وليست هذه الثمرة الثانية من ثمرات الصداقة مقصورة على الأصدقاء، الذين يستطيعون إسداء النصيحة الحسنة والمشورة الصالحة، وإن كان هؤلاء خيرا وأجدى ولا مراء، ولكنه - بغير هذا - يعلم حقيقة نفسه ويعرض أفكاره للنور، ويشحذ قريحته كما يشق الحجر النصول وهو بنفسه غير قاطع، وعلى الجملة إنه لخير للإنسان أن يناجي تمثالا أو صورة من أن يخنق أفكاره ويحتبسها.
ولإتمام فضل هذه الثمرة نذكر تلك المزية المشهورة التي يفطن لها العامة مع الخاصة، وهي مزية النصيحة الخالصة من الصديق الأمين.
وقد أصاب هرقليطس في قوله: «إن النور الجاف أفضل وأنقى ...» فلا مراء أن النور الذي يتلقاه المرء بالمشورة من غيره أجف من النور الذي يتلقاه من ذهنه وحكمه، وهما أبدا مبللان مشبعان بالأهواء والعادات، وإن الفرق بين مشورة الصديق ومشورة المرء لنفسه، لكالفرق بين الصاحب المخلص والصاحب الملق المتزلف، فليس هنالك من هو أكثر ملقا للمرء من ذات نفسه، ولا دواء لهذا الملق أنجع من حرية صديق.
والنصيحة ضربان: نصيحة في شئون السلوك والآداب، ونصيحة في شئون المرافق والمعاملات، ففي شئون السلوك والآداب ليس أصح للعقل ولا أعظم وقاية من العتب الخالص على لسان صديق، إذ كان إلحاف المرء على نفسه في الحساب دواء يوجع ويضني، وكانت قراءة كتب الأخلاق الجيدة لا تخلو من الفتور والتفاهة، وكانت مراقبة أخطائنا في الآخرين لا تجمل بنا في بعض الأحايين، إلا عتب الصديق فإنه لأجدى من ذلك كله، وأعني بالأجدى هنا ما هو أجدى في التناول وأجدى في العلاج.
ولقد نعجب كم من الأخطاء الجسام والسخافات البالغات يقع فيها الكثيرون - ولا سيما العظماء - من جراء فقدان الصديق الذي ينبههم إليها، وفي ذلك ما فيه من ضير على سمعتهم ومصالحهم، فما أشبه هؤلاء بمن قال فيهم القديس جيمس: إنهم ينظرون إلى وجوههم في المرآة فينسونها!
أما في شئون المرافق والمعاملات فليقل من شاء: إن عينين لا تبصران خير من عين واحدة، وإن اللاعب يرى ما لا يراه المتفرج، وإن الرجل الغاضب له من العقل ما للرجل الذي قرأ الدروس ووعاها، وإن البندقية تنطلق وهي على الذراع كما تنطلق وهي على سائر الجسد، وأشباه ذلك من الأخيلة والتمثيلات التي تزين لمن يرددها أنه هو كل شيء ولا شيء سواه، فلا شبهة بعد كل ما يقال في نفع المشورة لتقويم الأعمال، وإذا خطر لبعضهم أن يتلقى النصيحة، ولكن مجزأة من هذا في عمل ومن غيره في عمل آخر، فأجدى عليه فيما نرى ألا يلتمس النصح على الإطلاق؛ لأنه يتعرض لخطرين؛ أحدهما ألا يظفر بالنصح الخالص وهو نادر جدا ما لم يكن من صديق وفي كامل الصداقة، فيأتيه النصح معوجا ملتويا موجها إلى مأرب يبغيه من أشار عليه، والخطر الآخر أن يزجي إليه النصح ضارا غير مأمون ولو عن حسن نية ممن أزجاه إليه، فيمتزج فيه العلاج بالأذى كمن يستشير طبيبا خبيرا بعلاج الداء الذي يشكو منه المريض، ولكنه لا علم له بطبيعة جسده، فيشفيه لساعته من دائه ولكنه يخل بسلامة البنية من ناحية أخرى، فيشفي المرض ويقتل المريض!
بيد أن الصديق العليم بدخيلة صديقه قمين أن يحذر وهو يخدم المصلحة الحاضرة من تعريض مصلحة غيرها للحيف والضياع، وهذا الذي يوجب عليك ألا تعول على النصائح المتفرقة، التي هي إلى التضليل والتشتيت أقرب منها إلى الراحة والتوجيه.
وتأتي الثمرة الأخيرة بعد هاتين الثمرتين الجليلتين، وهما سلام النفس ومعونة العقل، وتلك ثمرة كأنها في الثمار الرمانة التي تحتوي الواحدة منها المئات من الفواكه الصغار؛ لأنها تحتوي فيها المساعدة والمشاركة في شتى الأعمال والمناسبات، ولن نحصيها إلا إذا أحصينا تلك المقاصد الكثيرة، التي لا يستقل بها المرء وحده، فنعلم يومئذ أن الأقدمين قصروا في وصفهم حين قالوا: إن الصديق نفس أخرى؛ لأنه في الواقع أقوم من نفس أخرى.
فللإنسان مداه في الحياة، وإنه ليعاني الموت مرات في اشتهاء كل ما يشتهيه من صميم قلبه، كتربية الأبناء وإنجاز الأعمال، وغير ذلك من المطالب المختلفة، فإذا كان له صديق وفي، فإنه لخليق أن يستريح إلى ضمان هذه الأمور من بعده، بحيث يصح أن يقال: إنه مزود في هذه الدنيا بحياتين.
وللإنسان جسد يحتويه مكان واحد، وحيثما توجد الصداقة فهناك يتسنى له أن يعمل في أماكن عدة بنفسه وبمعونة صديقه.
صفحه نامشخص