نبذة عن المؤلف
إهداء
الجزء الأول
1 - احتراق، احتراق
2 - هل يمكنني مساعدتك في شيء؟
3 - الرقص في الظلام
4 - تصريح بعدم الوجود
5 - تعال إلي إذن
الجزء الثاني
1 - مدينة هالو، ألف
صفحه نامشخص
2 - حديقة الآلات الصغيرة
3 - مدينة هالو
4 - مقهى افتراضي
5 - أخبرني حين تنال كفايتك
6 - طبيعة بوذا داخلك
الجزء الثالث
1 - تشغيل تجريبي
2 - الكون
3 - العقل، أشبه بمنطاد غريب، يرتفع إلى آفاق لا نهائية
4 - فوضى
صفحه نامشخص
الجزء الرابع
1 - في الأعماق السحيقة
2 - طيران، موت، نمو
3 - إعادة كل شيء
الجزء الخامس
1 - حديث، حلم، قتال
2 - سكرة الحب
3 - خارج البيضة
4 - بيزنطة
نبذة عن المؤلف
صفحه نامشخص
إهداء
الجزء الأول
1 - احتراق، احتراق
2 - هل يمكنني مساعدتك في شيء؟
3 - الرقص في الظلام
4 - تصريح بعدم الوجود
5 - تعال إلي إذن
الجزء الثاني
1 - مدينة هالو، ألف
2 - حديقة الآلات الصغيرة
صفحه نامشخص
3 - مدينة هالو
4 - مقهى افتراضي
5 - أخبرني حين تنال كفايتك
6 - طبيعة بوذا داخلك
الجزء الثالث
1 - تشغيل تجريبي
2 - الكون
3 - العقل، أشبه بمنطاد غريب، يرتفع إلى آفاق لا نهائية
4 - فوضى
الجزء الرابع
صفحه نامشخص
1 - في الأعماق السحيقة
2 - طيران، موت، نمو
3 - إعادة كل شيء
الجزء الخامس
1 - حديث، حلم، قتال
2 - سكرة الحب
3 - خارج البيضة
4 - بيزنطة
هالو
هالو
صفحه نامشخص
تأليف
توم مادوكس
ترجمة
محمد فتحي خضر
نبذة عن المؤلف
توم مادوكس، كاتب خيال علمي أمريكي، معروف لدوره في بدايات حركة «السايبر بانك». نشرت أولى رواياته «هالو» في عام 1991 بواسطة دار نشر تور بوكس. وقد ظهرت قصته «عينا الأفعى» عام 1986 في مجموعة «ظلال المرآة» القصصية التي حررها بروس ستيرلنج. أكثر ما يشتهر به هو كونه صديقا لويليام جيبسون وشريكا له في الكتابة؛ إذ كتبا معا حلقتين من مسلسل «الملفات الغامضة» (إكس فايلز)، بعنوان «مفتاح القتل» و«التصويب بمنظور ذاتي». مادوكس هو مبتكر مصطلح «إلكترونيات التدابير المضادة للاختراق». ووفق مادوكس فقد صك هذا المصطلح في مخطوطة شقصة غير منشورة أراها لويليام جيبسون في مؤتمر للخيال العلمي في بورتلاند بولاية أوريجون. طلب جيبسون الإذن باستخدام الاختصار ووافق مادوكس. بعد ذلك استخدم المصطلح في قصص جيبسون المبكرة وفي النهاية اشتهر بفضل رواية «نيورومانسر»، التي نسب فيها فضل صك المصطلح إلى مادوكس على نحو لائق. رخص مادوكس أعماله بموجب رخصة المشاع الإبداعي، فجعل جزءا كبيرا منها متاحا على موقعه الإلكتروني: Tom Maddox Fiction and Nonfiction Archive. المصدر: ويكيبيديا.
إهداء
إلى ذكرى والدي جورج مادوكس، وصديقي بول كوهين، وكل الأعزاء الذين واراهم الثرى على مر الزمن.
الجزء الأول
كل شيء مقدر له أن يعاود الظهور كمحاكاة.
صفحه نامشخص
جان بودريار، «أمريكا»
الفصل الأول
احتراق، احتراق
ذات صباح ممطر في سياتل، كان جونزاليس مستعدا لدخول البيضة. قبل هذا اليوم بأسبوع كان قد عاد من ميانمار، الدولة المعروفة سابقا باسم بورما، والآن، بعد يومين من تعاطي العقاقير والصوم، كان مستعدا: لقد صار غريبا، يشعر بالألفة في مكان بعيد.
كان دماغه مليئا ببراعم نارية، وقد أضاءت أوراقها البيضاء المتفتحة بلون أصفر، مركزا لعالم يحترق. وعلى الباب ذي اللطخات السوداء المصنوع من خشب البلوط تراقصت أجنحة ملائكية في لهب أزرق، وقد ارتسمت على وجوهها البهجة وسط النار الباردة. وبينما كان جونزاليس يحدق في الأشكال المحفورة المتحركة فكر في نفسه قائلا: «إن النار في عقلي، في دماغي.»
دفع إلى الأسفل مقبضا مقوسا على شكل حرف
S
من النحاس الأصفر، ثم دلف عبره إلى الرواق، دون أن يصدر حذاؤه - المشقوق من عند إبهام القدم والمصنوع من القطن الناعم - وطرف ثوبه صوتا عند احتكاكهما بالأرضية المصنوعة من البلوط المبيض. وعبر الباب المفتوح في نهاية الرواق رسم ضوء الصباح المار عبر الزجاج الملون أنماطا تجريدية من اللونين القرمزي والأصفر الزبدي. وداخل الغرفة، كانت شاشة عرض زرقاء معلقة على الجدار البعيد، وقد توهج عليها شعار شركة سينتراكس، بينما كانت البيضة الموضوعة في منتصف الغرفة، بنصفيها المشطورين المصنوعين من الصلب المكسو بالكروم، مشققة وفي حالة انتظار. كان نصف البيضة مليئا بأنابيب لونها بيج وعدد من الكابلات البصرية، بينما كان النصف الآخر مليئا ببلاستيك قوي أسود اللون يتدلى على القشرة الخارجية.
فرك جونزاليس عينيه ثم سحب شعره إلى الوراء وجمعه في لفة واحدة أحاطها بحلقة مطاطية. مد يده إلى وسطه، ثم أمسك بالحاشية السفلية للتي-شيرت الأزرق الداكن الذي يرتديه، ثم جذبه من فوق رأسه. وبعد أن ألقاه على الأرضية خلع حذاءه وبنطاله الواسع القمحي اللون، ثم خلع سرواله الداخلي القطني ووقف عاريا، وقد التمع جلده الشاحب بفعل طبقة رقيقة من العرق. شعر بسخونة في جلده، وبأن ثمة غبارا في عينيه، وبحرقة في معدته.
خطا داخل نصف البيضة المكسو بالكروم، ثم ارتعد واستلقى بينما تدفق سائل في درجة حرارة الجسد داخل البلاستيك المتدلي، والذي بدأ ينتفخ من تحته. أمسك بكابلات في سمك الإصبع وأدخل أطرافها في تجاويف موجودة في مؤخرة عنقه. وبينما واصلت البيضة الامتلاء ثبت قناعا على وجهه، وشعر بالحواف تنغلق بإحكام، ثم تنفس. تحركت قسطرتان نحو منفرج ساقيه، وانغرست إبر وريدية في عروق ذراعيه. انغلقت البيضة وملأ السائل حيزها الداخلي.
صفحه نامشخص
طفا في صمت، منتظرا، وهو يتنفس ببطء وبعمق بينما أخذ شعور النشوة يشق طريقه بين خليط المشاعر العشوائي الذي ولدته العقاقير والتأمل والبيضة. لا يهم أنه كان على وشك أن يعيد معايشة مخاوفه الخاصة؛ فقد كان هذا هو ما يحركه: الدخول إلى عوالم متعددة من الخبرات البشرية؛ السفر عبر المكان والزمن والاحتمالات، كل ذلك في آن واحد.
كانت ماكينات الواقع الافتراضي منتشرة في كل مكان - فكانت هناك إجازات افتراضية، وعلاقات جنسية افتراضية، وشهرة افتراضية، كل ما تشتهيه النفس - غير أنها مقارنة بالبيضة لم تكن تعدو محض ألعاب فيديو عالية الدقة أو عروضا سحرية. كانت ماكينات الواقع الافتراضي تستخدم مجموعة متنوعة من الحيل كي تحاكي الحضور البدني، غير أن مركز الإحساس بالذات داخل الدماغ لا يمكن خداعه إلا بدرجة محدودة، وحين تدخل إحدى ماكينات الواقع الافتراضي فأنت تكون واعيا بذلك، ومن ثم فإن استدامة الوهم تعتمد على توقفك المتعمد عن إنكاره. لكن في حالة البيضة أنت تنخرط انخراطا تاما عبر كل الأطراف الحسية؛ وقد كانت العوالم التي دخلها الناس شديدة الإقناع لدرجة أنهم حين كانوا يستيقظون كانوا يبدون تائهين في عالم الواقع، وكأنهم في حلم.
اخترقت إبرة غشاء يقع في أحد الكابلات العصبية، وحقنت خليطا من الببتيدات العصبية. وهكذا نقل جونزاليس. •••
كان ذلك هو اليوم الأخير في إقامة جونزاليس التي امتدت لثلاثة أسابيع في باجان، المدينة الواقعة في وسط ميانمار، والتي نقلت إليها الحكومة سجلاتها منذ عقود خلت، في أعقاب أعمال الشغب العرقية التي نشبت في يانجون. جلس جونزاليس مع جروسباك، رئيس فرع شركة سينتراكس في ميانمار، إلى طاولة مركزية مصنوعة من خشب الورد في قاعة الاجتماعات الرئيسية. كانت الحاسبات التي صممت باستخدام ألواح من الزجاج مستطيلة الشكل مثبتة في الطاولة، يكتنفها الظلام والصمت أمامهما.
كان جونزاليس قد أتى إلى ميانمار بغرض إجراء مراجعة وتدقيق للمعلومات. وقد زودت مجموعة سينتراكس المحلية دولة ميانمار الاتحادية بكل منشآت المعلومات الأساسية الخاصة بها: كل سجلات العاملين والمعدات والأجهزة وكل المعاملات التي جرت بينهم. قبل هذا التاريخ بشهر واحد كانت تقارير فرع شركة سينتراكس في ميانمار قد دفعت برامج تدقيق الحسابات في مقر الشركة الأم إلى إطلاق إنذارات تدعو إلى «تفقد الأمر»، وتعين إرسال جونزاليس ومعه أحد أجهزة التدقيق المعروفة باسم «ميميكس»، إلى هناك من أجل فحص البيانات الأولية عن كثب.
وهكذا على مدار عشرين يوما متتالية، استكشف جونزاليس وجهاز «الميميكس» هياكل البيانات ومحتوياتها، واختبرا العلاقات الوظيفية الاسمية في مقابل التطبيق الواقعي؛ فأينما وجدت حركة للمعلومات أو الأموال أو المعدات أو الأفراد، وجدت سجلات، ثم كان يأتي بعد ذلك دورهما. كانا يبحثان عن آثار المعاملات النقدية، وطابقا أوامر الشراء مع الخدمات والمعدات، وتحققا من مطابقة توقيعات الإيصالات مع سجلات الموظفين، وطابقا سجلات الموظفين مع قواعد البيانات الحكومية، وتتبعا خلفيات الموظفين الذين تمثلهم هذه السجلات وتحركاتهم، وقرآ العقود وتتبعاها وصولا إلى المناقصات وعمليات الاستحواذ، كما تحققا من صحة سجلات المعاملات اليومية.
كان عملا شاقا مضنيا، يتطلب الصبر والانتباه إلى التفاصيل، وإلى الآن لم يكشف عن وجود أي مخالفات عدا تلك المعتادة المتعلقة بقلة الكفاءة؛ فلم يكن جروسباك يدير عملياته بتنظيم محكم، لكن حتى تلك اللحظة لم يكن يبدو أن ثمة شبهة فساد في الأمر. ومع ذلك لم تكن ساحته أو ساحة فرع شركة سينتراكس في ميانمار قد أبرئت بعد، فسوف يصدر تقرير جونزاليس النهائي في وقت لاحق، بعد أن يحلل هو و«الميميكس» السجلات في روية.
بسط جونزاليس ذراعيه وفرك عينيه. وكما هو معتاد في نهاية المهام الشاقة القصيرة الأمد كهذه المهمة، كان يشعر بالتعب والإنهاك والرغبة في الانصراف. قال لجروسباك: «يجب أن ألحق بطائرة الشركة المتجهة عصرا إلى بانكوك، وبعد ذلك سأكمل رحلتي في أي طائرة تجارية متاحة هناك.»
ابتسم جروسباك، وكان واضحا أنه مسرور لمغادرة جونزاليس. كان جروسباك رجلا نحيلا، من أصول ألمانية وتايلاندية، ذا بشرة بنية فاتحة وشعر أسود وملامح رقيقة. كان يرتدي ملابس ملائمة لسياق العمل على الطريقة البورمية القديمة؛ تنورة سوداء تسمى لونجي وقميصا قطنيا أبيض.
خلال الوقت الذي قضاه جونزاليس هناك تعامل معه جروسباك ببرود وكياسة من وراء قناع البروتوكول المؤسسي والسيطرة على النفس. فكر جونزاليس: لا بأس بهذا؛ فقد كانت مهمته موضع تشكك، وكذلك كان هو نفسه. وعلى أي حال يبغض الناس هذه التدخلات الخارجية في كل مرة تقريبا، وكان جونزاليس، الذي يمثل إدارة الشئون الداخلية، مسئولا فقط أمام رئيس القسم الذي يعمل به، إف إل تراينور، ومجلس إدارة سينتراكس، وهذا جعل الجميع تقريبا يشعرون بالتوتر.
صفحه نامشخص
سأله جروسباك: «هل ستغادر من مطار مياونج يو؟» «كلا، لقد طلبت أن تقلني طائرة إلى جنوب المدينة.» شأن أي شخص آخر كان سيرتب الأمر، لم يكن جونزاليس ينوي السفر من مطار باجان الرسمي؛ حيث أقدمت جماعات المقاتلين على إسقاط الطائرات في أكثر من مناسبة. بالتأكيد كان جروسباك يعلم ذلك.
سأله جروسباك: «ماذا ستذكر في تقريرك؟»
أجاب جونزاليس مدهوشا: «أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أخبرك شيئا عن هذا الأمر.» بل إن ذكر الموضوع نفسه كان مصدر إحراج؛ فضلا عن كونه انتهاكا لبرتوكول الشركة يستدعي الإبلاغ عنه. كان هذا الرجل إما غبيا أو يائسا.
قال جروسباك: «لم تعثر على شيء.»
ما خطب هذا الشخص؟! قال جونزاليس: «لدي بيانات تحتاج عاما لفحصها قبل أن أتمكن من إصدار أي تقييم.»
قال جروسباك وقد اكتسى وجهه بتعبير بارد: «وأنت لن تخبرني بما سيبدو عليه تقريرك المبدئي.» «كلا.» هكذا أجاب جونزاليس، ثم وقف وقال: «علي الانتهاء من حزم الأمتعة.» كان يريد وقتها الخروج قبل أن يفعل جروسباك شيئا لا رجعة فيه، كأن يهدده أو يعرض عليه رشوة. قال جونزاليس: «وداعا.» ولم ينبس الرجل الآخر ببنت شفة، بينما كان جونزاليس يغادر القاعة. •••
عاد جونزاليس إلى فندق تريبيتسايا، وهو عبارة عن مجموعة من الأكواخ الخفيضة المنفصلة المبنية من البامبو والخرسانة المسلحة، وكانت تطل على نهر إيراوادي. كانت الغرف مزينة على نحو بائس بنسخة ميانمارية بالية من الديكور السياحي الآسيوي؛ بامبو مدهون بالورنيش على الجدران، إلى جانب مجسمات هولوجرامية لتنانين قافزة، ومزينة وطاولات ومقاعد وفراش كلها مصنوعة من خشب الساج الأسود، ومروحة سقف ضلت طريقها إلى هنا من القرن العشرين، وفكر جونزاليس أن الهدف من كل هذا هو منح المواطن العادي شعور الإثارة المرتبط بالشرق الساحر. ومع ذلك فقد أعيد بناء الفندق منذ أقل من عقد مضى؛ ومن ثم فقد كان جونزاليس، وفق المعايير المحلية، يتمتع بوسائل ترف؛ مكيف هواء وميكروويف وثلاجة.
بطبيعة الحال لم يكن مكيف الهواء يعمل في ليال كثيرة، وكان جونزاليس يستلقي في حالة أقرب إلى فقدان الوعي، والعرق يغمره طوال ليال حارة رطبة ثم تحييه بعد الفجر بقليل السحالي التي تحرك طياتها الجلدية العنقية كالمروحة وترفع أجسادها وتخفضها وكأنها تمارس تمارين الضغط.
في أيام عديدة كهذه كان يستيقظ ثم يسير عبر مسارات العربات التي كانت تخترق السهول المحيطة بباجان، مارا بالمعابد وهياكل باجودا البوذية المقدسة بينما كانت الشمس تشرق وتحول شبورة الصباح إلى غلالة ضخمة من اللون الوردي الساطع، تبرز خلالها الأبراج وكأنها قلاع خرافية. كانت المعابد منتشرة في كل مكان في باجان؛ إذ كان يوجد آلاف منها، وكانت حديثة ومزدهرة وقت أن كان ويليام الفاتح ملكا. أما الآن فقد ملأت المباني السكنية السريعة التجهيز التي تضم هيئات حكومية المساحات الواقعة بين معابد الباجودا التي يبلغ عمرها ألف عام، والتي لا يزال بعضها في حالة شبه مثالية، مثل معبد تاتبيينو، بينما لم يتبق من كثير غيرها سوى أطلال وأسماء منسية. كان المرء يكسب المكانة عن طريق بناء معبد باجودا، وليس عبر الاعتناء بالمعابد التي بناها شخص آخر مات منذ زمن بعيد.
كانت ميانمار، شأن غيرها من دول جنوب شرق آسيا، لا تزال تحاول التعافي من الأوضاع السياسية التي سادت في أواخر القرن العشرين، وفي حالة ميانمار تمثل هذا في العقود الطويلة التي حكمت فيها الديكتاتوريات العسكرية بصورة دورية والفوضى التي كانت تعقب حكمها. وكما هو الحال دائما في الدول غير المستقرة سياسيا، ظلت الدولة تقيد الدخول إلى الشبكة العالمية، على مدار مختلف أنواع الحكومات؛ إذ وجد قادتها أن فكرة التدفق الحر للمعلومات غير مقبولة. كانت هوائيات كا-باند باهظة الثمن، وكانت لا تستخدم إلا بترخيص يكاد يستحيل الحصول عليه. ونتيجة لذلك كان جونزاليس وجهاز «الميميكس» أشبه باثنين من آكلي اللحوم تقطعت بهما السبل في بلد من النباتيين؛ إذ عجزا عن الحصول على ما يسد رمقهما.
صفحه نامشخص
كان قد فصل جهاز «الميميكس» هذا الصباح، وبقي الجهاز خامدا، داخل واحدة من حاويتيه المقاومتين للصدمات والمصنوعتين من الألياف والألومنيوم، جاهزا للنقل. أما الصندوق الآخر فاحتوى على صناديق الذاكرة التي تضم سجلات فرع شركة سينتراكس في ميانمار.
حين يعودان إلى الوطن، سيعلم جونزاليس جهاز «الميميكس» بآخر الأخبار عن جروسباك، وكيف أنه فقد السيطرة على نفسه في اللحظة الأخيرة. كان جونزاليس واثقا من أن جهاز «الميميكس» سيشاركه الرأي حول فساد جروسباك حتى النخاع وهلعه الشديد من أن يكتشفا ذلك. •••
عند حافة حقل رملي جنوب باجان، انتظر جونزاليس طائرته. كان يرتدي زي السفر الدولي المعتاد لديه؛ بذلة سمراء من قطعتين من القماش الجبردين، وتحتها قميص كتاني أبيض ذو ياقة مفتوحة، وحذاء بنيا من النوع الذي لا يحتاج إلى ارتداء جورب تحته. كان قد جمع شعره على هيئة ذيل حصان وربطه بحلقة فضية مصنوعة من حلي على شكل سحالي يتصل رأس كل منها بذيل الحلية التالية لها. وإلى جواره استقرت حقيبة جلدية بنية لينة وحاويتان مقاومتان للصدمات.
أمامه ظهر معبد باجودا ذو أبراج متدرجة تعلوها قمة مستدقة مذهبة ومزينة بالأحجار الكريمة تشير إلى السماء. جلس على درجاته، وإلى جوار كف ضخم لأسد حجري، راهب في وضعية اللوتس، وكان وجهه يغطيه ظل تمثال الحيوان الضخم المكتنز الذي تظهر ملامح وجهه تعبيرات غضب ضار. كان جانبا الحيوان مصبوغين بلون برتقالي بفعل غروب الشمس، بينما كانت شفتاه ملطختين بلون الدم الجاف. مرت دقائق، وسمع دمدمة الراهب، بينما كان وجهه غارقا في الظلال.
ثم سمع صوتا يقول: «تعال في جولة بين معابد مدينة باجان العتيقة. شويزيجون، أناندا، تاتبيينو ...» «فلتحلي عني.» هكذا قال جونزاليس مخاطبا عربة الجولات السياحية التي جاءت من خلفه. كانت هذه العربات تحمل نحو اثني عشر سائحا في ثمانية صفوف من المقاعد الخشبية الضيقة، لكنها كانت الآن خالية؛ إذ كان جميع السياح تقريبا قد لحقوا بالجمهور المحتشد على مصاطب معبد تاتبيينو؛ حيث يمكنهم مشاهدة غروب الشمس فوق سطح المعبد.
قالت العربة: «إنها آخر جولة اليوم. وهي رخيصة للغاية، كما أننا نقدم أسعار تحويل عملات جيدة للغاية إكراما منا للزائرين.»
كانت تريد استبدال عملات الدولار أو الين بالكيات؛ ففي ميانمار حتى الآلات كانت تعمل في السوق السوداء. رد قائلا: «كلا، أشكرك.» «أسعار جيدة للغاية يا سيدي.»
قال جونزاليس: «اغربي عني! وإلا سأبلغ بأنك معطوبة.» تحركت الآلة مبتعدة وهي تصدر أزيزا.
شاهد جونزاليس راهبا شابا يراقبه على الجانب الآخر من الطريق، ويتأهب للقدوم نحوه كي يتسول بعض الأقلام أو المال. نظر جونزاليس في عيني الراهب وهز رأسه نفيا. هز الراهب كتفيه وواصل المشي، ورداؤه البرتقالي يتموج.
أين الطائرة بحق الجحيم؟ بعد وقت قصير ستشق شعلات الصيادين السماء المظلمة ذات الهلال الوليد، وستندفع الدرونات الحكومية حول حواف الظلال وكأنها وطاويط عملاقة طافرة. كان الجزء الأوسط من ميانمار على شفير الوقوع في الفوضى؛ إذ يحيط به خليط عرقي من أبناء مناطق كارين وكاشين وشان ذات الاتجاهات السياسية المتعددة، وكلها شرسة وتزدري الحكومة المركزية. كان هؤلاء يقاتلون باستخدام أي سلاح يجدونه، من العصي المدببة إلى الصواريخ المحمولة على الظهر ، وكانوا لا يستسلمون حتى الموت.
صفحه نامشخص
تعالى سريعا صوت عويل حاد إلى أن ملأ الهواء. وفي غضون دقائق ظهرت طائرة فضية ذات أجنحة متعددة الأوضاع، ثقيلة الحركة، وكل جناح مستطيل ضخم من أجنحتها مزود بمحرك ضخم بصلي الشكل، على ارتفاع منخفض فوق الكتلة الداكنة للغابة. كانت تومض على نحو متواصل بالضوءين الأحمر والأصفر، وتوقفت فوق الحقل، وقد مالت أجنحتها حتى اتخذت وضعا عموديا وانخفض صوت المحرك حتى بات يصدر هديرا منخفضا. أحدثت كشافاتها دائرة من الضوء قطرها عشرة أمتار أخذت الطائرة تنخفض نحوها، مثيرة سحبا من الرمال أحاطت كالزوبعة بجونزاليس. انخفض هدير المراوح المقلوبة إلى درجة الهمس، وركعت الطائرة مصدرة صريرا على عجلات الهبوط، بحيث صارت مقصورة القيادة في مستوى الأرض تقريبا. أمسك جونزاليس بأمتعته وسار نحو الطائرة. تدلى من الطائرة سلم مصدرا هسيسا هيدروليكيا، وارتقى جونزاليس درجاته إلى داخل تجويف الطائرة.
سأله الطيار: «ميخائيل جونزاليس؟» كان الطيار قد رفع نظارة الطيران متعددة الوظائف إلى جبهته؛ حيث بدت عدساتها البيضاوية العاكسة وكأنها زوج ثان من العيون الخالية من أي تعبير، وقد تدلى خيط رفيع من الألياف الضوئية من إطارها. وأسفل النظارة كان وجه الطيار بنيا ومليئا بالندبات؛ فكر جونزاليس في نفسه قائلا: «لن تجدي أي مساحيق تجميل مع هذا الرجل.» كان الطيار يرتدي قميصا «استوائيا» باليا تتراقص فيه طيور بشروش وردية اللون على خلفية زرقاء داكنة.
قال جونزاليس: «هذا أنا.» ثم لوح بالحاوية المقاومة للصدمات التي يحملها في يده اليمنى فضغط الطيار على مفتاح يفتح قمرة الأمتعة. وضع جونزاليس الحقائب في القمرة المعدنية وشاهد شبكة الأمان وهي تشد بإحكام حول الحقائب والباب وهو ينغلق. جلس على مقعد خلف الطيار في أول صف من صفوف المقاعد الثمانية. انضغطت حاشية المقعد عند جلوسه عليها، ومن ظهر المقعد المواجه له انبعث صوت نسائي يقول: «ينبغي أن تربط حزام الأمان. لو كنت تريد أي تعليمات فقل هذا الآن من فضلك.»
أغلق جونزاليس القفل ذا الشكل شبه المنحرف في الموضع الذي يلتقي فيه حزام الكتف مع حزام الحجر، ثم فرد ذراعيه وشعر بالعرق يجف على جلده داخل الحيز الداخلي البارد للطائرة. قال الصوت: «أشكرك.» •••
كان الطيار يتحدث مع المراقبة الجوية بمطار مياونج يو بينما أخذت الطائرة ترتفع في الشفق الذي يعلو المدينة. اختفى الوهج الأبيض المريح الآتي عبر النافذة الزجاجية العلوية ولم يتبق إلا البقايا الأخيرة من ضوء الشمس البرتقالي المار عبرها.
كان سطح المعبد ممتدا تحتنا، تغمره الظلال والظلمة، وقد امتدت أبراج المعبد والباجودا نحو الضوء، بكسوتها الجصية البيضاء والذهبية المخضبة باللونين الأحمر والبرتقالي.
قال الطيار: «هذا منظر جميل يا رجل.»
قال جونزاليس: «أنت محق.» كان المنظر جميلا بالفعل، لكنه شاهده من قبل، علاوة على ذلك فقد قضى بالفعل يوما طويلا.
أنزل الطيار نظارته على عينيه، ومالت الطائرة إلى اليسار واتجهت صوب الجنوب على امتداد النهر. رجع جونزاليس بظهره إلى الوراء في مقعده وحاول الاسترخاء.
حلقا فوق مياه سوداء، على امتداد نهر إيراوادي، إلى أن عبرا مسار طيران دولي إلى بانكوك. كاد النعاس يغالب جونزاليس وهو في جوف الطائرة المظلم حين سمع الطيار يقول: «اللعنة، ثمة شخص هنا. إحدى الجماعات المتمردة المقاتلة على الأرجح، لا توجد شفرات تعرف. لا بد أنهم يستخدمون طائرات فائقة الخفة؛ فراداراتنا لم تتمكن من رصدهم. لكن لدينا الآن صورة.»
صفحه نامشخص
سأله جونزاليس: «هل من مشكلة؟» «إنهم آتون لإلقاء نظرة وحسب؛ فهم لا يكترثون بالطائرات الأجنبية.» ثم أشار إلى الرسالة التي يعرضها جهاز الإرسال/الاستقبال على الشاشات الرئيسية:
هذه رحلة طيران دولية غير عسكرية.
لديها الحق في العبور بموجب قرار الأمم المتحدة لعام 2020.
كان من شأن الجهاز أن يكرر إرسال الرسالة إلى أن يدخلا المجال الجوي التايلاندي.
أضاءت شاشة كمبيوتر الرحلة بضوء أحمر وظهرت عليها الكلمات التالية: «تحذير من الاصطدام.» ودوى صوت بوق مرتفع ملأ الحيز الداخلي للطائرة. قال الطيار: «اللعنة، لقد أطلقوا صواريخهم!» أصدرت محركات الطائرة صوتا مرتفعا بينما تولى كمبيوتر الطائرة السيطرة، وأمسك الطيار مقود الطائرة بإحكام، ليس بغرض التوجيه وإنما كان متشبثا به وحسب.
شعر جونزاليس بحزام الأمان يضغط على جسده بينما أخذت الطائرة تدور حول نفسها وتنخفض وتلتف في حركة لولبية ثم ترتفع مجددا، وكأنها سمكة معدنية ذكية تحاول الإفلات من حراب نارية. دوت انفجارات في الظلام، وظهرت دفقات سريعة فوضوية من ألسنة اللهب متبوعة على الفور بأصوات مدوية وموجات صدمة زلزلت الطائرة وهي تسلك مسارها الفوضوي خلال عتمة الليل.
بعد ذلك ظهرت طائرة، تشتعل بفعل النيران التي تغمرها، وقد بدت قائدتها وكأنها رسم تخطيطي مشتعل يرفع يديه إلى السماء في اللحظة التي سبقت انفجار الطائرة وقائدتها بفعل ألسنة اللهب.
مضت رحلتهما هادئة وسلسة، وعاد التحكم إلى مقود الطيار. التمعت عينا جونزاليس بينما عادت ظلمة الليل من جديد. سمع صوت كمبيوتر الطائرة يقول: «تم تجنب الاصطدام. الوقت المنقضي في منطقة الخطر ست ثوان وتسعة وثمانون جزءا من الثانية.»
قال جونزاليس: «ما هذا بحق الجحيم؟ ما الذي حدث؟»
قال الطيار: «ذلك اللعين.»
صفحه نامشخص
جلس جونزاليس متشبثا بمقعده، وهو يرتجف بفعل ارتطام دفعة الهواء البارد المنبعثة من مكيف الطائرة بقميصه الذي يغمره العرق. نظر إلى حجره، كلا، لم يبل على نفسه. في الواقع لقد حدث كل شيء بسرعة كبيرة لم تسمح له بأن يصل إلى تلك الدرجة من الذعر.
ظهرت طائرة حربية من طراز «لوب جارو» التي تصنعها شركة ميتسوبيشي-ماكدونيل أمامهما ودارت حولهما بحركة بطيئة. كانت مطلية بلون أسود قاتم شأنها شأن الطائرة الخفيفة، لكن كان بدنها ضخما. أخذت تعلو وتنخفض بينما تدور حولهما، وكأنها طائر مفترس كسول يحلق حول طريدة سمينة بطيئة، ثم أشعلت أضواء ساطعة غمرت النافذة الزجاجية العليا لطائرتهما.
تجمد جونزاليس والطيار في ذلك الضوء المبهر.
بعد ذلك تراجعت مقصورة الطائرة اللوب جارو، وخلف الزجاج الشفاف رأى جونزاليس الطيار ذا الخوذة العاكسة، ويمتد من أسفل رقبته كابلان ملتصقان. انزلقت أجنحة الطائرة اللوب جارو إلى الأمام في حركة عكسية، ثم أخذت الطائرة وضعا رأسيا، ثم غابت عن الأنظار.
شد جونزاليس جسده في مقابل الحزام الضاغط عليه.
صاح الطيار: «ذلك الوغد!»
سأله جونزاليس بصوت خفيض مرتعش: «من هو؟ وماذا تقصد؟»
قال الطيار بصوت متوتر وقد ظهر وجهه محمرا أسفل زجاج النظارة العاكس: «القوات الجوية لميانمار. لقد نصبوا لنا فخا، واستخدمونا كطعم أمام طائرة المتمردين.» رفع الطيار نظارته وأخذ يحدق بحدة عديمة الجدوى من زجاج قمرته، كما لو كان بإمكانه اختراق الظلام بنظره، بعدها قال: «ثم انتظروا، انتظروا حتى هاجمونا.» استدار الطيار بغتة وواجه جونزاليس وقد صارت ملامحه وكأنها رسم كاريكاتيري مجنون وغاضب للرجل الذي رحب بجونزاليس منذ تسعين دقيقة وقال: «هل تعلم إلى أي مدى اقتربنا من الموت؟»
هز جونزاليس رأسه نفيا.
قال الطيار: «أجزاء قليلة من الثانية يا رجل، أجزاء قليلة لعينة من الثانية. لقد أوشكنا على الموت.» ثم أدار مقعده وسمع جونزاليس صوت آلية الإغلاق الخاصة به بينما استقر في مقعده، في الوقت الذي غمر فيه الخوف والخزي دماغه بمزيج جامح من المواد الكيميائية العصبية.
صفحه نامشخص
لم يسبق أن انتاب جونزاليس شعور كهذا؛ كان يشعر بالموت يتسلل إلى عموده الفقري وأحشائه وحلقه وأنفه، وكأنه يمس جلده، إنه الموت المصحوب برائحه كريهة ... احتراق، احتراق.
الفصل الثاني
هل يمكنني مساعدتك في شيء؟
مع انقضاء الصباح، أخذت الشمس تبتعد عن الزجاج الملون، وبدأ الظلام يغمر الغرفة. ظلت أضواء الشاشة وحدها مضاءة؛ إذ كانت صفوف ثابتة من اللون الأخضر تعلو أعمدة وامضة من الأرقام الظاهرة على السطح الأزرق الفاتح للشاشة.
أخذ روبوت التنظيف المنزلي، الشبيه بكيس منتفخ في حجم الإوزة، يعمل في صمت عبر الأرضية، منظفا أركان الغرفة، ثم غادرها بينما مجسات الحركة أدناه تصدر صوتا أشبه بصوت حفيف الرياح وهي تهب على عشب جاف. •••
أخذت شاشة مقصورة الطائرة تومض بينما كان كمبيوتر الطائرة يتلقى أكواد الهبوط، وبعد ذلك ثبتت الطائرة في شبكة هبوط مطار بانكوك وبدأت تهبط في سلاسة عبر أنبوب غير مرئي. ثم هبطت الطائرة على الأرض بتوجيه من أذرع إلكترونية.
استدار الطيار إلى جونزاليس أثناء هبوط الطائرة وقال: «سيتعين علي الإبلاغ عن الهجوم. لكنك محظوظ؛ فلو أننا هبطنا في ميانمار لأحاط بك المحققون الحكوميون إحاطة السوار بالمعصم، وحينها سيتعين عليك أن تنسى فكرة المغادرة لأيام، وربما لأسابيع. أنت بخير الآن؛ فقبل أن يطلعوا على التقرير ويطلبوا من التايلانديين احتجازك، ستكون قد غادرت بالفعل.»
في تلك اللحظة كان آخر ما يريده جونزاليس هو قضاء أي وقت في ميانمار. قال: «سأغادر بأسرع ما أستطيع.»
الآن وقد انتهى كل شيء، كان بإمكانه استشعار الخوف وهو يتصاعد داخله كما لو كان قد تناول للتو عقارا خطيرا. وفي محاولة لتهدئة نفسه فكر في نفسه قائلا: «في الواقع لم يحدث شيء، عدا أن هذا الموقف أرعبك بشدة، هذا كل ما في الأمر.»
حين استقرت الطائرة على منصة الهبوط، وقف جونزاليس وذهب لأخذ أمتعته من قمرة الأمتعة المفتوحة. جلس الطيار يشاهد بينما أخذت الطائرة تمر بإجراءات الإيقاف الخاصة بها.
صفحه نامشخص
افعل شيئا. هكذا قال جونزاليس لنفسه وهو يشعر بالذعر يتصاعد داخله. جذب الحاوية المحتوية على جهاز «الميميكس» وقال: «أريد نسخة من سجلات الرحلة.» «لا أستطيع ذلك.» «بل تستطيع. أنا أعمل لدى إدارة الشئون الداخلية، وكدت ألقى حتفي وأنا على متن طائرتك.» «وكذلك أنا يا رجل.» «صحيح. لكنني أريد هذه البيانات. في وقت لاحق ستتتبع إدارة الشئون الداخلية المسار الرسمي وتحصل على كل البيانات، لكنني أريد أن أعرف الآن. فقط عملية نقل سريعة للبيانات إلى جهازي هذا، هذا كل ما يتطلبه الأمر. سأعطيك ترخيصا بهذا أقر باستلامها.» قال جونزاليس هذه الكلمات ثم انتظر، مواصلا الضغط عليه عن طريق نظرته ووقفته اللتين تشيان بالإصرار.
قال الطيار: «حسنا، من المفترض أن يكفي هذا لحمايتي.»
وضع جونزاليس الحاوية المقاومة للصدمات إلى جوار مقعد الطيار، وركع إلى جوارها وفتح الغطاء، ثم سأل الطيار: «هل تسجل ما يدور؟»
أومأ الطيار وقال: «دائما.» «هذا ما ظننته. حسنا إذن: لأغراض التوثيق الرسمي، هذا ميخائيل ميخائيلوفيتش جونزاليس، موظف أول لدى إدارة الشئون الداخلية بشركة سينتراكس. وسأحصل على السجلات الرسمية لهذه الطائرة كي تعينني في التحقيق في أحداث بعينها وقعت خلال رحلتها الأخيرة.» ثم نظر إلى الطيار وأضاف: «هذا سيكفي.»
جذب كابل بيانات من الحاوية وأدخله في منفذ بلوح القيادة. التمعت الأضواء على لوح القيادة بينما بدأت البيانات تتدفق إلى الجهاز الساكن. أصدر اللوح أزيزا خافتا كي يشير إلى اكتمال نقل البيانات، فجذب جونزاليس الكابل وأغلق الحاوية، ثم قال للطيار الذي جلس محدقا خارج المقصورة: «شكرا.»
وقف جونزاليس وربت على الحاوية، ثم فكر وهو يشعر أن حاله أفضل كثيرا: «مرحى أيها «الميميكس»، لدي مفاجأة لك حين تستيقظ.» •••
نقلت مزلجة جونزاليس لميل أو نحو ذلك عبر نفق ساطع الإضاءة معلقة على جدرانه البلاستيكية والجصية الزرقاء الفاتحة لافتات تحذيرية بلغات ست تتوعد من يقومون بتشويه الجدران. كانت رسوم جرافيتية حمراء وخضراء تلطخ كل شيء، بما فيها اللافتات، وبينما كان جونزاليس يشاهد، تغيرت الرسائل المكتوبة بالتايلاندية والبورمية وظهرت رسومات كارتونية ملحق بها بالونات حوارية مكتوب عليها عبارات لا يفهمها جونزاليس. كانت إحدى العبارات المكتوبة بطلاء أحمر باللغة الإنجليزية تقول: «هيروين ألفا شيطان زهرة.» وميزت علب محطمة من الألياف السوداء أو نسائل خشنة من الكابلات المتعددة المواضع التي كانت توجد فيها الكاميرات.
حجبت مصاريع فولاذية رمادية تمتد من الأرضية إلى السقف البوابة الضيقة المفضية إلى مبنى مغادرة ووصول الرحلات الدولية. وعكفت روبوتات فحص شامل عديمة الوجوه - مكعبات سوداء اللون مزودة بدرع من ألياف الكربون ومجسات وتبرز منها هوائيات استشعار - على فحص الركاب، وكانت الهوائيات تدور.
كان المسافرون الآسيويون يملئون أرجاء المطار؛ رجال ونساء يرتدون سترات داكنة اللون؛ يابانيون وصينيون وماليزيون وإندونيسيون وتايلانديون. لقد وفدوا من «النمور» الآسيوية، تلك المراكز العالمية للأبحاث والتصنيع، وكانوا يقبلون هوامش ربح منخفضة ويقدمون عروض ترويج مباشر إلى أوروبا والأمريكتين؛ حيث صار الاستهلاك أسلوب حياة. بدا في نظر جونزاليس أنهم موجودون في كل مكان يسافر إليه: أجساد مسلحة بالبراعة الفنية والعلمية ويحركها طموح دءوب.
كان هؤلاء يمثلون الأساس الراسخ لما يشهده العالم من رخاء. كانت الولايات المتحدة والنمور يعيشان في علاقة تكافل متقلقلة: فقد كان لدى الآسيويين مائة طريقة يضمنون من خلالها ألا ينهار الاقتصاد الأمريكي ويطيح معه بالسوق الاستهلاكية في أمريكا الشمالية. وقد اشترت شركات آسيوية ، سواء من اليابان أو الصين أو تايوان أو هونج كونج أو كانت مملوكة لكنديين من أصول صينية، بعضا من الشركات واندمجت مع البعض الآخر، وانتهى المطاف بالأمريكيين بالعمل في شركات جنرال موتورز فانوك أو كرايسلر ميتسوبيشي أو دايو دي إي سي، وأن يشتروا برواتبهم أجهزة البيانات اليابانية أو السيارات الكورية أو الروبوتات الماليزية.
صفحه نامشخص
انفتحت المصاريع مصحوبة بصرير معدني قصير، وخطا جونزاليس إلى الداخل. تفحص حارس مصري، يرتدي طاقية بيضاء وعصابة رأس مزركشة باللونين الأبيض والأزرق ويضع شارة الأمم المتحدة الرمادية، هويته ثم منحه ابتسامة سريعة عديمة المعنى - ظهرت خلالها أسنانه البيضاء المثالية من تحت شارب أسود - وأشار إليه بمواصلة المسير.
كانت جمارك عصبة دول جنوب شرق آسيا تنتظر ممثلة في شخص امرأة تايلاندية ضئيلة الحجم ترتدي زيا بنيا وتضع شارة كتبت عليها طلاسم غير مفهومة على عجالة. كانت ملامحها دمثة ومحايدة، وقد أرجعت شعرها الأسود إلى الوراء وثبتته بدبوس شعر بلاستيكي شفاف. وقفت خلف طاولة معدنية رمادية، وعلى الأرضية المجاورة لها كان ثمة ماسح متقدم متعدد الأغراض عرضه متران، وكانت أزرار التحكم الخاصة به وشاشاته وقراءاته كلها مختفية تحت غطاء قماشي أسود اللون. وعلى الجدران الخضراء القذرة كانت ثمة لافتات بعشرات اللغات معلقة على مسافات غير متساوية، توضح بالتفاصيل وبخط دقيق الفئات العديدة للسلع الممنوعة.
أشارت المرأة إليه كي يجلس منتصب القامة على مقعد مواجه للطاولة، ثم أخبرته بأن يضع حقيبة ملابسه والحاويتين على الطاولة.
تحدثت إليه، وعلى الفور تحدث جهاز ترجمة آلي مثبت إلى وسطها بلغة إنجليزية آلية محايدة قائلا: «سيجري فحصكم وإخلاء طرفكم.» ثم وضعت الحقيبة البنية على أول الحزام الخاص بالماسح، وسحب الجهاز الحقيبة مصدرا صافرة خافتة. بعد ذلك أعادت المرأة الحقيبة إلى جونزاليس.
تحدثت إليه ثانية، وقال المترجم الآلي: «ضع هاتين الحاويتين من فضلك.» بينما كانت تشير نحو الحاويتين المقاومتين للصدمات. مرر جونزاليس يده اليسرى على شاشة الولوج الخاصة بكل منهما ثم أدخل كود الدخول بيده اليمنى. انفتحت الحاويتان مصدرتين صوتا خافتا، وفي كل منهما ظهرت شاشة والتمعت أضواء تشخيصية فوق صفوف من وحدات الذاكرة، كل منها عبارة عن مكعب ثقيل من البلاستيك الأسود في حجم صندوق الأمانات الصغير.
رأى جونزاليس المرأة وهي تمسك نسخة من استمارة التصريح بالمعلومات التي ملأها جهاز «الميميكس» في ميانمار وسلم نسختين منها لحكومتي ميانمار وتايلاند. نظرت داخل إحدى الحاويتين وأشارت إلى صف من وحدات الذاكرة المغلقة الموضوع عليها شريط أحمر.
ثم قالت، يتبعها المترجم الآلي: «علينا الاحتفاظ بهذه الوحدات كي نتحقق من أنها لا تحتوي على أي معلومات محظور حيازتها.» «لقد فعلت جمارك ميانمار هذا. إنها سجلات تابعة لشركة سينتراكس.» «ربما تكون كذلك، لكننا لم نتأكد من هذا.» «يمكنني منحك أكواد الدخول لو أردت؛ فليس لدي ما أخفيه، لكن هذه الوحدات مهمة لعملي.»
ابتسمت المرأة وقالت: «ليس لدي المعدات اللازمة هنا. يجب فحصها على يد السلطات في المدينة.» وعكست نبرة المترجم الآلي عدم اكتراثها.
أحس جونزاليس أنه في مستهل مواجهة تعنت بيروقراطي؛ فقد قررت هذه المرأة، لأسباب غامضة، أن تحيل حياته إلى جحيم، وكلما حاول أن يضغط أكثر، ساءت الأمور أكثر. عليه بالاستسلام إذن. قال: «أفترض أنها ستعود إلي في أسرع وقت ممكن.» «بالتأكيد. بعد فحص دقيق. غير أنه من غير المرجح أن يكتمل الفحص قبل مغادرتك.» ثم أزاحت الحاوية من على الطاولة ووضعتها على الأرض إلى جوارها. كانت تبتسم ثانية، ابتسامة بيروقراطية متشفية. عادت إلى مكانها الأصلي وقد صارت حالة جونزاليس ضربا من الماضي بالنسبة إليها. نظرت إليه ولما وجدته لا يزال واقفا قالت: «هل يمكنني مساعدتك في شيء آخر؟» •••
بدأ عالم الآلة في التبدد، متحولا إلى ضباب، وبينما حدث هذا أضاءت صفوف من الأضواء المنخفضة الطاقة في أنحاء الغرفة، وبدأت أنماط الأضواء تمر بعدد من التغييرات المتسارعة بينما أعيد جونزاليس إلى الوعي. ولمدة ساعة من الزمن، كانت الغرفة مضاءة بالكامل عندما اكتملت سلسلة التزامن، وبدأت البيضة تنشق.
صفحه نامشخص
داخل البيضة رقد جونزاليس شاحبا، عاريا، في حالة أقرب إلى الغيبوبة، ومتصلا بالآلة: وكأنه سنو وايت الألفية الجديدة. امتدت قسطرة بلون اللحم من قضيبه المنكمش بفعل المياه، وخراطيم تغذية وريدية من كلتا ذراعيه. تجمع معجون مانع للتسرب ومضاه لتهيج الجلد حول الأنابيب الخارجة من فمه وأنفه، وكانت رائحة الأوزون الآتية من المعجون تغمره بالكامل.
اقتربت نقالة آلية من البيضة وبدأت أيديها، وهي كلابات لامعة من الكروم، في فصل الأنابيب والخراطيم. بعد ذلك عملت بالتعاون مع أيد وأذرع سوداء مرنة في ثخانة الحبل الغليظ من أجل رفع جونزاليس من البيضة ووضعه على سطحها.
أفاق جونزاليس في غرفة نومه وبدأ يئن قائلا: «الأمر على ما يرام.» وهمس الميميكس عبر مكبر الصوت بالغرفة قائلا: «الأمر على ما يرام.»
في وقت لاحق استفاق جونزاليس مجددا، ورقد في الظلام وتدبر حالته. كان يشعر ببعض الغثيان والضعف في ساقيه، لكن لم يكن ثمة فقدان ظاهر في السيطرة على حركته، ولا وجود لتأثيرات باراسيكولوجية مباشرة (ارتباك أو فقدان ذاكرة مؤقت أو حس مواكب) ...
نهض جونزاليس وذهب إلى الحمام، ووقف على البلاط الأبيض ووسط الألومنيوم المصقول والمرايا وقال: «حمام دافئ.» تدفق الماء مصدرا هسيسا وانفتح باب كابينة الاستحمام. جرى الماء على بشرته مزيلا العرق والمعجون من فوق جسده.
الفصل الثالث
الرقص في الظلام
في الصباح التالي، وقف جونزاليس يلقي نظرة من نافذته الأمامية، في جنوب حي كابيتول هيل، على المدينة وعلى الخليج. كان يشعر بالتعافي من البيضة بعد أن نام ليلة كاملة. وفي منتصف المسافة من التل امتد صف من الأبراج الحديثة الشاهقة، نصف دستة منها غارق في الشبورة، تكسو جدرانها ألياف بصرية تضيء بأنماط من الألوان الأحمر والأزرق والأبيض والأصفر.
انبعث من الشاشة الجدارية الموجودة خلفه صوت يقول: «شبكة الفن الرفيع، تعرض اليوم فقط: «إعلانات روتشيلد الأصلية والمقلدة» الأسطورية، وإنتاج أوروبي/تجاري من مهرجان كان، وتعرض أيضا برنامج «بهجة لكيلومترات عديدة» من إنتاج نيبون أوتو.»
قال جونزاليس: «اعرض.» ثم استدار ليشاهد الشاشة وهي تنقسم إلى عدة نوافذ، تظهر ثماني نوافذ في المرة الواحدة في عمليات بحث عشوائية. في الشاشة الواقعة في الركن الأيمن العلوي عرضت خدمة عناوين الأخبار ما اعتبرته أخبارا مهمة: تفاقم التفسخ الاجتماعي في إنجلترا، سلسلة أخرى من الانتصارات السياسية-الاقتصادية للكوريتين. وملخصات عن حالة البيئة: ثقب الأوزون الثاني فوق القطب الشمالي يسير وفق منحنى الإصلاح الذاتي المتوقع، بينما الثقب الثالث يظل على حالته، ونسب ثاني أكسيد الكربون غير مستقرة، والأوزون يصل إلى مستويات خطيرة على المخطط البياني، وتقلبات درجة الحرارة تواصل مخالفة أفضل التوقعات ...
صفحه نامشخص
ما الجديد في هذه الأخبار؟ تساءل جونزاليس. حري بها أن يسموها «أخبارا قديمة». رباه! تبدو هذه الأمور وكأنها قائمة منذ قديم الأزل.
قال: «ميميكس، ما رأيك في الهجوم؟»
أجابه جهاز «الميميكس»: «أمر خطير. نحن محظوظون أن ظللنا على قيد الحياة.» بدا أكثر خنوعا بقليل في أعقاب الرحلة داخل البيضة، كما لو أنه هو الآخر كان على مشارف الموت. لم يعلم جونزاليس كيف يشعر بهذه الأمور، نظرا لقدراته الشعورية المحدودة، حسب ظنه، وعدم قدرته على الشعور بالخوف.
سأله جونزاليس: «ما الذي يحدث في العالم الواقعي؟» «تركت لك والدتك رسالة. أتريد أن تراها الآن؟» «ولم لا؟»
ظهرت والدته على الشاشة وهي مستلقية على كرسي حدائق، ووجهها مختف خلف قناع يقيها من الشمس، وجسدها الذي لا تغطيه إلا قطعة بكيني واحدة ذات لون بني. جلست وقالت: «ألا تزال في ميانمار يا عزيزي؟ متى ستعود؟ أود الحديث إليك، لكنني لن أدفع مثل هذه التكاليف.»
أزاحت القناع الشمسي. كانت بشرتها مسمرة وبنيتها طيبة، وكان وجهها خاليا من التجاعيد تقريبا، رغم أن جلدها كان يتسم بتلك الرقة المميزة لعمرها. لم يكن ثدياها متهدلين كثيرا، وبدت من حيث الوجه والجسد كما لو كانت امرأة رياضية في الخمسين من عمرها تعرضت كثيرا للشمس، رغم أنها ستكمل عامها السابع والثمانين الشهر المقبل.
توفي والد جونزاليس من جراء تفش خاطف لوباء الإنفلونزا بينما كان الوالدان يزوران مدينة نابولي، ومنذئذ وجهت والدته طاقتها واهتمامها للحفاظ على صحتها ومظهرها. كانت تقضي نصف عامها في فيلات كوزوميل للتجديد؛ حيث أبقتها عمليات زراعة الأنسجة وإعادة التشكيل الجينية شابة. أما بقية الوقت فكانت تسكن في طابق كامل بأحد المباني غير المرتفعة بأحد الكمبوندات على شاطئ فلوريدا الذهبي المتدهور، إلى الشمال مباشرة من مدينة ميامي. كانت تدفع مقابلا باهظا، لكن كان بمقدورها تحمله.
كانت هي ووالده عضوين مميزين في جماعة الشيوخ الحاكمة؛ تلك العصبة الدائمة التوسع من الأغنياء والعجائز الذين ينافسون الشباب على موارد المجتمع. كان الشباب يمتلكون القوة والطاقة، بينما امتلك العجائز الثروة والسلطة والدهاء. لا وجه للمنافسة: فالشباب دون سن الثلاثين دائما ما يقولون إن هدفهم في الحياة هو «أن أعيش حتى أكون عجوزا بما يكفي كي أستمتع بها.»
وضعت والدة جونزاليس رداء قطنيا باللونين الأبيض والأزرق فوق كتفيها وقالت: «اتصل بي. سأكون بالمنزل في غضون أسبوع أو نحو ذلك. دمت بخير.»
كانت حواراتهما، ورسائلها المسجلة، دائما ما تجعلانه يشعر بالحيرة والغضب، لكن اليوم كان انغماسها في الذات أكثر من المعتاد. كان يريد أن يقول لها: «لقد شارفت على الموت، لقد كادوا يقتلونني يا أمي.»
صفحه نامشخص
غير أنه كان بعيدا عنها، مثلما تبعد سياتل عن ميامي. «وخطأ من هذا؟» هكذا تساءل صوت طفولي في رأسه. لقد اختار المجيء إلى هنا، إلى أبعد مكان عن جنوب فلوريدا لكنه لا يزال داخل الولايات المتحدة. أحيانا كان يشعر أنه ابتعد أكثر مما ينبغي؛ ففي فلوريدا كان الناس يلطفون من حرارة أجسامهم بتناول بالكحوليات والمشروبات المثلجة، أما هنا فكانوا يحتسون القهوة القوية كي يشعروا بالدفء. كثيرا ما كان جونزاليس يشعر بالضياع وسط كآبة الشماليين واهتمامهم بصحتهم، وبالاشتياق إلى الشهوانية والمشاعر الهسبانية المميزة لجنوب فلوريدا.
ومع ذلك فقد كان يكره العالم الذي ترعرع فيه. لقد رأى مهربي المخدرات ومروجيها ولاعبي القمار منذ أن كان طفلا، ورأى في هؤلاء جميعا النهم الشديد نفسه للمال والأراضي والسلطة، وسمع الأصوات الطفولية نفسها وهي تريد المزيد والمزيد. وفي الحفلات التي كان يقيمها والداه يذكر الوجوه المسمرة لقاطني جنوب فلوريدا، البيض والسود الهسبانيين الذين لفحتهم الشمس، رجال يرتدون حليا ذهبية ثقيلة ويخلفون وراءهم سحبا من العطر الباهظ، ونساء ذوات شعور متيبسة ونهود مرفوعة، كانت ضحكاتهن تشكل حاشية رقيقة لأصوات الرجال العالية. وكان يهرب من كل هذا على نحو غريزي مثلما يبعد الطفل يده عن النار.
لكنه كان يقف في هذا المكان وتلك اللحظة في أرض غريبة، ولم يكن يشعر أنه في موطنه في هذا الطرف من البلاد أكثر مما كان يشعر في الطرف الأقصى منها.
قال جونزاليس: «لا رد.» •••
في اليوم التالي جلس جونزاليس في حجرة التشميس؛ حيث اضطجع على الكسوة السوداء وتحت الزجاج المنقوش بينما كانت أفكار الموت تقض مضجعه. ملأ غليونا برونزيا بأوراق القنب الخضراء الصغيرة وغاص في غيمة من الدخان وهو يحتسي الشاي.
تحول ضوء العصاري المتسلل من النوافذ إلى اللون الرمادي، لون الملل والقنوط التام، وصار شعور الوحدة طاغيا. كان بحاجة إلى رفقة، هكذا فكر، وتساءل عما سيكون عليه الأمر لو امتلك قطا. حينها فكر في حقيقة الأمر، كيف أن غيابه سيطول وأن القط سيلهو بماكينات المنزل. سيقول روبوت التنظيف: «مرحى أيها القط.» وسيرغب جهاز «الميميكس» في برامج بيطرية ورابط تشخيصي ... اللعنة! بمقدورهم جميعا العيش من دون قط.
بعدها شعر بقرصة الجوع، فقرر أن يعد بعض التبولة. «أنت لا تولي العمل اهتمامك.» هكذا قال جهاز «الميميكس» بينما وقف جونزاليس يقطع أوراق النعناع والبصل الأخضر والطماطم، ويعصر الليمون ويقلب البرغل في صبر شخص مسطول.
قال جونزاليس: «هذا صحيح. أنا لست في عجلة من أمري.» «لماذا؟ منذ عودتك من آسيا لم تكن لك أي إنتاجية تذكر.» «سأموت يا صديقي.» تسللت رائحة الليمون والنعناع إليه، فأخذ نفسا عميقا ثم أضاف: «اليوم، أو ذات يوم بالتأكيد ... ما زلت أحاول فهم ما يعنيه الأمر لي الآن. الإنتاجية أمر طيب، غير أن التأقلم مع فكرة موتي ... أعتقد أن هذا أفضل.» اكتملت التبولة. كانت جميلة، وتمنى لو استطاع غمس وجهه فيها. •••
قبل أن يمضي وقت طويل على انتهاء جونزاليس من تناول الطعام، وصله طرد من تايلاند. وداخل طبقات الفوم والشرائط كانت توجد وحدات الذاكرة التي أخدها التايلانديون. وحين أوصلها بجهاز «الميميكس» تبين أنها خالية: أصفار، مستعدة للاستخدام من جديد .
وقف جونزاليس ونظر إلى الوحدات المثبتة في حاوية جهاز «الميميكس». «لا أصدق ذلك.» هكذا فكر في نفسه قائلا. كان هذا يعني أن كل سجلات التدقيق قد محيت. وأي بيانات يجمعها هو أو أي شخص آخر الآن من فرع سينتراكس في ميانمار ستكون عديمة القيمة؛ فمن المؤكد أن جروسباك قد حظي بما يكفي من الوقت كي يزور البيانات التي يحتاج إلى تزويرها. الموقف كله يكتنفه الغموض.
صفحه نامشخص