ويدخل طابور الرجال، طابور عمره ما وقف طابورا، طابور لا تلمح فيه سوى وجوه رجال قلقة تملؤها عجلة السباق المجنون للاستحواذ على الرغيف وانتزاعه من أفواه الآخرين، وجوه خربشتها الحياة وخشنتها وجرحتها، والجراح لا تزال يقطر منها الدم.
وحين تبلغ الساعة العاشرة أنتهي من عالم الأطفال والفتيان والكبار لأدخل في عالم آخر، عالم الموتى، وللأموات هم الآخرين عالمهم ومشاكلهم، والميت لا ينتهي أمره أبدا بموته، فقد يثير بوفاته أضعاف أضعاف المشاكل التي أثارها بحياته، فإذا كان عقاب أهل المولود إذا هربوه إلى الدنيا بلا تصريح أو شهادة ميلاد هو الغرامة جنيه، فعقاب أهل المتوفى إذا هربوه من الدنيا ودفنوه بلا تصريح هو الحبس والسجن، وإذا كانت الحكومة لا يهمها كيف يعيش الإنسان طالما هو حي، فهي توليه العناية القصوى إذا مات، والقانون لا يسأل أبدا كيف عاش، ولكنه يصرخ بأعلى صوته: كيف مات؟
وإذا كان المعروف أن بعض الظن إثم، فالمشرع يرى أن كل الظن فضيلة عظمى؛ فأي إنسان يموت لا بد أنه مات مقتولا ما لم يثبت عكس ذلك، وأنا الذي كان يقع على عاتقي إثبات ذلك العكس، فعلي أن أكشف على كل متوفى وأعاينه وأفحصه وأشمشم وأرتاب، حتى إذا ما اطمأن قلبي خمنت السبب التقريبي لوفاته، وقيدت ذلك في الشهادة، وفي لحظتها فقط يصبح من حق الميت أن يدفن ويتوكل على الله إلى العالم الآخر.
في الساعة العاشرة كنت أبدأ عملي مع الموت، وأول من كنت أراهم في هذا العالم هم صبيان الحانوتية حين يدخلون ويتجمهرون أمام المكتب، وكان عم محمد أحد هؤلاء الصبيان، وأول الأمر لم أكن أستطيع تمييزه من بينهم؛ فقد كانوا جميعا متشابهين، وإذا كان الصبيان في العادة لا يمكن أن تتعدى أعمارهم مرحلة الصبا، فأولئك كانوا أغرب صبيان؛ إذ إن أصغرهم لا بد قد تجاوز الخامسة والستين من زمن طويل، كلهم عواجيز، وكبرهم ليس من ذلك النوع الصحيح السليم، مثل الموظفين المحالين إلى المعاش مثلا أو المتقاعدين، الذين تجدهم قد ابيضت شعورهم حقيقة، وتجد وجوههم فيها تجاعيد وظهورهم قد أصابها الاعوجاج، ولكنك تحس إذا نظرت إلى الواحد منهم أنه رجل كبير في السن ليس إلا، هناك نوع من الكبر يمسخ الكائن الحي، ويحيله إلى هيكل هش مرتجف، هذا الوجه الإنساني المتناسق التقاطيع، المرتب القسمات يستحيل إلى زبيبة، مجرد زبيبة جافة مكرمشة لا يمكن أن تقول أبدا إنها كانت حبة عنب حمراء مملوءة بالدم والحياة في يوم من الأيام.
كان صبيان الحانوتية كلهم من هذا الطراز، الطويل فيهم قد زاده الكبر رفعا وطولا، والقصير قد زاده العمر الطويل قصرا.
ودائما وجوههم ضامرة، غلبانة، جلدها خشن مجعد، وذقونها بيضاء نابتة، ونظراتها كليلة، والعين الواحدة لا بد مصابة بأكثر من داء، ولهم ملابس «شغل»؛ جلاليب قديمة ممزقة قد تختلف أنواعها وألوانها ولكنها قصيرة كجلاليب التلامذة لا تتعدى الركبة، ولهم غطاء رأس واحد، فلكل منهم عمامة عبارة عن خرقة، أي خرقة، ملتفة حول طاقية، أي طاقية، أو حتى يتعمم بها على اللحم.
كنت ما أكاد أراهم حتى يخالجني الضحك؛ فقد كانوا يبدون بأعمارهم تلك وعاهاتهم وملابسهم وعمائمهم ككائنات غريبة عن عالمنا هبطت لتوها من كوكب آخر كل ما فيه شائخ وعجوز.
وكان عمل هؤلاء «الصبيان» يبدأ من اللحظة التي تطلع فيها روح الميت، تماما كالملائكة؛ فإذا كان الملائكة يتولون حمل الروح إلى السماء «كعابي» أو على مراكب الشمس، فصبيان الحانوتية يتكفلون بالجثة حتى يغيبوها في باطن الأرض، وقد يبدو للبعض أن عمل الحانوتية أسهل، ولكنه في الواقع أصعب مائة مرة من الصعود بالروح إلى السماء! ويبدو للبعض أنه عمل بغيض، والواقع أنه ليس بغيضا ولا يحزنون، إنه مجرد عمل كغيره من الأعمال، وإذا كنا نعمل فقط من أجل أن نأكل، فكل عمل بغيض، وكل عمل شغل، وكل شغل كار، وكل كار له أصول.
والأصول أن معلم الحانوت الكبير هو الذي يجلس في الدكان يتلقى بلاغات الوفاة، ويقابل الزبائن، ويقبض العربون، وفي أحوال نادرة يتولى بنفسه غسل الكرام.
أما الصبيان فهم الذين - حين يتم الاتفاق - يذهبون جريا في جري، إلى بيت المتوفى، ويتولون معاينته وخلع ملابسه، ثم يجري الواحد منهم إلى مكتب الصحة قبل فوات الميعاد، ثم يعود جريا في جري مستصحبا الطبيب، ثم يجري إلى الحانوت، وإلى الدكان أو العطار، وبأذرعه النحيلة يحمل الميت إلى المغسلة ويلبسه الكفن، ويسخن الماء ويدلقه، ويضع الميت في النعش، وقد يساهم بقسط كبير في حمل المتوفى إلى الجامع والمدافن، والنعش له ذراع خشبية طويلة غير ممسوحة أو مهذبة تستقر فوق عظمة الطوق العجوزة التي لا يغطيها لحم فتكاد تقطعها، والنعش ثقيل، والمسافة دائما طويلة، وما أفظع الصيف، والمصيبة الكبرى لو كان الميت من أصحاب الأوزان الثقيلة.
صفحه نامشخص