فليس إذن لمؤرِّخ الأدب بدٌّ من العناية بدرس البيئة وأثرها في الأديب: أي لا بدَّ له من أن يعرف بلد الأديب وطبيعة هذا البلد، وأخلاق أهله، وحالته الاجتماعية، وأن يعرف -معرفة أدقّ- أسرة هذا الأديب، والطريقة التي تربِّي عليها أبناءها، والأخلاق التي تأخذهم بها، وأن يعرف كيف نشأ هذا الأديب، ومن هم رفاقه، وعلى الجملة فعلى مؤرخ الأدب أن ينقِّب عن كل ما له صلة بالشاعر، ووسطه الذي نشأ فيه، وأثر ذلك في تكوين أخلاقه وأدبه ولك في بشَّار وأبي نواس، بل لك ما الأدباء المعاصرين الذين تقرأ لهم وتحبّهم، دليل على قوة هذا الأثر. فلو نشأ أبو نواس في بيئة تقيَّة وَرِعة، ولو نشأ بشَّار في بيئة رفيعة نبيلة، بل لو نشأ أديب من أدباء مصر البارزين في بيئة قروية منعزلة لما كان أبو نواس ولما كان بشَّار ولما كان الأديب على الحال التي تعرفه عليها.
كل هذا واضح لا مشقة في فهمه - ولكن المشقة في تطبيقه، والعُسْر كل العسر في درس هذه البيئة (بالنسبة لمؤرخ الأدب العربي على التخصيص) لأن الباحث المحقِّق الذي ألف البحث واستجابت له المراجع؛ يعجز عن أن يلقى في كتب الأدب العربي أخبار كثيرين من أعلام الأدب في شبابهم، ووصف أسرهم وأصحابهم ليؤلِّف منها صورة للبيئة، فما بالك بطالب البكالوريا الذي لم يعرف -وأحسبه لن يعرف بعد- كيف يفتِّش عن مسألة من المسائل في المكتبة العربية القديمة ولا يدري كيف يوفِّق بين الروايات المتضاربة والأخبار المتباينة، وكيف يصبر على تلاوة هذه التراجم والأخبار المتفرِّقة في عشرات الكتب المطبوعة والمخطوطة منثورة فيها نثرًا بلا نظام ولا ترتيب، وإذا هو صبر وعرف كيف يفتش فلن يصل إلى شيء كثير - لأن كثيرين من أعلام الأدب كالجاحظ والبحتري مثلًا قد فقدت سِيَرُهمْ في شبابهم مرَّة واحدة.
الثقافة:
وهناك عامل آخر غير عامل البيئة له أثر كبير في تكوين الأديب، وقد يغلب في كثير من الأحيان على عامل البيئة وقد يقضي عليه ويمحو آثاره، ذلك هو عامل الثقافة، وفي كل إنسان -كما يقول غوستاف لوبون- شخصان مختلفان يتصارعان على الاستئثار بنفسه، والغلبة عليها، أولهما هذا الذي كوَّنته
1 / 47