والفرق بين هاتين الحالتين، هو نفسه الفرق بين موقفين من الحياة: موقف من يضع بين يديه موروثا تركه السابقون، وما عليه إلا أن يلتزمه حرفا حرفا، إنه قد يحفظه عن ظهر قلب، ما وسع ذاكرته أن تحفظ، أو أن يعمل في إجرائه تحليلا وتركيبا، ما أسعفته قدرته على التحليل والتركيب، لكنه لا يضيف إليه سطرا، فكأنما كل همه هو أن يخرج كلاما من كلام، كالطاحونة تطحن الغلال دقيقا، فتوضع الغلال في وعاء، ثم تدور الآلة وتفعل فعلها، فتخرج الغلال في صورة أخرى هي الدقيق، وهي بذلك لا تضيف إلى الموجود مثقال ذرة، وربما أنقصت منه خلال عملها مثقال ذرات.
وأما الموقف الآخر فهو موقف الذين يكشفون الجديد بعد خوض التجربة؛ يستوحون القديم ليضيفوا إليه، أو ليصححوه، فلئن كان شعار الأقدمين هو: القديم المأمون خير من الجديد المجهول، فشعار المجددين هو: بل الجديد المجهول أولى؛ لأنه الوسيلة الوحيدة إلى التقدم، لقد كانوا يعلموننا ونحن صغار أن «من فات قديمه تاه.» وأود لو علمنا صغارنا اليوم أن «من اكتفى بقديمه جمد ومات.»
إذا أردنا أن نغير وجه الحياة التي نحياها، فلن يكون ذلك بأن نفتح كتب السالفين، لنروي عنهم ما قالوه، وننقل عنهم ما صنعوه، وإنما السبيل القويمة بل السبيل الوحيدة - هي أن نسأل عما يراد تحقيقه في «المستقبل»؛ فالماضي لا بد منه، لا لنجعل منه نموذجا نحتذيه بل ليكون مصدرا للإلهام فيما ينبغي أن نصنعه. إن ولاءنا لآبائنا، يجب أن يكون في محاكاتهم في وقفتهم تجاه الحياة، لا في إعادة ما صنعوه حرفا بحرف، كانت وقفة آبائنا في عصور القوة والطموح، هي في المغامرة والمخاطرة، هي في إبداع الجديد، ليضيفوه مرحلة جديدة في حضارة الإنسان، والولاء لهم إنما يكون في اتخاذنا من حياتنا وقفة كهذه: تبدع وتضيف، تخاطر وتغامر، تخوض التجربة وتتعرض للخطأ لتعرف ما الصواب.
والمستقبل الذي نريد أن نبدعه خلقا جديدا، بتفكير علمي سليم، ليس شيئا يأتي «بالجملة»، ولكنه تفصيلات تتحقق «بالقطاعي»، برغم أن هذه الأجزاء المتفرقة تتكامل آخر الأمر بعضها مع بعض في كيان عضوي واحد، المستقبل المطلوب يساق في عدة أسئلة، كل سؤال منها يتطلب الجواب: ماذا نريد للزراعة في كذا من السنين؟ ولطرق المواصلات؟ وللصناعة؟ وللتعليم، وللقضاء؟ وللأسرة؟ إلى آخر جوانب الحياة العملية التي نعيشها الآن، والتي نريد أن نعيشها غدا، وليس في كل هذه الأسئلة سؤال واحد يستطيع تراث الأقدمين وحده أن يقدم له الجواب.
صنع الحياة، وهي متجددة كل يوم، عمل يضطلع به الإنسان وحده دون سائر الكائنات، وهو عمل يخطئ ويصيب، ولكنه يصيب أكثر مما يخطئ، وبهذا وحده بنيت الحضارات، ولو أراد الإنسان أن ينجو من خطأ المغامرة، لتخلى عن الأمانة، التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، فالنجوم تدور في أفلاكها كما رسم لها فلا تضل، وكذلك تتحرك الأرض وتنشأ الجبال كما أريد لها فلا تحيد، لكنها جميعا قد تدوم دوام الأبد، دون أن تضيف من عندها شيئا، وأما الإنسان الحي فكان قدره أن يصنع الحياة خطوة أعلى من خطوة، ومرحلة أرقى من مرحلة، فلا ينفعه أن ينظر إلى الوراء، إلا بمقدار ما ينير له الطريق إلى أمام.
ولماذا لا تأخذ من شبابك نفسه درسا يعلمك؟ إذا أصابك جرح فسوف يلتئم، بدفعة الحياة وقوة التجديد، إذا ضاق بك الواقع طارت بك الأحلام إلى آفاق بغير حدود، لا أحلام النعاس بل أحلام الوعي المتنبه - فتلك هي طبيعة الشباب، فالفرق بعيد بين اليقظة الحالمة والحلم اليقظان، وربما كان الفرق هو ما أراد جيمس جويس أن يبينه في كتابيه: «يولسيز» (أو عوليس كما يكتبه الزملاء في سائر أرجاء الوطن العربي) و«يقظة فينجان»؛ في الكتاب الأول أحلام تعاقبت حلقاتها في تيار الشعور، عند رجل تباعدت فيه حياته الظاهرة عن حياته الباطنة؛ فكان أقرب إلى اليقظان الحالم، وفي الكتاب الثاني صورة أخرى هي صورة من تظنه شاردا مشتت الذهن، وهو في حقيقته مفتوح العينين مرهف الأذنين، لكل ما يدور حوله من صورة وصوت، وذلك هو نحن اليوم، فتحسب أن الحياة قد أظلمت من حولك، مع أن الوعي صاح والصبح قريب.
محنة وامتحان
لم يكن قد بقي لي من إجازة الصيف إلا بضع ساعات، أستقل بعدها الطائرة عائدا إلى الوطن الحبيب، حين ألقيت بصري على صحيفة كانت في يدي؛ لأقرأ فيها شيئا لم أكن قرأته في الصباح الباكر، فإذا بظل خفيف أراه عند موقع البصر من الصحيفة، يتحرك من العين كيف تحركت، ظننته غبارا على عدسة المنظار، فخلعت المنظار ومسحت العدسة بمنديلي، وأعدته إلى موضعه ونظرت ، فرأيت بقعة الظل ما زالت تحجب عني الكلمات، وأسرعت إلى اختبار آخر لأستوثق من أن الظل الطارئ، لم يكن وهما كالوهم الذي رأى به ماكبث خنجرا في الهواء، ولم يكن ثمة من خناجر، وإنما هو وهمه الفازع من جريمته، أقول إني أسرعت إلى اختبار آخر؛ لأفرق بين وهم وحقيقة، فأخرجت من جيبي قلما وورقة وهممت بالكتابة، فإذا الظل هناك يحول بيني وبين أن أرى ما أكتبه، وبعدئذ تتابعت المواقف الحزينة؛ فساعة الصفر قد حانت، وهنالك استمارات يملؤها المسافرون، فاستحالت علي الكتابة.
كانت تلك المحنة نفسها هي الامتحان؛ لأبلو نفسي أمام الكوارث المفاجئة كيف تكون؟ فإذا تلك النفس هادئة مستسلمة، فاهمة غير فازعة ولا جازعة، كأنما كانت تتوقع حدوث الذي حدث، ولم يبق إلا أن تتحدد ساعة الحدوث، إنني لست خالق نفسي - هكذا سمعت صوتا يهمس في ضميري - ولو كنت خالق نفسي لوهبتها البصر الذي تريد، لكنني مخلوق تشكله الأحداث، وما عليه سوى أن يقابل تلك الأحداث الطارئة، بما يستطيع بذاته أو بما يستطيع بغيره.
وبهذه النفس المطمئنة المستسلمة الهادئة، قصدت بهداية من الله إلى الدكتور إبراهيم عبود، ولم أكن أعلم عنه إلا شهرته في طبه، وحسن رعايته في إنسانيته، لكنه فجأني بعلاقة أخرى، لم أكن أدري من أمرها شيئا، بل لم أكن أتوقعها، وهي علاقة القارئ بالكاتب، وما زلت حتى هذه اللحظة تحت علاجه، ولو أنني خلال هذه الأسابيع قد رأيت عيني وقد عادت إليها سلامتها إلا قليلا، لما جرؤت - في غيبة من الطبيب - أن أمسك بالقلم.
صفحه نامشخص