والقول الأخير: إن الملوك حريون أن يجعلوا حولهم رجلا أو رجالا من أولي الشجاعة العسكرية لقمع الفتن في أوائلها، وبغير ذلك يخشى أن يقع في البلاط عند ابتداء الفتنة، أكثر مما ينبغي من القلق والإحجام، وتتعرض الحكومة للخطر الذي أشار إليه تاسيتس، حيث قال بعد مقتل غلبا بأيدي جنوده: «لقد كان قليلون يجسرون على هذه الفعلة وكثيرون يتمنونها، وجميعهم يرضون بها ويقرونها.»
ومن اللازم لهؤلاء الرجال أولي الشجاعة الذين يحفون بالملوك أن يكونوا على اطمئنان وسمعة حسنة، لا أن يكونوا حزبيين أو ذوي شهرة شعبية، وأن تعمر الصلة بينهم وبين عظماء الدولة الآخرين، وإلا كان الدواء شرا من الداء.
المناصب الرفيعة
الرجال في مناصبهم الرفيعة خدم مثلثو الخدمة: خدم لملك الدولة، وخدم للسمعة، وخدم للعمل والمصلحة، فلا حرية لهم في أنفسهم ولا في أعمالهم ولا في أوقاتهم.
وأعجب الرغبات أن يرغب الإنسان في السيطرة ويفقد الحرية، أو أن يطلب السلطان على الآخرين ولا سلطان له على نفسه.
إن الصعود إلى المناصب الرفيعة لمشقة مجهدة، ومن ألم ينتقل المرء إلى ألم أشد منه وأضنى، وكثيرا ما يتوسل المرء بالخسة إلى الرفعة، وينشد الكرامة بالتفريط في الكرامة.
وإن الوقوف في الطريق مزلقة، أما الرجوع فهو إما سقوط أو احتجاب وكسوف، وهو محزنة مجلبة للأسى، وقد قال شيشرون: «إذا أصبحت غير ما كنت فلا معنى لأن تعيش.»
على أن المرء لا يعتزل المنصب كما يريد، ولا يعتزله بحكم العقل والحكمة، ولكنه برم بالعزلة حتى في الشيخوخة والسقم الذي يتطلب الظل والمأوى، كأنه «ابن البلد»، الذي يظل على عادته من الجلوس في الطريق أمام داره وإن عرض شيخوخته للسخرية.
وأحسب الرجال في مناصبهم الرفيعة مفتقرين إلى آراء غيرهم؛ ليخيل إليهم أنهم سعداء، فإنهم إذا رجعوا إلى آرائهم لم يجدوا السعادة هناك، إنما يفكرون في أفكار الناس عنهم، وإن غيرهم يود لو يدركهم فيخامرهم الشعور بالسعادة، كأنه إصابة العدوى، أما في ضمائرهم فهم قد يعرفون منها نقيض ما يعرفه غيرهم؛ لأن المرء أول من يشعر بحزنه وإن لم يكن أول من يشعر بخطئه.
والحق أن الرجال في المناصب الرفيعة غرباء عن أنفسهم، ولا يزالون في شغلهم مشغولين عن تعهد صحتهم، سواء من جانب الجسد أو من جانب الفكر والقريحة، وقد قال سنيكا: «إن الموت يهبط ثقيلا على من يموت، وهو لا يدري وغيره يدرون جد الدراية.»
صفحه نامشخص