صبرت على شيء أمر من الصبر
فتقدمت من المرأة ونشدت ضالتي لديها ولسان حالي يستعطفها بالتوقف قليلا عن الجواب إذا كان ما أخشاه قد جرى حقيقة، فلم أستفد منها سوى أن تيريزا نقدتها ما عليها من أجرة البيت وذهبت إلى حيث لا تدري. فجزعت لهذا الخبر ثم خرجت أتعثر بأذيال الخيبة والقنوط، وقد زهدت في الحياة وكدت أقع مغشيا علي لو لم أثبت جأشي ببقية من القوة. فأتيت غرفتي وانطرحت على سريري خائر القوى، واستغرقت في بحار الأحزان وبت والأفكار المزعجة تقلق راحتي، وصرفت نحوا من عشرة أيام على هذه الحال المنكرة، وكلما مر بي يوم ولم أحظ بفائدة أنتظر اليوم الثاني مؤملا زيارة تيريزا أو كتابا منها؛ ولذلك لم أكن أخرج من الفندق إلا حينما أقصد البحث عنهما.
ولكن لم أتنسم خبرا يخفف عني وطأة البلوى، وهكذا مضت بي الأيام جزافا إلى أن مللت الانتظار، فعزمت على الرجوع إلى منزلي وبعده أشخص إلى إيطاليا علي ألتقي بها هناك.
وبينما أنا كذلك إذ ورد علي كتاب ممهور باسم «مناويل سنيري» يعلمني بقدومه وقت الظهيرة. فاستغربت زيارة شخص ليس لي به سابق معرفة، ولكنه أحيا بي بعض الأمل؛ إذ لا بد من وجود علاقة له مع بولينا. ولم يأت الوقت المعين حتى أتت صاحبة النزل تعلمني بأن شخصا يريد زيارتي، ثم ما عتم أن ظهر وراءها ذاك الرجل الحسن الوجه العريض الكتفين الذي رافق بولينا وتيريزا خارج دير الكاثوليك في إيطاليا، فدخل وسلم ثم جلس بعد أن أمر علي نظرا سريعا، فترحبت به دون إظهار أقل تعجب لزيارته الغير المنتظرة، فابتدرني بهذا الكلام: ربما علمت سبب قدومي. - أرجو أن يكون كذلك. - أأنت المستر فوكهان؟ - نعم. - اعلم إذن أني أنا الطبيب مناويل سنيري، وقد أتيت من جينوى عندما بلغني أنك تطلب بولينا التي هي ابنة شقيقتي زوجة لك. - نعم، هذا غاية ما أروم.
وقد أخذني العجب بادعائه أنه خالها وتذكرت عدم اهتمامها بمقابلته للمرة الأولى التي نظرتها. - اعلم يا مستر فوكهان أنه يوجد أسباب جمة تمنعها من ذلك، إنما تشديد طلبك يسهل لدي المصاعب، فلنبحث الآن في هذا الأمر ...
وكان يتكلم بإنكليزية واضحة ولسان طلق. - لقد بلغني أنك مثر وذو نسب شريف. - يمكنك أن تتحقق ذلك. - فأنت والحالة هذه قادر أن تجعلني على يقين من وفور ثروتك لأني باحتياج إلى ذلك، لا سيما وأن بولينا لا تملك شروى نقير.
فحنيت رأسي باسما، وأخرجت من جيبي قرطاسا وكتبت له تحويلا على شركائي بأن ينقدوه قيمة ما بلغ من دخل أملاكي في نواحي بحيرات سكسونيا، ثم ناولته إياه، وقد انحطت منزلته لدي لما ظهر لي من قحته، فأخذه بلهفة وأردف كلامه: لقد كانت بولينا ذات ثروة فقدر لها فقدانها. - إنني لا أطمع منها بدراهم، وسيان عندي غنية كانت أم فقيرة. - أحسنت، ولكن اعلم أن من كانت بولينا زوجته يشترط عليه أن يقبلها بالحالة التي هي فيها دون أن يطلب الاطلاع على عائلتها أو ما هي حياتها، بل يكتفي أن يراها شابة جميلة وأنه يحبها.
فاستغربت هذه الشروط حتى إني توقفت عن الجواب مع ما بي من الشوق للحصول عليها. ثم قال: والذي أقدر أن أفهمك إياه هو أنها طيبة القلب عفيفة النفس ولا تنتسب لعائلة أحط منزلة من عائلتك وعوائدها أشبه بالإنكليز من الإيتاليان؛ فبناء عليه يكون زواجكما غاية في المناسبة!
فصرخت بلهفة رافعا يدي كمن يطلب صدقة: من علي ببولينا فلا حاجة لي بسواها. - إذن ما من مانع بأن تعتبرها من الآن وصاعدا خطيبة لك ... والآن يا مستر فوكهان سأدهشك كثيرا بطلبي هذا الأخير؛ فإنك تحب بولينا وأؤمل ألا يمضي عليها ردح من الزمن حتى تبادلك هذه العاطفة، فبناء عليه لا أرى مانعا من الإسراع بالزفاف، فإني مجبر على مبارحة إنكلترا بمدة وجيزة، ولا يمكنني إبقاؤها هنا وليس لها من رفيق سوى خادمتها.
فصرخت: إني أتمنى الزفاف في هذا النهار إذا لم يكن من ثم مانع. - لا لزوم لهذه السرعة؛ فلنا فرصة يومين بعد.
صفحه نامشخص