هكذا تكلم زرادشت: كتاب للكل ولا لأحد
هكذا تكلم زرادشت: كتاب للكل ولا لأحد
ژانرها
إن القاضي الأحمر يتساءل عن سبب إقدام المجرم على القتل، فيقول في نفسه: إن القاتل أراد السرقة أولا، أما أنا فأقول: إن نفس المجرم لم تقصد السرقة بل طلبت إراقة الدماء؛ لأنها كانت ظامئة إلى إغماد النصل. إن عقلية المجرم لم تفهم هذا الجنون فاندفع إلى ارتكاب جرمه، وعقليته تناجيه قائلة: ما يهمك أن تريق الدماء ما دام جرمك يوصلك إلى السرقة أو الانتقام، لقد أصغى المجرم إلى صوت عقليته المسكينة؛ لأن ما أسرت به إليه كان ثقيلا كالرصاص، فسرق بعد أن قتل لأنه أراد أن يبرر جنونه ولا يخجل منه.
وعاد جرمه فثقل عليه كالرصاص أيضا، فثقل عقله المسكين فاستولى عليه التخدر والشلل، ولو أن هذا المجرم تمكن من أن ينتفض بهامته لكان تهاوى حمله الثقيل عنه، ولكن من كان سيهز له رأسه يا ترى؟
لو أنك أنعمت النظر في هذا الإنسان، لما تجلى لك إلا مجموعة علل تتطلع بالعقل إلى العالم الخارجي مفتشة عن غنيمة تظفر بها.
ليس هذا الإنسان إلا كتلة أفاع اشتبكت، وهي في تدافع مستمر لا تسكن إلا لتتفكك منسابة في شعاب الدنيا تسعى وراء غنائمها.
انظروا إلى هذا الجسم المسكين! إن روحه الضعيفة طمحت إلى استكناه ما في الجسم من ألم ورغبات، فخيل لها أنها متشوقة إلى القتل.
إن من يتسلط عليه هذا المرض في هذه الأيام لتباغته شرورها فيريد أن يعذب الآخرين بما يتعذب هو به، غير أنه قد مر زمان من قبل كان له خير وشر هما غير خير هذه الأيام وشرها. ذلك زمان كانت تحتسب فيه شكوك الإنسان ومطامعه جرائم عليه، فكان المبتلى بالشكوك والمطامع يعد ساخرا ومنشقا عن المجتمع فيعمد هو إلى تعذيب الآخرين بعذابه.
إنكم لا تريدون الإصغاء إلى أقوالي؛ إذ ترونها تلحق الضرر بالصالحين بينكم، ولكنني لا أقيم وزنا لرجالكم الصالحين.
إن في هؤلاء الرجال من تشمئز منه نفسي، وليس ما أكره فيهم ما يعد من الشرور، فإنني أتمنى لهم جنونا يوردهم الردى كجنون المجرم الشاحب.
والحق إنني أريد أن يدعى هذا الجنون حقيقة أو إخلاصا أو عدلا؛ لأن فضيلة هؤلاء الناس لا تقوم إلا على إطالة عمرهم لقضائه بالملذات السافلة ولا ملذة لهم إلا بالارتياح إلى نفوسهم والرضى عنها.
ما أنا إلا حاجز قائم على ضفة النهر، فمن له قدرة على التمسك بي فليفعل، ومن لا طاقة له على ذلك فلا يظن أني سأكون طوع يده يقبض علي كما يقبض الكسيح على عصاه.
صفحه نامشخص