محمود إن حمد العزاء فإنه
في يوم خطبك ليس بالمحمود
لم يبق في سوى الدموع فهاكها
دفاقة والجود بالموجود
ثم حمل أعيان المدينة النعش على أعناقهم إلى مدفن شهاب، وعاد المشيعون يرددون الدعوات ويرسلون الزفرات.
أما لورا: فقد أصابها طائف من الذهول، فكانت تخرج في كل صباح مع خادمتها مبروكة ذاهلة مأخوذة كأنها تمشي في حلم مزعج مخيف، فتذهب إلى الحدائق لتجمع أنضر أزهارها، ثم تتجه إلى قبر زوجها فتنثرها فوقه، وتجلس مطرقة صامتة حتى يظلها الليل، فتعود مع الخادمة، وقد اعتاد الناس هذا المنظر، فكانوا إذا مرت بهم أطرقوا في خشوع، واتجهوا إلى السماء يسألون لها الصبر، ولبطلهم الرحمة، وكان الأطفال يسمونها: بالسيدة الحزينة، ولقد طالما تسابقوا إلى جمع الأزهار لها، ليظفروا منها بتلك النظرة الباكية الحنون.
وفي إحدى الليالي الممطرة المظلمة، سمعت السيدة نفيسة طرقا على باب دارها، فأيقظت خادمتها لفتح الباب، وما هي إلا لحظة حتى صعد سرور ومعه سيدته زبيدة، فلما رأت زبيدة أمها سقطت بين ذراعيها باكية، وطفقت تقبلها وتهتف بكلمات متقطعة، أما أمها: فقد أدهشتها المفاجأة ، فأخذت تهذي وتبكي، ثم تفتح عينيها واسعتين لترى أفي يقظة هي أم في منام، فلما سرى عنها قليلا تأملت فتاتها المحبوبة، فرأت هزالا وسقما، ووجها شاحبا شاعت فيه الغضون، وبحثت عن جمالها الرائع فلم تجد منه إلا بقية من آثار جالدت المصائب فلم تستطع أن تعصف بها فهزت رأسها في شجن وأسى واتجهت إلى سرور فقالت: قل لي كل شيء يا سرور، فزفر سرور، زفرة طويلة ثم قال: سافرنا من رشيد إلى فرنسا ثم لحق بنا الجنرال مينو بعد شهر، وأقمنا بباريس، وفي هذه المدينة تبدلت أخلاق الجنرال، فكان خشنا، كثير الصخب سريع الغضب، وقد انصرف إلى سهرات الليل وغشيان الحانات، وكنت دائما أوصي سيدتي بالصبر، وأدعوها إلى مقابلة هذه الجفوة بالازدراء، ثم رحلنا إلى إيطاليا في مدينة يسمونها «تورينو» فزادت حدته، وتضاعف احتقاره لسيدتي بما لا يحتمل، ثم هجر المنزل، وترك سيدتي تقاسي غصة الفقر وألم المهانة، ولم تصبر هذه المدة الطويلة على هذا الأذى، إلا من أجل ابن سيدتي سليمان، ولكن الجنرال شمر أخيرا على ساعديه، وضرب الضربة القاصمة فأرسل ابنه إلى فرنسا ليضعه في إحدى الأسر الشريفة لتثقيفه وتعليمه، وعندئذ لم يبق في قوس الصبر منزع، ولم تجد سيدتي في البقاء بإيطاليا - بعد أن انتزع ابنها منها - إلا موتا بطيئا تحيط به الهموم والأحزان، فعزمنا على الفرار، وأخرجت كيس المال الذي أودعته عندي يوم رحيلنا، فسافرنا خفية في ظلام الليل إلى مدينة تسمى «نابلي» ومنها ركبنا سفينة إلى الإسكندرية، فوصلنا إليها أمس، ثم اكترينا بغلين إلى رشيد، فتنهدت نفيسة وقالت: نعم ما صنعت يا زبيدة!! - إن عودتي يا أمي لن تصلح شيئا مما تهدم من حياتي. - ستعيشين بجانب أمك هانئة سعيدة، وستمحو الأيام تلك الذكريات القاسية، فإن كل شيء ينسى يا بنيتي في هذه الحياة. - إلا الشباب الضائع. - كوني سلوى لأمك يا فتاتي، ولا تزيدي بالله في أشجانها. - كما تشائين يا أمي، كيف حال ابن خالتي محمود؟
فوجمت نفيسة وسقط في يدها؛ لأنها ما كادت تظفر بتهدئة بنتها حتى اصطدمت بسؤال يثير الآلام، ولكنها جمعت شجاعتها وقالت: إن هذه الدنيا لا يركن إليها يا زبيدة. - ما معنى هذا؟ - لقد قامت حرب بالمدينة منذ شهر، كان محمود بطلها المغوار. - أجرح؟ - نعم جرح جرحا بالغا. - وكيف حاله الآن؟ - إنه الآن لا يتألم يا زبيدة، إنه في جنات النعيم!!
فشهقت زبيدة شهقة كادت تودي بها، ثم اشتدت بها نوبة بكاء، وأخذت تهرف وتهذي وتقول: إنه كان حياتي يا أمي، لقد وهبت له حبي وقلبي على الرغم من قسوة الأقدار، ووقوف الدهر بينه وبيني، لا أمل في الحياة بعد محمود، ولا طعم للحياة بعد محمود!!
فعادت أمها إلى تهدئتها وتسكين ثورتها، وانقضى الليل كله في بث وبكاء، ومحاولة للتصبر والعزاء.
صفحه نامشخص