109

حضارة العرب

حضارة العرب

ژانرها

يرى السائح الذي يقترب من دمشق أنه لا شيء يعدل عظمتها وروعتها وسحرها، فلدمشق غوطتها النضرة التي تقع بين سهل واسع، والتي تتخللها منازل القوم وحدائقهم، والتي تحيط بأغرب ما في الدنيا وأسطع ما فيها من أسوار خلافا لمعاقل الغرب الشاحبة الكامدة القذرة، وتبدو هذه الأسوار، المؤلفة من حجارة صفر وسود مدورة ومربعة ومثلثة على ألف شكل مع الانسجام، خملة موشاة بالزبارج كما وصفها شعراء الشرق.

وليس ذلك النطاق كل ما يبدو للأعين، فهنالك أسوار في داخل المدينة تفصل بين أحيائها، وهنالك أسوار ذات أبراج مربعة قائمة على جوانبها، وهنالك أسوار تعلوها زخارف على شكل عمائم.

ولكن هذا ليس سوى المرحلة الأولى من المنظر، فصميم المدينة أسنى وأبهى، وهو يتألف من أشجار تألفه من بيوت، وذلك أن هنا صفا من شجر السرو، وهنا محلا للنزهة، وهناك أقواسا عربية، وهناك سوقا للأخذ والعطاء، وهنالك نخلا تهز رءوسها الجميلة فوق حوض على شكل نصف دائرة لعين عظيمة، وهنالك أشجارا مثمرة مصفوفة على شكل رقاع الشطرنج داخل قصر إسلامي، ثم هنالك أكثر من ألف قبة تعلوها الأهلة النحاسية والمآذن الرفيعة القائمة على جوانبها.

ولتلك الروضة المزهرة أشجار عالية وحدائق جميلة ذات وقع في النفوس كأشعة الشمس الوهاجة، ولها شعب بردى السبع المتلوية الفضية التي تهب دمشق سحر الألوان أيضا؛ تلك هي دمشق التي يسميها العرب بالشام، والشام ما يسمي به العرب بلاد سورية.

والأوربي، حين يدخل دمشق التي يسميها العرب درة الشرق، لا تستهويه أول وهلة، وإنما تؤثر فيه طرق معوجة قذرة تقوم على طرفيها بيوت خربة ذات جدران مصنوعة من طين وتبن، وتؤثر فيه أعفار تعمي الأبصار بما لا يتصوره الإنسان، ولا يزول هذا التأثير السيئ عن الأوربي إلا بعد تألفها.

وتجارة دمشق الواسعة القائمة بينها وبين بقية الشرق تمنحها حياة عظيمة وطابعا شرقيا خاصا، والقوافل التي تأتي من بغداد توصل إليها منتجات فارس والهند، وتحمل القوافل إلى ذينك البلدين نسائجها الحريرية المشهورة وبزوزها وجلودها المدبوغة ونحاسها المكفت بالفضة.

وأقول، مكررا: إنه يجب على من يرغب في اجتلاء الشرق وألوانه اللامعة أن يزور دمشق، وأهم ما يستوقف النظر في هذه المدينة القديمة ويبدو متنوعا هو طرقها وأسواقها التجارية الطريفة، واستجلاء أمثلة مختلف أمم الشرق في بضع ساعات، ففيها يرى الفرس ذوو القلانس الفروية والخناجر الزنارية، ويرى السوريون ذوو الحلل المخططة والكوفيات والعقل الوبرية، وترى النساء العربيات ذوات المآزر البيض التي تلمع عيونهن المتوقدة من خلالها، ويرى الدمشقيون ذوو الطرابيش الحمر أو العمائم البيض والألبسة الحريرية المخططة بخطوط بيض وسود والمشدودة بزنانير، ويرى حجاج البيت الحرام ذوو الثياب الرثة، ويرى قواسو القناصل ذوو السياط والملابس الموشاة الزرق والخطوات الموزونة، ويرى الموظفون العثمانيون ذوو الأردية الرسمية القاتمة، ويرى فرسان الدروز ذوو العجب المنطقون بالسلاح والراكبون عتاق الخيل التي تعلوها سروج جلدية قرمزية مزينة بقطع لامعة من الذهب والفضة، وترى قطر الجمال يحرسها تجار آتون من كرمان والأناضول وشواطئ الفرات، ويرى الأكراد والأعراب والأرمن والموارنة واليهود وروم الأرخبيل، ويرى في هذه الأخلاط اختلاف في الألوان كالذي يرى في قوس قزح، ويرى فيها ذوو البياض الناصع وذوو السواد الحالك وذوو الألوان التي بين اللونين.

وقد خيل إلي، حينما كنت جالسا على متكأ في إحدى القهوات العربية بدمشق، وكنت أتأمل أولئك الناس من خلال دخان نارجيلتي، أي من خلال هذا المنظار السحري الغريب، أن قدرة ساحرة نقلتني من فوري، ولساعة، إلى بيئة حاوية لأمم آسية في غابر الأزمان.

أجل، رأيت، على ما يحتمل، منظرا منوعا كذلك على الجسر الممتد من غلطة إلى الضفة الأخرى من القرن الذهبي في الآستانة، ولكن العنصر الأوربي هو الغالب هنالك مقدارا فمقدارا، ومن ثم أرى أن الشرق عاد لا يتجلى وحده في الآستانة مع ما فيها من الأمثلة المتباينة لمختلف شعوب العالم.

ويستعذب علماء الآثار وهواة التحف ورجال الفن طول الإقامة بدمشق؛ لما يجدون فيها من بقايا المباني ما يتطلب وصفه مجلدا ضخما، وما يخشى أن يزول بعد زمن قليل لتداعيه يوما بعد يوم، ويرى في كل خطوة من ضاحية الميدان الواقعة على مدخل طريق مكة أنقاض مساجد وعيون وأبنية أخرى ترجع إلى ما قبل مئتي سنة أو ثلاثمائة سنة، وتشتمل على ضروب من الزينة القديمة وفق تقاليد العرب، ويشاهد في تلك الآثار أثر للفن الفارسي غير قليل.

صفحه نامشخص