على الرغم من كم البغضاء التي يكنها المصريون لمبارك ونظامه، فإن احتمال رحيله عن المشهد لم يولد لديهم أي شعور بالابتهاج، أو مجرد الارتياح. بل على العكس، ارتبطت مشاعر بغض نظامه بين المصريين بحالة من التسليم والاستكانة لما سيحدث بعد رحيله، وهكذا بات الكل على يقين أن جمالا سيتولى الرئاسة بأي وسيلة كانت. وما زاد من التسليم بصحة هذا التخمين على الرغم من نفي الحكومة له مرارا وتكرارا أن سيناريو التوريث قد حدث في سوريا والمغرب وتلوح بوادره في ليبيا. ويرى معظم المصريين أن جمالا غير مؤهل على الإطلاق لتولي السلطة - إما بسبب نقاط ضعفه الملحوظة وإما لفشل النظام في إعداده كما ينبغي - وهو ما زاد قلق المصريين من أن التخبط في تسليم السلطة سوف يزعزع الاستقرار، ما قد يسفر عن عواقب وخيمة. وتأكدت الفكرة القائلة إن الشيطان الذي نعرفه ربما يكون أفضل من الشيطان الذي لا نعرفه عندما اتضح أن مرض مبارك ليس سوى شائعة سرعان ما تحرك النظام في أعقابها لتكميم أفواه معارضيه.
استهدفت حملة القمع التي شنها النظام ضد المعارضة عقب هذه الواقعة رؤساء تحرير الصحف التي نشرت أخبارا عن صحة مبارك، والمجموعات الحقوقية التي كانت توالي نشر تقارير جريئة حول التعذيب والفساد، وفصائل المعارضة السياسية مثل جماعة الإخوان المسلمين (كان العشرات من أعضائها - من بينهم قيادي بارز - يخضعون وقتها لمحاكمات عسكرية بتهم ملفقة من بينها الإرهاب وغسيل الأموال). بعدها أيضا حكم على أربعة صحفيين بالسجن بتهمة تشويه صورة الرئيس، وقدم أحد رؤساء التحرير للمحاكمة بتهمة ترويج شائعات عن صحة مبارك، ومنع الإخوان المسلمون لأول مرة من إقامة حفل إفطارهم الرمضاني السنوي. أما أيمن نور - الذي خاض الانتخابات الرئاسية أمام مبارك، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات بعدها بوقت قصير - فكان قاب قوسين أو أدنى من الموت في زنزانته داخل السجن، بينما أعلن الإصلاحي الديمقراطي سعد الدين إبراهيم عن خشيته من التعرض للتعذيب والقتل إذا وطأت قدماه أرض مصر بعد مطالبته أثناء إقامته في الخارج بمزيد من المساءلة والديمقراطية، بل وصل الأمر إلى حد قوله في أحد اللقاءات إن النظام خصص فرقة اغتيال لتصفية خصومه (وهو زعم لم يأت أحد بدليل عليه). وضع النظام حدا للحديث عن صحة مبارك عندما تحرك ضد معارضيه على هذا النحو. والأهم من ذلك أن حالة الترقب والقلق التي سادت تلك الفترة ربما تكون قد أظهرت للنظام أن الأوان لم يحن بعد لتسليم السلطة إلى جمال. •••
أسفر الانشغال بالحديث عن صحة مبارك ودور جمال المستقبلي عن نتيجة أخرى تبعث على السخرية وهي تشتيت الانتباه بعيدا عن حقيقة السلطة في مصر، وقد كانت المعارضة متورطة - ربما عن غير قصد - شأنها شأن النظام في ذلك. الرئيس ليس سوى رئيس صوري يدير شئون البلاد اليومية التي تعج بالفوضى، بينما السلطة الفعلية - أو المؤسسة العسكرية - تحكم من وراء ستار. وحسبما أشار ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية فإن القوات المسلحة المصرية «أعلنت عن حظر خصخصة العديد من القطاعات الاقتصادية التي تقع تحت سيطرتها، والتي لا تقتصر على الإنتاج العسكري.» ويضيف كوك أن المؤسسة العسكرية في مصر «تمتلك شركات مثل شركة «صافي» للمياه المعدنية، وشركات الطيران والأمن والسياحة، ومصانع الأحذية، وأدوات المطبخ.» وربما يكون قد ذكر شيئا عن الأراضي ومراكز التسوق أيضا.
تعاملت المؤسسة العسكرية مع الموقف بحنكة بالغة، فهي تحكم دون أن تتولى مقاليد الحكم؛ فلا شيء يحدث في مصر دون أن تكون الأجهزة العسكرية والأمنية على علم به على الأقل، وفي كثير من الأحيان يحصلون على نصيبهم من الكعكة؛ فضلا عن أنهم لا يسمحون بحدوث أي شيء من شأنه تهديد وضعهم. قطعا لم تعد المؤسسة العسكرية تتمتع بالهيمنة المطلقة كما كان الحال في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، علاوة على أن التزايد الهائل في قوات الأمن الداخلي يجعلها الآن ثقلا موازنا لنفوذ المؤسسة العسكرية؛ لكن تظل القوات المسلحة ركيزة أساسية - وربما يقول الكثيرون إنها الركيزة الأساسية المنفردة - للنظام. يحتل ضباط جيش سابقون مناصب في الحكومة: وزراء، ورؤساء لشركات القطاع العام، ومحافظين. ولو أن وسائل الإعلام المعارضة ركزت اهتمامها حيثما ينبغي حقا، وسلطت الضوء على الفساد داخل المؤسسة العسكرية التي تختفي خلف شخص الرئيس، لظهرت حملة القمع التي شنت في أعقاب الحديث عن الحالة الصحية للرئيس على أنها مجرد استعراض جانبي مقارنة بحملة القمع التي كانت ستترتب على كشف هذا الفساد. فمن المعروف في مصر أن النقد مباح، ولكن في حدود؛ فالرئيس - حتى وقت قريب جدا - كان فوق مستوى النقد، أما انتقاد المؤسسة العسكرية فهو أمر محظور كليا.
زعم البعض أن بزوغ نجم جمال - الذي كان القوة الدافعة وراء خصخصة الاقتصاد باعتباره أمين لجنة السياسات صاحبة النفوذ الطاغي - ينبئ بعهد جديد حيث عصرنة الاقتصاد وانفتاحه. وفي مقابل تلك الآمال، ظهرت مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى إحداث حالة من الشقاق لا يمكن التنبؤ بعواقبها بين صفوف النظام. ويرى أكثر المراقبين تفاؤلا أن نظاما اقتصاديا أكثر تنافسية في مصر سوف يحدث انقسامات كبيرة بين أفراد الطبقة الرأسمالية، ومن ثم يؤدي إلى تعددية سياسية أكبر تمثل المصالح الاقتصادية المختلفة بما فيها مصالح العمال. لكن ذلك لا يعدو أن يكون تفكيرا رغبويا، وعلينا أن ننعم النظر في الآمال المشابهة - التي تحطمت على صخرة الواقع فيما بعد - بعد أن خلف حافظ الأسد ابنه بشار صاحب العقلية العصرية المتفتحة الذي تلقى تعليمه في الغرب. فبعد سنوات، صار النظام السوري أشد عزلة من ذي قبل، واتهم بدعم الإرهاب واغتيال رئيس الوزراء اللبناني، وأن علاقات قوية تربطه بإيران، وأنه يضيق ذرعا بالخلاف في وجهات النظر على الصعيد الداخلي كما هو الحال دائما. أعادت القوى التي تحكم من وراء ستار في سوريا فرض نفسها من جديد، وأيا كانت نزعات بشار الشخصية، فإن قدرته على المناورة تضاءلت كثيرا في أعقاب ذلك. ولو أن جمالا تسلم السلطة من أبيه، فسيكرر التجربة نفسها لكن بموافقة المؤسسة العسكرية بعدما تضمن أن طموحاته بشأن الخصخصة تحديدا لن تؤثر على كم الامتيازات الهائلة التي يحصلون عليها، وأنهم سيواصلون اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية، حيث يعملون عن قرب مع الولايات المتحدة، ومن ثم يستمر حصولهم على 2 مليار دولار في صورة مساعدات عسكرية سنويا. والسبب الوحيد الذي قد يؤدي إلى تمزق العلاقات هو أن يتخذ مبارك قرارا بدفع جمال نحو السلطة على الرغم من اعتراض المؤسسة العسكرية. وأسباب اعتراض المؤسسة العسكرية أن جمالا - على العكس من عبد الناصر والسادات ومبارك - ليس واحدا من أبناء المؤسسة. ويشير البعض إلى إمكانية حدوث انقلاب عسكري في مثل هذه الظروف. وعلى الرغم من ذلك فإن الأفرع المختلفة للطبقة التي ينتمي إليها الديكتاتور المصري متشابكة للغاية كما أشرنا، وبقاؤهم أولا وقبل كل شيء هو ما يشغل بالهم جميعا. ولذا فإن كفة التسوية أرجح من كفة المواجهة - خاصة في وقت يشهد غليانا داخليا - عندما تكون هناك حاجة ماسة لتجنب الظهور بمظهر الضعف أو الهشاشة مهما كان الثمن.
إن كل الآمال بل والمخاوف الملقاة على عاتق جمال الغض تدعو للاستغراب حقا، في ضوء ضآلة ما حققه، على الرغم من أن ضآلة إنجازاته تجعله أقرب إلى صفر على اليسار: ويرى الناس فيه ما يتفق وأهواءهم. سلطت الأضواء على إنجازات جمال الرمزية المتواضعة، على نحو يتسق مع عادة قديمة هي وضع الإسهاب في الحديث موضع تحقيق الإنجازات معيارا للقيادة. ومن أمثلة ذلك أن جمالا فجر مفاجأة من العيار الثقيل في مؤتمر الحزب الوطني الديمقراطي عام 2006 عندما أعلن أن مصر تسعى لتطوير الطاقة النووية - كمثال على الحداثة ومواكبة العصر - وهو الأمر الذي الذي إذا نفذ سيكون مكلفا، وسيستغرق وقتا طويلا، ويثير غضب الأمريكيين (بسبب مخاوفهم من انتشار الأسلحة النووية في المنطقة). وبحسب حوار تليفزيوني تحدث فيه جمال - الذي يشغل أيضا منصب الأمين العام المساعد للحزب الوطني - فإن المجلس الأعلى للطاقة شكل لجنة من خمسة وزراء - من بينهم وزراء الكهرباء والطاقة، والبترول، والدفاع - لبحث الخيار النووي. اجتمعت اللجنة حينها للمرة الأولى منذ إعلان مبارك رسميا تخلي مصر عن برنامجها النووي عام 1986 في أعقاب حادث مفاعل تشيرنوبل في الاتحاد السوفييتي. وحظي هذا الاهتمام الجديد بالطاقة النووية بدعم الرئيس نفسه خلال كلمته في ختام المؤتمر التي أعلن فيها أن مصر «لا بد أن تستفيد من مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة ومن بينها الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.» وقد بات مؤكدا أن هذا التصريح لا يعدو أن يكون استعراضا ووعودا كاذبة في لقاء آخر على هامش مؤتمر الحزب الوطني عندما صرح جمال أمام الصحفيين الأجانب أن مصر ليست مضطرة من الآن فصاعدا إلى الالتزام بمبادرات الديمقراطية التي يتبناها بوش في الشرق الأوسط. اعتبر هذا التصريح بمنزلة جهد مدروس لزيادة رصيد مبارك الابن، وإظهار تحديه للولايات المتحدة. صرح جمال أيضا بأن السياسات الأمريكية في المنطقة وفرت مرتعا خصبا للتطرف، وقال: «نرفض الرؤى الخارجية التي تسعى إلى تقويض الكيان العربي والجهود العربية المشتركة.» وفي رسالة واضحة للبيت الأبيض، ضم «مبادرة الشرق الأوسط الكبير» التي تتبناها واشنطن إلى تلك الرؤى. أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن تحديه لواشنطن وسعيه لاستئناف البرنامج النووي إنما يهدفان إلى التغلب على اثنتين من نقاط الضعف الملموسة في مبارك الابن بوصفه وريثا لأبيه؛ وهما كونه الرئيس الأول الذي سيأتي من خارج المؤسسة العسكرية منذ إطاحة الانقلاب العسكري بالملكية، وكونه هو وأبوه في نظر الكثيرين أداتين تحركهما واشنطن كيفما شاءت. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن البرنامج النووي ربما يعود عليه بدعم المؤسسة العسكرية، في حين أن انتقاده لواشنطن قد يكسبه مصداقية في الشارع المصري. كانت كلتا الخطوتين تهدف على الأرجح إلى تبني سياسة رأت الحكومة أنها ستلقى قبولا لدى الشارع، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى إحداث توافق شعبي حول ابن الرئيس، لكنهم كانوا يقبضون على الهواء. إن كان الهدف منح جمال مصداقية أكبر، فلا شك أن خطتهم باءت بالفشل. فكما أشارت الملابسات التي أحاطت بمرض الرئيس المزعوم، فإن شيئا لم يتغير فيما يتعلق بكراهية المصريين لجمال، وبالتزام مصر أمام الولايات المتحدة. من ناحية أخرى لم يجد جديد على البرنامج النووي المقترح؛ وكان من الدهاء إعلان واشنطن تأييدها للبرنامج النووي على جناح السرعة، ومن ثم وأد مساعي جمال للمواجهة الزائفة في مهدها. •••
لا يعني هذا أن جمالا ضئيل الشأن تماما؛ فمن الواضح أنه مدرك لضرورة التغيير وللتحديات التي تفرضها المعارضة - خاصة الإخوان المسلمين - وقادر أيضا على الاستفادة من أصحاب الخبرات الذين يستطيعون وضع خطة للتغيير بل وتطبيقها أيضا؛ وإن كان ذلك في نطاق الإطار المحدود للسلطة الرئاسية التي تدير ولا تحكم. ومن هذه الشخصيات التي أحاط جمال نفسه بها حسام بدراوي؛ وهو رجل أعمال وأحد كاتمي أسراره المقربين. يشغل بدراوي منصب رئيس لجنة التعليم والبحث العليي بأمانة السياسات التي يرأسها جمال، وقيل إنه سيتولى حقيبة الصحة أو التعليم حال فوز جمال بالرئاسة. تلقى بدراوي تعليمه في الولايات المتحدة، وهو أيضا عضو في المجلس الأعلى للسياسات الذي يعد ثمرة المقترحات التشريعية والإصلاحات التي تبناها الحزب الوطني. علاوة على ذلك فهو يشغل منصب رئيس مجلس إدارة مستشفى «النيل بدراوي» الخاصة ومؤسسة «ميدي كير الشرق الأوسط»، وهي المؤسسة الأولى والوحيدة حتى الآن للرعاية الصحية في مصر. تضم هذه المؤسسة أربعين مستشفى خاصا، وتوفر من الخدمات ما عجزت الدولة عن توفيره، وبصورة ما تقف في مواجهة محاولات الإخوان المسلمين المماثلة لكسب التأييد عن طريق توفير الخدمات التي عجزت الدولة عن توفيرها. يحتل بدراوي مكانة متميزة بين أعضاء الحزب الوطني نظرا لشعبيته الصادقة، لأنه معروف بتصديه للفساد، ولأنه أيضا صاحب شخصية متواضعة. وقد كانت شعبيته وراء اتخاذ أصحاب النفوذ العظيم في الحزب الوطني قرارا بإقصائه عن دائرة قصر النيل بالقاهرة في الانتخابات التي أجريت عام 2005. ويمكن القول إن قرار إقصاء بدراوي من البرلمان عبر عن نفوذ الحزب، في حين عبر احتفاظه بكافة مناصبه في لجان الحزب الوطني عن نفوذ جمال. فخبراته وآراؤه في العديد من المجالات تمثل الوسطية التي يحتاج جمال ومؤيدوه اتباعها.
التقيت ببدراوي في أكتوبر/تشرين الأول عام 2006 في مكتبه بالطابق الأخير داخل مشفاه الرئيسي بحي المعادي في القاهرة، وهو مستشفى يدار بكفاءة، ومصمم على أحدث طراز كأي مستشفى في الغرب. وبالنظر إلى ما يقوم به من أنشطة، يبدو واضحا أنه على دراية بما يلزم فعله للأخذ بيد مصر نحو القرن الحادي والعشرين. فتعليم النشء على سبيل المثال واحدة من أهم القضايا الملحة في مصر. كانت المؤسسة التعليمية على مر التاريخ مثالا للتضخم وانعدام الكفاءة، حيث الاعتماد على التلقين والمحاكاة بدلا من البحث وحب الاستطلاع. ولا غرو في هذا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى الطبيعة الاستبدادية للنظام، وأن هؤلاء الذين تمكنوا من مسايرة الظروف المحيطة أثناء الحقبة الناصرية كانوا على علم بأنهم سيكافئون على إذعانهم بوظيفة حكومية لا تحتاج إلى روح المبادرة. والواقع أن الأجور كانت متدنية، وأن الحكومة حصلت في مقابل ذلك على انعدام الكفاءة والبيروقراطية والفساد. لكن البيروقراطية المترهلة صارت عبئا في النهاية، ولم يعد هناك وجود للوظيفة المضمونة. ولا تزال المنظومة التعليمية بحاجة إلى التنظيم. كان بدراوي معنيا بدراسات الحزب الوطني الديمقراطي حول التعليم، لكنه وجد أن «أيا من التوصيات التي اقترحت كسياسات لم ينفذ على المستوى التفصيلي.» بدراوي واحد من أهم الداعمين لمؤسسة «التعليم من أجل التوظيف» التي تهدف إلى خفض نسب البطالة في العالم الإسلامي عن طريق إنشاء مراكز للتدريب الوظيفي بالتعاون مع الشركات المحلية، ويتلخص الفرق بينها وبين مثيلتها التابعة للدولة في قوله: «إحدى أهم السياسات في التعليم هي سياسة ربط الأفراد بالوظيفة» في القطاع الخاص؛ بمعنى حاجة الطلاب لاكتساب المهارات والأطر العقلية التي ستتجلى فائدتها في بيئة تنافسية. وأضاف أن أهمية التدريب أكبر بكثير من خلق فرص العمل «لأن الوظائف كانت متاحة؛ المشكلة تكمن في قابلية الخارجين من المنظومة التعليمية للتوظيف. فهنا حشد من الأشخاص لا يجدون عملا وغير مؤهلين في الوقت نفسه للعمل. لم ينل هؤلاء في دراستهم المعرفة الكافية، فضلا عن افتقارهم إلى روح المنافسة وحس المغامرة التجارية. كل واحد منهم ينتظر شخصا يساعده في إيجاد وظيفة.»
ومع الأسف تفشت نزعة السلبية هذه والرغبة في أن تأتي المساعدة من الآخرين - بل وانتظار تلك المساعدة - في مصر كافة. فمن موروثات اشتراكية عبد الناصر التحقير من قيمة المنافسة، ومن موروثات سياسة الانفتاح التي تبناها السادات أن المنافسة لا تعني الابتكار والإبداع، وإنما كسب تأييد الدولة. وهناك طرفة مصرية شهيرة تقول: في كل مفترق طرق كان عبد الناصر يتجه يسارا، والسادات يتجه يمينا، أما مبارك فيقول: «الزم مكانك.» والنتيجة أن عهد مبارك جمع بين أسوأ ما في الحقبتين، وذاك منشأ الجمود الذي أصاب البلاد. لا شك أن هناك مجموعة من المنتفعين حول النظام، وهؤلاء يسعون إلى الوقوف في طريق أصحاب الفكر التجديدي مثل بدراوي الذي علل خسارته في الانتخابات البرلمانية بقوله «حزبي وقف ضدي، لأنهم ضد الإصلاح.» ولو تأملنا ما حدث، فسنجد أن إيمانه بأن الإصلاح يمكن أن يأتي من الداخل غريب حقا، وهذا أقل ما يوصف به. لكنه - حسبما ذكر - يسعى إلى «تكوين ما يسمى بالكتلة الحرجة للقوى السياسة داخل الحزب والتي تضغط حقيقة من أجل الإصلاح.» ودليل النجاح إلى الآن ينبع - على حد قوله - من «تغيير لغة الجميع. قد لا يقصدون ما يقولون، لكنهم جميعا يتحدثون عن المساواة، والمعايير، والديمقراطية، والشفافية، والأداء، والتقييم ... وهذا في الوقت نفسه زاد من صعوبة الوضع، لأنك عندما تجلس مع أحد الأشخاص ويقول إنه يوافق على جميع المبادئ، ثم تناقض أفعاله أقواله، فسوف تقع في حيرة من أمرك. إننا نخوض الآن حربا ضد الفساد والرياء في آن واحد!»
أيا كانت طبيعة العلاقة بين بدراوي وجمال فقد ذكر أنه على الرغم من تأييده له فالأولوية هي «تركيز جهودنا على نزاهة الانتخابات بدلا من الحديث عن الأفراد . إذا أجرينا انتخابات حرة فسيكون لكل حزب الحق في ترشيح من يشاء. وإذا كان جمال مرشحا عن الحزب الوطني فلن يختلف عن الآخرين - وأنا من بينهم - في شيء.» ومن الواضح لبدراوي أن جمالا إصلاحي، وأنه كفل الرعاية والحماية للإصلاحيين حسبما تشير تجربته الشخصية. لكنه لن يتمكن من الاحتفاظ بمنصبه من دون بعض الحماية خصوصا في ظل استعداده للتحاور مع المعارضة بما فيها جماعة الإخوان المسلمين. صحيح أن دعوته لإجراء انتخابات حرة تبعث الأمل، لكن لا بد أن نتساءل عن رد فعل رفاقه داخل الحزب على قوله «أنا أعرف - وهم يعرفون - أن الإصلاح يستتبع فقدانا للنفوذ. أود أن أقول للحزب إن فقد قدر من النفوذ هو في الواقع جزء من عملية الإصلاح.»
صفحه نامشخص