عدت من إجازة الصيف وبقعة الظل تحجب عني الكلمات - مقروءة أو مكتوبة - فكان لا بد لي من تأملات أوازن فيها بين البصر الذي فقدته أو كدت أفقده، وبين ما أنتجته من قراءة وكتابة على طول السنين، فرأيت عندئذ كيف خرجت من الحياة بصفقة المغبون، ثم ازدادت هذه الرؤية جلاء، عندما قرئت علي الرسائل التي أرسلها القراء خلال الصيف، فلم يسعني إزاء بعضها، إلا أن أسخر من نفسي قائلا: من أجل هذه النتائج سكبنا ضياء البصر؟ وهاك خلاصة لرسالتين منها:
رسالة أرسلها طالب بكلية الهندسة في جامعة أسيوط، يقول لي فيها ما معناه أني بدعوتي إلى التزام العقل وأحكامه، في الأمور التي لم تخلق لأحكام الهوى وميول الوجدان، يقول الطالب إني بهذه الدعوة على ضلال، ثم يقص البرهان على ضلالي في الدعوة إلى العقل، فيقول: «منذ أسبوعين سمعت مصادفة عن رجل فقير مغمور يقطن في قرية بجوارنا، ويجيد قراءة الكف، وعليه خادم من الجن، ولما كنت قلقا على نتيجة الامتحان، فقد قررت الذهاب إليه جريا وراء كلمة اطمئنان ولمسة هدوء، وأمسك الرجل بكفي ثم قال ... إلخ.»
ولما كان قارئ الكف الذي يقوم عليه خادم من الجن (كما يقول الطالب في خطابه) قد أنبأ الطالب بالنتيجة قبل إعلانها، فأثبتت الأيام بعد ذلك أنه قد صدق فيما أنبأ أو تنبأ، فإن الطالب يختم خطابه بهذه الخاتمة «أين العلم من هذا؟! أين المنطق؟ أين القوانين الطبيعية؟!» ثم يوجه إلي أنا الكلام فيقول: «أنت المتهم الأول فما هو دفاعك؟ أين منطقك العتيق؟ وليلحظ القارئ كلمة «عتيق» هنا، فقراءة الكف بتوجيه من الجن هي عنده الأمر «الحديث» ... لقد كنت تلميذك عشرين عاما نظريا - على الورق - وعندما دخلت أول امتحان عملي كفرت بك، ومزقت المفكرة.»
نعم، لقد سخرت من نفسي بعد أن قرئت علي هذه الرسالة، وتساءلت: أمن أجل هذه الثمرة المرة سكبنا ضياء البصر؟! ماذا كان في وسع الشعب أن يصنع لتطوير نفسه، تطويرا يخرجه من الظلمات إلى النور، أكثر من أن ينفق على مثل هذا الطالب، ما أنفقته من مال اقتطعه العاملون من أقواتهم القليلة؛ ليمكنوا طالبا كهذا من دراسة «الهندسة»، فبدل أن تمده الهندسة بالعلم ومنطق العلم، مما عساه أن ينقلنا من التخلف الحضاري الذي نعانيه؛ خرج صاحبنا من هذا كله، بما لا يزيد مقداره شعرة عن مواطن آخر لم يكتب له حظ التعليم، ولا كلف الشعب مليما واحدا، إذ خرج صاحبنا من هذا التعليم كله، بأن يلتمس المعرفة عند «رجل فقير مغمور يجيد قراءة الكف، وعليه خادم من الجن!»
واحسرتاه! ألف ألف حسرة على ما أنفقه الشعب الكادح من لحمه ودمه، وعلى ما سكبناه من ضياء الأبصار على الورق، إذا كانت الثمرة التي حصدناها وحصدها الشعب؛ هي أن يخرج طالب في كلية علمية، يسودها منطق العلم ومعايير العلم ودقة العلم، أن يخرج ذلك الطالب من هذا كله؛ ليبحث عن عراف الجاهلية الأولى، ليتنبأ له بنبوءات يستعين فيها بخادم الجن!
ولنا أن نسأل الطالب بعد ذلك: وماذا أفادك العراف من علم؟! هل أمدك بمعادلة رياضية جديدة لم تكن تعرفها، وتنفعك في تخطيط المدن وإقامة الجسور وشق الترع ومعالجة الأجهزة العلمية في مجال الكهرباء؟! ماذا أفدت أنت أو ماذا أفاد الشعب بعد الذي أنفقته في تعليمك، من أن العراف «الفقير المغمور»، قد أنبأك بنتيجة الامتحان قبل إعلانها؟! وهل كان هذا السبق في معرفة النتيجة جديرا، بأن تريق من أجله كرامة العقل ووقار العلم؟ اعلم يا بني أن النهضة الأوروبية التي لا بد أن تكون قد سمعت عنها، قد وقعت يوم أن أسدلت ستارا كثيفا على أمثال هذه السخافات، لتفسح ساحة المسرح لرجال آخرين من أمثال جاليليو وكبلر ونيوتن، لا يقوم عليهم في عملهم خدام من الجن، بل يهديهم منطق العقل ومنهج العلم، وفي سبيل اكتساب ذلك المنطق وهذا المنهج، أرسلناك وأرسلنا ألوفا مثلك إلى كليات الجامعة، لعلكم تنهضون بنا كما نهض أمثالكم بسوانا.
وأنتقل إلى رسالة أخرى، يوجه صاحبها إلي أقسى اللوم، لهذه الكتابة التي أكتبها، فكيف يجوز (لكاتب كبير) مثلي - هكذا قال - أن يترك المشكلات التي يعاني منها الناس، ليكتب عن أمور الله أعلم بمصادرها ومواردها؟! ثم يتمنى لي صاحب الرسالة أن أقوم بسياحة في أرجاء مصر: «باحثا عن شقة، وباحثا عن دواء - أي دواء - ومتعقبا لسلفه، وواقفا في طابور، ولاهثا وراء مصلحة لك تقضيها هنا أو هناك، ومستخدما لوسيلة نقل عامة أو خاصة «تاكسي»، وزائرا لمدرسة أو جامعة أو مستشفى، ودائما تائها حائرا تشكو للسماء ظلم أهل الأرض، في قسم الشرطة أو محكمة، أو جريحا - لا قدر الله - على قارعة الطريق، أو قارئا للصحف والمجلات المصرية، أو مستعما للإذاعة المصرية أو مشاهدا للتليفزيون المصري، أو متفرجا في صالة عرض تعرض الأفلام المصرية، أو جالسا على كرسي بين النظارة في مسرح مصر، أو ... أو ... ويشترط أن تقوم بهذه السياحة على نفقتك الخاصة، ودون الاستعانة بأسلحة القرابة والمحسوبية والوساطة والحظوة والتفرقة في الممعاملة بين سيد وعبد من الناس ...»
هذا جزء من الرسالة التي أشرت إليها، ولعلي قد أنصفت صاحبها، بأن أعلنت في الناس أوجع ما فيها، لكنك يا صاحبي - والخطاب هنا موجه لصاحب الرسالة - لم ترد أن تفرق بين كتابة وكتابة، إنك تريد من كل من حمل القلم، أن يسدل بقلمه ذاك مسبحة يعد على حباتها صباحا ومساء، وما بين الصباح والمساء، قائلا: مواصلات، تليفون، مجاري. إن مكنة المجتمع يا سيدي هي كالساعة لها عقارب تظهر أمام العين، ولها كذلك تروس تخفى عن العين، فأيهما في رأيك أصلح إذا ما فسدت الساعة: أن نظل نحرك العقارب ظاهرة بأصابعنا لتأخذ وضعها الصحيح، أم أن نكشف تروسها الخبيثة لنصلح ما فسد منها، فتعتدل العقارب بالتالي ومن تلقاء نفسها؟
صحيح أنه لا بد من الإعلان عن مواضع العلة في حياتنا، وهذا عمل لا تنقطع الصحافة ورسائل قرائها عن أدائه، لكن هنالك عملا آخر، يريد بدوره من يتصدى له ويضطلع به، وهو تعقب العلل إلى جذورها، على أمل بأن إصلاح الجذور يستتبع إصلاح الفروع والثمر، وأعتقد أني فيما أكتبه من هذا الفريق، فإذا لم أكن قد نفعت أحدا بما لبثت أكتبه بضع عشرات من السنين، كان لي الحق أن أسال نفسي ساخرا: أمن أجل هذه النتيجة سكبت ضياء البصر؟!
كشف حساب
صفحه نامشخص