ووجدتني أسأل كبار المعمرين في بلدنا هذا السؤال، وأجمعوا كلهم أن السلطان حامد بالتأكيد لا يمت بصلة إلى أحد من بلدنا، وربما يكون غريبا، ولكن أحدا على وجه الدقة لا يعلم، كل ما يعرفونه أن بلدنا، والحمد لله، لم ينشأ فيها ولي من أوليائه، ولا بني لأحد من موتاهم مقام.
ولم يتصور أحد ممن سألتهم أية دهشة كانت إجابته تحدثها.
فإذا كان السلطان حامد غريبا، فلماذا اختار بلدنا دون سواها ليدفن فيها، ثم من بنى له هذا المقام الحجري وكل قبور بلدنا من الطين؟ ومن اشترى الكسوة؟ ومن صنع له تلك الرقبة الطويلة ووضع فوقها القمامة؟ ومن زرع هذا الكافور الطويل؟
أغرب شيء أن المعمرين في بلدنا كانوا يرون أسئلتي هذه ويسمعونها، وأحس أنهم يحسبونني مخبولا؛ لأنني أعجب من هذه الأشياء، وكأنني أسأل عمن حفر البحر أو اختار اسم بلدنا أو حدد ميزان النقطة، لماذا أسألهم عن شيء كان موجودا قبل أن يولدوا، شبوا فوجدوه قائما، ومن المحتمل أنه سيظل قائما إلى يوم الدين؟
وأنا بدوري كنت أعجب وأظنهم هم المخرفون المخبولون؛ إذ كيف لم يتبادر إلى أذهانهم أبدا أن يعرفوا لماذا دفن السلطان حامد في بلدنا دون سواها، ولماذا يبنى له مقام؟
وكان النقاش بيننا يطول، أنا بجلبابي الإفرنجي ورأسي العاري ولساني الذي لا يكف عن الخوض في أي موضوع، وهم بلحاهم الطويلة ونظرهم القليل وعرفهم الذي يعرف حدوده، ويعرف أين يقف ومتى يسير، حتى جدي، كم صنعت له فناجيل القهوة، وكم انتظرت حتى يزن رأسه وتعود الابتسامة إلى وجهه، وما أكاد أفتح فمي أسأل حتى يقول: «قلت لك ميت مرة فكر في اللي ينفعك انت، فكر في كتبك، مالك انت ومال الحاجات دي؟!»
وإذا أحسست أني أوشك أن أثير غضبه أدعي أمامه أني اقتنعت، ولكني لم أكن أقتنع، فالأسئلة التي كانت تراودني عن السلطان حامد لم يكن يستطيع عاقل أن يسكت عنها، كائن ضخم عملاق مثله له في كل بيت جدار، وذكره على ألسنة الناس باستمرار، ومكانته لا يرقى إليها أكبر واحد من الأحياء أو الأموات، ومع هذا لا يعرف عنه أحد شيئا، ولا يريد أن يعرف عنه؟! أليس هذا أمرا محيرا يدفع إلى الجنون؟! أو بالقليل يدفع إلى الغضب؟!
وماذا يدفع إلى الغضب أكثر من أن أسأل واحدا من شباب القرية أو رجالها مثلا، وأضع أمامه تلك المشكلة المحيرة فيقول: «أهه، شالله يا أهل الله!»
وبدأت أضيق بالسلطان حامد، وأضيق أكثر بأهل بلدنا، وكأنه جمع ثروة من حرام لا حق له فيها، وكأنهم تنازلوا له عن قروشهم ليجعلوه غنيا، هكذا، بكل سذاجة وعبط.
وذات مرة سألت الشيخ شلتوت صاحب الكتاب، فلم أظفر منه بطائل، وكنت أعرف أني لن أظفر من وراء سؤاله بطائل، فما سألته مرة عن شيء إلا وصاغ إجابته بطريقة لا تسمن ولا تغني من جوع، سألته لم يحتل السلطان حامد تلك المكانة الضخمة عند الناس، فقال لي: «لأنه كان رجلا تقيا ورعا.»
صفحه نامشخص