمث الأخلاق، مع أنها كانت تبدو دائما زوجة محبة مطيعة، تتعلق به كأن عواطفها قد نبتت عليه. والآن بعد شهرين من وفاته، أو بعد أقل من شهرين كما بدا للأمير الشاب، تزوجت من جديد، وكان زوجها عمه أخا زوجها المتوفى، وهو زوج تأباه الكرامة ولا تجيزه الشرائع لما بين الزوجين من قربى، ويزيده بعدا عن الكرامة تلك السرعة المعيبة التي تم بها، وما يتصف به الرجل الذى اختارته زوجا لها، وشريكا في ملكها من أخلاق هى أبعد ما تكون عن أخلاق الملوك. هذا هو الذى فت في عضد هذا الأمير الشاب النبيل، وحطم قلبه أكثر مما لو كان قد خسر عشر ممالك لا مملكة واحدة.
صفحه نامشخص