وكم من شيء لا يستطيع المرء أن يقوله أو يعمله، وهو موفور الكرامة والحياء! فليس في وسعه أن يبدي فضائله ومزاياه وهو محتفظ بحيائه فضلا عن الإشادة بها وتمجيدها، وليس في وسعه أحيانا أن ينزل إلى التوسل والرجاء، وأشباه ذلك كثير.
إلا أن ذلك وأشباهه يقوله الصديق وهو متجمل بوفائه، من حيث لا يفوه به المرء إلا وهو خجل متهيب.
ولكل امرئ صلات وعلاقات لا يستطيع أن يتجاهلها أو يتخطى حدودها، فلا يسعه أن يكلم ابنه إلا كلام والد، أو زوجه إلا كلام زوج، أو عدوه إلا على شروط وقيود، أما الصديق ففي وسعه أن يتكلم حيث شاء بما تقضي به المناسبة غير مقيدة في كلامه بذلك الاعتبار.
ولا نهاية لإحصاء هذه الفوائد والمزايا، فحسبنا أن نضع القاعدة على الإجمال، وأن نعلم أن الذي يعييه أن يقوم بمطالبه على الوجه الأمثل، فعليه أن يخلي الميدان ما لم يكن له صديق أمين.
عظمة الممالك والدول
كانت كلمات تمستوكليس - على ما فيها من الغطرسة والتعظيم لنفسه - تشتمل على ملاحظات خطيرة، وحكم جليلة ينتفع بها الآخرون.
سئل في وليمة أن يعزف على عود فقال: إنه لا يحسن أن يجس الأوتار، ولكنه قادر على أن يجعل البلد الصغير مدينة عظيمة.
وهي كلمات إذا أجريناها مجرى الرمز والتمثيل، تبدي لنا نوعين من الكفاءة في أولئك الذين يتولون أعمال الحكومات، فإننا إذا عرضنا سير الساسة والمشيرين وجدنا منهم في الندرة من يقدرون على أن يجعلوا الحكومة الصغيرة دولة عظيمة، ولكنهم لا يقدرون على جس الأوتار، ومنهم من يحسنون جس الأوتار ويبرعون فيها ولا يجعلون من الحكومة الصغيرة دولة عظيمة، كأنما تتجه قدرتهم إلى الوجهة الأخرى، وهي الهبوط بالدول العامرة إلى حضيض الدمار والدثور.
والحق أن هاتيك الصناعات المسفة التي ينال بها بعض المشيرين والحكام حظوة عند ساداتهم، وإعجابا من الغوغاء لا تستحق في جملتها أن تسمى باسم آخر غير اسم اللعب بالأوتار، إذ هي أمور تسر في حينها وتجمل في ذاتها، ولا تؤدي إلى منفعة أو تقدم للحكومات التي تخدمها.
وهناك ولا ريب حكام ومشيرون يوصفون بأنهم قادرون على حسن التدبير، واتقاء المزالق والمآزق، ولكنهم أبعد ما يكونون عن القدرة على توسيع الدولة وتزويدها بالقوة والعدة واليسار.
صفحه نامشخص