110

حضارة العرب

حضارة العرب

ژانرها

ويمكن الباحث أن يلاحظ في دمشق وحدها قصورا على الطراز العربي القديم مشتملة على وسائل للراحة والرفاهية مع الذوق لا يرى مثلها في أرقى مساكن أوربة، ومن دواعي الأسف أن نرى سنة الكون تجري حكمها على هذه القصور فتزول.

شكل 1-13: محراب المسجد الأقصى ومنبره بالقدس (من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).

وبما أنني سأتكلم في فصل آخر عن أحد هذه القصور فإنني أكتفي الآن بذكر الجامع الكبير الذي هو أقدم مباني دمشق.

شكل 1-14: برج الرملة (من صورة فوتوغرافية).

بني الجامع الكبير، الذي يرجع قسم منه، على الأقل، إلى ما بعد الهجرة بزمن قليل، على أنقاض معبد وثني حوله النصارى إلى كنيسة، ثم التهمته النيران في سنة (461ه / 1069م) فجدد بناؤه، وهو دون ما كانت عليه حالته الأولى، وأقل أهمية من مساجد القاهرة على الخصوص.

وأقيم جامع دمشق الكبير على هيئة المساجد الإسلامية الأولى، فهو يتألف مثلها من ساحة كبيرة قائمة الزوايا ذات أروقة خصص بعضها للصلاة، وأقيمت على أركانها مآذن، وسنصف في الفصل الذي نتكلم فيه عن عرب مصر مساجد كثيرة من هذا الطراز.

وروى مؤرخو العرب أن الرخام النادر كان يستر أسفل جدران ذلك المسجد الجامع، وأن الفسيفساء كانت تستر أعلاها كما تستر قبته، وأن سقفه كان مصنوعا من الخشب المموه بالذهب، وأن مصابيحه، وعددها ستمائة، كانت من الإبريز، وأن محاريبه كانت مرصعة بالحجارة الثمينة.

ولم يبق من تلك الزينة سوى الشيء القليل، وتزين جدرانه الآن خطوط جميلة، ويزين نوافذه زجاج ذو ألوان كثيرة، ويشاهد في مواضع منه أثر للفسيفساء القديمة.

ويشتمل ذلك الجامع الكبير على مئذنتين مربعتي الشكل، وعلى مئذنة ثالثة أنيقة مثمنة الشكل ذات أروقة منضدة ومنتهية بكرة وهلال، ومئذنة العروس أقدم هذه المآذن الثلاث، وترجع في قدمها إلى القرن الأول من الهجرة كما يعتقد، ومئذنة عيسى، وهي إحدى هذه المآذن، مربعة الشكل، وتقول القصة العربية: إن عيسى سينزل على ذروتها يوم الحساب لا ريب.

ظهر مما تقدم أن العرب احترموا منذ دور الفتح الأول، آثار الأمم التي ملكوها ولم يفكروا في غير الانتفاع بحضارتها وترقيتها، وذلك خلافا لكثير من الأمم الفاتحة التي جاءت بعدهم، وأن العرب الذين كانوا أميين في بدء الأمر لم يلبثوا أن فاقوا أساتذتهم، وأنهم تعلموا بسرعة ما كانوا يجهلون من فنون الحرب، واستعمال آلات الحصار الرومية؛ فسبقوا أعداءهم في ذلك، وأنهم بعد أن كانوا مبتدئين في العلوم والفنون ماثلوا الأمم الأخرى فيها بفضل ما أنشأوا من المدارس ثم تقدموها، وأنهم، بعد أن كانوا غير عالمين بفنون العمارة، وبعد أن استخدموا مهندسين من الروم والفرس في تشييد مبانيهم، استطاعوا بالتدريج أن يتخلصوا كل الخلاص من كل مؤثر أجنبي بما أحدثوا من التغيير والتبديل في فنون العمارة وفق ذوقهم الفني كما نرى ذلك عما قليل.

صفحه نامشخص