والذي يؤخذ عليه في سكناه إيطاليا أنه صرف أيامه فيها على الصبابة ونظم الغزل، وكان الأولى به أن يفحص أحوال البلاد وسكانها وشئونها، ولو فعل ذلك لكان للثورة التي نشأت عام 1848 فائدة على فرنسا لا تنكر، ولكان لإيطاليا أسرة مالكة إلى الآن.
ثم عاد إلى باريز وأدخل في جمعية علمائها، وعلى أثر ذلك أرسله الملك شارل العاشر سفيرا مفوضا إلى أثينا قبل حدوث الثورة في فرنسا، فأقام فيها مدة ثم عاد إلى باريز، واشتغل بالسياسة، وترشح للنيابة عن الشعب فلم ينجح، فاستأجر سفينة في 20 آذار سنة 1832 وسافر مع امرأته وابنة له يطوفون البحار حتى بلغوا إلى سورية فطافوها، وذهب فزار مدرسة عين طورة وحفر اسمه على سنديانة فيها ولا يزال محفورا إلى اليوم، ثم توفيت ابنته بعد ذلك في بيروت فحزن عليها حزنا شديدا، وأمر فحنطت ووضعت في تابوت وأخذها معه في المركب وسار بها مع امرأته إلى إتمام سياحتهما، فطافا جانبا من بلاد اليونان والمملكة العثمانية. وفيما هو في سياحته ورده الخبر بانتخابه في باريس، فعاد إليها ودخل إلى المجلس، وتكلم لأول مرة بين نواب فرنسا بكلامه البديع الرنان الذي خلب به عقول السامعين، وكان ذلك عام 1834.
ثم ظهرت المسألة الشرقية، فأظهر الرجل فيها أنه لم يستفد من سكنى الشرق شيئا ولا اختبر من أحواله حالا؛ لأنه قال أثناء الجدال في المجلس على هذا الشأن إن من رأيه تقسيم المملكة العثمانية وإقامة عشرين مدينة فيها، وجعل النصرانية تسود على أهل جميع الشعوب في آسيا، وإنه يضمن ألا يمر على هذه الأمم الجديدة عشرون سنة حتى ترقى في معراج التقدم والنجاح.
ثم انتخب بعد ذلك في الانتخابات العامة نائبا عن مدينة ماكون، فأعجب كثيرون بشعره وفصاحته حتى تألف حوله حزب من المعجبين به سموا أنفسهم الحزب الاشتراكي، ثم ألف كتاب «الثورة الأولى» وامتدح رجالها امتداحا غريبا جعل في البلاد ثورة جديدة، وحرك في القلوب أميالا إلى الحرية ومعاودة الحكومة الجمهورية وتمام الاستقلال، بما كان قد أوتيه من أنواع البلاغة وأساليب الإجادة في الإنشاء، حتى ثار الشعب بعد ذلك بسنة يطلب الجمهورية ويريد خلع الملك القاصر وإبطال الوصاية على الملك، وذهب ألوفا إلى المجلس وأمامه الوصية والملك الصغير.
فوقف لامارتين على المنبر وأخذ في يده أمر هذين الحزبين، يرى من جهة امرأة وولدا قاصرا يريدان الملك، ومن جهة ثانية شعبا بأسره يريد الجمهورية والاستقلال، فتكلم في بدء حديثه كلاما لا فائدة منه ولا ميل فيه إلى جانب دون جانب، حتى رأى أن الشعب أولى بالاتباع وأحق بالرعاية، فنطق مع الشعب ومال إليه وصرح عن حقه في مطالبه، ونشأت هنالك الثورة، وخرج الخطيب وحزبه يدوسون أجساد القتلى في شوارع باريس حتى رأى الشعب مقبلا من كل مكان كالبحر الهائج وهو يطلب بصياح أن يقيم الجمهورية ويبدل الراية المثلثة الألوان بالراية الحمراء، فوقف لامارتين فيهم خطيبا وقال في جملة كلامه: «إن الراية الحمراء التي تطلبونها لم يكن لها من الفخر إلا أنها طافت شوارع باريس مغموسة في دماء الفرنسويين السائلة على السيوف الفرنسوية، وأما الراية المثلثة فهي التي طافت أرجاء العالم كله يصحبها مجد النصر والحرية والوطن»، فكسروا الراية الحمراء عند ذلك، وعادوا على أعقابهم طائعين بعبارة من كلام هذا الخطيب العظيم الذي أصبح محبوبا من الشعب، مطاعا في القول نافذ الكلمة في كل مكان بين خاصة الناس وعامتهم.
وفي اليوم الثاني من إلقاء هذا الخطاب الذي رد به شعب باريس، وكسر تحت عوامل حدته الراية الحمراء؛ قام في مجلس النواب يطلب إلغاء الحكم بالموت في المسائل السياسية، فكان لطلبه وقع عظيم حتى لو تمثلت الأمة رجلا فردا لعانقت هذا الرجل العظيم عناق المسرور من أعماله؛ لأنها كلها كانت تميل إلى منع هذا الإعدام الذي خضبت به الثورة ساحات باريس بدماء الفرنسويين تحت الصوارم الفرنسوية.
ثم تولى لامارتين عدا عن وظيفته في الحكومة المؤقتة وزارة الخارجية، وأرسل لرجال السياسة منشورا رن صداه في كل قلب وطربت لفصاحته كل أذن، حتى كان كأنه يلعب بالقلوب الفرنسوية في كلامه، وحتى لو طلب صاحبه تاج فرنسا في ذلك الحين لما تأخر الشعب عن إعطائه إياه لشدة ولوعه وإعجابه به. ثم رسم للحكومة الفرنسوية الخطة التي يجب أن تسير عليها مع أوروبا إثر ثورتها عام 1848، كان من محصلها انتظار إنكلترا، والسعي مع بروسيا، وملاحظة الروسية، وتسكين بولونيا، وتمليق ألمانيا، واجتناب أوستريا، والتبسم لإيطاليا، وتطمين تركيا، وترك إسبانيا لنفسها.
وما أشبه لامارتين في كلامه هنا عن الدول بكلامه عن معشوقاته، حتى كأنه يغازل السياسة كما يغازل الفتاة الحسناء ويعتبر الدول اعتبار النساء الحسان، ومع ذلك فقد أثر كلامه في الشعب وإن كان بعيدا عن السياسة؛ لأنه قد أخذ بمجامع القلوب بمحاسن كلامه، فانقاد له الشعب انقياد الأعمى كما هو شأنهم في اتباع كل لسان فصيح.
وعاد في أواخر حياته إلى ممارسة الإنشاء وهو الميل الغريزي فيه، فكتب تاريخ الثورة الأخيرة، فلم يحسن فيه كل الإحسان، ثم أصدر جريدته التي سماها «ناصح الشعب»، ثم عاد بعد ذلك يكر الطرف على ماضي حياته ويدون ما مر له من حوادث الغرام ومواقع الصبابة والغزل، فكتب أشعاره الغرامية ثم دون بعض القصص وأردفها بتاريخ روسيا والقيصر وغيرها، وكلها كانت تتابع بسرعة زائدة كأنها تمطر من شق قلمه سيولا منهمرة، وكان أشد تأثيره على الشعب في رواياته وقصصه ولا سيما على النساء مثل قصة كراتسيلا، وهي رواية لطيفة رواها عن نفسه حين عشق فتاة بهذا الاسم في إيطاليا كان أبوها صيادا، وجرى له معها حديث طويل استفرغ فيه كل ما يكنه فؤاد فتى من شعائر المحبة والغرام.
ثم أردفها برواية «روفائيل» وهي التي سميناها «غصن البان»، وقد أجاد في أثنائها إجادة تشهد له برقة الشعائر وطول الباع في أساليب الإنشاء وصبابة الفؤاد بما يكاد يسيل معه المعنى زلالا، وتبصر عيون الألباب منه سحرا في البيان حلالا، مثل قوله في أثناء الرواية يصف مجلسا له وإياها: «فاتكأت غصن البان إلى جانب من الزورق ... ثم اتكأت على شبكة هناك وأنا طافح القلب ممتنع الكلام شاخص البصر إليها، وما عسانا نحتاج إلى خطاب ونحن نرى الشمس والمساء والجبال والهواء والماء والمجاذيف واهتزاز الزورق وزبد آثاره، ونظراتنا وسكوتنا وأنفسنا ونفوسنا قد اجتمعت كلها تتكلم عنا بل كنا كأننا نخشى أن تبدو منا كلمة تكدر صفاء ذلك السكون السار؟ حتى لقد حسبنا أننا سابحون من زرقة البحيرة إلى زرقة السماء؛ لاشتغال أبصارنا عن الشاطئ المقبلين عليه»، ثم قوله يصف الحب بعد ذلك: «ووجدت أن الحب شعلة نار أنارت لي الطبيعة والعالم ونفسي والسماء، فلاح لي عند ذلك عبث الدنيا وباطلها حين رأيتها تصغر في عيني لدى شعلة من تلك الحياة الحقة، فكنت أحمر خجلا من نفسي إذ ألتفت إلى ما مر من حياتي وأقابله بما أراه من الطهارة والعفاف في تلك الفتاة، حتى كأنني دخلت منها في بحر من الجمال والرقة والصيانة والآداب والغرام كان يتسع أمامي وينفسح في عيني كلما نظرت إليها وسمعت صوتها وحادثتها، وطالما كنت أركع لديها وأنا أعفر خدي بالثرى كأنني في أشد العبادة والنسك، بل طالما كنت ألتمس منها كمن يلتمس من إله أن تغسل نفسي بدمعة من دموعها، وتطهرني بشعلة من نارها، وتنفخ في نسمة من أنفاسها حتى لا يعود بي شيء مني سوى تلك القطرة التي اغتسلت بها والشعلة التي طهرتني والنسمة التي أحيتني، وحتى أستحيل إليها وتستحيل إليه، بحيث لو دعانا الله في يوم موقفه لا يقدر أن يميز بين نفسين قد مزجتهما آية الحب فصارتا نفسا واحدة، وأستغفر الله! فيا أيها القارئ، إذا كان لك أخ أو ابن أو صديق لم يعرف الفضيلة بعد، فاسأل له الله حبا مثل هذا الحب؛ لأنه متى عشق بلغ إلى درجة من الكمال تعادل ما في قلبه من ذلك الغرام.»
صفحه نامشخص