عبقرية شكسبير
مقدمة
شخصيات الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
عبقرية شكسبير
مقدمة
شخصيات الرواية
صفحه نامشخص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
هملت
هملت
تأليف
ويليام شكسبير
ترجمة
خليل مطران
صفحه نامشخص
عبقرية شكسبير
شكسبير - ولا أتوخى وصف مقدرته الفنية التي لم يجاره فيها أحد - كان أصدق الناس خبرة بقلوب الناس. انقسموا في ذهنه إلى سلاسل، كل سلسة تتشاكل من ناحية المزاج الجسدي والتكوين العقلي، والأثر الوراثي، والاندفاع بعوامل الزمان والمكان، ولها مثلها الأعلى.
وجه مصباح فكره النقاد إلى كل ما يشهده من سير المعاصرين، أو يطالعه من سير المتقدمين، وتبين به أين تجتمع القوى المحركة لبروز فضيلة ما بأظهر صورها أو رذيلة ما بأنكر مقدماتها ونتائجها، واتخذ ممن اجتمعت فيه تلك القوى شخصا يرفعه إلى أفق الإبداع، وينطقه بأخفى ما تجيش به النفس، وأجمعه لأشتات النوازع، في أجهر ما يكون الصوت، وأفصح ما يكون اللفظ، وأبلغ ما ينساق المعنى وراء المعنى، ليقع أشد مواقعه من آذان السامعين، ومن أذهان المطالعين أبد الدهر، وأبعد ما تترامى الحدود بطبقات العالمين، لا فرق في الشخص الذى يهيئه بين أن يكون أميرا أو أجيرا، بطلا محاربا أو وادعا أمينا، مطماعا قديرا أو قنوعا مستكينا، مشاء بنميم، مضمرا للكيد، أو مكشوف السريرة سليم النية، فيضيفه إلى المئات من الأشخاص الذين أبرز سرائرهم الخاصة في قصصه، وأعاد بهم خبايا الإنسانية مرفوعة عنها الحجب، ومحصورة بإيجاز جامع مانع في تلك السلاسل المحدودة المتفرعة عليها أنواعها المنوعة بلا حد ولا نهاية.
قوة ذهنية فائقة كأن الله (سبحانه وتعالى) جلا لها سر إبداعه وتقديره في عباده. وقد شهد جمهور الأدباء وأرباب الفن في كل بلد من بلدان العالم، أن قصة «هملت» هي الرائعة الأولى بين الروائع الكبرى التي ولدتها قريحة «شكسبير»، ولهذا مثلت في كل مسارح الأمم من غربية وشرقية على توالي ما تناقلتها وتدارستها الأمم، وتكرر تمثيلها في كل حواضرها، وقد ساهمت مصر بحظ في الاستمتاع بمشاهدة تلك الرائعة الباهرة، فتداولتها مسارحها منذ أعوام، وما زالت في كل عام تزداد أخذا بألباب الجمهور، كما أن الجمهور يزداد إعجابا بمحاسنها، وإكبارا لآيات الفصاحة والبلاغة فيها.
مقدمة
هملت أمير دانمرك
أصبحت «جرترود» (Gertrude)
ملكة «دانمرك» أرملة بعد أن توفي زوجها الملك «هملت» فجأة، ولكنها لم تلبث أرملة بعد وفاته إلا أقل من شهرين، ثم تزوجت بأخيه «كلوديوس». وعد الناس كلهم وقتئذ هذا الزواج أمرا غريبا ينطوي على الطيش وبلادة الحس، أو على ما هو شر منهما. ذلك أن «كلوديوس» هذا لم يكن يشبه زوجها الأول في خلقه أو خلقه بل كان دميما في مظهره، وحقيرا دنيئا في مخبره. وارتاب بعض الناس في أمره فقالوا: إنه قد عمل في الخفاء على التخلص من أخيه الملك السابق؛ لتتاح له فرصة الزواج بأرملته، والجلوس على عرش الدانمرك، مكان وارثه الشرعى الأمير الصغير ابن الملك السابق.
ولم يؤثر هذا العمل الطائش الذى أقدمت عليه الملكة في أحد تأثيره في الأمير الشاب، الذى كان يحب أباه الميت ويجل ذكراه إجلالا يكاد يبلغ حد العبادة. وكان هذا الشاب مرهف الحس، دقيق الشعور بالشرف، جم الأدب، كثير التجمل والظرف في سلوكه، فآلمه وحز في قلبه مسلك أمه «جرترود» الشائن. وأثر فيه حزنه على أبيه وما لحقه من المهانة بزواج أمه، فاستسلم للهم والكآبة، وفقد بشره ومرحه وجمال منظره، ولم يبق له شيء من ولعه السابق بكتبه، وكره كل ما يلائم شبابه من ضروب الرياضة والألعاب، وسئم العالم الذي خال أن الشر قد طغى عليه حتى لم يبق فيه موضع للخير.
ولم يكن ذلك الذي أحزنه وأمر عيشه أنه سيحرم حقه الموروث في الجلوس على العرش، وإن كان هذا الحرمان في ذاته مما يفت في عضد أمير شاب عزيز النفس ويسقط منزلته. ولكن الذى آلم قلبه، وأكسف باله، وقضى على ما كان له من مرح وبهجة، هو ما أظهرته أمه من استخفاف بذكرى أبيه، ذلك الأب الذي كان لها زوجا محبا، لين الجانب، دمث الأخلاق، مع أنها كانت تبدو دائما زوجة محبة مطيعة، تتعلق به كأن عواطفها قد نبتت عليه. والآن بعد شهرين من وفاته، أو بعد أقل من شهرين كما بدا للأمير الشاب، تزوجت من جديد، وكان زوجها عمه أخا زوجها المتوفى، وهو زوج تأباه الكرامة ولا تجيزه الشرائع لما بين الزوجين من قربى، ويزيده بعدا عن الكرامة تلك السرعة المعيبة التي تم بها، وما يتصف به الرجل الذى اختارته زوجا لها، وشريكا في ملكها من أخلاق هى أبعد ما تكون عن أخلاق الملوك. هذا هو الذى فت في عضد هذا الأمير الشاب النبيل، وحطم قلبه أكثر مما لو كان قد خسر عشر ممالك لا مملكة واحدة.
صفحه نامشخص
وحاولت أمه «جرترود» وحاول الملك - دون جدوى - أن يسلياه ويذهبا عنه الحزن، وظل لا يرى في القصر إلا في ثياب حالكة السواد حزنا على موت أبيه الملك، ولم يبدل هذا اللون في يوم من الأيام حتى ولا في اليوم الذى تزوجت فيه والدته مجاملة لها، ولم يستطع أحد أن يقنعه بالمشاركة في حفلات ذلك اليوم الشائن في نظره ولا في مسراته.
وكان أشد ما يكربه ما خامره من الشك في موت أبيه، وقد قال «كلوديوس» إنه مات من لدغة أفعى، ولكن «هملت» الشاب الفطن كان يظن أن هذه الأفعى لم تكن إلا «كلوديوس» نفسه، وأن عمه قد قتله ليرث ملكه، وأن الأفعى التى لدغت أباه تتربع الآن على عرشه.
وتحير «هملت» في أمره فلم يدر ما هو نصيب هذا الظن من الصواب أو الخطأ، أو ما يقول في أمر والدته، فهل كانت مطلعة على سر هذا القتل؟ وهل حدث برضاها أو علمها أو بعدم رضاها وعلمها؟ هذه هى الظنون التى فتئت تقلق بال «هملت» وتنغص عليه حياته.
وترامت إلى «هملت» إشاعة فحواها أن بعض الجنود شاهدوا في أثناء حراستهم في منتصف الليل طيفا شبيها كل الشبه بأبيه الملك المتوفى، واقفا على الطوار أمام القصر ليلتين متواليتين أو ثلاث ليال متوالية. وقالوا: إن الطيف كان في كل مرة يأتى مدرعا من قمة رأسه إلى أخمصي قدميه كما كان يفعل الملك، ولم يختلف أحد ممن رأوه، ومن بينهم «هوراشيو» (Horatio) - صديق «هملت» الحميم - عن سائر زملائه في وصف هيئته أو ساعة مجيئه، فقالوا: إنه كان يقبل عليهم عندما تدق الساعة الثانية عشرة، وإنه كان يبدو شاحب اللون ينم وجهه عن حزن أكثر مما ينم عن غضب، وكانت لحيته مربدة سوداء تتخللها شعرات فضية كما كانوا يرونها في حياته، وقالوا إنهم لما خاطبوا الطيف لم يرد عليهم، وخيل إليهم مرة أنه رفع رأسه وتحرك حركة كأنه يريد أن يخاطبهم، ولكن ديك الصباح صاح في تلك اللحظة فتراجع الطيف مسرعا واختفى عن أنظارهم.
ودهش الأمير الشاب من هذه القصة التى لم يكن فيها شيء من التناقض يحمله على إنكارها، واعتقد أن الطيف الذي رأوه طيف أبيه، واعتزم أن يشترك مع الجند في الحراسة في تلك الليلة حتى تتاح له فرصة رؤيته، وقال في نفسه: «إن الطيف لم يجئ عبثا، وإنما جاء لأن لديه سرا يريد أن يفضي به، وإنه سوف يتحدث به إلي وإن ظل صامتا حتى ذلك الوقت»، وأخذ يترقب مجيء الليل وهو على أحر من الجمر.
فلما جن الليل وقف مع «هوراشيو» وحارس آخر يدعى «مرسلس» (Mercellus)
على الطوار الذي اعتاد الطيف أن يمشي عليه، الليلة قرة وكان الهواء قارس البرد فوق عادته، وشرع «هملت» و«هوراشيو» وزميلهما الثالث يتحدثون عن بردها حتى قطع عليهم حديثهم بقوله: إن الطيف مقبل عليهم.
فلما رأى «هملت» روح أبيه ارتاع ودهش لرؤيته، ثم أهاب بالملائكة وأهل السماوات أن يقوه الشر هو ومن معه؛ لأنه لم يك يعرف ما إذا كان هذا الروح طيب أو خبيث، وما إذا كان يبغي خيرا أو شرا، ثم سكن روعه شيئا فشيئا، وخيل إليه أن أباه ينظر إليه نظرة الحزن والأسى، وكأنه يريد أن يتحدث إليه، وبدا له أن الطيف لا يختلف في شيء عما كان عليه والده قبل موته، فلم يستطع «هملت» أن يظل صامتا بل تقدم إليه وناداه باسمه قائلا: «هملت»! مليكي! أبي! واستحلفه أن ينبئه عن سبب خروجه من قبره، وقد رأوه يوارى مطمئنا فيه، وعودته إلى هذا العالم مرة أخرى ليرى الأرض ونور القمر. وتوسل إليه أن يخبره ما إذا كان يستطيع هو ومن معه أن يفعلوا شيئا يريحه ويهدئ روحه المضطرب. وأشار الطيف إلى «هملت» أن يصحبه إلى مكان منعزل لا يراهما فيه أحد، وحاول «هوراشيو» و«مرسلس» أن يقنعا الأمير الشاب بألا يسير وراءه لئلا يكون من الأرواح الخبيثة، فيذهب به إلى البحر القريب، أو قمة صخرة عالية، ثم ينقلب شبحا مرعبا يرتاع منه الأمير ويفقد صوابه، ولكن نصحهما ورجاءهما لم يثنيا من عزم الأمير فقد كانت الحياة لديه هينة رخيصة، لا يعبأ بها ولا يخشى فقدها، أما روحه فماذا يستطيع الطيف أن يفعل به وهو شيء خالد أبدي كالطيف نفسه؟ وأحس «هملت» بأنه قد أوتي شجاعة الأسود، فانتزع نفسه من صاحبيه وهما يبذلان جهدهما في أن يمسكا به، وأخذ يتبع الطيف حيث أراد.
ولما انفرد الطيف به نطق وقال: إنه طيف أبيه «هملت» الذي اغتيل ظلما وغدرا، ووصف له طريقة اغتياله، فقال الذى فعل به ذلك هو أخوه «كلوديوس»، - عم «هملت» الصغير - الذي حامت حوله ظنونه من قبل - لكي يجلس على عرشه وينام في فراشه، فبينما هو نائم في حديقته، كما كان يفعل دائما وقت الظهيرة، إذ تسلل إليه هذا الأخ الغادر وصب في أذنيه عصير الشيكران السام، وهو نبات بينه وبين الحياة عداء، فإذا وصل شيء منه إلى جسم الإنسان انساب في عروقه انسياب الزئبق، وجمد دمه ونشر على جلده كله طبقة شبيهة بالجذام. وهكذا جاءه هذا الأخ وهو مطمئن في نومه، وانتزعه في غمضة عين من تاجه وملكه وحياته، ثم استحلف الطيف «هملت»، إذا كان في قلبه حب لأبيه، أن يثأر به ويقتص من قاتله الأثيم. وأظهر الأب شديد أسفه لولده؛ لأن أمه حادت عن سبيل الفضيلة، فلم تستمسك بحبها لبعلها الأول وتزوجت بقاتله، ولكنه حذره من أن يسلك سبيل العنف مع والدته، مهما كانت الوسائل التى يتخذها للقصاص من عمه الشرير، وطلب إليه أن يترك هذه الأم للعدالة الإلهية ولعذاب الضمير، ووعد «هملت» أن يطيع الطيف في كل ما أمره به، ثم اختفى الطيف عن الأنظار.
ولما خلا «هملت» إلى نفسه أقسم أن ينسى لساعته كل ما انطبع في ذاكرته، وكل ما عرفه من كتبه أو مشاهداته، وألا يحتفظ في عقله إلا بما نبأه به الروح وما أمره بتنفيذه. لم يفض «هملت» بتفاصيل ما دار بينه وبين روح أبيه إلا لصديقه العزيز «هوراشيو»، وحذره هو و«مرسلس» من أن يبوحا بشيء مما شاهداه في تلك الليلة.
صفحه نامشخص
وكان من أثر الرعب الذي استولى على مشاعر «هملت» من مرأى الطيف أن كاد يجن لهول ما رأى وكادت تختل موازين عقله؛ وذلك لأنه كان من قبل ضعيفا منهوك القوى مشتت البال. وخشي أن يبقى هذا الأثر في نفسه فيلفت إليه الأنظار، ويأخذ عمه منه حذره إذا ظن أنه يدبر له شرا، أو أنه يعرف عن موت أبيه أكثر مما يتظاهر به، فاتخذ في تلك الساعة ذلك القرار العجيب، وهو أن يتصنع الجنون لاعتقاده أن عمه إذا رآه على هذه الحال أيقن بأنه عاجز كل العجز عن أن يفكر في أي أمر جدي، فضلا عن أن هذا الجنون المتصنع هو خير ما يخفي به اضطرابه الحقيقي.
وبدا «هملت» من ذلك الحين غريبا في زيه وحديثه وتصرفه، وأتقن تصنع الجنون إتقانا خدع به الملك والملكة، وكانا يظنان أن حزنه على أبيه لا يكفي لاضطراب عقله - لأنهما لا يعرفان ظهور الطيف - فلم يشكا في أن الحب هو منشؤه، وخالا أنهما قد عرفا الفتاة التى تعلق بها قلبه.
وذلك أن «هملت» كان قبل أن يستكين للحزن الذي سلف ذكره قد أحب فتاة حسناء تدعى «أوفيليا» (Ophelia)
ابنة «بولونيوس» (Polonius)
كبير مستشاري الملك في شؤون الدولة، وكان قد أرسل إليها رسائل وخواتم وأظهر لها مرارا تعلقه بها، وطلب إليها بإلحاح وبوسائل طاهرة شريفة أن تعطف عليه وتحبه. وصدقت هي توسله وأيمانه، ولكن الكآبة التي استولت عليه أخيرا قد صرفته عنها . ولما اعتزم أن يتصنع الجنون تكلف أيضا بعض القسوة والخشونة في معاملتها، ولكن هذه الفتاة الطيبة لم تتهمه بالغدر وعدم الوفاء، بل أقنعت نفسها بأن الذي صرفه عنها وجعله أقل اكتراثا بها هو اضطراب عقله لا قسوة عليها متأصلة في قلبه. وشبهت ما كان له من مواهب شريفة وذكاء مفرط أفسدهما ما طغى عليهما من حزن شديد، شبهت هذه المواهب وهذا الذكاء بالأجراس الموسيقية التى ترسل أعذب النغمات وأشجاها، ولكنها إذا عبثت بها الأيدي أو دقت بغير يد صناع أحدثت نشازا وأصواتا منكرة تؤذي السمع.
ولم يكن العمل الصعب الذي هو مقدم عليه، وهو القصاص من قاتل أبيه، مما يتفق مع الغزل وما فيه من عبث، أو مما يسمح له بأن تجيش في صدره عاطفة الحب التي بدت له الآن غاية في السخف، ولكن هذا العمل نفسه لم يكن ليمحو من عقله كل تفكيره في «أوفيليا»، بل ظلت ذكراها تعاوده الفينة بعد الفينة، وفي ساعة من هذه الساعات ظن أنه قد قسا على هذه الفتاة الحسناء لغير سبب معقول، فكتب إليها رسالة وصف فيها عواطف الحب التى كانت تجيش في صدره بعبارات شاذة غريبة تتفق مع ما يدعيه من جنون، ولكنها مع ذلك كان يمتزج بها شيء من العواطف الحقة، تبينت منها هذه الفتاة النبيلة أنه لا يزال يكن لها في أعماق قلبه حبا خالصا قويا. وقد أمرها في هذه الرسالة أن تشك في أن النجوم من نار، وأن الشمس تجري في فلكها، وأن تشك في الصدق نفسه وترميه بالكذب، ولكن عليها ألا تشك قط في أنه يحبها، إلى غير ذلك من العبارات الشاذة الغريبة.
ورأت «أوفيليا» أن من حق أبيها عليها أن تطلعه على هذا الخطاب، ورأى الشيخ أن من واجبه أن يطلع عليه الملك والملكة، وظن الاثنان من ذلك الحين أن الحب هو الذي سلب عقله، وتمنت الملكة أن يكون جمال «أوفيليا» البارع هو الذى يدفعه إلى هذه الأطوار الغريبة؛ لأن هذا يقوي أملها في أن جمالها وفضائلها قد يرجعان به إلى سابق عهده، فتعود له ولها كرامتهما الأولى.
ولكنها قدرت فأخطأت التقدير، فلقد كان مرض «هملت» أعمق مما تظن، وأشد من أن يشفيه هذا العلاج. لقد ظل طيف أبيه الذي شاهده من قبل ينتاب خياله، ولم يكن ليطمئن له بال حتى ينفذ ما أمره به من الانتقام لوالده القتيل. وكان يرى أن كل ساعة تمر به إثم لا يغتفر له وعصيان لأمر والده، ولكن قتل الملك ومن حوله حراسه وجنده لم يكن بالأمر الهين، ووجود أمه مع الملك في معظم الأوقات عقبة في سبيله لا يستطيع التغلب عليها. وفوق هذا وذاك فإن هذا المغتصب هو زوج أمه، وهذا في حد ذاته يقلق باله بعض القلق ويوهن من عزيمته، وفضلا على هذا كله فإن اعتداء الإنسان على حياة أخيه الإنسان جرم شنيع بغيض لا يطيقه شخص أوتي من رقة الطباع ودماثة الخلق ما أوتي «هملت». وقد مر عليه زمن طويل وهو حزين مكتئب منقبض الصدر، فأوهن ذلك عزمه ومنعه من أن يحزم أمره ويسير في قصده إلى غايته، وكان لا يزال يخامره بعض الشك في أن هذا الطيف الذي رآه هو روح أبيه حقا، وليس هو الشيطان الذي قيل له: إن في استطاعته أن يتخذ لنفسه أية صورة يريدها، فاتخذ صورة أبيه ليستفيد من ضعفه وحزنه عليه، ويدفعه إلى التورط في هذا العمل الجريء العنيف؛ وهو الفتك بعمه. ولهذا كله اعتزم أن يتريث في الأمر حتى تتجمع لديه أسباب أقوى من حديث الطيف الذي ربما كان الوهم هو الذي صوره له.
وبينا هو في هذه الحال من التردد إذ وفد إلى بلاط الملك جماعة من الممثلين كان «هملت» فيما مضى يسر بتمثيلهم، وكان يعجبه بنوع خاص أن يسمع أحدهم يلقي خطابا محزنا يصف فيه موت الشيخ «بريام» (Priam)
ملك «طروادة» وحزن الملكة «هكيبا» (Hecuba) . واختفى «هملت» بالممثلين أصدقائه الأقدمين، وتذكر أن هذا الخطاب كان يطربه من قبل فطلب إلى ملقيه أن يعيده على مسامعه، فألقاه هذا الممثل إلقاء بارعا أظهر فيه ما ارتكب من القسوة في قتل الملك الشيخ الضعيف، وما حل بشعبه وبلده من كوارث حين التهمت النار المدينة، وما أصاب الملكة العجوز من حزن ذهب بعقلها، فأخذت تعدو في القصر حافية القدمين، وفي مكان التاج من رأسها خرقة بالية، وعليها بدل الملابس الملكية قطعة من لحاف حول وسطها اختطفتها على عجل. وقد أجاد الممثل تمثيل هذا الدور وأتقنه إتقانا أثر في جميع الحاضرين، فبكوا أسى وحسرة، حتى إن الممثل نفسه قد أثر فيه الموقف فألقى خطابه بصوت أجش ودمع منهمر.
صفحه نامشخص
ورأى «هملت» هذا فقال في نفسه إنه إذا كان في وسع هذا الممثل أن يظهر هذا الانفعال الشديد وهو يلقي خطابا موضوعا، فيبكي من فرط حزنه على سيدة لم تقع عليها عينه - على «هكيبا» التي مضى على موتها مئات السنين - إذا كان في وسع الممثل أن يفعل هذا فما باله هو يبقى خاملا بليدا، ولديه من الأسباب الحقة ما يثيره ويلهب نفسه؟ لديه ملك حق وأب عزيز قد قتل
غيلة ولم يتأثر هو بذلك إلا قليلا، وقد ظل غله خامدا ونسي ثأر أبيه حتى ليكاد دمه يذهب هدرا.
وبينا هو يفكر في التمثيل والممثلين والأثر الذي تتركه في النظارة رواية جيدة الوضع متقنة التمثيل، تذكر قصة قاتل رأى في يوم من الأيام مقتلا يمثل على المسرح فتأثر من إتقان التمثيل وانطباقه على الحقيقة، فلم يسعه إلا أن يقر من فوره بجرمه. واعتزم «هملت» أن يدعو الممثلين أن يمثلوا أمام عمه رواية شبيهة بمقتل أبيه، وأن يراقب هو عمه عن كثب ليرى ما يحدثه التمثيل من الأثر في نفسه، فيعرف عن يقين من ملامح وجهه أكان هو قاتل أبيه أم لم يكن. وأمر أن توضع لذلك رواية، ودعا إلى مشاهدة تمثيلها الملك والملكة.
وكان موضوع الرواية جريمة قتل ارتكبت في «ويانة»، وذهب ضحيتها الدوق. وكان اسم هذا الدوق «جنزاجو» (Gonzago)
واسم زوجته «ببتستة» (Baptista) ، وقد اغتيل الدوق في حديقته مسموما بيد أحد أقربائه الأدنين المسمى «لوسيانوس» (Lucianus)
طمعا في أملاكه، وبعد زمن قليل من موته أحبت القاتل زوجة الدوق «جنزاجو».
وشهد الملك تمثيل الرواية وهو لا يعلم بالشرك الذي نصب له، وشهدتها معه الملكة وحاشية القصر كلها، وجلس «هملت» إلى جانب الملك ليرقب منظره. وبدأت الرواية بحديث بين «جنزاجو» وزوجته أعربت فيه الزوجة عما تكنه لزوجها من حب خالص، وعن اعتزامها ألا تتخذ لها زوجا غيره إذا ما عاشت بعده، واستنزلت على نفسها اللعنات إذا ما فعلت غير هذا، وقالت: «إن اللاتي يتزوجن بعد موت أزواجهن هن اللاتي يقتلن بعولتهن الأولين». وشاهد «هملت» عمه الملك يمتقع لونه عندما سمع هذه العبارة ورأى أنها كان لها أسوأ الوقع في نفسه ونفس الملكة، فلما أن هم «لوسيانوس» أن يسم «جنزاجو» وهو نائم في حديقة قصره، ورأى الملك شبها شديدا بين هذا العمل وبين الجرم الذي ارتكبه هو حين سم أخاه الملك السابق في حديقته، فآلم ذلك ضميره ولم يقو على البقاء إلى آخر الرواية، بل طلب على حين غفلة أن تضاء الأنوار، وتظاهر بأنه قد أصابته فجأة نوبة من المرض، أو لعله قد شعر ببعض المرض حقيقة، فترك التمثيل مسرعا، ولما غادر الملك المكان لم يتم الممثلون الرواية، وكان فيما رآه «هملت» بعينه ما يكفي لإقناعه بأن ما حدثه به الطيف حقيقة لا وهم، وابتهج كما يبتهج الرجل إذا رفع عنه وزر كان ينقض ظهره، أو أيقن بأمر كان يشك فيه، وأقسم لصديقه «هوراشيو» أنه يراهن بألف جنيه على أن ما حدث به الطيف حق لا مراء فيه. ولكنه قبل أن يضع الخطة التي يتبعها للأخذ بثأره بعد أن ثبت له أن عمه هو الذي قتل أباه، بعثت إليه والدته تدعوه لتتحدث إليه حديثا خاصا في مخدعها.
وكان طلبها له إجابة لرغبة الملك، فقد أراد أن تنبه الأم ولدها إلى أن تصرفه الأخير قد أغضبهما جميعا، وأراد الملك أن يعرف كل ما يدور بينهما من الحديث، وظن أن عاطفة الأمومة قد تغري الملكة بالتحيز لولدها فتخفي عن الملك بعض ما يهمه أن يعرفه من أقوال «هملت»، فأمر «بولونيوس» مستشار الدولة الكبير أن يقف خلف الستائر في مخدع الملكة ليسمع ما يدور بينهما من غير أن يراه أحد. وكان هذا الاحتيال مما يلائم طبع «بولونيوس» كل الملاءمة، فقد قضى هذا الرجل عمره منغمسا في أساليب السياسة ومبادئها الملتوية، وكان يسره أن يعرف الأشياء بطريق الاحتيال المعوج البعيد.
وجاء «هملت» إلى والدته فشرعت تعنفه بأقسى الألفاظ على تصرفاته وأعماله، وقالت له: إنه قد أغضب أباه كثيرا - تريد بذلك أنه أغضب عمه الملك الذي سمته أباه لأنه تزوج بها. واغتاظ «هملت» أشد الغيظ حين سمع أمه تدعو هذا النذل، الذي لا يعرف عنه أكثر من أنه قاتل أبيه الحق، بهذا الاسم الكريم المحبب إليه، فأجابها في شيء من الحدة: أمى، لقد أسأت أنت كثيرا إلى أبي. فقالت له أمه: إن هذا رد سخيف. فأجابها بقوله: إنه خير رد يستحقه السؤال. وسألته أمه هل نسي من هي التي يحدثها؟ فأجابها بقوله: ليتني أستطيع أن أنسى أنك الملكة التي تزوجت بأخي زوجها، وأنك أمي. ألا ليتك كنت غير ما أنت. فقالت له: إذا كان هذا مبلغ احترامك لي، فسأدعو من يستطيعون أن يتحدثوا إليك.
وهمت أن ترسل في طلب الملك أو «بولونيوس». ولكن «هملت» وقد سنحت له فرصة الاجتماع بها منفردا لم ير أن يتركها تفلت من يده حتى يحاول أن يشعرها بما في حياتها من إثم، فقبض على معصمها قبضة قوية، وأرغمها على الجلوس، وارتاعت الملكة لما شاهدته عليه من مظاهر الجد. وخشيت أن يدفعه جنونه إلى إيذائها، فصرخت صرخة عالية، وسمع من وراء الستار صوت ينادي: «وا غوثاه! أدركوا الملكة». وسمع «هملت» هذا الصوت فظنه صوت الملك نفسه مختبئا وراء الستار، فاستل سيفه وأخذ يطعن به المكان الذي جاء منه كأنه يطعن فأرا يجري فيه، وما زال يوالي الطعن حتى انقطع الصوت وظن أن صاحبه قد مات. فلما أخذ بعدئذ يقلب جسم القتيل لم يجده الملك بل وجده الشيخ «بولونيوس» المستشار المتطفل الذي وقف يتجسس عليه من وراء الستار. وصرخت الملكة قائلة: وا حسرتاه! أي جرم شنيع قد ارتكبت بطيشك. فأجابها «هملت»: حقا، إنه لجرم شنيع يا أماه، ولكنه لم يبلغ ما بلغه جرمك أنت التي قتلت ملكا وتزوجت بأخيه!
صفحه نامشخص
وكان «هملت» قد قطع في طريقه إلى غرضه شوطا لا يستطيع معه أن يقف عند ما وصل إليه، وكان الآن في حالة عقلية يستطيع فيها أن يفصح عما في قلبه لوالدته، فواصل حديثه إلى غايته. نعم، إن الأبناء يجب ألا يغلظوا القول لآبائهم إذا ما حدثوهم عن أخطائهم، لكنه لا حرج على الابن أن يخاطب أمه نفسها بشيء من الغلظة إذا ما ارتكبت جريمة شنيعة. وكان غرضه من هذه الغلظة إصلاح حالها لا تأنيبها فحسب؛ ولذلك أخذ هذ الأمير الطاهر يصف لأمه بعبارات قوية مؤثرة ما ارتكبته من جرم شنيع بنسيانها ذكرى أبيه المليك الميت، وزواجها بعد موته بقليل بأخيه الذي اشتهر بين الناس بأنه قاتله، وقال: إن هذه الفعلة التي فعلتها بعد الأيمان المغلظة التي أقسمتها بأن تكون وفية لزوجها الأول تكفي وحدها لأن تزعزع ثقة الناس بأيمان جميع النساء، وتحملهم على أن يعدوا الفضائل كلها كذبا ونفاقا، وعقود الزواج أقل شأنا من أيمان اللاعبين، والدين نفسه لهوا ولعبا وألفاظا تلوكها الألسنة. وكان مما قاله لها: إنها قد فعلت فعلة تنفطر منها السماوات وتنشق الأرض، ثم أخرج لها صورتين إحداهما للملك المتوفى زوجها الأول، والأخرى لزوجها الثاني الملك الحالي، وطلب إليها أن تتأمل ما بين الصورتين من فوارق. لقد كان لأبيه وجه سمح جميل كوجه الملائكة الأبرار، وكانت له غدائر كغدائر «أبوللو» (Apollo)
وجبهة كجبهة «جوبيتر» (Jupiter) ، وعينان كعيني «المريخ» (Mars) ، وكان إذا جلس كأنه «عطارد» نزل حديثا على جبل شامخ يناطح السماء، وقال لها: إن هذا هو الرجل الذي كان لها زوجا. ثم أراها صورة الرجل الذي تزوجت به بعده وقال: إنه رجل سقيم، بل هو السقام مجسم؛ لأنه أصاب أخاه السليم. وخجلت الملكة أشد الخجل حين كشف لها عن خبيئة نفسها، وأدركت ما هي عليه من ضلال وفساد، وسألها كيف تستطيع أن تعيش بعد الآن مع هذا الرجل، وتكون زوجة لمن قتل بيده زوجها الأول وأخذ منه التاج أخذ اللصوص. وبينا هو في حديثه إذ دخل الحجرة طيف أبيه في صورته التي كان عليها أيام حياته والتي رآه عليها من قبل، وسأله «هملت» في رعب شديد عما يريد، وقال الطيف: إنه جاء ليذكره بالثأر الذي عاهده عليه، والذي يلوح أنه نسيه، وطلب إليه أن يحدث أمه لئلا يقضي الحزن والرعب على حياتها. ثم اختفى ولم يره أحد غير«هملت»، وإن كان قد أشار إلى أمه إلى موضعه ووصفه لها، ولكنها لم تره وظنت أن «هملت» يحدث نفسه، فاستولى عليها الرعب وعزت ما تشاهده منه إلى اضطراب عقله. ولكن «هملت» طلب إليها ألا تحسن الظن بنفسها الخبيثة، فتحسب أن السبب الذي جاء بروح أبيه إلى هذه الأرض هو جنون ولدها لا شناعة جرمها، ورغب إليها أن تجس نبضه لتعرف أن قلبه يدق دقا منتظما لا كما تدق قلوب المجانين. ثم رجاها والدمع يفيض من عينيه أن تستغفر لذنبها وتندم على ما فات، وأن تتجنب في مستقبل أيامها صحبة الملك فلا تكون له كما تكون الأزواج، فإذا ما فعلت ذلك حفظت عهد أبيه وأظهرت أنها أم له حقا، طلب إليها عندئذ أن تدعو له بخير كما يطلب الأبناء دعاء أمهاتهم لهم، وعاهدته أمه على أن تطيع أمره وانتهى اجتماعها به.
وكان في وسع «هملت» وقتئذ أن يتبين من هو الشخص الذي قضى على حياته باندفاعه وتهوره المشؤوم، فلما رأى أنه قد قتل «بولونيوس» والد محبوبته «أوفيليا» نقل الجثة من مكانها، وكانت نفسه قد هدأت قليلا فأخذ يبكي حسرة على ما فعل.
واتخذ الملك هذا الحدث المشؤوم - وهومقتل «بولونيوس» - حجة تذرع بها لإخراج «هملت» من المملكة، وكان يود لو استطاع أن يقتله؛ لأنه يرى في وجوده خطرا عليه، ولكنه كان يخشى الشعب الذي يحب «هملت»، ويخشى الملكة التي كانت على الرغم من أخطائها مولعة بولدها الأمير، ولذلك أمر هذا الملك الماكر أن يحمل «هملت» على ظهر سفينة مسافرة إلى «إنجلترا» بحجة إنقاذه من تبعة قتل «بولونيوس»، وعهد بحراسته إلى رجلين من حاشيته، وأرسل معهما رسائل إلى بلاط «إنجلترا» التي كانت في ذلك الوقت خاضعة لمملكة ال «دانمرك» تؤدي لها الجزية، وطلب في هذه الرسائل أن يقتل «هملت» عندما تطأ قدماه أرض تلك البلاد لأسباب خاصة مختلفة ادعاها في رسائله. وارتاب «هملت» في الأمر وظن فيه غدرا، فحصل على الرسائل في أثناء الليل بطريقة خفية، واستطاع بمهارته أن يمحو منها اسمه ويضع بدله اسمي الرجلين اللذين كانا يرافقانه في رحلته، ثم ختم الرسائل كما كانت وأعادها إلى موضعها. وبعد أن سارت السفينة قليلا هجم عليها جماعة من لصوص البحار، ونشبت بينها وبينهم معركة بحرية، أراد «هملت» أن يبرهن فيها على شجاعته وشدة بأسه فهجم بمفرده على سفينة الأعداء وترك سفينته تفر من القتال فرار الجبان. وتركه الحارسان تتصرف فيه الأقدار واتخذا طريقهما في البحر إلى «إنجلترا»، سالكين إليها خير سبيل يستطيعان سلوكه، ومعهما الرسائل التي بدل «هملت» معناها فأوقعهما في شر أعمالهما. ووقع «هملت» أسيرا في يد اللصوص ولكنهم كانوا أعداء رحيمين، وعرفوا أسيرهم فأنزلوه إلى البر عند أقرب ثغر من ثغور ال «دانمرك»، لعل الأمير يستطيع أن يجيزهم على حسن صنيعهم بأن يشفع لهم عند الملك. وكتب «هملت» من مكانه رسالة إلى الملك، قص عليه فيها ما وقع له من الحادثات الغريبة التى عاد بسببها إلى بلاده، وأبلغه أنه سوف يمثل بين يدي جلالته غدا، فلما جاء وقعت عيناه أول ما وقعت على منظر أحزنه أشد الحزن.
وكان المنظر الذي رآه جنازة «أوفيليا» الفتاة الحسناء التي كان من قبل يهيم بحبها، وكان سبب موت هذه الفتاة أن موازين عقلها بدأت تختل بعد موت أبيها، فقد أثر في قلب هذه الفتاة الرقيق أن يغتال أبوها وأن يغتاله الأمير الذي تحبه، فلم يمض على موته إلا قليل من الوقت حتى ذهب عقلها كله، وأخذت تطوف الطرقات تقدم الأزهار إلى سيدات البلاط، وتقول لهن: إنها أعدت تلك الأزهار لجنازة أبيها. ثم تنشد أناشيد الحب تارة وألحان الموت مرة أخرى، ومنها ما ليس له معنى على الإطلاق، كأنها لا تذكر شيئا مما أصابها. وكانت هناك صفصافة تنمو مائلة على ضفة غدير، وتنعكس صورة أوراقها على صفحة الماء، فجاءت يوما إلى هذا الغدير حين غفلت عنها أعين الرقباء تحمل تيجانا صنعتها بيدها من خليط من الأقحوان والقريض والزهر والعشب، وتسلقت الصفصافة لتعلق تاجها على أغصانها، فانكسر الغصن وهوت الفتاة الحسناء هي والتاج وكل ما جمعته من الأزهار في مياه الغدير.
وحملتها ملابسها فوق الماء برهة من الزمن وأخذت تغني في أثنائها قطعا من ألحان قديمة كأنها لا تعي ما حل بها، أو كأنها من الخلائق التي تعيش في الماء. ولكنها لم تلبث إلا قليلا حتى امتلأت ملابسها ماء فثقلت وجذبتها إلى قاع الغدير، فقطعت عليها غناءها وماتت في الطين أشنع ميتة. وكانت جنازة هذه الفتاة الحسناء، هي التى يشيعها أخوها «لايرتس» (Laertes)
ويحضرها الملك والملكة وحاشيتهما حين أقبل «هملت» على المدينة.
ولم يدر «هملت» شيئا مما حدث، فوقف على جانب الطريق حتى لا يقطع على المحتفلين احتفالهم. ورأى الأزهار تنثر على القبر كما يفعل الناس عندما يدفنون الفتيات الأبكار، ونثرت الملكة هذه الأزهار بيدها وقالت وهي تنثرها: «إن الحسان تهدى إليهن أحسن الأشياء، لقد كنت أظن أيتها الغانية أني سأزين سرير عرسك، فإذا بي أنثر الأزهار على قبرك، أنت يا من كنت أرجو أن تكوني زوجة لولدي «هملت».
وسمع «هملت» أخاها يدعو ربه أن ينبت البنفسج على قبرها، ورآه يقفز مهتاجا إلى القبر وقد ذهب الحزن بعقله، ويأمر الخدم أن يهيلوا عليه جبالا من الثرى حتى يدفن معها. وعاد حب الفتاة الحسناء إلى قلبه ولم يطق أن يرى أخا يظهر من الحزن ما أظهره هذا الأخ؛ لأنه كان يظن أن حبه ل «أوفيليا» يعدل حب أربعين ألفا من الإخوة. وعندئذ أظهر «هملت» نفسه وقفز إلى القبر وراء «لايرتس»، وكأنه مجنون مثله أو أشد منه جنونا. وعرف «لايرتس» أنه «هملت» الذي يحمل وزر قتل أبيه وأخته، فقبض قبضة العدو الألد على عنقه، ولم يتركه حتى فرق بينهما الخدم. ولما فرغوا من تشييع الجنازة اعتذر «هملت» عن طيشه وتسرعه في إلقاء نفسه في القبر، كأنه يريد قتال «لايرتس»، وقال: إنه لم يطق أن يرى أحدا من الخلق أشد منه حزنا على «أوفيليا». وظن الناس حينا من الدهر أن العداوة قد زالت من قلب هذين الشابين النبيلين.
ولكن الملك الأثيم عم «هملت» أراد أن يتخذ من غضب «لايرتس» وحزنه على أبيه وأخته سببا يستعين به على هلاك الأمير، وأخذ يحرض «لايرتس» على أن يتذرع بما تم بينهما من صلح فيدعو «هملت» إلى مباراة ودية يظهران فيها براعتهما في المبارزة بالسيف. وقبل «هملت» الدعوة، وحدد يوم المباراة، وشهده جميع رجال البلاط وأعد «لايرتس» بأمر الملك سيفا مسموما، وتراهن رجال الحاشية بمبالغ طائلة؛ لأنهم كانوا يعرفون براعة «هملت» و«لايرتس» في المبارزة، وأخذ «هملت» السيوف القلفاء واختار واحدا منها دون أن يرتاب في أمر «لايرتس» أو يعنى بتفقد سيفه الذي لم يكن أقلف مثلها كما تقضي بذلك شريعة المبارزة، بل كان حادا مسموما.
صفحه نامشخص
وأخذ «لايرتس» أول الأمر يداعب «هملت»، وسمح له أن يتفوق عليه، وبالغ الملك المنافق في هذا الفوز، وأخذ يطنب في مدحه، وشرب نخب «هملت» وفوزه، وراهن على نتيجة المباراة رهانا كبيرا. ثم ازداد «لايرتس» حماسة بعد بضع جولات، وهجم على «هملت» هجمة عنيفة وطعنه طعنة قاتلة بحد سيفه المسموم. واهتاج «هملت»، ولم يكن يعرف كل ما دبره له «لايرتس» من غدر، واستبدل بسيفه العادي سيف «لايرتس» المسموم، وهجم به على خصمه وطعنه طعنة نجلاء ذاق بها وبال أمره. وصرخت الملكة في هذه اللحظة وقالت إنها سمت، وذلك أنها شربت وهي غافلة من إناء أعده الملك ليشرب منه «هملت» إذا ما خرج من المبارزة حران في حاجة إلى الماء. وكان هذا الملك الغادر قد دس في هذه الماء سما زعافا ليضمن به القضاء على «هملت» إذا ما نجا من سيف «لايرتس»، ونسي أن ينبه الملكة إلى حقيقة ما في الماء فشربته وماتت لساعتها، ونادت وهي تلفظ آخر أنفاسها أنها قضت نحبها مسمومة.
وتوقع «هملت» أن يكون في الأمر خيانة، فأمر أن تغلق الأبواب، وشرع يفحص عن الحقيقة، وطلب إليه «لايرتس» ألا يطيل البحث؛ لأنه هو الخائن الغادر، وأحس هذا الشاب بدنو أجله من أثر الجرح الذي أصابه به «هملت» فأقر بجرمه وبما جناه على نفسه، ولم يخف عن «هملت» أمر السيف المسموم، وأخبره أنه لن يعيش أكثر من نصف ساعة بعد ذلك الوقت؛ لأن هذا السم لا يرجى منه شفاء. ثم سأله أن يغفر له ذنبه، وقضى نحبه، وقال وهو في سكرة الموت: «إن الملك أصل هذا البلاء كله».
ورأى «هملت» أجله يتصرم، ورأى في السيف بقية من السم، فهجم به فجأة على عمه الغادر وطعنه بسنه في صدره، وبر بما وعد به روح أبيه، فنفذ أمره، وانتقم له من قاتله الأثيم. وشعر «هملت» بدنو أجله وانقضاء أنفاسه المعدودة فالتفت إلى صديقه العزيز «هوراشيو» الذي كان طوال الوقت يشاهد هذه المآسي المروعة، وطلب إليه أن يبقي على نفسه ليقص على العالم قصته، فقد بدت من «هوراشيو» في ذلك الوقت إشارة تنم عن عزمه على الانتحار ليقضي نحبه مع الأمير. وعاهده «هوراشيو» على أن يروي هذه القصة في صدق وأمانة؛ لأنه مطلع على جميع أسرارها. فلما أرضى «هملت» ضميره وتم له ما أراد تحطم قلبه النبيل، وانهمر الدمع من عيني «هوراشيو» ورفاقه الذين شاهدوا هذه المأساة، ودعوا الملائكة الكرام أن يرفقوا بروح الأمير الطيب النفس، اللين العريكة. وفي الحق أن «هملت» كان أميرا لين العريكة محبا للناس، رفيقا بهم، محببا إليهم جميعا لنبله وكرم سجاياه، وما من شك في أنه لو عاش لكان أعظم من جلس من الملوك على عرش ال «دانمرك».
شخصيات الرواية
كلوديوس:
ملك ال «الدانمرك».
هملت:
ابن الملك الراحل، وابن أخ الملك الحالي.
بولونيوس:
رئيس الديوان الملكي.
صفحه نامشخص
هوراشيو:
صديق حميم ل «هملت».
لايرتس:
ابن «بولونيوس».
مرسلس:
ضابط .
برناردو:
ضابط.
فرنسيسكو:
عسكري.
صفحه نامشخص
رينالدو:
خادم «بولونيوس».
رجال الحاشية:
فولتيمان.
كورنيليوس.
روزنكرنس.
جيلد تشترن.
أوزريك.
ممثلون:
مهرجان. وحفار قبور.
صفحه نامشخص
فورتنبراس:
أمير «النرويج»
سفراء إنجلترا.
السيدات:
جرترود:
ملكة ال «دانمرك» ووالدة «هملت».
أوفيليا:
ابنة «بولونيوس».
لوردات. سيدات. ضباط. عساكر. بحارة. مراسلون وتابعون آخرون.
شبح:
صفحه نامشخص
والد «هملت».
المنظر:
ال «دانمرك».
الزمن:
القرن الرابع عشر.
الفصل الأول
المشهد الأول
موقف مرصوف أمام القصر. «مسكن وقلعة» «فرنسيسكو» قائما للحراسة، و«برناردو» مقبلا عليه.
برناردو :
من الزول؟ تعرف.
صفحه نامشخص
فرنسيسكو :
لا، وإنما عليك الرد، قف، وقل من أنت؟
برناردو :
يحيا الملك.
فرنسيسكو :
أ «برناردو»؟
برناردو :
هو بعينه.
فرنسيسكو :
جئت في الميقات بالدقة.
صفحه نامشخص
برناردو :
سمعت ساعة تعلن انتصاف الليل. أدرك سريرك يا «فرنسيسكو».
فرنسيسكو :
ألف حمد لك على هذه المنة، البرد قارس، وقلبي في وحشة.
برناردو :
أكانت حراستك هادئة؟
فرنسيسكو :
لم يتحرك فأر في جحر.
برناردو :
اذهب راشدا طاب لك الليل، وإذا لقيت رفيقي في العسس «هوراشيو» و«مرسلس» فأوصهما بالإسراع في المجيء.
صفحه نامشخص
فرنسيسكو :
أظنهما بمسمع مني. هيا وقوفا. من الرجال؟ (يدخل «هوراشيو» و«مرسلس».)
هوراشيو :
أصدقاء لهذا البلد.
مرسلس :
ومن بطانة ملك ال «دانمرك»
فرنسيسكو :
طاب ليلكم.
مرسلس :
انصرف بسلام أيها الجندي الأمين. من حل محلك؟
صفحه نامشخص
فرنسيسكو : «برناردو» حل محلي، طاب ليلكم (يخرج فرنسيسكو) .
مرسلس :
إيه «برناردو».
برناردو :
ماذا تريد أ «هوراشيو» من أرى هناك؟
هوراشيو :
بضعة صغيرة منه، أو بعضه.
برناردو :
مرحبا «هوراشيو» مرحبا أيها الجواد «مرسلس».
مرسلس :
صفحه نامشخص
وبعد. أفعاد ذلك الطيف في هذه الليلة؟
برناردو :
لم أر شيئا.
مرسلس : «هوراشيو» يقول إن ذلك محض توهم منا، ولا يطيق تصديق تلك الرؤية الرائعة التي رأيناها نحن مرتين. لذلك ألححت عليه بمساهرتنا الليلة، دقيقة بدقيقة، حتى إذا بدا الطيف كعادته، تحقق منه وكلمه.
هوراشيو :
رويدكما، رويدكما. لن يرى ذلك الخيال.
برناردو :
اجلس هنيهة، ودعنا نحاصر أذنيك المستعصيتين على حديثنا مع أن ما وصفناه لك قد رأيناه ليلتين متتابعتين.
هوراشيو :
فلنجلس ونسمع «برناردو» يحدثنا عن ذلك.
صفحه نامشخص
برناردو :
في الليلة البارحة، بينما كان هذا النجم بعينه ... النجم الذي مطلعه إلى غرب القطب، قد سار سيرته حتى وصل إلى هذه الجهة التي يسطع فيها الآن من السماء، كنت و«مرسلس» في العسس، والساعة عندئذ نحو من الواحدة. (يدخل الطيف.)
مرسلس :
صه. اقطع كلامك. انظر ها هو ذا عائد.
برناردو :
إنما ظاهره ظاهر الملك الذي مات.
مرسلس :
أنت فصيح عليم. خاطبه يا «هوراشيو».
برناردو :
ألا يشبه الملك؟ تبينه يا «هوراشيو».
صفحه نامشخص
هوراشيو :
أشبه شيء به. إني لأقضي عجبا وأرتعد رهبا.
برناردو :
كأنه يرغب في أن يوجه إليه الخطاب.
مرسلس :
كلمه يا «هوراشيو».
هوراشيو :
من أنت أيها الطارق في هذه الساعة من الليل طروق الغاصب، متلبسا بشكل ذلك الملك النبيل الشجاع، الذي تمثلت به جلالة ال «دانمرك» زمنا ثم الآن دفنت بدفنه، باسم السماء أدعوك إلى التكلم، أجب.
مرسلس :
إنه لمغضب.
صفحه نامشخص
برناردو :
يتولى مترفعا.
هوراشيو :
قف. تكلم. تكلم. أعزم عليك. (يغيب الطيف.)
مرسلس :
مضى ولن يرد.
برناردو :
ما بالك يا «هوراشيو» قد أخذتك الرعدة، وامتقع وجهك. أليس هذ أكثر من الوهم! ما تظن؟
هوراشيو :
أعترف بين يدي ربي أنني لولا شهادة عيني لما آمنت.
صفحه نامشخص