طفا في صمت، منتظرا، وهو يتنفس ببطء وبعمق بينما أخذ شعور النشوة يشق طريقه بين خليط المشاعر العشوائي الذي ولدته العقاقير والتأمل والبيضة. لا يهم أنه كان على وشك أن يعيد معايشة مخاوفه الخاصة؛ فقد كان هذا هو ما يحركه: الدخول إلى عوالم متعددة من الخبرات البشرية؛ السفر عبر المكان والزمن والاحتمالات، كل ذلك في آن واحد.
كانت ماكينات الواقع الافتراضي منتشرة في كل مكان - فكانت هناك إجازات افتراضية، وعلاقات جنسية افتراضية، وشهرة افتراضية، كل ما تشتهيه النفس - غير أنها مقارنة بالبيضة لم تكن تعدو محض ألعاب فيديو عالية الدقة أو عروضا سحرية. كانت ماكينات الواقع الافتراضي تستخدم مجموعة متنوعة من الحيل كي تحاكي الحضور البدني، غير أن مركز الإحساس بالذات داخل الدماغ لا يمكن خداعه إلا بدرجة محدودة، وحين تدخل إحدى ماكينات الواقع الافتراضي فأنت تكون واعيا بذلك، ومن ثم فإن استدامة الوهم تعتمد على توقفك المتعمد عن إنكاره. لكن في حالة البيضة أنت تنخرط انخراطا تاما عبر كل الأطراف الحسية؛ وقد كانت العوالم التي دخلها الناس شديدة الإقناع لدرجة أنهم حين كانوا يستيقظون كانوا يبدون تائهين في عالم الواقع، وكأنهم في حلم.
اخترقت إبرة غشاء يقع في أحد الكابلات العصبية، وحقنت خليطا من الببتيدات العصبية. وهكذا نقل جونزاليس. •••
كان ذلك هو اليوم الأخير في إقامة جونزاليس التي امتدت لثلاثة أسابيع في باجان، المدينة الواقعة في وسط ميانمار، والتي نقلت إليها الحكومة سجلاتها منذ عقود خلت، في أعقاب أعمال الشغب العرقية التي نشبت في يانجون. جلس جونزاليس مع جروسباك، رئيس فرع شركة سينتراكس في ميانمار، إلى طاولة مركزية مصنوعة من خشب الورد في قاعة الاجتماعات الرئيسية. كانت الحاسبات التي صممت باستخدام ألواح من الزجاج مستطيلة الشكل مثبتة في الطاولة، يكتنفها الظلام والصمت أمامهما.
كان جونزاليس قد أتى إلى ميانمار بغرض إجراء مراجعة وتدقيق للمعلومات. وقد زودت مجموعة سينتراكس المحلية دولة ميانمار الاتحادية بكل منشآت المعلومات الأساسية الخاصة بها: كل سجلات العاملين والمعدات والأجهزة وكل المعاملات التي جرت بينهم. قبل هذا التاريخ بشهر واحد كانت تقارير فرع شركة سينتراكس في ميانمار قد دفعت برامج تدقيق الحسابات في مقر الشركة الأم إلى إطلاق إنذارات تدعو إلى «تفقد الأمر»، وتعين إرسال جونزاليس ومعه أحد أجهزة التدقيق المعروفة باسم «ميميكس»، إلى هناك من أجل فحص البيانات الأولية عن كثب.
وهكذا على مدار عشرين يوما متتالية، استكشف جونزاليس وجهاز «الميميكس» هياكل البيانات ومحتوياتها، واختبرا العلاقات الوظيفية الاسمية في مقابل التطبيق الواقعي؛ فأينما وجدت حركة للمعلومات أو الأموال أو المعدات أو الأفراد، وجدت سجلات، ثم كان يأتي بعد ذلك دورهما. كانا يبحثان عن آثار المعاملات النقدية، وطابقا أوامر الشراء مع الخدمات والمعدات، وتحققا من مطابقة توقيعات الإيصالات مع سجلات الموظفين، وطابقا سجلات الموظفين مع قواعد البيانات الحكومية، وتتبعا خلفيات الموظفين الذين تمثلهم هذه السجلات وتحركاتهم، وقرآ العقود وتتبعاها وصولا إلى المناقصات وعمليات الاستحواذ، كما تحققا من صحة سجلات المعاملات اليومية.
كان عملا شاقا مضنيا، يتطلب الصبر والانتباه إلى التفاصيل، وإلى الآن لم يكشف عن وجود أي مخالفات عدا تلك المعتادة المتعلقة بقلة الكفاءة؛ فلم يكن جروسباك يدير عملياته بتنظيم محكم، لكن حتى تلك اللحظة لم يكن يبدو أن ثمة شبهة فساد في الأمر. ومع ذلك لم تكن ساحته أو ساحة فرع شركة سينتراكس في ميانمار قد أبرئت بعد، فسوف يصدر تقرير جونزاليس النهائي في وقت لاحق، بعد أن يحلل هو و«الميميكس» السجلات في روية.
بسط جونزاليس ذراعيه وفرك عينيه. وكما هو معتاد في نهاية المهام الشاقة القصيرة الأمد كهذه المهمة، كان يشعر بالتعب والإنهاك والرغبة في الانصراف. قال لجروسباك: «يجب أن ألحق بطائرة الشركة المتجهة عصرا إلى بانكوك، وبعد ذلك سأكمل رحلتي في أي طائرة تجارية متاحة هناك.»
ابتسم جروسباك، وكان واضحا أنه مسرور لمغادرة جونزاليس. كان جروسباك رجلا نحيلا، من أصول ألمانية وتايلاندية، ذا بشرة بنية فاتحة وشعر أسود وملامح رقيقة. كان يرتدي ملابس ملائمة لسياق العمل على الطريقة البورمية القديمة؛ تنورة سوداء تسمى لونجي وقميصا قطنيا أبيض.
خلال الوقت الذي قضاه جونزاليس هناك تعامل معه جروسباك ببرود وكياسة من وراء قناع البروتوكول المؤسسي والسيطرة على النفس. فكر جونزاليس: لا بأس بهذا؛ فقد كانت مهمته موضع تشكك، وكذلك كان هو نفسه. وعلى أي حال يبغض الناس هذه التدخلات الخارجية في كل مرة تقريبا، وكان جونزاليس، الذي يمثل إدارة الشئون الداخلية، مسئولا فقط أمام رئيس القسم الذي يعمل به، إف إل تراينور، ومجلس إدارة سينتراكس، وهذا جعل الجميع تقريبا يشعرون بالتوتر.
صفحه نامشخص