إهداء
مقدمة الطبعة العربية
1 - ثورة باءت بالفشل
2 - الإخوان
3 - الصوفيون والمسيحيون
4 - البدو
5 - التعذيب
6 - الفساد
7 - الكرامة المهدرة
8 - مصر بعد مبارك
صفحه نامشخص
خاتمة
ملحوظة عن مراجع الكتاب
إهداء
مقدمة الطبعة العربية
1 - ثورة باءت بالفشل
2 - الإخوان
3 - الصوفيون والمسيحيون
4 - البدو
5 - التعذيب
6 - الفساد
صفحه نامشخص
7 - الكرامة المهدرة
8 - مصر بعد مبارك
خاتمة
ملحوظة عن مراجع الكتاب
في قلب مصر
في قلب مصر
أرض الفراعنة على شفا الثورة
تأليف
جون آر برادلي
ترجمة
صفحه نامشخص
شيماء عبد الحكيم طه
كوثر محمود محمد
مراجعة
محمد إبراهيم الجندي
إهداء
إلى كيلفين
مقدمة الطبعة العربية
عندما اندلعت الثورة المصرية في يناير/كانون الثاني عام 2011 - بعد عامين من ظهور هذا الكتاب لأول مرة بالإنجليزية وبالعنوان الفرعي «أرض الفراعنة على شفا الثورة» - ربما كنت الأقل اندهاشا بين المراقبين الغربيين لدولة اعتبرتها وطنا لي ما يقرب من عقد كامل. وبالطبع لم يندهش المفكرون والنشطاء الحقوقيون والسياسيون وعامة المصريين الذين تحدثت معهم في السنوات التي سبقت الثورة والذين عبرت عن مشاعر الضيم والإحباط والأمل (ربما بقدر أقل) لديهم في هذه الصفحات. أدركت جموع المصريين الذين خرجوا إلى الشوارع منذ وقت طويل - مثلي - أن أكثر دول العالم العربي تعدادا للسكان، والحليف الأهم لواشنطن في المنطقة، على وشك الانفجار.
والسبب في ذلك أن الشعب المصري لم يكن لديه ما يخسره بعدما لم يكتف النظام - مثلما قيل لي مرارا وتكرارا - بسلب ثروات بلاده الطائلة فحسب، وإنما سلب كرامته أيضا. قضى نظام مبارك على نفسه تماما حتى صار عاجزا عن تنفيذ إصلاحات ولو بسيطة تتعلق بمطالب الشعب بتحقيق تغيير جذري عاجل ذي جدوى. بعبارة أخرى لم يكن وجود النظام إلا للإبقاء على حكمه الفاسد الغاشم؛ ولم يكن الإصلاح يعني شيئا سوى إتاحة الفرصة أمام القطط السمان لتكديس ثروات هائلة باسم الخصخصة والاستثمار الأجنبي واقتصاديات السوق الحرة، وهو ما اتضح أنه بمنزلة انتحار سياسي، لأن جميع المصريين العاديين شهدوا مزيدا من الفقر وعنف الدولة العشوائي نتيجة لذلك.
أثناء السنوات التي سبقت الثورة كان ثمة انفصال لافت للنظر بين ما كان يردده «خبراء» الغرب عن مصر ، وبين الحالة السوداوية التي كانت تسود الشارع المصري مثلما أوضحت في هذا الكتاب. ففي نظر «الخبراء» الغربيين كانت مصر دولة مستقرة حقيقة؛ فلديها جهاز أمني قوامه مليون فرد، مستعد دائما لأن يسحق دون رحمة أدنى تهديد من جانب المعارضة الشعبية. سمعنا مرارا وتكرارا أن حالة من اللامبالاة تسيطر على الشعب المصري. كان البديل الوحيد لحكم مبارك جماعة الإخوان المسلمين المحظورة رسميا مع أنها الكتلة المعارضة الرئيسية. ولم يكن الإخوان المسلمون بحال يتمتعون بشعبية كبيرة، ولذا لم يكن أحد يعول عليهم في إثارة الجماهير. ولما لم تكن هناك قيادة أخرى تحض المصريين على النزول إلى الشارع أو قائد كاريزمي يلهب حماسهم للقيام بعمل جماعي، خلصت هذه القراءة للسيناريو المصري إلى أن الواقع سيظل على ما هو فيه من تخبط إلى أن يقضي حسني مبارك أجله ويرث ابنه الحكم.
صفحه نامشخص
لكم انتشرت هذه القراءة المغلوطة لمصر المعاصرة على نطاق واسع حتى إنه في فبراير/شباط 2011 - بعد بضعة أيام من تنحية مبارك في أعقاب واحدة من أكثر الثورات شعبية في التاريخ - عبر جون ماكين المرشح السابق للرئاسة الأمريكية عن استيائه من أن واشنطن «كان ينبغي لها التنبؤ بذلك عندما أخفقت الحكومة المصرية في المضي قدما في طريق إرساء قواعد الديمقراطية.» والواقع أنه لم يكن ينبغي لأحد أن يندهش من قيام الثورة مثلما كان الحال مع الفوضى التي أعقبت غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة؛ فبالمثل لم يتنبأ «الخبراء» بالوضع المتأزم في العراق. قطعا لو كان ماكين قد قرأ هذا الكتاب، لما بدا مندهشا هكذا، على الرغم من اضطرابات الشيخوخة.
على مدار سنوات غض الإعلام الغربي الطرف عما يحدث في قلب أهم دولة في العالم العربي يعيش ستون بالمائة من سكانها في فقر مدقع حيث ثبات الأجور مع ارتفاع هائل في معدلات التضخم. كان الشعب المصري المشهود له بالود ودماثة الأخلاق غير المألوفين يغلي من شدة الغضب داخل أحيائه الفقيرة وفي الوظائف التي تدر رواتب متدنية محاولا في يأس سد حاجات العيش وفي الوقت نفسه اجتناب ويلات جهاز الشرطة الهمجي. لكنه أيضا - في ظل غياب أي حوار سياسي جاد مع المعارضة - كان حبيس دائرة من اليأس والعجز مثلما أخبرني الطبيب النفسي المصري أحمد عكاشة في الفصل الأول من الكتاب. كان واضحا لكل من ألم بهذه الحقيقة على أرض الواقع أن اندلاع ثورة ربما يكون هو التصعيد المحتمل الوحيد للجنون والطغيان اللذين انحدر إليهما نظام مبارك.
ذاك الانقسام بين ما كان يردده المراقبون الغرب المعزولون عن الشارع المصري وبين الواقع المقيت الذي يعيشه معظم المصريين انعكس بوضوح في ردود الأفعال المتناقضة إزاء نشر كتاب «في قلب مصر» داخل القاهرة وفي العالم الخارجي المتحدث بالإنجليزية. في مصر، أسرعت السلطات بحظر الكتاب على الفور في إشارة واضحة - إذا أعدنا التفكير في الأمر - إلى أن نظام مبارك استشعر الخطر. لكن في الوقت الذي كان فيه أولو الأمر في القاهرة بمعزل عن الواقع - أو كانوا على الأقل عازفين عن الإنصات - أيد الإعلام المصري المعارض النشط رسالة الكتاب. ومثلما أوضحت في الفصل الخاص بالإعلام فإن نظام مبارك منح الصحف المصرية مستوى غير مسبوق من الحرية، لأنه يعرف أن أكثر قراء هذه الصحف من أهل النخبة. فالسماح بدرجة من الحرية أمام الآراء المعارضة ما دامت لا تمثل تهديدا مباشرا على النظام سيعطي انطباعا للأجانب أن مصر دولة الحرية والآراء المتنافسة. لم يسعني إحصاء عدد اللقاءات والمقالات التي أجريت أو نشرت باللغة العربية، وعدد الصفحات التي دشنت على موقع «فيسبوك» بهدف التأكيد على موضوع الكتاب وترجمة بعض فقراته الرئيسية. وعندما رفعت الحكومة الحظر عن الكتاب - بعد نحو شهر من مداهمة مسئولين من وزارة الإعلام لمكتبة الجامعة الأمريكية في القاهرة لمصادرة بضع عشرات من النسخ المعروضة هناك - صار على الفور واحدا من أكثر الكتب مبيعا في العديد من المكتبات الإنجليزية في مصر.
وعلى النقيض من هذا، عندما نشر الكتاب في نيويورك ولندن عام 2008، شعرت بأسى بالغ من ضآلة اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية والإنجليزية على السواء بالكتاب. مكثت بائسا بضعة أسابيع في واشنطن أنتظر الدعوات للحديث إلى وسائل الإعلام، لكني لم أتلق أي دعوات في نهاية الأمر. حدث هذا على الرغم من أن كتابي السابق «خبايا السعودية» (2005) نال ما يربو عن عشرين نقدا بارزا، وأدرج ضمن قائمة أفضل الكتب مبيعا في الولايات المتحدة. وبدا واضحا تماما أن قليلين في الغرب هم من أرادوا سماع الرسالة التي يوجهها الكتاب. ولا عجب إذن في أن أمثال جون ماكين تأسفوا على انعدام رسائل التحذير من اندلاع الثورة بعد اندلاعها أخيرا.
الأسوأ من ذلك أنه عندما كان يرد ذكر الكتاب في وسائل الإعلام المتحدثة بالإنجليزية تكون اللهجة ساخرة تماما. كان رأي ماكس رودينبيك - مراسل مجلة «ذا إيكونوميست» في الشرق الأوسط - أفضل مثال على ذلك؛ إذ أخبر قراءه قبل ثورة القاهرة بستة أشهر فحسب قائلا: ««في قلب مصر: أرض الفراعنة على شفا الثورة» هو العنوان المؤثر الذي اختاره الصحفي البريطاني جون آر برادلي لكتابه. وللأسف لم يكن تنبؤ الكتاب بثورة وشيكة إساءة التقدير الوحيدة للكتاب.» بل إن هذا الانقسام - بين إشادة النقاد العرب الذين فطنوا إلى اقتراب الثورة وبين التشكيك الصفيق والمفعم بالثقة من جانب نظرائهم الغربيين الذين أخطئوا التقدير «للأسف» - امتد حتى وصل إلى المراقبين الغربيين المقيمين في مصر. ففي نقد حاد نشرته صحيفة «بيكيا مصر» الإلكترونية الناطقة باللغة الإنجليزية في القاهرة، خاطبني جوزيف مايتون رئيس تحرير الصحيفة أنا وغيري من القراء قائلا ببساطة: «مصر ليست على شفا ثورة يا سيد برادلي.»
أكثر سؤال تردد على مسامعي بعد الثورة هو كيف استطعت التنبؤ بها دون أي غربي آخر، ولم جازفت بفعل ذلك على هذا النحو الحاسم. وكانت إجابتي بسيطة وهي أني لم أصدق ما كان يقوله هؤلاء «الخبراء» المزعومون في الغرب عن مصر طوال العقد السابق. أثناء عملي مراسلا صحفيا في المنطقة، لم أقابل قط صحفيا غربيا آخر ولو لإجراء حوار قصير. ولم أقم قط بزيارة إلى إحدى سفارات الغرب للحديث مع الملحقين الصحفيين المتعالين. بل استمعت إلى عامة المصريين الذين عشت إلى جوارهم في الأحياء الفقيرة متحدثا معهم بلهجتهم العربية. انتقلت إلى القاهرة عام 1999 لتعلم اللغة العربية بعد أن تخرجت من الجامعة. ونظرا لضيق ذات اليد (ذلك أني أنا نفسي نشأت في أسرة فقيرة)، انتهى بي المطاف في حي شبرا لأعيش إلى جوار 4 ملايين مصري ينتمون إلى الطبقة العاملة. ساعدني الأصدقاء الذين تعرفت عليهم هناك - وأثناء أسفاري التالية داخل البلاد - على رؤية جانب كامل آخر من مصر لا يعرف عنه الصحفيون القابعون داخل الفنادق شيئا.
بعيون هؤلاء الأصدقاء آنذاك شاهدت الاهتراء التدريجي الذي أصاب المجتمع المصري من بطالة مزمنة، وفقر مدقع، واضطهاد سياسي مصحوب بحملات اعتقال عشوائي مفزعة للمواطنين والزج بهم في أقسام الشرطة حيث أصبح التعذيب - الذي أفردت فصلا للحديث عنه - روتينا يوميا.
في يناير/كانون الثاني من عام 2011، عندما احتشد ملايين المصريين في ميدان التحرير وغيره من شوارع وميادين المدن الكبرى الأخرى، أولى الإعلام الغربي الكتاب الكثير من الاهتمام أخيرا. ودون شك سررت أخيرا بالتردد على المحطات الإخبارية التليفزيونية في كل من بريطانيا وأمريكا، واسترددت اعتباري عندما شاهدت الصحف الغربية تدرج الكتاب ضمن قوائم الكتب المهمة. لكن خيل إلي أنه قد أسيء فهمي، إذ افترض صحفيو الغرب أني كنت أنادي بقيام ثورة، وأصبحوا يسألونني الآن هل أشعر بالرضا.
غير أن المغزى من وراء الكتاب لم يكن التحريض على ثورة (وكأن هناك من كان سيعيرني أذنا صاغية على أي حال)، ولا القول إن قيام ثورة - سواء على المدى القريب أو البعيد - سيكون في صالح المصريين. قلما تتمخض الثورات عن المجتمعات التي يرنو إليها مؤيدو هذه الثورات والتي تعتنق فكرة المساواة، مثلما يتضح من تاريخ الثورات الثلاث الأكثر شعبية - من حيث المشاركة الفعالة لأفراد الشعب - في العصر الحديث. فالثورة الفرنسية أسفرت عن «الإرهاب الأعظم»، والثورة الروسية أسفرت عن كابوس «ستالين»، بينما أتت الثورة الإيرانية بآية الله الخميني والملالي المتعصبين الملتفين حوله. الاستثناء الواضح الوحيد لهذه القاعدة في التاريخ الحديث - حسبما يتراءى لي - هو الثورة الأمريكية التي أدت إلى وضع أكثر الدساتير وضوحا وشمولا وإلى ظهور أكثر الدول ديمقراطية وانعزالا في العالم، طوال بضعة عقود على الأقل.
وهكذا لم يعد السؤال يدور عن إمكانية قيام ثورة، وإنما عن الطريق الذي ستسلكه الثورة. فمع حلول شهر فبراير/شباط وتنحي مبارك اتضح أمر واحد، وهو حدوث انقلاب عسكري. لم يكن هناك بد من ذلك لسببين؛ إذ لا يوجد حزب أو مؤسسة أخرى تحظى بتأييد الشعب، فضلا عن أن القيادة العليا في مصر كانت على استعداد في الأساس للتضحية بمبارك - في ظل الضغوط التي تمارسها واشنطن عليها - من أجل الحفاظ على الوضع الراهن ممثلا في قاعدتهم السياسية وفي المساعدات التي يتلقونها سنويا بقيمة 1,4 مليار دولار من الولايات المتحدة. ومع أن الانقلاب العسكري كان أمرا محتما - مثلما أشرت في الفصل الأخير - فإنه دل أيضا على اختطاف ثورة الشعب. شهدت مصر تكرارا لسيناريو عام 1952 عندما أدت ثورة شعبية اندلعت في يناير/كانون الثاني من العام نفسه إلى انقلاب جمال عبد الناصر وتأسيس الحكم العسكري. ولأن قادة الجيش الذين تولوا مقاليد حكم البلاد في 2011 عينوا في الأغلب من قبل مبارك، ولأن المشير طنطاوي نفسه صديق قديم له فلم يكن من العجب أنهم سعوا بدلا من تقويض تركته إلى بسطها عن طريق حملات الاعتقال الجماعي للمتظاهرين، ومحاكمتهم أمام المحاكم العسكرية، ورميهم بتهم العمالة الأجنبية، والاستدعاء المتكرر لرؤساء التحرير والصحفيين الذين يرى أنهم أساءوا إلى المجلس العسكري.
صفحه نامشخص
مع هذا يصر «الخبراء» الآن على أن مصر في طريقها إلى نظام ديمقراطي على المنوال الغربي يؤمن بالتعددية وقبول الآخر وحرية التعبير. وقد سمعنا في مناسبات عدة أن هذا هو مولد «الربيع العربي» بقيادة مصر صاحبة السبق في تبني الاتجاهات الجديدة في المنطقة على مر التاريخ. تبنى كتاب «في قلب مصر» من بدايته إلى نهايته وجهة نظر مخالفة تماما ترى أنه - مثلما حدث في إيران عام 1979 - في ظل الفوضى التي تشهدها مصر بعد الثورة لن يكون النصر في النهاية من نصيب الجموع التي تدفقت إلى الشوارع من مختلف طبقات المجتمع حتى ولو سقط النظام. بل إن شجاعة هؤلاء وبطولتهم سيمهدان الطريق - من دون قصد - لوصول الإسلاميين إلى السلطة بعد حدوث انقلاب عسكري. ولهذا السبب كثيرا ما حذرت من السماح بمزيد من سوء وتدهور الأوضاع. وللأسف، تدهورت الأوضاع، واختطف الإسلاميون الثورة بموافقة ضمنية من المؤسسة العسكرية.
ذكرت في الفصل الذي تحدثت فيه عن الإخوان المسلمين - وأيضا في الفصل الأخير - أن الإخوان ليسوا ثوريين، ويمكن استبعادهم من إشعال فتيل التغيير الثوري المرتقب. يحذر الإسلاميون المتشددون بشدة من الفوضى والثورة، وعندما اندلعت الثورة، عارضها الإخوان المسلمون - مثلما تصورت - وكذلك فعلت الجماعات السلفية الأكثر تشددا. لا بد أن نذكر أنفسنا مجددا أن هذه ثورة شعبية محضة، وأنها قامت بسواعد شباب ليبرالي ويساري وعلماني انضمت إليهم أغلبية لم يكن لهم أي اهتمام قط بالسياسة كان هدفها الوحيد هو الخلاص من نظام نشئوا على كراهيته. لكن كان هذا حال الثورة الإيرانية - في مراحلها الأولى - أيضا عام 1979.
وفي الشهور التي تلت تنحي مبارك بدا واضحا - خاصة وأن الليبراليين الذين أشعلوا فتيل الثورة أعلنوا في تفاخر (وفي حماقة لو أعدنا التفكير في الأمر) أن ثورتهم «بلا قائد» - أن الإسلاميين منظمي الصفوف كانوا يتحركون لملء الفراغ تماما مثلما فعلوا في إيران. ومع هذا واصل «الخبراء» الغرب ونظراؤهم المصريون الليبراليون ترديد العبارات ذاتها: ما من شيء يدعو إلى القلق، وشعبية الإخوان المسلمين محدودة، ومصر صاحبة تاريخ ثري وطويل من التعددية والتنوع، والشعب المصري لا يريد العيش تحت مظلة دولة إسلامية.
من المؤكد أن معظم المصريين لا يريدون العيش تحت مظلة دولة إسلامية، لكن هكذا كان حال الإيرانيين عام 1979. تجاهل هذا التحليل التفاؤلي إنذارا بالغ الخطورة؛ فالإسلاميون لا يحتاجون لتأييد أغلبية الشعب من أجل تحقيق الفوز في الانتخابات. بل يحتاجون لتأييد أغلبية من يدلون بأصواتهم، وهؤلاء تقدر نسبتهم في مصر تاريخيا بعشرة في المائة فقط ممن لهم حق التصويت. ولذا عندما صوت المصريون في مارس/آذار 2011 على التعديلات الدستورية التي أعلن عنها بعد قيام الثورة، فإن 41 بالمائة فقط ممن لهم حق التصويت كلفوا أنفسهم عناء الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ صحيح أنها نسبة تفوق ما كانت عليه في الماضي، لكنها تظل منخفضة إلى حد كبير بالنظر إلى كونها أول انتخابات حرة ونزيهة تتسنى لمعظم المصريين فرصة المشاركة فيها. وهكذا فالإسلاميون - حتى ولو كانوا يتمتعون (مثلما ذكرت كثيرا) بتأييد نحو عشرين إلى ثلاثين بالمائة فقط من إجمالي عدد السكان - لا يزالون قادرين على كسب أغلبية الأصوات لسبب بسيط، وهو أن أتباعهم هم الأكثر تفانيا وتعصبا ومن المرجح بشدة أن يشاركوا في التصويت.
قبيل استفتاء مارس/آذار كان الإخوان المسلمون الكتلة المعارضة الوحيدة التي تحث على الموافقة على التعديلات الدستورية، غير أن أكثر من ثلثي المشاركين في التصويت استجابوا لندائهم؛ أي سبعة وسبعين بالمائة. ونؤكد مجددا أنهم ليسوا سبعة وسبعين بالمائة من المصريين جميعا، وإنما سبعة وسبعين بالمائة من الواحد والأربعين بالمائة الذين صوتوا، ومن هنا كانت الأغلبية الساحقة للإسلاميين على الرغم من قلة مؤيديهم. خسرت الأحزاب الممثلة للنخبة المصرية التقدمية العلمانية، التي عارضت بشدة الدستور المعدل بدعوى أنهم يحتاجون مزيدا من الوقت لتنظيم صفوفهم. علاوة على هذا فإن الإخوان المسلمين فازوا أساسا في الاستفتاء لمجرد زعمهم أن أي تعديلات أخرى على الدستور ستمهد الطريق أمام المؤامرة الأمريكية والإسرائيلية لإلغاء «المادة الثانية» التي تنص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة. وبعبارة أخرى، تغلبت العبارات والشعارات المبسطة على البيانات السياسية الأشد تعقيدا.
إضافة إلى ذلك أظهرت استطلاعات الرأي التي أجريت منذ قيام الثورة أن التلهف لتطبيق الديمقراطية وإجراء الانتخابات على المنوال الغربي يأتي في آخر أولويات من خرجوا إلى الشوارع أثناء الثورة. وكالعادة ذكر نحو عشرين بالمائة أن الدافع الرئيسي وراء الإطاحة بمبارك هو تطبيق الديمقراطية والمشاركة في انتخابات حرة. أما الباقون فكانت أولى أولوياتهم دائما مثلما ورد في الاستطلاع استعادة كرامتهم والتعبير عن غضبهم من تردي الأوضاع الاقتصادية للدولة. ومن ثم أحيطت استجابة النخبة في الغرب (والقاهرة) بخداع الذات، تماما كما أن تأييد النخبة لنظرية «نهاية التاريخ» المنافية للعقل التي وضعها فرانسيس فوكوياما في بداية التسعينيات من القرن العشرين - عقب سقوط سور برلين - يبدو أمرا هزليا لأي شخص فطن يلقي نظرة على الماضي. بالمثل يشير الليبراليون الرواد الآن إلى أن الشعوب العربية المضطهدة - بزعامة المصريين - انتفضت ضد الطغيان لأنهم يتوقون إلى قيم الغرب الليبرالية الكلاسيكية من قبول الآخر والحكم التمثيلي. أيضا يصرون على أن الإنسانية مرهونة بالتبني الجماعي للدساتير التي تحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير الفردي.
لا شك أنه ما من عاقل يود أن يلقى القبض عليه ويعذب لا لشيء سوى أنه عبر عن رأيه سواء أفي القاهرة أم في نيويورك. لكن عندما ننظر إلى الصورة من المنظور الأشمل - بأن نتساءل هل المطلب العام بالكرامة الإنسانية الأصيلة يترجم حتما على أنه ولع بالنظام البرلماني البريطاني وتأييد الفردية وفق النهج الأمريكي - يصبح التقييم ناقصا ومبسطا للغاية. ولنفكر في استمرار شعبية جمال عبد الناصر الذي حكم مصر بعد انقلاب عام 1952 الذي أطاح بالملكية المدعومة من بريطانيا. فكما يبين الفصل الأول قمع عبد الناصر بوحشية حرية التعبير وفرض حظرا على المعارضة السياسية. وبالرغم من شعبيته الأكيدة فإنه لم يترشح للانتخابات قط خلال العقدين الذي حكم فيهما البلاد. ومع هذا كانت الجماهير ترفع صورته عاليا أثناء الثورة المصرية 2011 في حين شوهدت بضع صور لأنور السادات بالرغم من حكمه المؤيد للديمقراطية إلى حد ما. ويكاد يكون من المحال أن ترى مصريا عاديا - باستثناء الإسلاميين الذين مارس عبد الناصر بحقهم جرائم التعذيب والقتل - يقبل بكلمة سوء تقال في حقه. ولا عجب في أن استطلاع رأي كبير أجري بعد الثورة المصرية أظهر أن الرغبة في تطبيق الديمقراطية على المنوال الغربي حتى بين الثوار أنفسهم تأتي كأولى الأولويات لدى تسعة عشر بالمائة فقط ممن شاركوا في الاستطلاع. لم كل هذا التقدير لعبد الناصر الديكتاتور المتسلط إذن؟ طرحت هذا السؤال مرات لا أحصيها على مر العقود، ودوما كنت أحصل على التفسير نفسه من المصريين؛ وهو أنه لم يكن شخصيا حاكما فاسدا، وأنه احترم كرامة شعبه، ولم يكن توفير الغذاء بالأمر الصعب في عهده. يبدو أن ميوله الاستبدادية لا دخل لها بالموضوع.
ومما يدعو للسخرية أن تونس كانت هي المحفز لاندلاع الثورة في مصر وفي غيرها من دول العالم العربي؛ ذلك أن الحبيب بورقيبة الزعيم التونسي الذي حكم البلاد بعد الاستقلال أدار ظهره لسياسة الوحدة العربية ومعاداة الغرب التي تبناها عبد الناصر مؤكدا بدلا من ذلك على تفرد بلاده. وعلاوة على ذلك، فطوال سنوات تكرر استقبال عامة التونسيين للهجتي المصرية المميزة بالفتور، لأنهم لا يحملون الكثير من مشاعر الحب للمصريين. فالتونسيون ينظرون إلى المصريين على أنهم مخادعون محترفون، وأنهم منافقون بسبب إظهارهم المتفاخر - والظاهري عادة - للتقوى والورع. وفي المقابل، ينظر المصريون الأكثر تحفظا إلى حظر ارتداء الحجاب في تونس وأحياء الدعارة المنتشرة تحت مظلة القانون على أنها نوع من الجنون. ولا غرو في أن مباراة كرة قدم جمعت بين فريقين من البلدين في القاهرة - بعد اندلاع الثورتين التونسية والمصرية ببضعة أشهر - قضت سريعا على كل ما كان يقال عن مشاعر الحب بين الأشقاء العرب في كلتا الدولتين في أعقاب بداية «الربيع العربي». فعقب قرار مشكوك في صحته اتخذه حكم المباراة اندلعت أعمال الشغب في الجانب المصري حيث اندفعت الجماهير إلى أرض الملعب وهاجمت اللاعبين التونسيين. وصادف أن كنت في تونس تلك الليلة، ولم يكن من السهل أن أطلب فنجانا من القهوة باللهجة المصرية.
وأثناء أسفاري المتتابعة جيئة وذهابا بين تونس ومصر بعد الثورة، هالني أيضا ما رأيت من مشاعر الازدراء التي يكنها عامة المواطنين في كلا البلدين للشعب الليبي في ظل نشوب حرب أهلية هناك. لدى معظم المصريين انطباع خاطئ بأن جميع الليبيين ينعمون بالثراء الفاحش، ولذا لم يروا سببا لقيامهم بالثورة من الأساس؛ وهذا دليل آخر نستنبطه من الأحاديث المتداولة على أن المعاناة الاقتصادية - وليس التلهف لتشكيل حكومة تمثيلية على المنوال الغربي - هي التي دفعت المصريين إلى التظاهر. التونسيون من جانبهم كثيرا ما نظروا إلى الليبيين نظرة ازدراء إلى حد يبدو معه فتورهم تجاه المصريين عاطفة مكبوتة. فهم يعتبرون الليبيين بدوا حمقى، وسرعان ما هاجموا بعنف مخيمات اللاجئين التي أقيمت من أجل الليبيين جنوب بلادهم. لذلك اتضح أن الرأي القائل إن الثورات العربية مثلت إحياء لحلم الوحدة العربية الذي دعا إليه عبد الناصر - مثل العديد من النظريات التي يروج لها «خبراء» الشرق الأوسط - هو محض تمن لا حقيقة له.
نظرا لأزمة الآراء السياسية الراديكالية المعارضة في الوقت الراهن - حيث تتحلى الشعوب العربية من دون شك بالجرأة التي كانت جزءا محوريا في جميع الثورات الكبرى على مر التاريخ، لكنهم يفتقرون إلى التلاحم وإلى وجود استراتيجية بل ولغة سياسية يستخدمونها في صياغة أهدافهم - فالحقيقة المؤسفة أن الثورة في مصر وفي غيرها من البلدان الأخرى كانت تصب دوما في صالح الإسلاميين أولا وقبل كل شيء. ذلك أن الإسلاميين يتحدثون لغة يتردد صداها بين العامة. ليس معنى هذا أن الإخوان المسلمين يتمتعون بشعبية كبيرة في مصر، ومثلهم في ذلك السلفيون. لكن عندما يصل الأمر إلى جوهر الخلاف السياسي نجد المصريين غير مبالين تماما، والأحزاب التقدمية تكاد لا تكون معروفة، والإخوان المسلمين بالتبعية الفصيل المعارض الأفضل تنظيما وصاحب الرسالة الأكثر وضوحا والأيسر استيعابا.
صفحه نامشخص
وكحال كل جماعات المعارضة الإسلامية، لا يسعى الإخوان المسلمون إلى الحكم، لأنهم ينجحون ويزدهرون في جانب المعارضة، حيث ينشغلون بموضوعات غير ذات جدوى تتعلق بالإسلام - بدءا من التصدي لمسابقات الجمال وحتى حظر الكتب التي ترمى بالكفر - في محاولة لأسلمة المجتمع من قاعدته. بعبارة أخرى، ينظر الإسلاميون إلى المدى البعيد، ولا يسعون إلى السلطة من أجل السلطة. ومن هنا كان استبعادهم الفوري للترشح في الانتخابات الرئاسية الهامة جدا. وبدلا من ذلك نراهم يريدون أسلمة المجتمع تدريجيا من قاعدته، معتقدين أنهم مؤيدون من قبل الله وتساندهم النزعات الاجتماعية المحافظة. وطوال عقود من الزمان كان البرلمان الهش ساحتهم المفضلة، والعمل الخيري بين الفقراء أداتهم الرئيسية لاستقطاب الآخرين. ومع تردي الوضع الاقتصادي المصري جراء الثورة، زادت الحاجة إلى أعمالهم الخيرية أكثر من ذي قبل، وصار البرلمان الجديد الأكثر تحررا أكثر إغراء لهم.
في حوار مع قناة «بي بي سي» في مارس/آذار 2011 قال عضو في جماعة الإخوان المسلمين المصرية ، «معتدل» على حد زعمه: «نريد حريتنا حتى نتمكن من تأسيس أحزاب سياسية في مجتمع مدني تعددي.» وواصل الشاب حليق اللحية حديثه قائلا: «لا يمكنكم إصدار حكم علينا ما لم تمنحوننا الفرصة. نحن الإسلاميون بحاجة إلى فرصة.» لكن الدرس المستفاد لمصر - ولهذا الإسلامي تحديدا إذا تأمل الواقع لحظة - من تجارب الدول الأخرى واضح وضوح النهار؛ لا يمكنك استيعاب الإسلاميين بالرغم من اعتدال بعض أتباعهم. أعطهم جزءا صغيرا من ساحة اللعب، وسوف يستأثرون بالساحة كلها لأنفسهم، ويغيرون قواعد اللعبة على نحو يضمن انتصارهم دائما. وفوق كل شيء لن تستطيع دحرهم في المنافسات طويلة المدى؛ فعندما يتعلق الأمر بالجلد والثبات تكون الغلبة من نصيبهم. وعلى كل حال فالتعريف الدقيق للاعتدال هو معرفة الوقت الذي يجدر بك التوقف فيه، وكل الإسلاميين يشتركون في أنهم لا يكلون لحظة. والتعرض للإسلام الراديكالي في الشرق الأوسط بالنقد صار مرادفا للدعوة إلى خفض السن القانونية لممارسة الجنس إلى ثماني سنوات في جلسة كاملة لمجلس الشيوخ الأمريكي؛ أي صار أمرا كارثيا. لا بد لكل الحجج أن تصاغ في حذر الآن باستخدام مصطلحات إسلامية، فضلا عن أن التأييد الذي حظيت به الحركات العلمانية في الماضي ذهب أدراج الرياح؛ بين العامة على الأقل.
طوال العقدين الماضيين، أرسى الإخوان المسلمون دعائم نجاحهم الوشيك. فقد أظهر استطلاع رأي أجراه «مركز بيو للأبحاث» قبل الثورة بوقت قصير أن غالبية المصريين يؤيدون رجم الزاني، وقطع يد السارق، وقتل المرتد عن الإسلام. والحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها مع الأسف هي أن المجتمع المصري - بعد عقود من حكم نظام مبارك الفاسد (الذي قوى شوكة الإسلاميين كوسيلة لتجنب غضب الشعب جراء تحالفه مع واشنطن) - صار محافظا ورجعيا للغاية، وأصبحت النخبة التقدمية بمعزل هائل عن الشعب، حتى إن شعار الإخوان المسلمين - الإسلام هو الحل - يطغى على الدعوات الأكثر تعقيدا وبراعة إلى الصبر والتسامح والاعتدال. والأسوأ من هذا دخول السلفيين المتطرفين الآن إلى الساحة السياسية، حيث استغل السلفيون الأكثر تطرفا الفوضى التي أعقبت سقوط مبارك لمهاجمة الصوفيين والمسيحيين. يرى هؤلاء المتشددون أن المزيد من الديمقراطية لا يعني مزيدا من التعددية حتى مع تأسيسهم أحزابا سياسية مؤخرا بهدف تدعيم العملية الديمقراطية. والآن يتحول السيناريو المفجع الذي تصورته لمصر في هذا الكتاب - عندما كانت على أعتاب تغيير ثوري هو اعتلاء الإسلاميين السلطة - إلى واقع أسرع كثيرا حتى مما توقعت.
في بداية أغسطس/آب 2011 - بعد اندلاع الثورة بستة أشهر - شهدت مصر ما يمكن وصفه بأنه «اللحظة الإيرانية» في البلاد. نزل ما يقرب من مليون سلفي وإسلامي متشدد إلى ميدان التحرير، وشقوا صفوف المعارضة الليبرالية والعلمانية التي كانت قد وافقت على الانضمام إلى المظاهرة من باب التدليل على وحدة الصف. وما حدث أن الإسلاميين دعوا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وإزاحة الأفكار العلمانية جانبا. ردد الإسلاميون شعارات إسلامية، وارتدوا الزي السلفي، بل ولوحوا بالأعلام السعودية في دلالة أكيدة على الرغبة في العودة بالمجتمع إلى العصور الوسطى.
بعدئذ تحرك الجيش لإخلاء ميدان التحرير من بضعة مئات من المتظاهرين الليبراليين، وأعلن عن مثول مبارك أمام المحكمة. لا شك أن قرار محاكمة مبارك - بعد شهور من التباطؤ - كان انتصارا لليبراليين الذين استبسلوا في مواصلة الضغط على المجلس العسكري من أجل محاكمة الديكتاتور. لكن الخطر يكمن في أن محاكمة مبارك (الجارية وقت كتابة هذه السطور) ستثبت أنه انتصار باهظ التكاليف. فقد سحب البساط من تحت أقدام الحركات الثورية الليبرالية مثلما استغلت حالة الزخم القائمة من قبل الإسلاميين الذين يشاع أنهم أبرموا اتفاقا مع الحكام العسكريين الجدد: دعونا نؤسلم المجتمع من قاعدته ونشارك بحرية في الانتخابات، وسوف نساعدكم في الحفاظ على الوضع الراهن. نفى الجيش نفيا قاطعا وجود مثل هذا الاتفاق، لكن الحقيقة واحدة سواء أكان الاتفاق قد أبرم رسميا أم لا. وسط الفوضى والخراب اللذين تشهدهما مصر بعد الثورة والتنفيس عن المشاعر برؤية مبارك ماثلا أمام المحاكمة تجلت حقيقة جديدة؛ من المرجح كثيرا أن تصبح مصر - عاجلا أكثر منه آجلا - دولة إسلامية أكثر من احتمال كونها دولة ديمقراطية تسير على منوال الغرب.
أوضح مقال نشر في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية ذات الثقل في فبراير/شباط 2011 كيف برع الإسلاميون في الترويج لأنفسهم في الخارج مستغلين بمهارة ولع واشنطن بألعاب الشطرنج الجغرافية السياسية. كتب شادي حامد من معهد «بروكينجز» البراجماتي: «لا جدال في أن الديمقراطية ستجعل المنطقة أكثر تقلبا وبعض الحكومات فيها أقل إذعانا لمصالح الأمن الأمريكية.» لكن لا داعي للقلق؛ فالإسلاميون «الممثلون للاتجاه السائد» مثل الإخوان المسلمين في مصر «لديهم نزعات براجماتية قوية»، وأظهروا أنهم «مستعدون للمساومة على أيديولوجيتهم» عندما يواجهون خيارات صعبة:
لتوجيه الشرق الأوسط الذي يمر بمرحلة تطور سريع مؤخرا في اتجاه مناسب، على الولايات المتحدة استغلال تلك النزعات عن طريق الدخول في حوار استراتيجي مع الأحزاب والجماعات الإسلامية في المنطقة. فالمشاركة ستمكن الولايات المتحدة من حث الإسلاميين على احترام المصالح الرئيسية للغرب بما في ذلك دفع عملية السلام العربي-الإسرائيلي قدما، ومجابهة إيران، ومحاربة الإرهاب. سيكون من الأفضل دعم تلك الروابط مع جماعات المعارضة الآن - في وقت لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بالنفوذ - أكثر مما سيكون عليه الوضع لاحقا بعد وصولهم إلى السلطة: (شادي حامد: «كيف سيغير الإسلاميون العملية السياسية والعكس» مجلة «فورين أفيرز» مايو/أيار- يونيو/حزيران 2011.
http://www.foreignaffairs.com/articles/67696/shadi-hamid/the-rise-of- the-islamist ).
بعبارة أخرى الإسلاميون في طريقهم إلى الحكم - شئنا أم أبينا - لذا فمن الأفضل تقديم الدعم للطرف الرابح. لكن ماذا عن نساء المنطقة ومسيحييها وشيعتها ومفكريها من أنصار الفكر الحر الآخذ عددهم في التضاؤل طوال الوقت و«شعوبها» الإسلامية المعتدلة - على حد تعبير أوباما - الذين لا يريدون العيش في دولة دينية وهابية رجعية؟ ليذهبوا إلى الجحيم على ما يبدو؛ فالأولوية للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، ولا بد من تحقيقها ولو بإبرام اتفاق مع الشيطان. وبالرغم من أن هذا المنطق يتنافى مع الأخلاق فإن دوافعه مفهومة - من المنظور البراجماتي المحض الذي تتبناه واشنطن - إذا كان يخدم المصالح الأمريكية حقا.
غير أن مشكلة الحجج البراجماتية أن التاريخ اعتاد تفنيدها. ساند البراجماتيون الأمريكيون الأنظمة الفاسدة في جنوب فيتنام واحدا تلو الآخر، لكنهم خسروا الحرب مع ذلك، وسلموا المنطقة إلى الصين على طبق من فضة . وساند البراجماتيون شاه إيران واكتسحت الثورة لتمكن آية الله الخميني، وقد شهد التاريخ لتوه تكرارا لهذا السيناريو في مصر. في الثمانينيات من القرن العشرين، سلح البراجماتيون أسامة بن لادن. وثمة أمر واحد واضح: وهو أن واشنطن ستواصل تفضيل مصالحها ومصالح تل أبيب على مصالح الشعب المصري. والنتيجة ستكون كارثة أخرى في السياسة الخارجية. وعندما تندلع الثورة المصرية القادمة - وهو أمر مؤكد - سيقف الإسلاميون المتشددون في الصفوف الأمامية منذ اللحظة الأولى.
صفحه نامشخص
الفصل الأول
ثورة باءت بالفشل
على بعد مسافة قصيرة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ بين شوارع منطقة وسط البلد المزدحمة، في العاصمة الأكبر في أفريقيا والأكثر ازدحاما في العالم العربي؛ يقع مقهى صغير متهالك يدعى الندوة الثقافية، كراسيه ومناضده الخشبية تطل على الشارع خارجه، ويرتاده المناضلون من المفكرين الليبراليين، وتتبارى فيه أصوات الزبائن الصاخبة مع أصوات أبواق السيارات، وتلتقي أثناء إدلائهم بالطلبات - التي يجلبها ندل يرتدون معاطف بيضاء - مع أصوات الباعة المتجولين المتكررة المجاورة صانعة مزيجا أوبراليا، يختلط فيه الدخان المتصاعد من نارجيلة المقهى بعوادم سيارات المرور التي توقف سيرها من فرط الزحام. إنها صورة مصغرة للقاهرة المعاصرة: زحام المرور، والتلوث الضوضائي، والحياة الاجتماعية الزاخرة بالأحداث لأناس أكثر ما يعشقونه هو الخوض في الأماكن العامة فيما عظم وصغر من الأمور، على الرغم من الاضطرابات المحيطة بهم (أو ربما بسببها). في تلك الآونة، في شتاء عام 2006، حقق فيلم بعنوان «عمارة يعقوبيان» نجاحا ساحقا في البلاد. قصدت آنذاك مقهى الندوة الثقافية؛ للقاء الكاتب علاء الأسواني، مؤلف الرواية التي ارتكز عليها الفيلم الأعلى تكلفة في تاريخ السينما المصرية، الذي شارك في بطولته الكثير من نجوم السينما في مصر، وحطم جميع الأرقام القياسية لإيرادات الأفلام المصرية في الأسابيع الأولى من عرضه. دارت أحداث الفيلم في مبنى من أبنية الماضي الشامخة في منطقة وسط البلد التاريخية بالقاهرة، أي قريبا من مقهى الندوة الثقافية، ومثلت شخصياته المتنوعة شرائح مختلفة من المجتمع المصري المعقد. والمبنى في حد ذاته شخصية رئيسية من شخصيات الفيلم؛ إنه مرآة بسيطة لمنتهى الازدهار الذي شهده المبنى في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات الساحرة، الحقبة التي تعرف في مصر ب«الزمن الجميل»، ويرمز تهالك المبنى إلى تدهور مكانة مصر تدريجيا إبان الحكم العسكري الذي دام أكثر من خمسة عقود منذ انقلاب يوليو/تموز عام 1952، الذي أطاح بالنظام الملكي المؤزر من قبل بريطانيا، ليصعد بجمال عبد الناصر والضباط الأحرار إلى السلطة. صدر الفيلم ليعرض بقوة وعلى نحو فريد الواقع المرير الذي يواجهه المصريون يوميا، في بيئة ثقافية تكاد تكون قاحلة، تخلت فيها عن السينما المصرية عظمتها السابقة، وأضحت خاضعة لرقابة مكثفة، وباتت تنتج اليوم عددا لا حصر له من الأفلام الكوميدية الرخيصة. الانحلال الجنسي والفساد السياسي تفشيا في العالم الذي تتحرك فيه الشخصيات، وتنافس فيه القوادون والعاهرات وصغار المحتالين ومحترفوهم على غنائم الأمة المتهاوية التي باتت الآن تعيش كابوسا من جانبين: اتساع أملاك الطبقات العليا بلا حدود، واجتياح الإسلاميين للطبقات الدنيا. إنها صورة يزداد فيها الثري ثراء والفقير فقرا، أما الشرائح الوسطى فقد اندثرت واندثر معها كل أمل في التطور الاجتماعي القائم على التعليم الجيد والرغبة في العمل الجاد، في الوقت الذي استغل فيه الإسلاميون المتشددون الضعفاء والمعدمين الذين تخلى عنهم النظام الحاكم، ووقع المثقفون المتعلمون تحت أقدام عصابات شبيهة بالمافيا يشار إليها باسم «أغنياء الحرب»؛ وهو مصطلح يقابله في الإنجليزية مصطلح يعني «القطط السمان». إنه بلد يحلم شبابه جميعا تقريبا بالهروب منه، وأملهم الأخير للتمتع بمستقبل أفضل هو مفارقة الأحباب، والسفر بحثا عن العمل والكرامة. •••
يلتقي علاء الأسواني كل خميس في مقهى الندوة الثقافية بأصدقائه ومحبي رواياته، وبغيره من المفكرين؛ لمناقشة آخر التطورات السياسية والثقافية في مصر. كان الأسواني يملك قاعدة عريضة من المعجبين، فحتى قبل أن يصنع نجاح فيلم «عمارة يعقوبيان» الهائل اسمه بوصفه روائيا عالميا، حققت الرواية ذاتها أعلى المبيعات في مصر والعالم العربي منذ صدورها في عام 2002، بل وذهب البعض منذ وقت مبكر إلى تلقيبه بخليفة نجيب محفوظ، الروائي العظيم الحائز جائزة نوبل، الذي تحولت رواياته إلى أفلام شهيرة، وتوفي في أحد المستشفيات بالقاهرة في عام 2006 بعد صراع طويل مع المرض إثر محاولة اغتيال تركته عاجزا عن الكتابة، نفذها متطرف إسلامي في أوائل التسعينيات. يشير اسم الأسواني - وهو رجل في أواخر الأربعينيات له رقبة ملاكم وساعداه - إلى انحدار أصوله من قلب النوبة؛ من مدينة أسوان الساحرة بجنوب مصر. وتوحي شخصيته الودودة المتواضعة بأنه - مرة أخرى كنجيب محفوظ - لم يدع الشهرة التي اكتسبها في الآونة الأخيرة تصيبه بالغرور. لقد عاش في الولايات المتحدة وفرنسا، وصار يتقن الإنجليزية والإسبانية والفرنسية إلى جانب العربية؛ لغته الأم. أسس أولى عياداته بوصفه طبيب أسنان في المبنى الذي يشير إليه اسم القصة وتدور حوله أحداثها الخيالية، وكان شأنه شأن أغلب الرجال المصريين الذين التقيتهم يدخن السجائر باستمرار، وهو أمر مستغرب من طبيب أسنان. عندما قدمت له نفسي، لاحظ أنني أدخن سجائر كليوباترا المحلية فيما هو يمسك بعلبتي سجائر من ماركة أمريكية يفضلها، فأطلق مزحة عن التمازج بين الثقافات المختلفة - الفكرة الرئيسية التي تدور حولها أحدث رواياته؛ «شيكاجو» - لإذابة الجليد واستهلال الحديث.
في تلك الأمسية الباردة من شتاء عام 2006، اجتمع ما يقرب من خمسين شخصا في مقهى الندوة الثقافية، جلست في الصف الخلفي، أتابع ما يجري من حولي دون الانخراط فيه، وتناقل المجتمعون جهاز ميكروفون متصلا بمكبر صوت سمح لصوت كل شخص بأن يبز ضجيج المرور بالخارج. دار الجزء الأكبر من النقاش الذي افتتحه الأسواني حول أصداء تصريح أدلى به وزير الثقافة فاروق حسني مؤخرا، قال فيه إن ارتداء الحجاب - الذي انتشر في مصر منذ أوائل التسعينيات، ولا تعارضه إلا الأقلية القبطية المسيحية - هو دلالة على «الرجعية». لكن الهجوم المضاد لتصريح فاروق حسني كان قاسيا، بقدر ما كان محبطا؛ فقد جاء ليثبت فقط صدق إعلانه، وهو ما أدهشني. اتحد أعضاء من البرلمان المصري من حزب الرئيس مبارك الحاكم؛ الحزب الوطني الديمقراطي (العلماني ظاهريا) - الذي يسيطر على المجالس التشريعية المؤلفة بموجب انتخابات محددة النتائج سلفا - مع أعضاء برلمانيين من جماعة الإخوان المسلمين في الدعوة لاستقالة فاروق حسني، وشن كاتبو الأعمدة في الصحف القومية والمعارضة هجمات شرسة ضد الوزير تتعرض لشخصه، بل وأشار البعض بخبث (وبلا سبب واضح) إلى أن من لا يبدو أن النساء تهمه كثيرا يجب أن يكون آخر من يدلي برأي قوي فيما يرتدينه. ظاهريا قد يبدو هذا تحالفا غريبا بين الإسلاميين والعلمانيين، لا سيما بالأخذ في الاعتبار أن النظام يتهم دائما بحبس وتعذيب النشطاء المعارضين وملاحقتهم بلا هوادة، بالأخص من جماعة الإخوان المسلمين الأصولية، لكن إن أنعمنا النظر في الأمر، فسنجد أن ردة الفعل إزاء تصريحات فاروق حسني توضح بقوة أن النظام يسرق عباءة الإسلاميين لرفع شعبيته الآخذة في التدهور بين العامة. إنها ممارسة ليس من قبيل المصادفة أنها تساهم في تهميش أصوات التقدميين أكثر مع الترويج لخطورة الإسلاميين التي يحاول النظام أن يلفت الأنظار - قدر الإمكان - إلى جسامتها لتقليص حملات الضغط والنقد التي يتعرض لها من مموليه في واشنطن.
أيد الجميع تقريبا في صالون الأسواني غير الرسمي فاروق حسني، لم يؤيدوا بالضرورة آراءه عن الحجاب، لكنهم ارتأوا بلا شك أنه لا يستحق أن يهاجم، مما أظهر ميولهم الليبرالية وجهلهم بالرأي العام السائد؛ وعلى كل حال، إن كان المعارضون والحزب الحاكم يرون في تعليقات فاروق حسني فرصة سياسية، فهذا يدل على أنهم يجدونها قضية ذات صدى في الشارع المصري، ومن هنا يمكن استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية. وكان أكثر ما عجز المجتمعون في الندوة عن تصوره هو كيف استطاع فرد - أيا كان موقعه في الحكومة المصرية - أن يثير مثل هذه الجلبة، في الوقت الذي فشلت فيه القصص عن استشراء الفقر والبطالة والفساد المستوطن وثقافة المحاباة الواسعة الانتشار - وهي الأفكار الرئيسية التي تدور حولها قصة الأسواني - في تحفيز الجماهير لاتخاذ ردة فعل تقترب من هذا الحد. ردة الفعل تلك أثبتت انعدام الحوار الثقافي في البلاد، وسيطرة الإسلاميين على العقل الجمعي المصري، لكنها أوضحت أيضا سذاجة مفهوم العدالة لدى الحاضرين بالصالون الثقافي؛ فالجلبة حول الحجاب صرفت انتباه الناس عن واقع محزن يعيشونه، لكنهم لا يستطيعون في الوقت نفسه معالجته. لا عجب في أن الكوميديا الرخيصة تسيطر سيطرة كبيرة عندما تتعذر معالجة القضية الملحة إلى درجة مقبضة للصدر. •••
قال لي الأسواني بعد أن انفض الحشد وجلسنا على طاولة خارج المقهى: «نشأت في منطقة وسط البلد بالقاهرة، أعتقد أن تلك المنطقة ليست جزءا من العاصمة بقدر ما هي حقبة تعود إلى أكثر من مائة وخمسين عاما قبل ثورة يوليو، عندما كانت مصر متسامحة إلى حد بعيد.»
تمثل الطرز المعمارية المختلفة التي انتشرت في القاهرة قبل ثورة يوليو تغير العصور والأذواق من منظور مجتمع الصفوة الليبرالي الذي انبثق منه الأسواني؛ إنها تعبر عن فترة تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، عاش وعمل فيها المسلمون، والمسيحيون، واليهود، والمصريون، والعثمانيون، والأرمن، والإيطاليون، والفرنسيون معا، وصارت المدينة بفضل مظهرها نموذجا للتعدد والاختلاف. تبرز رواية «عمارة يعقوبيان» هذا المجتمع الذي اتسع للجميع؛ إذ يتحول المبنى الذي سميت باسمه القصة، الكائن في القاهرة كما نراها في الواقع، والمصمم على طراز «الآرت ديكو»، إلى نصب تذكاري يذكر بالطراز الكلاسيكي الأوروبي الرفيع، وقد اكتمل مظهره ذاك بأعمدة وأحجار إغريقية الطابع.
احتك الأسواني بالمجتمع الغربي في سن صغيرة، وذكر أنه في جزء منه «ليبرالي بالدرجة الأولى»؛ فقد كان والده كاتبا وفنانا، لذا نشأ على حب قراءة الكتب وحرية الرأي؛ «فمن أراد أن يصلي، صلى، ومن أراد أن يشرب الخمر، شربه، ومن أراد أن يصوم، صام»، هكذا أخبر مجلة «إيجيبت توداي» المحلية التي تصدر باللغة الإنجليزية في مصر إبان حملته الدعائية لدى صدور روايته. وقد حرص على أن يبين لي أنه لا يشبه أيا من شخصيات قصته، فإحدى نقاط قوته ككاتب بالفعل هي قدرته - على طريقة الروائي الفرنسي مارسيل براوست - على تفهم آراء شخصياته المختلفة على الرغم من تعارضها. لكن مع تواصل حديثنا تبين أنه كبطل روايته الأرستقراطي المسن زكي باشا، يزدري الواقع الكئيب الذي تعيشه القاهرة المعاصرة ويشعر بالحنين إلى مصر ما قبل ثورة يوليو، مع التحفظ بشدة على الاستعمار البريطاني الذي ميز هذه الحقبة.
قال الأسواني وهو مستغرق في التأمل: «الاستعمار في الأحوال كافة شر، فإيجابياته - أيا كانت - ليست لمنفعة أهل الوطن، ولكن الحقيقة هي أنه قبل هذه الثورة، كان مفهومنا عن الدين متسما بالفعل بالتسامح، لهذا كان مجتمعنا متعدد الأعراق؛ عاش فيه أناس من كل ربوع الأرض.» هنا قاطعته مجموعة أخرى من المعجبين تطلب توقيعه على النسخة الإنجليزية والعربية من روايته.
صفحه نامشخص
عمل الأسواني فيما مضى بصحيفة تدعى «الشعب»، كان فيها مسئولا عن الصفحة الأدبية. والصحيفة ذاتها تملك تاريخا مشوقا؛ فبعدما كانت يسارية، أخذت تتخذ أكثر فأكثر طابعا إسلاميا، ويفسر هذا على الأرجح سبب توقف الأسواني عن العمل فيها. إحدى التفسيرات القوية لتبرير هذا الاتجاه الذي تحولت إليه الصحيفة هو أنها سعت لأن تعكس بدقة آراء من تزعم أنها تمثلهم، كما يوحي اسمها، والبديل العملي أشار إلى إمكان تحقيقها مبيعات أفضل إن تخلصت من ميولها اليسارية. ولكن سبب النقلة هو في الواقع اهتزاز ثقة كبار الشخصيات المؤثرة في الصحيفة في الحلول اليسارية، إن جاز التعبير. من هنا شنت «الشعب» من قبل حربا شعواء على وزارة الثقافة لإصدارها رواية تدعى «وليمة لأعشاب البحر»، اعتبرتها الجهات الرقابية المحلية منافية للإسلام. لعل الأسواني تعاطف على مستوى شخصي مع وزير الثقافة فاروق حسني في صدامه مع المتطرفين الإسلاميين حول مسألة الحجاب - التي أنجته فيها صداقته لسوزان مبارك قرينة الرئيس التي ترفض ارتداء الحجاب - لأنه بدوره تعرض لهجمات شرسة مماثلة تستهدف تشويه صورته في الصحف الموالية للحكومة؛ إذ اتهمه كاتبو أعمدة الرأي في تلك الصحف بتلويث سمعة مصر بالخارج (وهي رسميا جريمة)، لا سيما لأن إحدى شخصيات روايته كان لواطيا يجاهر إلى حد ما بلواطه. (اللواط منتشر بين الشباب المصريين، لكنه لا يناقش في العادة بانفتاح)؛ علاوة على أن الرواية حوت مشهدا يصف اغتصابا وحشيا لإسلامي مشتبه به على يد بلطجي مأجور من الحكومة في أحد مراكز الشرطة التي يزعم أن اغتصاب الرجال والنساء يمارس فيها ممارسة دورية كعقاب وكوسيلة لانتزاع الاعترافات.
الشعب المصري هو الأكثر حبا لوطنه في العالم العربي. قد يبدو هذا غريبا بالأخذ في الاعتبار أنني لم ألق من قبل مواطنا مصريا لا يكره رئيسه بطريقة أو بأخرى، وبالنظر إلى أن أحد استطلاعات الرأي التي أجراها معهد بيو للأبحاث في يوليو/تموز عام 2007 كشفت عن أن نسبة كاسحة من المصريين تبلغ 87٪ (أكبر نسبة بين سبعة وثلاثين دولة أجري فيها الاستطلاع نفسه) غير راضين عن أداء حكومتهم. لكن من الصعب في الوقت نفسه أن تجد بين المصريين من لا يحب وطنه، ويعتز بماضيه ويؤمن بطاقات الشعب المصري عندما تسنح له فرصة شبه لائقة لصنع مستقبله. مفتاح فهم هذا التناقض الواضح هو إدراك أن المصريين رغم وعيهم بمواطن ضعف وطنهم يكرهون أن يشير إليها الغرباء، بل ويمقتون أن يفضح مصري تلك المعايب على الملأ ليحشد آذانا من المجتمع الغربي الذي يعتقد المصريون أنه يتدفق عليه سيل من الصور السلبية عن العالم العربي.
ذكرت الأسواني بهذا قبل أن أقرأ له ما قاله عن مصر في المقابلة الصحفية نفسها التي أجرتها معه مجلة إيجيبت توداي، تعقيبا على دراسة مخيبة للآمال عن مصر، أجرتها شركة مونديال بالمملكة المتحدة، وهي شركة استشارية رائدة تقدم خدماتها للشركات الأجنبية التي تستثمر في مصر وللراغبين في برامج تأمين السفر. أثارت الدراسة حالة من التأمل للأوضاع الداخلية للبلاد في الإعلام المصري، وليس فقط القليل من ردود الفعل التلقائية والمتسرعة، وذلك عندما حصل قطاع الخدمات والسياحة المصري في تقييم مونديال على صفر صريح. قال الأسواني للمجلة: «بلغ الأمر أننا وصلنا إلى الصفر، لكن الصفر الذي أعطته لنا مونديال كان نتيجة عادلة، عادلة تماما. ليس فقط في المونديال، بل في كل شيء؛ وإن كان من يجب أن يحصل على الصفر هو الحكومة المصرية وليس المصريين. الحكومة المصرية تقييمها صفر في كل المجالات، لا على صعيد كرة القدم فحسب، بل أيضا على صعيد الصحة والتعليم والديمقراطية، وكل شيء.» ولما سألته عن مسئوليته كمصري عن صورة مصر أمام العالم الخارجي؛ القراء الأساسيين لمجلة إيجيبت توداي، أجابني: «مهمتي بوصفي روائيا ليست أن أحرص على أن يزور ملايين السياح مصر كل عام.» ثم أضاف أنه متأكد - على أي حال - أن عبيد السلطة؛ أصحاب أعمدة الرأي التي تهاجمه في أجهزة الإعلام الحكومية، قد تلقوا مكافآت سخية من الحكومة لتعبيرهم عن «آرائهم»، وهو ما يجب أن يسبب إحراجا قوميا. لقد أثبت استقبال عوام المصريين له عندما يسير في شوارع القاهرة أن الكثيرين على مستوى المواطن العادي يقدرون محاولاته. وفي النهاية عاد متنهدا إلى فكرته الرئيسية حيث قال: «مشكلة حكم جمال عبد الناصر هي أنه أنشأ نظاما غير ديمقراطي في الأساس، ما زلنا نحتفظ به إلى اليوم.»
وصلت الشرطة السرية يوم الخميس من ذاك الأسبوع إلى مقهى الندوة الثقافية قبل وقت قصير من بدء انعقاد الصالون الثقافي - وكأنها تبرهن على رأي الأسواني - وأبلغ صاحب المقهى بأن هذا التجمع غير قانوني، وتعرض الندل هناك للضرب، وأمروا بالتوقف عن تقديم المشروبات للضيوف. وانتهى الأمر بقطع صاحب المقهى الذي أصابه الذعر (وهو صديق للأسواني منذ أكثر من عقد) الكهرباء عن المكان، مما اضطر جماعة المفكرين الأحرار المعارضة الصغيرة إلى البحث عن منبر آخر للتعبير فيه عن آرائهم. ولم ينج الأسواني من الاعتقال - الذي كان نصيب الكثير من أصحاب المدونات والنشطاء السياسيين المعارضين والمفكرين الليبراليين الأقل شهرة - إلا لأن شهرته على المستوى الدولي بلغت حدا قرر معه النظام أن الاحتجاجات الحتمية في الصحافة العالمية التي ستنجم عن هذا القمع البشع؛ ستخلق من المشكلات أكثر مما يستحقه الأمر. وعلى أي حال فإن كل الأنظمة الديكتاتورية باستثناء الأكثر قسوة منها تدرك أنها تجني بعض المنفعة بترك بعض الليبراليين البارزين وشأنهم، ولعل هذا القرار جاء بضغط من واشنطن ومنظمات الرقابة الدولية بناء على ملف النظام المفزع في مجال حقوق الإنسان وتطبيق الديمقراطية؛ وبذا يكتسي النظام أمام العالم الخارجي بلباس الحرية والتعددية والسماح بالاختلاف. •••
في مقطع شهير من رواية «عمارة يعقوبيان»، يقول زكي باشا بطل الرواية الذي كان والده أحد الأرستقراطيين الذين أزيحوا عن السلطة في عام 1952: «عبد الناصر أسوأ حاكم في تاريخ مصر كله.» أما الفيلم، في أغلبه، فيحاكي الرواية بإخلاص، إذ تطورت نظرة النظام إلى تراث ناصر وأتباعه لتسمح بالمعارضة. لكن لعل ما يدل على أنه لا تزال هناك حدود يحظر تخطيها في الانتقادات اللاذعة المباشرة، التي توجه عبر وسائل الإعلام الشعبية كالأفلام؛ هو أن العبارة السابقة حذفت من الفيلم ومعها شرح زكي باشا الصادق لها في صفحات الرواية؛ حيث يقول بعدها: «... ضيع البلد وجاب لنا الهزيمة والفقر، التخريب اللي عمله في الشخصية المصرية محتاج سنين طويلة لإصلاحه ... عبد الناصر علم المصريين الجبن، والانتهازية، والنفاق ...» وعندما تسأله عشيقته الفقيرة بثينة (المستاءة بدورها بشدة من تراث الثورة) عن سبب حب الناس لعبد الناصر إلى الآن، يجيبها ثائرا: «اللي يحب عبد الناصر إما جاهل أو مستفيد ... الضباط الأحرار كانوا مجموعة عيال من حثالة المجتمع ... معدمين أولاد معدمين ... حكموا مصر وسرقوها ونهبوها وعملوا ملايين.» •••
كانت رواية «عمارة يعقوبيان» أبرز مثال على عملية إعادة تقييم ثقافية مستمرة في مصر لثورة 1952 من ناحية، والنظام السياسي الاجتماعي الذي حكم مصر قبل الثورة من ناحية أخرى، والذي أدانته المناهج التعليمية وأجهزة الإعلام الخاضعة لسيطرة الحكومة المصرية واصفة إياه بأنه عهد استعمار وشرور. والحق أن جمال عبد الناصر الذي تمتع بشخصية كاريزمية إلى حد هائل عشقته جماهير المصريين حتى وفاته في عام 1970، وليس من الصعب علينا فهم السبب؛ فقد كانت هناك فوائد هائلة قصيرة الأجل لحكم عبد الناصر: تحررت مصر أخيرا من السيطرة الأجنبية، واتسع نطاق التعليم، وضمن خريجو الجامعات الحصول على وظائف حكومية، وتأممت قناة السويس، وبني السد العالي، وتوزعت الأراضي على نحو أكثر عدلا. والزعم أن الضباط الأحرار كانوا من «حثالة المجتمع» قد ينطوي على قدر من المغالاة، لكنهم بلا شك عرفوا كيف يحصلون على الدعم بتحقيق المكاسب للفقراء، واستغلال كراهيتهم للأثرياء. ولعل أكثر ما يساعد في فهم سبب شعبية عبد الناصر هو روح الكرامة التي بثها في كثير من المصريين، مع أنه خانهم عندما قضت إسرائيل على القوات الجوية المصرية في غضون ساعات من بداية حرب عام 1967، في الوقت الذي أذاعت فيه إذاعة صوت العرب التي يمولها، أنباء غريبة عن نصر ساحق لمصر. لكن حتى الفوائد قصيرة الأجل التي تحققت من حكم عبد الناصر أضحت اليوم ذكرى بعيدة مشوشة لدى الجميع عدا النظام الحاكم نفسه، ومجموعة صغيرة من المفكرين المناوئين بشدة للتغيير، والأحزاب والمطبوعات الناصرية المتعددة. وبصرف النظر عن بعض التقدير الباقي في النفوس لناصر كزعيم للوحدة العربية، ومناهض للاستعمار والصهيونية، أصبحت اليوم ذكرى الثورة مناسبة للتحسر لا الاحتفال، هذا إن انتبه لها أحد من الأساس. فعلى صعيد الحياة اليومية، سيطر شعور عميق بكساد الأحوال، في الوقت الذي يتفجر فيه المجتمع المصري داخليا، ويتخلى فيه النظام عن دور مصر التاريخي القيادي في العالم العربي. وقد كتبت مجلة ذي إيكونوميست، التي تبرع في تغطية أخبار مصر أكثر من أي دورية غربية أخرى، عن الذكرى الخمسين للانقلاب العسكري أن مصر «ليست في مزاج يسمح بالاحتفال. فاقتصاد البلاد وسياستها تجمدا في الوقت الذي تعوق فيه النزاعات المحيطة بها أي أمل في الفرج القريب. ومع هذا تحركت الحكومة المصرية ببطء بالصخب والاستعراضات والخطابات ... لتغذية روح الفخر الوطني، لكن يبدو أنها بدلا من ذلك أججت الشعور بالاستياء والغضب في أمة أصبحت غير راضية عن نفسها ولا عن العالم الخارجي.» •••
ماذا كانت حقيقة نظام عبد الناصر الثوري؟ يقودنا التقييم الموضوعي إلى نتيجة واحدة فقط: إنه نظام قاد مصر إلى كارثة عسكرية بالخارج، وهزأ هو نفسه بمزاعمه الرائعة عن الديمقراطية والكرامة لجميع المواطنين في الداخل. كان عبد الناصر في الرابعة والثلاثين من العمر إبان انقلاب عام 1952 والدولة العربية الوحيدة التي زارها بخلاف مصر قبل صعوده للسلطة كانت السودان، لكن آنذاك جمعته معرفة شخصية ببعض العراقيين والسوريين والفلسطينيين. وبعبارة أخرى، قامت رؤيته للوحدة العربية على وهم، تبخر ما إن اصطدم بالواقع ممثلا في محاولات التحالف مع الدول العربية الأخرى، وفشل هذه التحالفات، وأشهر مثال على ذلك هو التحالف المصري السوري. غير أن التأثير التراكمي للانقلاب العسكري الذي قاده كانت له تبعات كارثية على المدى الطويل وعلى نطاق العالم العربي الكبير كله . تلخص لورا إم هذا في كتابها «ناصر في الحرب: التصورات العربية للعدو» (2006)، فتقول: «ألهم انقلاب عبد الناصر حركات مماثلة أدنى، قامت بها جماعات سرية من الضباط الأحرار في جميع أنحاء العالم العربي، وأسفرت عن حمامات دم في العراق، ومسرحية مظهرية خادعة في اليمن، ومهزلة في ليبيا.» أما قرار ناصر بخوض الحرب بالوكالة عن اليمن ضد المملكة العربية السعودية في الستينيات بإرسال ثلاثين ألف جندي من أفضل جند مصر إلى ذلك البلد القبلي العربي الجنوبي - ليترك بذلك مصر بدفاع هزيل في عام 1967 - فلم يكن خطأ تكتيكيا وحسب، فلقد نم أيضا عن رياء صارخ، بالنظر إلى أنه صدر عن رجل عارض التدخل الأجنبي في بلاده ووضع الوحدة العربية على قمة أجندة سياسته الخارجية، إلا أن الرياء كان سمة مميزة لعهد عبد الناصر منذ البداية. فلو لم تكن المخابرات المركزية الأمريكية وراء هذا الانقلاب العسكري «المناهض للإمبريالية»، فهي بلا شك كانت على علم مسبق به. وقد أثبت عبد الناصر فيما بعد استعداده التام للعمل مع الأمريكيين إلى أن انقلبوا ضده، بل حتى قوانين إصلاح الأراضي كانت جزءا رئيسيا من سياسة الولايات المتحدة الخارجية آنذاك التي تهدف إلى منع انتشار الشيوعية في المنطقة.
أما في مصر، وكعادة زعماء القرى، رقى عبد الناصر المقربين له في المناصب بناء على ولائهم الشخصي لا على أهليتهم، وأشهر مثال على ذلك هو عبد الحكيم عامر الذي عينه عبد الناصر رئيسا لأركان الحرب، ثم نائبا أول له، والذي لم يتخلص منه إلا بعد أن قادت مشوراته العسكرية - التي قدمها بناء على تكهنات غير واقعية وحرص أبدي على إرضاء صديقه القديم بدلا من إخباره بالحقائق القاسية - مصر إلى الهزيمة في عام 1967. لقد شكل الضباط الأحرار الذين أحاطوا بعبد الناصر وعامر وغيرهما من قادة الانقلاب دوائر سلطة، تكرس مجهودها كله للحرب التي تلت على السلطة، لكن هذه النخبة الجديدة الفاسدة لم تتمتع بأي من سمات الأرستقراطيين الذين استبدلتهم وأذلتهم، الذين انغمسوا في الملذات لكن تمتعوا مع ذلك بثقافة رفيعة. مارست هذه النخبة الجديدة الفاسدة من موقعها الجديد ما مارسه الأرستقراطيون على الدوام؛ إذ استغلت نفوذها، وانتزعت من كل صفقة استيراد أو تصدير مهما كبرت أو صغرت حصة لها، وتربحت من مصادرات العقارات (وهو ما يفهم على أنه سرقة)؛ وكل هذا تم باسم الجمهورية والشعب. •••
لكن لم تكن هذه إلا البداية، فقطاع الصحافة الذي تمتع بحرية كبيرة لأكثر من نصف قرن في ظل الملكية التي دعمتها بريطانيا تأمم عام 1960 بعد سنوات من القهر، وصار رؤساء التحرير الأوفياء الذين عينهم عبد الناصر بنفسه أكثر وفاء للثورة والجمهورية من مؤسسيها أنفسهم. على سبيل المثال: برز محمد حسنين هيكل الذي عين رئيس تحرير لجريدة الأهرام اليومية الأكثر مبيعا - التي تأسست في منتصف القرن التاسع عشر - كأشهر الصحفيين المصريين؛ إذ كانت قراءة عموده الذي يصدر كل جمعة ضرورة لكل من أراد أن يعرف ما يدور بخلد عبد الناصر، وهذا في حد ذاته اتهام صارخ للصحافة المطبوعة في ذلك الوقت. زعم الكثيرون أن هيكل هو المروج والرقيب الأول لعبد الناصر، بصرف النظر عن فصاحة عباراته، واتهم هو وغيره من المحررين بإخماد روح أعظم الصحف المصرية اليومية؛ فإلى اليوم لا تزال الصحف الرسمية الحكومية تصدر وصفحتها الأولى تتقدمها وجوبا العناوين التي تمتدح آخر خطابات مبارك السخيفة عن القضايا الداخلية والدولية، فقط لأن التمويلات الحكومية التي تحابيها وشبه الاحتكار الذي تمارسه الحكومة على الدعاية الصحفية هو ما يساعدها على البقاء ويمنعها من الغرق في الديون.
علاوة على هذا، حظر عبد الناصر أنشطة الأحزاب السياسية المعارضة التي نما دورها هي الأخرى في مصر قبل الثورة. وجاءت التبعات كارثية بقدر ما كان هذا الإجراء نفسه؛ فنشأ نظام شمولي بقيادة حزب واحد، يضمن احتكار الجيش للسلطة السياسية، برز فيه ناصر - الذي لم يخض انتخابات رئاسية قط - بوصفه صاحب اليد العليا بعد صراع داخلي مرير على السلطة مع زعيم الجمهورية الأول اللواء محمد نجيب. وكانت للهيئات التنفيذية التي تأسست للفصل بين السلطات - شأنها شأن كتاب أعمدة الرأي - عرضة للترهيب بسهولة، ففشلت بدورها في توجيه نقد حقيقي للمساوئ التي ارتكبها مخططو الانقلاب. وتأسس جهاز أمن واستخبارات واسع النطاق للتجسس على الشعب والسيطرة عليه، تفوق تفوقا كاسحا على شبكة التجسس التي أسسها الملك فاروق؛ ملك مصر الأخير التعس، وأحكم قبضة الضباط على السلطة.
صفحه نامشخص
أما عن جماعة الإخوان المسلمين (التي تأسست عام 1928 باعتبارها جمعية خيرية شعبية تهدف إلى إعادة عموم أفراد الشعب إلى أصول الإسلام؛ وفق تفسير الإخوان)، فقد سجن ناصر عشرات الآلاف من أعضائها وعذبهم إلى أن لقي العشرات منهم حتفهم، ولعل أشهرهم هو سيد قطب، الذي أرسى - من نواح عديدة - المبادئ الفكرية للإرهاب الذي ابتليت به فيما بعد مصر وغيرها من الدول في مختلف أنحاء العالم العربي والعالم. ومن نجا من تلك التصفية من الجماعة فر مؤقتا إلى دول الخليج العربي شديدة التشبث بالمحافظة، وتشرب بالفكر الوهابي المتطرف الذي عززته الأسرة السعودية الحاكمة. ويتنافى هذا الفكر تماما مع مبادئ التسامح والتعدد الإسلامية السائدة في مصر، لكن الإخوان المسلمين سيحملونه في نهاية الأمر معهم عندما يدعوهم أنور السادات للعودة إلى البلاد في السبعينيات لمواجهة المعارضة الماركسية التي ظهرت إبان حكم عبد الناصر. لقد شنق الكثير من قادة الإخوان المسلمين الذين ظلوا بمصر، وعلى المدى الطويل كانت التبعات الثقافية لهذا الفكر الوهابي المنقول كارثية، لا سيما فيما يخص الأقلية المسيحية التي يرميها الفكر الوهابي - وربما السياسة الرسمية للإخوان - بالكفر؛ تماما كما يرمي اليهود والصوفيين بالكفر أيضا.
لكن تبين أيضا مدى استعداد الضباط الأحرار لقمع منافسيهم العلمانيين غير الأصوليين باسم حرية الشعب، في الأشهر التي تلت الانقلاب العسكري عندما حوكم قادة مظاهرات عمالية وأعدموا على عجل، فبعثت تلك المحاكمات الصورية رسالة واضحة إلى كل من يجرؤ على مخالفة النظام.
هكذا أسس ناصر في غضون بضع سنوات قواعد دولة بوليسية تحكمها ديكتاتورية عسكرية تصطفي من بين صفوفها رئيسا ذا صلاحيات شبه مطلقة. وظلت مصر خاضعة لقانون الطوارئ (أي الأحكام العرفية) منذ عام 1952 حتى الآن باستثناء فترة لم تدم سوى ثمان سنوات فقط. ووفقا لمنظمة العفو الدولية، تضم سجون مصر اليوم ثمانية عشر ألف معتقل بلا تهمة. ولما صدر أخيرا تعهد في عام 2007 بالتخلص من قانون الطوارئ قوبل بالسخرية؛ لأن النظام أدخل معه تعديلات متزامنة على الدستور جعلت أسوأ ملامح القانون دائمة إلى الأبد. فالنظام العسكري الذي يرأسه مبارك يخلص لمدرسة عبد الناصر، وهذا يتضح أشد الوضوح من رفضه أن يخاطر بفقدان السلطة إن سمح لمؤسسات الدولة أن تكون ديمقراطية بالفعل، مما من شأنه أن يطلق حرية الرأي العام، لا سيما بعد أن صار الرأي العام يجد أفضل تعبير له (بفضل أخطاء النظام) في حملات الكراهية الشرسة التي يستبدلها الأصوليون الإسلاميون بالمناقشات الحقيقية. ولا تزال المؤسسات إلى اليوم وإلى حد بعيد تديرها شخصيات تدربت سياسيا على يد النظام الذي سبق وفاة عبد الناصر.
وصف مبارك ثورة 1952 في احتفال بالذكرى الخمسين لها في خطابه أمام خريجي الكلية الحربية التي تخرج منها بأنها «المجد الذي توج كفاح الشعب المصري»، وهو ما لا يدع مجالا للشك في اتجاه ولائه الشخصي. •••
هكذا، لا تزال آليات النظام المستبد التي أسسها عبد الناصر على حالها إلى اليوم، على الرغم من مرور أكثر من خمسين عاما اتسمت بوقوع تغيرات اجتماعية واقتصادية هائلة في مصر. ولا عجب إذن في ظهور ذلك الحنين إلى العهد الذي سبق الثورة والذي وظف ببراعة في رواية عمارة يعقوبيان. فينظر اليوم الليبراليون والمفكرون المتأثرون بالغرب والعامة المنشغلون بتوفير نفقات معيشتهم إلى تلك الحقبة على أنها عصر ذهبي بائد، وإن كانت تلك نظرة رومانسية. والشواهد على ذلك نجدها في كل مكان. على سبيل المثال: عقب الثورة، حظرت الألقاب كلقب باشا (الذي يشير إلى رتبة كبيرة في النظام السياسي للإمبراطورية العثمانية) ولقب بك (الذي يشير إلى رتبة أقل من الباشا)، دلالة على محو المراتب الطبقية وألقاب الشرف. لكن تلك الألقاب عادت من جديد، والمفارقة أن أكثر من يستخدمها هم من سعى إلى محو الألقاب الإقطاعية؛ من المسئولين الحكوميين وكبار الضباط ووكلاء الوزراء ومن يتبعونهم. وقد اتضح لي التغير الذي طرأ على أقدار تلك الألقاب في التسعينيات، حين خاطبت مارا كنت أعرفه داعيا إياه باشا، فانزوت بي جانبا امرأة مصرية مسنة - كانت قد انتقلت للعيش في أستراليا عقب انقلاب عام 1952 وعادت إلى مصر مؤخرا لتساعد في وضع المنهج الدراسي لمدرسة اللغة العربية التي كنت أدرس بها - وقالت ناصحة إياي بلهجة جادة: «هذا الرجل سيغضب بشدة إن استخدمت هذه الألقاب». وفيما بعد سألت معلمتي إن كان هذا صحيحا، فضحكت ضحكة مكتومة ثم قالت لي إن تلك العجوز لا تزال تعيش في مصر في حقبة الخمسينيات فيما يبدو.
تتناول كتب لا حصر لها الآثار السلبية لانقلاب عام 1952، أحدها كتاب عالم الاجتماع المصري القدير جلال أمين «ماذا حدث للمصريين؟ تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945-1995» الذي يأسى فيه على التغييرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على مصر بعد الثورة بمقارنتها بقصص ساحرة عن طفولته قبل الثورة. حاز الكتاب جائزة في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1998 وبيعت منه العديد من النسخ بالعربية والإنجليزية، حتى إن جلال أمين أصدر كتابا ثانيا استكمالا للموضوع نفسه حقق أعلى المبيعات بعنوان: «ماذا حدث أيضا للمصريين؟ مصر من عهد الثورة إلى العولمة». غير أن جلال أمين ليس المثال الوحيد. كتبت ليلى أحمد، وهي باحثة أكاديمية مقيمة في الولايات المتحدة، ولدت لعائلة من الطبقة العليا في القاهرة في الفترة بين الحربين العالميتين في سيرتها الذاتية التي حملت عنوان «عبور الحدود» (الصادرة عام 2000)، تقول: «نشأت في آخر أيام الإمبراطورية البريطانية، وعشت طفولتي في عهد لم تكتسب فيه كلمتا «الغرب» و«الإمبريالية» الدلالات التي اكتسبتاها اليوم.» ومثل الكثير من السير الذاتية المماثلة التي نشرت في الغرب لمصريين يحاولون تصحيح ماضيهم قبل الثورة، تصف هذه السيرة ببراعة كيف أن الكثير من أسر الطبقة العليا والوسطى لم تر تناقضا بين إيمانها المخلص القوي بقوميتها وبين حرصها على أن تعهد بتنشئة أبنائها إلى معلمين غربيين، من المفترض أنه أن لا يمكن الاعتماد عليهم في تأجيج مشاعر مناهضة الاستعمار لدى طلابهم. تتناول السيرة ببراعة جيلا نشأ في مجتمع راقي متعدد الثقافات ، تعد الاختلافات الفردية فيه مهمة بقدر أهمية الطموحات الوطنية.
آنذاك كان الظلم المؤكد الراسخ في المجتمع المصري، والتلاعب السياسي الانتهازي للقوى السياسية الخارجية بالسياسة المصرية؛ تلطف من حدته بقدر ما ثقافة تسامح وتعددية وعقلانية وفخامة في المعمار جلبها الأجانب، وعززتها الطبقة الأرستقراطية المنحدرة من الدولة العثمانية، واستقت منها الحركة القومية المصرية نفسها إلهامها عندما عارضت الحكم البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر. لذا استطاع الزعيم الوطني العظيم سعد زغلول - الذي أثار نفي الإنجليز له في عام 1919 الشعب المصري لصنع ثورة صغيرة قادت إلى استقلال جزئي عن الاستعمار البريطاني - أن يقول باعتدال عن الغربيين في بلاده: «ليست بيني وبينهم خصومة شخصية ... لكنني أود أن أرى مصر مستقلة.» هذا الرأي المثير للجدل عن حقبة ما قبل الثورة يبين أن المصريين اعتنقوا أفضل ما أنتجته ثقافة العالم؛ إذ كانوا ظاهريا أقل تشددا دينيا من اليوم، ولكن أكثر تشبثا بالأخلاق، ومن ثم أكثر احتراما لرسالة الإسلام الجوهرية التي يعبر عنها العمل الصالح، وليس فقط الحرص على الشعائر الدينية الصارمة، وإصدار عدد لا حصر له من الفتاوى الغامضة والبغيضة في أحيان كثيرة. لقد أخضع علماء الإسلام آنذاك القرآن نفسه للدراسة والتحليل العقلاني؛ لحرصهم على دمج مبادئ العصر الحديث والديمقراطية في الدين الإسلامي.
بل حتى الملك فاروق رد له اعتباره، ففي رمضان الموافق سبتمبر/أيلول عام 2007، كان البرنامج الأكثر شعبية في مصر والعالم العربي لدى من يتاح لديهم إرسال تليفزيوني عبر الأقمار الصناعية، هو مسلسل تليفزيوني قصير يصور صعود الملك فاروق إلى السلطة وسقوطه منها، مسلطا الضوء على «الجانب الإنساني» للملك. أنتجت قناة إم بي سي الفضائية السعودية المسلسل وبث على قناة أوربيت السعودية التي تتمتع بشعبية مكافئة، لكنه لم يذع في البداية على التليفزيون القومي المصري الذي يقال إن المسلسل كتب ليعرض عليه قبل خمسة عشر عاما؛ إذ رفضت الحكومة المصرية تمويله لدواع سياسية. لكن إم بي سي قررت تمويل إنتاجه - على الرغم من محاولة المسئولين الحكوميين المصريين إعاقة إنتاجه برفض إصدار التصاريح لطاقم المسلسل للتصوير في المواقع والقصور الملكية والأماكن التي شهدت أحداثه الواقعية - ومن الصعب ألا يخطر ببال المرء أن قرار قناة إم بي سي قد يكون قائما - جزئيا على الأقل - على دواع سياسية؛ إذ لم يضع كاتبو أعمدة الرأي في الصحف التي تمولها المملكة العربية السعودية وقتا قبل أن يشيدوا بفضائل الملك فاروق، وهم يمتدحون أسر الخليج الحاكمة التي نجت من محاولات ناصر لتقويضها. وأذعن التليفزيون المصري للضغوط التجارية، وأعلن أنه سيعيد عرض المسلسل في ساعة المشاهدة القصوى بعد أن تبين أنه من أكثر المسلسلات الرمضانية نجاحا على مدى سنوات.
بعد يوم 23 يوليو/تموز الحاسم عام 1952، ألقيت القاهرة - «باريس النيل»، كما أسميت حبا فيها من قبل الأجانب الذين تدفقوا عليها وساعدوا في تصميمها وبنائها وإدارة شئونها إبان القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين - في مزبلة التاريخ كما يقال في المثل الشائع. شاعت المشاحنات لتحل محل الود بين المصريين والأجانب، وصودرت ممتلكات الأجانب طبعا، فاختاروا في نهاية الأمر مغادرة البلاد مع الأرستقراطيين، أو أجبروا على الفرار منها بعد حرب قناة السويس عام 1956. ويستدل على كراهية عبد الناصر المطلقة للأجانب من خلال طرده لنصف يهود مصر الذين ربطت أجهزة الدعاية لنظام عبد الناصر اسمهم بدولة إسرائيل الناشئة. وهذا مثال على حملات ضغط عديدة (استهدفت إحداها الإخوان المسلمين) استخدمها عبد الناصر لصرف الانتباه عن عيوب نظامه، لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. وفي حالة اليهود، لم تضعف هذه الحملات بالقطع مع محاولات إسرائيل المتخبطة لتجنيد وتمويل مجموعة صغيرة من يهود القاهرة لتنفيذ أعمال إرهابية في القاهرة؛ سعيا لإثارة الفتن الاجتماعية والاضطرابات السياسية. لكن إن كان معيار الحكم على الديمقراطية هو الحماية التي توفرها للأقليات الدينية وغيرها من الأقليات، فإن رحيل اليهود إلا قليلا جدا منهم عن مصر، مع تحول كلمتي «يهودي» و«إسرائيلي» إلى مترادفين في سياق المحادثات العابرة المعادية للسامية بين المصريين أنفسهم، يكشف بوضوح ملامح ميراث عبد الناصر «الديمقراطي»، كما تدل عليه حقيقة أن المعبد اليهودي الرئيسي بالقاهرة تحيط به حراسة أمنية يوفرها الجيش على مدار أربع وعشرين ساعة يوميا. •••
يقول الباحث العربي الأمريكي فؤاد عجمي إن شعورا رهيبا بخيبة الأمل والإحباط يكمن الآن في أعماق الحياة المصرية. حاز العجمي احتراما واسع النطاق كمراقب للتيارات السياسية والثقافية العربية، لكنه انتقد عقب دفاعه الحماسي عن الغزو المشئوم للعراق بقيادة الولايات المتحدة في عام 2003. أوضح عجمي في مقال عن حنين المصريين إلى الماضي نشر عام 1995 في صحيفة فورين أفيرز أن فخر مصر الحديثة يتجاوز بكثير حجم إنجازاتها، والشواهد المحزنة على ذلك قائمة في كل مكان؛ «في الفقر الذي تعانيه الطبقات الدنيا، في الساحة السياسية الكئيبة التي تسمح لضابط عادي باحتكار السلطة السياسية والحط من قدر منافسيه في المجتمع المدني، في اتجاه البلاد إلى السقوط في هاوية الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، في الوضع التعليمي والثقافي البائس.» هذا الشعور بالإحباط كما يرى عجمي ولد موجة قوية من الشعور بالحنين إلى حقبة السياسة الليبرالية في مصر التي امتدت من العشرينيات إلى ثورة 1952، إلى الديمقراطية البرلمانية والملكية الدستورية؛ إلى «الحياة السياسية النابضة بالحيوية والصحافة النشطة التي اتسمت بها تلك الفترة، إلى ثقافة رجال الأدب والفن الرفيعة، والمرأة الحرة التي تعبر عن نفسها وتحفر لها مكانا في الحياة السياسية والثقافية والصحافة». يقول عجمي معترفا بأن بعضا من تلك الأماني هو «نموذج لحنين مجتمع مزدحم مثقل بالهموم لعهد براءة وعظمة مفقود.» ويضيف عجمي: «لكن بعضها الآخر هو تعبير مشروع عن الاستياء من تواضع أحوال الحياة العامة.» ويرى العجمي أن مصر أفرزت في العهد الليبرالي سينما تتمتع بحرية أكبر من اليوم، عندما كان قادة الفكر فيها عمالقة يطرقون بقوة القضايا المعاصرة الهامة، ويضفون على الأدب المصري والعربي لمسة من العبقرية الخالصة.
صفحه نامشخص
هذا الشعور باليأس وما تولد عنه من حنين إلى الماضي، زاد عمقا على مدار العقد الذي مر منذ ظهور مقال فؤاد عجمي. قال عوض المر كبير قضاة المحكمة الدستورية العليا السابق في الذكرى الخمسينية لانقلاب عام 1952: «لا أعتقد أن ثورة عام 1952 كان لها أي ميزة إيجابية، طالما لا تزال الديمقراطية مفقودة. فشلت الثورة فشلها الأكبر في تحقيق الديمقراطية، وهو ما أدى في رأيي إلى هزيمتنا عام 1967. ولم تشهد مصر حكومة ديمقراطية منذ عام 1952 حتى الآن ... الثورة حملت شعار «ارفع رأسك يا أخي؛ لقد ولى عهد الذل والاستبداد»، لكنها بعدئذ استبدلت به قدم عبد الناصر التي أحنت الرءوس.» ويبدو هذا الاتهام للوهلة الأولى غريبا بالنظر إلى أنه صادر عن أحد أعمدة النظام الذي خلف عبد الناصر، مع أن القضاء المصري أثبت في أحيان كثيرة أنه شوكة في حلق النظام، سارع عبد الناصر بفصل المئات من كبار القضاة الذين اعترضوا على حكمه الديكتاتوري. وفي الواقع، بحلول عام 2006، صار كبار قضاة الدولة الذين احتجوا على فساد الانتخابات التي خولوا دستوريا بالإشراف عليها لكن منعهم نظام مبارك من مراقبتها؛ بمنزلة قادة غير رسميين لحركة احتجاج واسعة النطاق جذبت قطاعات المجتمع المصري كافة: من مفكرين علمانيين، إلى طلاب، إلى نشطاء عماليين، إلى إسلاميين معتدلين. وبدا لوهلة أن النظام يتداعى بفعل القوى التي تعارضه سواء التي تدخل في نطاق سيطرته أو تخرج عنها؛ إذ شهدت مصر الاضطرابات الأوسع نطاقا على مستوى البلاد منذ عهد الثورة. لكن هذه المرة احتشد المضربون والمتظاهرون في مواجهة الكساد السياسي، ووحشية نظام حسني مبارك الصارخة؛ فمبارك شأنه شأن سلفه (وخليفة عبد الناصر)، أنور السادات، رجل عسكري، وهو آخر حماة نظام عبد الناصر العسكري الفاسد غير الديمقراطي الذي ما زال يقبض على المجتمع المدني بقبضة من حديد.
إلا أنه في الوقت الذي وضع فيه عبد الناصر قيودا شخصية صارمة على مدى استعداده للتنازل عن السيطرة على بلاده لحساب بريطانيا والولايات المتحدة من بعدها، عن طريق تأميم قناة السويس في خطوة استراتيجية بارعة، أنهت فعليا سيطرة الاستعمار الإنجليزي على مصر وعلى المنطقة ككل؛ فإن مصر في عهد مبارك أضحت بطريقة ما أكثر اتكالا على الولايات المتحدة؛ الإمبريالية الجديدة، صاحبة القرار في المنطقة. وقد شبه الزعيم العراقي الراحل صدام حسين - الذي امتلك نوعا ما باعا في صفقات الخداع والمساومات التي يعقدها طغاة الحكام العرب للتشبث بالسلطة - مبارك بأسلوب لاذع بأنه «مثل هاتف العملة؛ تضع فيه النقود فتحصل على ما تريد.» لكن عامة المصريين يشعرون بالسخط والمذلة لاعتماد النظام المصري باستمرار على عطايا الولايات المتحدة (التي تمد مصر بمساعدات عسكرية قدرها مليارا دولار سنويا منذ معاهدة السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل عام 1979، وهي مساعدات ينظر البعض إليها على أنها رشوة للإبقاء على السلام البارد مع الدولة العبرية). هذا لأن عامة المصريين بادئ ذي بدء لا ينتفعون بأي حال من الأحوال بتلك الأموال، بينما يجدون الفجوة بين الفقراء والأغنياء تتسع أكثر فأكثر. وربما يكون السبب الأهم في هذا البلد الذي ترسخ فيه الشعور بالفخر بالهوية القومية هو أن المصريين يمقتون أيضا جسارة سياسات الولايات المتحدة على الصعيد العسكري في المنطقة ودور حكامهم في ذلك، لا سيما لتعاطفهم القوي مع القضية الفلسطينية، ولأن قطاعا كبيرا من المصريين ينظر إلى الاحتلال الذي قاده المحافظون الجدد الأمريكيون لغزو العراق على أنه احتلال تم بأمر عصبة من المتآمرين المعاونين لإسرائيل في واشنطن.
عادت مصر من حيث بدأت بعد خمسة عقود من الانقلاب العسكري. أصبحت المظالم نفسها التي قادت إلى تمرد استغله الضباط الأحرار هي الأساس الذي انطلقت منه مظاهرات جديدة في الشوارع، ومقالات ساخطة في وسائل الإعلام المعارضة الصاعدة، تطالب بسقوط الاستعمار ومعاونيه، وانتهاء سيطرة الرأسماليين الاستغلاليين على الحكومة وإهمال العدالة الاجتماعية، وتنادي بالحاجة إلى نظام حكم ديمقراطي لا يكتفي بتقديم وعود كاذبة. فمع وجود (ولي العهد)، ابن مبارك المتغطرس المتأنق جمال مبارك، الذي يرى الكثيرون أنه يعد لخلافة والده المعتل في الرئاسة، لن يرى أي اختلاف بين النظام الحالي والنظام الملكي الذي أطاح به عن السلطة قبل خمسة عقود باسم تحرير الشعب المصري. إن الحنين إلى عهد الملكية لا يختلف عن اشتياق أهل السلف إلى نقاء عهد محمد وأتباعه؛ إنها رغبة يائسة في العودة إلى الماضي، في حاضر شديد البؤس. •••
لكن حتى مع إقرارنا بالآثار السلبية المؤكدة للحكم الاستعماري المباشر أو غير المباشر، فإن النظام المصري الحالي يفشل على جميع المستويات عندما يقارن بالنظام الملكي الذي سبق الثورة، والذي ساهم غزو نابليون بونابرت القصير لمصر عام 1798 في تأسيسه؛ فالانقلاب الذي قاده عبد الناصر قضى على كل ما هو جميل بمصر، ورويدا رويدا أبدل كل ما هو سيئ بما هو أسوأ كثيرا. لقد جاءت الدولة المصرية الحديثة نتيجة عرضية لمحاولات نابليون بونابرت للاستيلاء على مصر وللهزيمة المذلة التي لاقاها على يد الإنجليز والتي أنهت تلك المحاولات. لقد تطورت على مدار القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على غرار تطور أوروبا، لا سيما تحت قيادة الخديوي إسماعيل وجده محمد علي الذي يشار إليه كثيرا على أنه «مؤسس مصر الحديثة»، والذي حكم أحفاده مصر مع التمتع بدرجات متفاوتة من السلطة حتى حفيد حفيده الملك فاروق الذي أزاحه عبد الناصر في نهاية الأمر عن السلطة في عام 1952.
بعد أن رحل الفرنسيون عن مصر، ظل الجيش العثماني الذي حكم مصر منذ عام 1517 في البلاد، عازما على الوقوف في وجه إحياء سلطة المماليك واستقلال مصر عن الحكم العثماني، لتخضع مصر لحكم الحكومة العثمانية المركزية. شكل المماليك طبقة أرستقراطية من الرقيق الأبيض حكمت مصر باعتبارها دولة مستقلة منذ عام 1250 إلى عام 1517 ثم ظلوا بها رعايا عثمانيين شكلوا الطبقة العليا في المجتمع المصري. إلا أنهم استعادوا السلطة في القرن السابع عشر؛ فأعادوا تجديد صفوفهم من خلال أسواق الرقيق على مدى مائتي عام حكموا فيها بالاستبداد. وفي غمرة الفوضى التي خلفها رحيل نابليون، ظهرت طبقة حاكمة جديدة ذات نفوذ شكلت من فرقة عسكرية ألبانية ألحقت عام 1801 بالقوات العثمانية لمحاربة الفرنسيين، ودانت اسما فقط بالولاء للحكومة العثمانية، وتورطت في الصراع بين المماليك والحكومة العثمانية. قاد تلك الفرقة محمد علي نفسه الذي كان جنديا مرتزقا أتى مصر قائدا صغيرا في القوات الألبانية، وبلغ بحلول عام 1803 مرتبة القائد الأعلى ثم انتخبه أولو النفوذ من شيوخ الدين بالقاهرة واليا على مصر عام 1805 بعد أن عزز شعبيته؛ ولما خلع عليه العثمانيون لقب والي البلاد خطط لتصفية منازعيه، وهذا ما فعله ببراعة في مارس/آذار عام 1811 حين اغتال أربعة وستين مملوكا من بينهم أربعة وعشرون بيك عقب دعوتهم لحفل رسمي. وهكذا أصبح محمد علي صاحب السلطة الأوحد في مصر، وسنحت له فرصة فريدة لتوحيد أمة توشك الفوضى على ابتلاعها.
كان انفصال مصر النهائي عن الدولة العثمانية أحد أكبر طموحات محمد علي، إلا أنه أدرك أن البلاد يجب أن تتمتع بالقوة الاقتصادية والعسكرية لتحقيق هذا؛ ومن ثم تملق الأوروبيين من البداية، مغدقا الثروات على باريس ولندن لدى التفاوض معهما واحدة وراء الأخرى. وتقف مسلة رمسيس الثاني في قصر الكونكورد بباريس ومسلة كليوباترا على سد نهر التايمز بلندن شاهدا على ذلك إلى اليوم. وشرع أيضا في بناء المصانع الجديدة التي تستخدم آلات مستوردة، وأحاط نفسه بالمستشارين الأوروبيين المهرة عاكفا ساعات طويلة على العمل وزيارة مشاريعه المفضلة، وغمس نفسه في تكنولوجيا العصر الجديدة المتقدمة؛ فيذكر على سبيل المثال أنه ضحك ضحكا شديدا عندما تلقى صدمة كهربية بسلك مشحون بالكهرباء عند توضيح كيفية عمل الكهرباء له. كما تعهد بالرعاية أنبغ من التقاهم بالقاهرة، الخبراء المتفانين في عملهم الذين أتوا من خلفيات متنوعة مثله؛ من مهاجرين أرمن إلى خبراء ماليين أقباط، وشكل هؤلاء بيروقراطية جديدة وجيشا تحت رئاسته الشخصية المباشرة. وسمح الحكم المركزي والسلطة التي تمتع بها هذا الألباني الذي ولد في مقدونيا باتخاذ مبادرات هامة أسست قواعد النظام التعليمي المصري، وأحيت الحياة الثقافية، وأصلحت النظام الزراعي بإلهام من باريس التي تطلع إليها محمد علي دائما. تعود المفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية التي ظهرت في الأجيال التالية إلى تلك الحقبة، لكن حتى مع نهاية عهد محمد علي، كان لدى البلاد طاقم من الموظفين البيروقراطيين، وجيش من الضباط عازم على إصلاح البلاد على النمط الغربي وتحقيق استقلالها.
من أهم إنجازات محمد علي أنه شجع زراعة القطن لتصديره إلى مغازله الآخذة في الانتشار بأوروبا، لتمول عائداته الرواج الاقتصادي الذي شهدته البلاد في عهد حفيده الخديوي إسماعيل الذي حكم مصر من عام 1863 إلى عام 1879. فمع تطلع بريطانيا بلهفة إلى مصر لإمداد ليدز ومانشيستر بالقطن لتوقف الولايات المتحدة عن تصديره إبان الحرب الأهلية بين عامي 1861 و1865، ارتفع سعر القطن المصري. ومع تدفق الأموال على الخديوي إسماعيل، أخذ في استكمال طموحات جده بتأسيس مشروعات عامة عظيمة كحفر القنوات واستصلاح الأراضي وإنشاء المدن وإقامة البنى التحتية، فشرع في غضون عام واحد في بناء أربعمائة وخمسين جسرا وستة وأربعين مصنع قطن، وإنشاء سكك حديدية تمتد إلى ما يقرب من ألف ميل. كما أسس اتحاد البريد العام، وامتدت خطوط التلغراف جنوبا في البلاد حتى السودان، فأصبحت مصر في غضون وقت قصير تتمتع بأحد أكفأ خطوط البريد في العالم، وتخلصت أخيرا من صورتها باعتبارها بؤرة راكدة من الإمبراطورية العثمانية تحكمها طبقة من العبيد مع تدفق المهندسين المعماريين والفنانين والساسة والموسيقيين إلى القاهرة ومدينة الإسكندرية الساحلية المطلة على البحر المتوسط.
كانت زيارة إسماعيل للمعرض العالمي بباريس في ساحة عرض تشامب دي مارس عام 1876 زيارة فارقة، وكان لها آثار شديدة الأهمية على مصر؛ فعقب زيارة المعرض بوقت قصير صرح إسماعيل تصريحا شهيرا قال فيه: «لم تعد دولتي جزءا من أفريقيا، نحن اليوم جزء من أوروبا.» واغتنم إسماعيل فرصة افتتاح قناة السويس عام 1869 لبناء أحياء جديدة على النمط الغربي ذات متنزهات فخمة وشوارع واسعة وقصور لاستضافة ضيوفه الأوروبيين، رغبة في أن يصنع للقاهرة ما صنعه البارون جورج هوسمان لباريس. وفتح إسماعيل أبواب المجتمع المصري واقتصاده للكثير من الأوروبيين، ولما تولى البريطانيون إدارة الخزانة المصرية (ومن ثم إدارة البلاد) عام 1882 عقب أزمة مالية من تدبيرهم؛ تدفق مئات الآلاف من الأوروبيين على مصر بحثا عن المال والثروة، حيث استقر بهم المقام في القاهرة والإسكندرية وأنشئوا أحياء لهم وأسسوا وأداروا شركات على النمط الغربي. أرسى إسماعيل بعبارة أخرى قواعد مدينة القاهرة، فمهد شوارعها وعبد طرقها الطويلة وأنشأ بها الحدائق والمتاحف والعمارات السكنية والنافورات على الطراز الفرنسي، وأسس بها دار أوبرا من طراز عالمي (عرضت أوبرا عايدة التي ألف موسيقاها فيردي لأول مرة في القاهرة في ديسمبر/كانون الأول عام 1871 بسيناريو كتبه ماريت باشا). قامت مدينة أوروبية بين ميدان العتبة والنيل، ونشأت طبقة وسطى مصرية جديدة انتشرت شمالا. وفي ذلك كتبت سينثيا مينتي في كتابها «باريس على النيل: فن العمارة في قاهرة الزمن الجميل» (1999) تقول إن سكان القاهرة وزائريها وجدوا فيها «متاجر الكتب الإنجليزية والفرنسية، وصالات شاي، ومقاهي مطلة على الطريق، وبوتيكات شهيرة، ومعارض للفنون، ومتاجر متعددة الأقسام ... وأقيمت فنادق شهيرة كفندق شبرد وسافوي وسميراميس وإيدن بالاس. وفيما بعد ظهرت دور السينما وحلبات التزلج الترفيهية.»
ومع أوائل القرن العشرين، في الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين، بعدما منحت بريطانيا مصر السيادة الاسمية على أرضها، وأضحت البلاد خاضعة لحكم ملكية دستورية وديمقراطية برلمانية تسيطر على كافة شئون البلاد عدا الأمن القومي وقناة السويس، أصبحت القاهرة أكثر مدينة متعددة الثقافات في العالم. لكن قبل ستة أشهر من اندلاع ثورة 1952، في يوم يذكره التاريخ باسم يوم السبت الأسود، أضرمت حشود من الغوغاء المعادين لبريطانيا النيران في معالم القاهرة الغربية الشهيرة، ومن بينها نادي تيرف وفنادق هامة وبنوك ودور سينما ومقار ضيافة، فتحول جزء كبير من القاهرة إلى رماد يحترق تحت غطاء كثيف من الدخان. واستغل الضباط الأحرار تلك القلاقل واسعة الانتشار للاستيلاء على السلطة بعد ستة أشهر. ولما فعلوا لم يرثوا عن النخبة السابقة ثراءها وفسادها وحسب، بل اضطلعوا أيضا بمسئولية بناء العاصمة. •••
كتب فنان وناقد وكاتب القرن التاسع عشر جون راسكين يقول: «فن العمارة هو فن إتقان تصميم وتجميل الصروح التي يشيدها الإنسان ... إلى حد يسهم في صحته النفسية وطاقته وبهجته.» وأكثر من يؤمن بهذا الرأي في القاهرة في وقتنا الراهن هو سمير رأفت وهو مؤرخ هاو بارز ينحدر من عائلة أرستقراطية بارزة، ويتمتع بشخصية شديدة الجاذبية، حتى إن مسامرته ساعات تمر كالدقائق. لقد بذل جهدا مضنيا في توثيق تاريخ القاهرة المعماري على مدى العقود الماضية والمدينة تتداعى أمام عينيه، ونشرت الكثير من أبحاثه في كتابه «القاهرة: سنوات المجد» (2003)، الذي ينتقد فيه «الدولة الاشتراكية» في عهد عبد الناصر وخلفائه واصفا إياهم بأنهم إقطاعيو القاهرة الجدد الذين لا يرجى منهم نفع.
صفحه نامشخص
يذكر رأفت في مقدمة كتابه أنه قد يصعب على المرء أن يتصور أن القاهرة كانت يوما ما مدينة ساحرة معماريا بالنظر إلى حالها المتدهور اليوم وتخطيطها العشوائي، لكنها شهدت ازدهارا معماريا منقطع النظير من أواخر القرن التاسع عشر إلى خمسينيات القرن العشرين، إذ احتضنت الطرز المعمارية المختلفة جنبا إلى جنب: «كالطراز الباروكي، والنيو كلاسيكي، والفن الحديث والآرت ديكو، والروكوكو الخديوي، والباوهاوس، والأرابيسك، والطرز المتأثرة بعصر النهضة الإيطالي، والطراز الفرعوني الحديث، وكل هذا أنتج نخبة من المباني الراقية. أما المنشآت التي أنشئت بين الستينيات والتسعينيات «فجميعها تقريبا سواء شرق النيل أو غربه ليست ذات قيمة جمالية على الإطلاق؛ لأنها تفتقر تماما إلى الجاذبية المعمارية.» وأصيب المستأجرون الجدد الذين سكنوا تلك المبان العظيمة سابقا برهاب الأجانب، وتوقفوا عن أداء واجباتهم نحو المجتمع. لقد روج في عهد السادات في السبعينيات لسياسة انفتاح اقتصادي لكنها زادت الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وأنتجت بين عشية وضحاها سيلا من أصحاب الملايين الذين ساعدوا في تشكيل طبقة أغنياء جديدة «من الأطباء والمحامين والمصرفيين الذين يتقاضون أجورا كبيرة، ويعملون في المقام الأول على الإبقاء على طبقة الأغنياء الجدد بصحة جيدة، وحمايتهم من الوقوع في الديون، والسجن». وكانوا - كالضباط الأحرار - رجالا لا يتمتعون بحس فني أو رؤية أو شعور بالمسئولية إزاء الوطن، أخذوا في مغادرة القاهرة فرارا إلى مبان سكنية حديثة الطراز في أحياء منعزلة لا حياة بها نشأت في ضواحي المدينة، وتعكس بصورة ملموسة فكرا حضريا يشبه الفكر السعودي، أما أحياء منطقة وسط البلد العظيمة فتركت لتتهالك.
قال لي رأفت وهو يحتسي مشروب الكابتشينو في مقهى مصمم على طراز حديث في منطقة الزمالك، وهي عبارة عن جزيرة راقية تقع في قلب القاهرة كانت فيما مضى مركزا ماليا قديما تركزت فيه الطبقة الأوروبية الرفيعة، لكن الجزء الأكبر من سكانها اليوم يشكله أبناء القطط السمان الجدد المدللين، أصحاب السيارات الفارهة الذين يتكلفون الأساليب الغربية ويتحدثون الإنجليزية بلكنة مريعة، ويقطنون في عمارات سكنية بلا طابع يميزها قامت على أنقاض فيلات أنيقة بديعة، قال: «لا أرى في قلب القاهرة إلا تدهورا من سيئ إلى أسوأ.»
وأخبرني رأفت أيضا أن أهم المشكلات التي أعقبت الانقلاب تولدت بمزيج من التشريعات الحكومية والتغييرات الاجتماعية، لا سيما في أوائل الستينيات عندما صدر قانون ضبط أسعار الإيجار الذي جاء ليكلل القوانين الاشتراكية. قال رأفت شارحا: «كان من المفترض أن يتحسن حال الجميع وأن يجد الكل مسكنا، لكن لم يتحسن حال الكثيرين ولا يزال السكن غير مكفول للجميع. كانت النتيجة الواضحة الوحيدة هي تدهور مظهر القاهرة المعماري تماما: بدءا بالمعالم البارزة إلى المستوى المعيشي إلى أحوال المباني إلى قيمتها. هل ستود مثلا الإنفاق لصيانة فيلا راقية إن كانت تدر مبلغا أقل من 100 دولار شهريا (الحد الأقصى لقيمة الإيجار الذي أقر في الخمسينيات والستينيات ولا يزال قائما إلى اليوم)؟ تأمل على سبيل المثال مبنى صدقي هنا في الزمالك الذي يضم أربعين شقة. هذا المبنى يدر أقل من مائتي دولار شهريا، هل تتوقع جديا أن ينفق ملاكه عليه للعناية به؟»
أوضح رأفت أن المباني قبل الثورة شيدت في مناخ صحي من التنافس الاجتماعي؛ إذ أراد الملاك أن تتمتع مبانيهم بموقع متميز ومظهر فريد يجذب القادرين على تحمل تكاليف الإقامة فيه، ممن يتمتعون بحس جمالي رفيع ينم عن أنهم سيعتزون بهذا المكان الجديد، لكن العهد الاشتراكي أطاح بفكرة الاعتزاز. كل ما أراده الضباط الأحرار هو أن يئووا الناس كالجرذان؛ من ثم كان أي مسكن يفي بالغرض. انتقلنا بين عشية وضحاها من عهد ذي معمار منمق ذي طابع، إلى عهد لا يحمل فيه المعمار طابعا يميزه، وزيادة هجرة الكفاءات زادت الوضع سوءا. هاجر مهندسون معماريون وموسيقيون وملحنون وكتاب ... أغلبهم تضرر تماما. إن كنت مثلا مهندسا معماريا واكتشفت فجأة أن الجهة الوحيدة والأكبر لتوظيفك هي القطاع الحكومي الذي لا يدفع إلا فتات الأجور، فستبحث عن العمل في مكان آخر. من ثم انتقل أفضل مهندسينا المعماريين ببساطة إلى دول الخليج ودول أخرى مثل ليبيا.
يرى رأفت أنه من الجدير بالذكر أن كل هذا تزامن مع ما أصبح آخر فيضانات النيل الذي نظمت دورته المحملة بالطمي حياة المصريين منذ الأزل، والذي كان لترويضه أثر هائل في نفوس المصريين.
يقول رأفت: «وكأننا نفكر في الأمور بطريقة قبل الفيضان وبعد الفيضان. كان الفيضان ينظم سلوك الجميع، ثم بنى عبد الناصر السد العالي وحاصرنا النيل، فانتهى عند أسوان وأصبح من عندها قناة ليس إلا. وفي الوقت نفسه صدرت قوانين تنظيمية جديدة أخذت تسيطر على حياتنا اليومية. فالتعليم الذي يدعى بالتعليم المجاني، قاد في نهاية الأمر إلى الجهل، والرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي المجانيين قادا إلى انعدام الرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية، وفي غمرة كل هذا أصبح الإبداع شيئا من الماضي. شهدت الحياة تدهورا في كافة جوانبها التي كان بالإمكان أن تقود إلى تحسن أوضاع مدينة كالقاهرة أو الحفاظ عليها. وما الذي تبقى لنا اليوم؟ ما الذي طفا على السطح في النهاية؟ إنها القمامة.»
لم يحاول المفكرون كرأفت التصالح مع هذا التدهور علنا إلا في الآونة الأخيرة؛ يعود هذا في جزء منه إلى تزايد شعور الحنين إلى عهد ما قبل الثورة. «لم يعد هناك تخوف من الحديث عن عهد الملكية، وعن الإنجازات الكثيرة التي قدمها الخديوي إسماعيل لمصر مع أن الحديث عن ذلك ظل محرما وقتا طويلا. ظل التاريخ وقتا طويلا يبدأ وينتهي عام 1952، لكننا اليوم نستطيع أن نتناوله بمزيد من الموضوعية وأفكارنا عنه تخضع للكثير من المراجعة. المؤرخون اليوم أكثر احترافا من أي وقت مضى، أكثر احترافا حتى مما كانوا عليه أوائل الثمانينيات، فقبل ذلك، كنا نكتب التاريخ من أجل الحكام دون سواهم، لكن مع الأسف فات أوان معالجة الوضع؛ فقد وقع الضرر، وكل ما بإمكاننا الآن فعله هو محاولة إنقاذ القليل الذي تبقى لدينا.»
كان والد سمير رأفت - الدكتور وحيد رأفت - محاميا دستوريا درس بالفرنسية، ومن أعضاء حزب الوفد القومي البارزين؛ وهو الحزب الذي حكم مصر فترة وجيزة في العشرينيات، ثم حظره الضباط الأحرار مع الأحزاب الأخرى كافة بعد استيلائهم على السلطة. طرق باب منزله في منتصف الليل واعتقله مجلس قيادة الثورة بتهمة الخيانة العظمى، لا لشيء إلا لأنه كتب سلسلة من المقالات تنتقد سياسة عبد الناصر الخارجية، فوضع تحت الإقامة الجبرية سنوات، وفيما بعد كانت مصر الدولة العربية الوحيدة التي عارضت ترشيحه بالإجماع لمنصب في محكمة العدل الدولية، فضاعت فرصته في تولي المنصب. وإن كانت قصة وحيد رأفت بالدرجة الأولى قصة من جانب المجني عليه، فإنها مع ذلك تظل تستحق الإصغاء إليها، لأن عائلته أتاحت لنا رؤية الصورة الشاملة. إلا أنني سألت الابن: لكن إن كانت حقيقة الثورة وما حققته قد خضعا للتبسيط، ألا يكون هناك خطر من تمجيد حقبة ما قبل الثورة؟ ألم يكن هذا عهدا تمتعت فيه قلة بالثروة كلها، وترك فيه نظام شبه إقطاعي أغلب المصريين في فقر مدقع.
فرد علي قائلا: «هذا يعتمد على نظرتك إلى الأمر.»
لا شك أن الفساد والمحاباة تفشيا في عهد فاروق، إلا أن مصر كانت بصدد الانتقال من دولة محتلة - احتلها العثمانيون ومن بعدهم الإنجليز - إلى دولة مستقلة. لقد نشأت ونمت بالبلاد حركة وطنية عظيمة؛ وبعبارة أخرى، لو تركت الحركة الوطنية وشأنها، كانت ستثمر نتائج أفضل بكثير من الثورة التي اعترضت سبيل التطور (التي أطلق عليها بلا وجه حق اسم ثورة)، فمع أن نظام فاروق كانت له مفاسده، نما في عهده شعور بتحسن الأحوال؛ فأخذت حالة الاقتصاد في التحسن، وسار العمل في مؤسسات المجتمع المدني على الطريق الصحيح. ولو أخذنا في الاعتبار قانون العرض والطلب، لوجدنا أن الحركة الوطنية كانت ستعالج الوضع، ولو ببطء. لكن حركة التطور توقفت، لتحل محلها حركة هجرة كفاءات. كيف يكون حال الدولة وشعبها بدون النخبة المثقفة والمؤسسات التي تنتجها؟ صارت لدينا فجأة نخبة جديدة من الضباط الذين لم يستطيعوا أن يحيطوا بالصورة الكاملة، الذين لا يملكون إلا رؤى محدودة وبعض المسلمات، والذين حسبوا أن بإمكانهم معالجة الوضع بإجراءات متطرفة، لكن حينها لم تكن هناك مساءلة على الإطلاق، واستشرى الفساد أكثر. ولأن المحافظ وعضو البرلمان ورئيس الحي وصلوا إلى مناصبهم بالتعيين، لا تستطيع بعد أربعة أعوام أن تقول لهم: أنتم مسئولون أمامي، ولن أمنحكم صوتي ثانية. آراؤنا لم يكن لها قيمة؛ المواطن البسيط لم يكن لرأيه أدنى قيمة.
صفحه نامشخص
يرى رأفت أن أصل جميع المشكلات هو النظام التعليمي المتداعي. باهى ناصر باتساع نطاق التعليم وافتخر بأن كل أسبوع في مصر يشهد افتتاح مدرسة جديدة. وكان هذا صحيحا. لكن ما جدوى إنشاء مليون مدرسة إن كان كل فصل يضم ستين طالبا أو أكثر، يضربهم المعلمون إن سألوا سؤالا يشوبه الاعتراض عن أقل القضايا إثارة للجدل، فيما يتقاضى المعلمون أنفسهم راتبا أقل مما يتقاضاه النادل في المقهى، وكل ما يقومون به في الفصل هو تحفيظ الطلاب والترويج للروايات الحكومية الرسمية في التاريخ والدين والسياسة؟ إن بدا لك كل هذا صعب التصديق، فتأمل هذا المثال: تدخل مبارك شخصيا عام 2006 في قضية طالبة مصرية رسبت في امتحانات الثانوية العامة بعد أن انتقدت الولايات المتحدة والحكومة المصرية في مقال، آمرا بإعادة تصحيح أوراقها لتجتاز اختباراتها. كانت هذه القصة واسعة التداول في الإعلام العربي، حتى إنها نوقشت في البرلمان، وقيل إن السلطات استدعت الطالبة واستجوبتها عما إن كانت عضوة في منظمة سرية، بعد أن تبين أنها اتهمت واشنطن في مقال الامتحان بدعم الديكتاتوريين على حساب حاجات الشعوب. لكن الديكتاتوريين بالطبع مولعون بالسياسات الشكلية؛ فعقب الأنباء عن محنة الفتاة تسربت ردة فعل مبارك السريعة إلى الإعلام فنجا من فضيحة على الصعيد الداخلي. لكن مهما صدرت القرارات الرئاسية جزافا، فلن يحجب ذلك الضوء عن طغيان معيار الكم على معيار الجودة في النظام التعليمي المصري، ولن يخفي التبعات التي خلفها ذلك على البلاد، وهي أكبر بكثير من الضغط على نحو فظ على طالبة مسكينة. قال لي رأفت:
بلا تعليم يفقد المرء وجهته، وشعوره بجذوره والتراث الثقافي الذي يملكه، وتنقطع صلته بهذا التراث لأنه لا يتمتع بالعقلية التي تمكن من فهمه وتقديره حق قدره. الجهل يعني أن تصبح غريبا عن تاريخك؛ فتكون النتيجة في نهاية الأمر هي القاهرة التي نراها اليوم. تبرز اليوم في الإعلام دعوات من حين لآخر تنادي بالحفاظ على الذي ما نزال نملكه من تراث على الرغم من عدم كفاية هذا وفوات الأوان على ذلك. الوقت في الواقع قد أزف، ونحن بحاجة إلى معجزة، لكن المصري ينهمك كل يوم في كسب ما يكفيه للبقاء على قيد الحياة حتى إن كل شيء آخر كتراثه، وجمال بيته، ونظافته ودوره في المجتمع؛ صار يحتل أهمية ثانوية لديه. •••
بعد أن سمعت آراء رأفت المقبضة للصدر عن أحوال مصر، شعرت بالإحباط، فبدا لي أن الأنسب هو قبول عرض الدكتور أحمد عكاشة، رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي، والرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي، ومدير مركز منظمة الصحة العالمية للتدريب والبحوث في مجال الصحة النفسية. وبعد بضعة أيام، قدت سيارتي قاصدا لقاء هذا الرائد البارز في مجال علم النفس في العالم العربي. كان قد افتتح لتوه منتجع صحة نفسية يطل على طريق السويس، بدا من بعيد كالكثير من فنادق الخمس نجوم التي انتشرت على مقربة من الطريق الصحراوي، لكنه يأتي على رأس نمط جديد من أساليب معالجة الصحة النفسية التي تهدف إلى التخلص من وصمة اجتماعية لطخت الصحة النفسية في مصر. كان المنتجع يقع في حديقة شاسعة ويضم صالة رياضية وقاعة للأنشطة المختلفة ومنطقة استقبال ذات نوافذ طويلة تطل على الحديقة، أهم ما فيها هو أنها تسمح بدخول الضوء من جميع الاتجاهات لإدخال البهجة إلى النفس لدى الوصول إلى المنتجع.
الرجل الذي حياني كان عنوانا مثاليا لما يهدف إليه منتجعه، كان حسن الملبس، ذا بشرة متوردة ووجه عريض متهلل تعلوه كتلة من الشعر الأبيض الكث المصفف على نحو جذاب، وتنضح مسام جسده الممتلئ بالعافية. وأثناء تجوالنا في المكان، مررنا بين الحين والآخر بواحدة من صوره الكثيرة المرسومة بالبرونز والحبر التي تناثرت في أرجاء المستشفى، فسألته إن كان يستطيع أن يسلط الضوء أيضا على حال المصريين الأقل حظا بعد خمسة عقود من الحكم العسكري الديكتاتوري القاسي. ولم يمض وقت طويل قبل أن يتضح أنه مستعد تماما لذلك. بدأ بتوضيح أن هناك فارقا هاما على حد قوله يفصل بين تمتع المرء بصحة نفسية جيدة وبين سلامته من الأمراض النفسية.
قال الدكتور أحمد عكاشة: «الصحة في تعريف منظمة الصحة العالمية هي سلامة المرء البدنية والنفسية والاجتماعية، وليس سلامته من الأمراض وحسب.» ثم استطرد: «ليتمتع المرء بصحة نفسية جيدة يجب أن يتمتع بأربع مواصفات: يجب أن يكون قادرا على التكيف مع ضغوط الحياة، وعلى الموازنة بين قدراته وبين المتوقع منه، وأن يعطي ولا يأخذ وحسب وألا تتمحور حياته حول الآخرين، وأن يكون قادرا على تقديم شيء لأسرته ومجتمعه.» وقال الدكتور أحمد عكاشة إن نفسية «المصري» - على حد تعبيره مرارا على نحو طريف أثناء محادثتنا - قد طرأت عليها تغيرات كثيرة. «المصري معروف تاريخيا بحسه الفكاهي الساخر التهكمي، فهو إن لم يجد شخصا يسخر منه، سخر من نفسه. وهو معروف باهتمامه الشديد بأسرته ومنطقته، لكنه يعارض بشدة التطرف والتعصب والعنف، ومرونته رائعة، وهو في الوقت نفسه غير أناني، تحركه أسرته ومجتمعه ودينه.»
لكن يرى عكاشة أن تلك لم تعد حاله، يقول:
لم نعد نرى الكثير من الابتسامات عندما نسير في الشارع، وثمة أسباب كثيرة لذلك، السبب الأول هو الفقر، فلا يزال أكثر من خمسين بالمائة من المصريين يعانون الفقر ويعيشون بدخل أقل من دولارين يوميا. ثم تأتي مشكلة الزحام، الذي يؤثر تأثيرا كبيرا على شخصية الفرد. القاهرة هي أكثر المدن ازدحاما في العالم؛ ففي كل كيلومتر مربع يعيش اثنان وخمسون ألف فرد، لا يوجد شيء كهذا في أي منطقة أخرى. ثم هناك معدل البطالة المرتفع، وعدم قدرة الشباب على التعبير عن رأيه بحرية. حرية التعبير تشعر المرء بكرامته وتحقق الصحة النفسية؛ فالديمقراطية تسمح بصحة نفسية أفضل، لكن يجب أن تكون ديمقراطية حقيقية، مما يعني أنه يجب أن تتحقق فيها الشفافية ومحاسبة المسئولين، ويتاح فيها للشعب القدرة على تغيير السلطات الحاكمة ... المصريون اليوم لا يجدون الشفافية في أي من نواحي حياتهم ولا يحاسب أي من لصوص الوزراء أو غيرهم من الساسة أمام الفقراء. الوضع هو نفسه منذ عام 1952: الجيش يحكم البلاد.
وذكر الدكتور أحمد عكاشة أن مبارك أسير تلك الحالة النفسية.
ثم استطرد هازئا: «إنه في الحكم منذ خمسة وعشرين عاما، والآن يأتي ليقول: «سأبدأ في الإصلاح!» هذا مستحيل بالطبع لأن الإصلاح هو تصور نفسي وهو عاجز عنه. وبدلا من ذلك يحاول أن يتخذ خطوات تخلق انطباعا بحدوثه.» والأدهى من ذلك - كما أصر عكاشة - هو اللامبالاة المخيفة التي استحوذت على الشخصية المصرية؛ «فعندما يتعرض المرء لكل هذا القدر من العذاب النفسي، وإلى كل هذه الضغوط الحياتية، يبدأ في السقوط في حالة من العجز واليأس تشعره باللامبالاة؛ فلا يكترث لشيء على الإطلاق. أنا أعيش في مصر وهم يحكمونها، لكن لا علاقة لي بهم. دعني أعطيك مثالا: بلغت نسبة من صوتوا في انتخابات عام 2005 الرئاسية 22٪ فقط من مجموع السكان. حتى في موريتانيا يصل مجموع المشاركين في الانتخابات إلى 70٪! كما أننا نعاني التزوير الانتخابي؛ فقد كشفت محكمة الاستئناف المصرية العليا أن تسعين بالمائة من المنتخبين لعضوية البرلمان في الانتخابات الأخيرة وصلوا إلى مقاعدهم بالغش، وهذا يفسر لم لم يعد المصريون يبالون من يحكمهم.»
رأى عكاشة أن مناخ الفساد قد امتد ليجتاح الدين أيضا. قال متوقفا لحظة بجانب بعض الرسومات الكاريكاتورية له التي نشرت على مدى عقود في الصحف المصرية وأحاطتها أطر: «اختزل المصريون الدين في الطقوس الدينية من ارتداء الحجاب إلى الصلاة والحج ... لكن إيمانهم الباطني لم يعد قويا؛ فهم يكذبون ويختلسون الأموال ويتصرفون بلا أخلاق.» وأضاف:
صفحه نامشخص
لكن الإسلام دين سلام ورحمة. ما سبب ذلك إذن؟ عرف المصري منذ القدم بأنه لا يبرح أرضه قط؛ فكرامته مرتهنة بها، لكن بعد ثورة عام 1952 وبعد كل الأزمات الاقتصادية التي مرت بها البلاد، أجبر على الرحيل، فسافر إلى المملكة العربية السعودية أو دول الخليج بحثا عن عمل، وعندما تتنازل عن جزء من كرامتك، تتأثر أخلاقياتك. قبل عام 1967 أشعر عبد الناصر المصريين بقدر من الكرامة، لكن تبين أن الحرب كانت نكسة مريعة، على الرغم من كل ما زعمه رجال النظام آنذاك، فقرر الشعب ألا يثق فيما يقوله هؤلاء وأن يلجأ إلى الله، وأن يفكر في الآخرة لأن الأمل انقطع في الدنيا، مع أن الإسلام يأمر بأن يعمل المرء لدنياه وكأنه يعيش أبدا وأن يعمل لآخرته وكأنه يموت غدا.
لم ينتقل إلى عكاشة الحنين إلى عهد ما قبل الثورة الذي استشرى على نطاق كبير؛ فهو يرى أن هذا الشعور هو وهم خطير. يقول: «من يلتفتون إلى عهد مضى كعهد الملك فاروق مثلا لم يعاصروا تلك الآونة؛ هم يرون أنه كانت توجد حرية تعبير أكبر وديمقراطية أكبر، لكن دعنا لا ننسى أن طبقة معينة تشكل نسبة 0,5 بالمائة من سكان مصر امتلكت كل شيء في مصر وتركت باقي الشعب فقيرا معدما. كانت توجد حرية تعبير، ولم يفرض بالقطع قانون الطوارئ، وقد تدهور الحس الجمالي بالفعل لدى المصريين إلى حد بعيد منذ الثورة، لكنني أعارض بشدة من يكثرون الحديث عن الماضي، وأعتقد أن مقارنة الحاضر بالماضي البعيد خطأ بكل المقاييس.»
ماذا إذن عن المستقبل؟ ما هي فرص أن تتحول الفوضى الحالية والوضع اليائس القائم إلى أمر إيجابي؟ أم علينا أن ننبذ كل أمل في التقدم؟ يقول دكتور عكاشة:
أفضل الاعتقاد أنه ستكون هناك فوضى بناءة بطريقة ما، لكن لا أعتقد أننا سنحرز تقدما إن ظل صانعو السياسات الحاليين يتبنون المنظور نفسه، وستتحول المسألة إلى فوضى عارمة. إلا أنني أرى في وسائل الإعلام والصحف والمفكرين الجدد أملا يجبر صانعي السياسات على التغيير. أعتقد أنه ستكون هناك فوضى طالما أن محركي السياسة المصرية يفتقرون إلى الشفافية ولا يخضعون للمساءلة ولا يغيرون سلطاتهم. إما أن يقع انقلاب أو يحكمنا نظام إسلامي متطرف، لكن قد تقود الأحزاب السياسية إلى تغيير سلمي. علينا أن نفهم أن أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي مصريون، إن جلست معهم فسيحدثونك كما نتحدث الآن، لكنهم لا يستطيعون التصرف لأن القوات المسلحة هي في الواقع من يحكم البلاد، وإن تفوهت بشيء ضدها، تنتهي إلى السجن. لكن القيادة على أي حال هي انتخاب الأشخاص المناسبين للمساعدة على أداء المطلوب بطريقة سليمة . ومع الأسف فإن مصر يحكمها مثلث سلطة ومال ونفوذ. إن تمتعت بأحد تلك المقومات فسيتاح لك المقومان الآخران، ولن ترغب في التخلي عن أي منها.
قال هذا وقد بدا أن نبرة حزن تسللت إلى صوته. •••
مثل محاولات النظام المستمرة لإنهاء ختان الإناث الممارس على نطاق شبه شامل، والقائمة على فتاوى رسمية أعلنت أن الختان ليس من تعاليم الإسلام، وكجهوده لمحو الأمية برعاية برنامج قومي متعال للقراءة قادته قرينة الرئيس التي تعشق وسائل الإعلام؛ حققت حملة طويلة لتنظيم الأسرة نتائج توصف على أحسن تقدير بأنها هزيلة. فقد أظهر الإحصاء الرسمي للسكان الذي أجري عام 2006 أن كل ثلاث وعشرين ثانية تشهد قدوم مولود مصري، مما يرفع إجمالي عدد السكان في مصر - باحتساب من يقيمون خارج البلاد - إلى ستة وسبعين مليون نسمة وهو معدل زيادة يفوق المعدل الذي سجله إحصاء عام 1996 بنسبة سبعة وثلاثين بالمائة، ويعني هذا أن سكان مصر يمثلون ربع سكان العالم العربي. ويقدر عدد سكان القاهرة وحدهم بنحو عشرين مليون نسمة، فيما بلغ عددهم نصف مليون نسمة فقط مع بداية القرن العشرين؛ وتظهر آخر الإحصاءات أن العاصمة في الآونة الأخيرة شهدت أكبر معدل نمو سكاني بين سائر محافظات البلاد (بلغ 11٪ تقريبا). واليوم يتوقع النظام الحاكم أن يبلغ عدد سكان القاهرة في عام 2022 نحو ثمانية وعشرين مليون نسمة، مع أن المدينة يسكنها 43٪ من إجمالي سكان المناطق الحضرية في البلاد، وتضم 55٪ من جامعات الدولة، و46٪ من إجمالي عدد الأسرة بالمستشفيات، و43٪ من إجمالي عدد الوظائف، بالإضافة إلى جيش من العاطلين، ومليون ونصف مليون لاجئ سوداني وعراقي، ومليون مصري يضطرون إلى السفر يوميا لقضاء مصالحهم في الأجهزة الحكومية البيروقراطية المقبضة للصدر. ومن الواضح أن القاهرة ستستمر في النمو بسرعة صاروخية على نحو أشبه بكابوس مزعج لأي مخطط عمراني.
تعود حركة التمركز في القاهرة إلى نظام عبد الناصر الديكتاتوري الذي سيطر عليه جنون الارتياب. جعل عبد الناصر القاهرة مركز السلطة المطلقة، عملا بفلسفة السيطرة على الرأس، ومنه السيطرة على سائر الجسد، وهو ما أضر بدرجة كبيرة بالمدن الأصغر ودلتا النيل (الواقعة شمال القاهرة) وصعيد مصر (جنوبها). على سبيل المثال: مدينة الإسكندرية الساحلية المطلة على ساحل البحر المتوسط - ثاني أكبر مدن مصر والمنافس التاريخي الوحيد للقاهرة على الشهرة - لم تعد إلا أثرا واهيا للمدينة التي صورتها عشرات الأفلام المصرية الشهيرة التي تعود إلى الأربعينيات، حيث عثر الشباب والفتيات على الحب في الإجازات، وامتدحت أغاني هذه الحقبة الشهيرة نسيم بحر الإسكندرية البارد وجمال نسائها والبساطة التي ينبت بها الحب فيها، وقد رثى لورانس دوريل في روايته «رباعية الإسكندرية» مجتمعها الرائع متعدد الثقافات، وكذلك مكانتها كساحة رخيصة وساحرة إلى أبعد حد لمؤامرات القوى العظمى وغير العظمى. أغلقت أغلب ملاهي المدينة الليلية ومطاعمها الشهيرة التي يديرها الأجانب؛ إذ عاد ملاكها منذ زمن طويل إلى أوروبا للاستقرار بها إلى الأبد، ولم يتبق بالمدينة إلا بعض المسنين الواهنين من مجتمع الأجانب الذي تمتع فيما مضى بالثراء، وشمل اليونانيين والقبرصيين والإيطاليين والفرنسيين والأرمن.
بل أصبحت الإسكندرية التي أسهب فيها أبطال لورانس دوريل البروتستانتيين والأرثوذكس في وصف أسرار مذهب الكابالا ومدح جمال عشيقاتهم هي أكثر مدينة تنتخب مشرعين من جماعة الإخوان المسلمين الأصولية، وصار على سكان المدينة الذين يبلغ عددهم خمسة ملايين شخص أن يقنعوا بالدرجة الأولى بحفظ القرآن. واليوم يطبق العائدون من دول الخليج عقيدتهم الوهابية الجديدة بتشدد؛ فيصرون على أن تستحم نساءهم في البحر مرتديات عباءات تغطي أجسادهن بالكامل، وعلى ألا يتحدث أطفالهم إلى المسيحيين لأن هذا محرم دينيا بما أنهم كفار. في ظل هذا المناخ الاجتماعي المخيف، فشلت مكتبة الإسكندرية الجديدة، التي تكلف بناؤها مبلغا قدره 230 مليون دولار وأنشئت بهدف إحياء ماضي المدينة الأسطوري (والتي هي أشبه بطبق لاقط عملاق لاستقبال إرسال الأقمار الصناعية) في تحفيز نهضة في الاطلاع على المعارف. •••
أثناء زياراتي لعائلة إيهاب البالغ من العمر عشرين عاما - الذي صادقته في قطار متجه من الصعيد إلى القاهرة في إحدى رحلاتي في شمال وجنوب البلاد - كثيرا ما كنت أتذكر وصف سمير رأفت للقاهريين بأنهم «يئوون كالجرذان»، وتحليل دكتور عكاشة لخط تدهور الصحة النفسية لدى فقراء المصريين. كان إيهاب شابا طويلا نحيفا يبدو عليه الوهن، عكف على قراءة إحدى الصحف في عربة قطار سافرت فيها. إن رأيت شابا مصريا يقرأ أي شيء فهذا في حد ذاته أمر عجيب يلفت الانتباه فورا؛ وتزايد فضولي تجاهه عندما لاحظت أنه يقرأ صفحة الرأي (وليس صفحة الرياضة أو الجرائم). تجاذبنا أطراف الحديث ونحن ندخن السجائر تحت لافتة كبيرة تحظر التدخين في عربة الحقائب التي تفصل بين عربات القطار، ولم نكن وحدنا من تجاهل هذا الحظر، بل تجاهله أيضا الحارس الذي يفترض أن وظيفته هي وضعه موضع التنفيذ. تجاهل المصريين لكل القوانين - بدءا من تلك التي تحظر إلقاء القمامة، إلى رفضهم تركيب العدادات في سيارات الأجرة، إلى امتناعهم عن احترام قواعد المرور الأساسية - يدل على فشل النظام وازدراء المصريين للسلطات التي تحكمهم سواء على الصعيد المحلي أو القومي.
تبين أن إيهاب طالب بكلية بمدينة قنا الجنوبية التي تبعد عن مدينة الأقصر السياحية نحو ساعة. كان في طريقه إلى منزل أسرته في إجازة قصيرة فدعاني إلى زيارة عائلته في القاهرة عندما يسنح لي الوقت. كانت هذه الدعوات الصادقة تأتيني كل ساعة تقريبا في التسعينيات، حتى من قبل عوام المصريين الذين لا يعملون في قطاع السياحة الضخم، لكنها بعدئذ شحت. عزوت هذا في البداية إلى أنني صرت أبدو أكثر جدية وأصبحت أتحدث العامية المصرية بطلاقة وأبدو أكبر سنا وأكثر خبرة بالحياة والناس؛ لذا صار التقرب مني أصعب. لكن في رحلة قطار أخرى أخبرني أحد أساتذة جامعة القاهرة بلطف بعد أن سمعني أحدث رفيقي في السفر عن أسفي لتضاؤل عدد الدعوات التي صرت أتلقاها أن دعوتي ستكون مكلفة؛ لأن الناس سيخجلون إن لم يقدموا لي إلا أفضل الطعام، والمشكلة هذه الأيام أنهم لا يستطيعون أن يوفروا ما يكفي من الطعام لأطفالهم. كانت أسعار السلع الغذائية آنذاك؛ في منتصف عام 2007 قد ارتفعت بنسبة 25٪ عن العام السابق، في الوقت الذي ظلت فيه الأجور ثابتة منذ عقود. هذا جزء من وتيرة معتادة على مر التاريخ؛ ففيما ارتفعت الأجور بين عامي 1978 و1988 بنسبة 60٪ ارتفعت الأسعار في غضون العقد نفسه بنسبة 300٪؛ إلى حد كانت له آثار مدمرة على أغلب السكان الذين لم تستطع أجورهم أن تواكب معدل التضخم الرسمي الذي يختلف عليه الكثيرون.
صفحه نامشخص
عاشت أسرة إيهاب في ضاحية على أطراف القاهرة تدعى مدينة السلام. تقع شقتهم المكونة من ثلاث غرف بالطابق الأرضي من بناء خرساني رمادي اللون بني وفقا لخطة عمرانية محددة، وأحاطت به أبنية مشابهة. بنيت مدينة السلام في أواخر السبعينيات، جزءا من سياسة الانفتاح التي تبناها السادات عندما أعلن النظام الحاكم خططا لبناء أربع عشرة مدينة حيوية جديدة بهدف إعادة الانتقال بالنمو الحضري إلى الصحراء. صاحبت تلك الخطة ضجة هائلة وثناء رفيع على مزايا السكن الكريم وتحسن وجه الحياة عامة. لكن سرعان ما تجلت الحقيقة القاسية؛ إذ نبذ النظام كما هو متوقع مسئولية تمويل المدينة لتقع على عاتق مستثمري القطاع الخاص، فكانت النتيجة محاولات متخبطة. ازدهرت بعض المدن في نهاية الأمر كمدينة نصر ومدينة السادس من أكتوبر باعتبارها مراكز صناعية وسكنية ولو أن كلتا الغابتين الخرسانيتين المزدحمتين بالأبنية لا تتمتعان بأي طابع معماري مميز. النجاح الذي تحقق في حالة مدينة نصر يعود إلى حد بعيد إلى أن المدينة أصبحت النقطة التي يختارها المسئولون الحكوميون رفيعو المستوى لتأسيس منازلهم، فالنظام المصري شأنه شأن جميع الأنظمة الديكتاتورية يضع أولوية للعناية بأتباعه. يساوي عدد من يصوتون للحزب الوطني الحاكم إلى اليوم عدد الموظفين الحكوميين الذين تقلهم الحافلات عادة إلى مراكز اقتراع (قرابة سبعة ملايين شخص، وفقا للأرقام الرسمية المعلنة وغير الموثوق بها)، فيما يصطف رجال الشرطة بالشوارع المحيطة لمنع مؤيدي جماعات المعارضة المتلهفون على الإدلاء بأصواتهم. أما مدينة السادس من أكتوبر فقد أصبحت قاعدة لنصف مليون عراقي، فروا إلى مصر في أعقاب الغزو الذي شنته الولايات المتحدة على بلادهم عام 2003 والحرب الأهلية التي تلت الغزو.
ولا تزال باقي مدن الضواحي مدنا مقفرة، وهو وصف يليق بمدينة السلام التي أغرت الحكومة المصرية سكانها ليرحلوا من فوق أسطح المباني التي زالت عنها عظمتها في منطقة وسط القاهرة، والتي احتلوها عقودا بوضع اليد. لكن لم يضطلع القطاع الخاص أو الحكومي بأي استثمارات هامة في مدينة السلام على مدى ربع القرن الماضي، وما زالت المدينة تبدو معسكر لاجئين عالي المستوى، لا ينفك سكانه عن تمني الانتقال منه. وعلاوة على ذلك فإن موقع المدينة النائي يزيد الشعور بالكآبة والنفور منها: كنت أزور عائلة إيهاب صباح كل جمعة (وهو يوم الإجازة الأسبوعية لدى المسلمين) في الوقت الذي تخلو فيه شوارع القاهرة الشهيرة بزحامها المروري بعض الوقت، لكن حتى حينها كنت أستغرق ساعة تقريبا في الوصول بسيارة الأجرة وأتكلف ستة دولارات؛ أي ما يعادل راتب ثلاثة أيام لموظف حكومي عادي.
وتلك كانت وظيفة والد إيهاب المتقاعد، وهو رب أسرة فخور، جلس يدخن بهدوء وهو يشاهد أبناءه التسعة - خمس فتيات وأربعة أولاد تتراوح أعمارهم بين أربع سنوات وثلاثين عاما - وهم يتدافعون تنافسا على الأماكن في غرفة الجلوس، حيث أصدر التلفاز جلبة وهو يعرض فيلما مصريا قديما، حاولت جدة إيهاب أثناءه أن تخبرني بأنها في حاجة إلى طاقم أسنان صناعي جديد. لم تحو الغرفة أرائك وإنما ضمت ثلاثة أسرة تتحول بها الغرفة ليلا إلى غرفة نوم. وفي إحدى المرات، انفتح باب المنزل الأمامي بعنف - وكان يطل مباشرة على سلم عمومي قذر - واندفع عبره صف إضافي من الأطفال الصغار - لعلهم بعض الأقارب من هنا أو هناك - وطلبوا بضعة قروش من جدتهم لشراء بعض الحلوى، وسألت الأب: «هل اكتفيت من الإنجاب، أم أنك تحاول أن تشكل جيشا؟» فقال أشرف الابن الأكبر مازحا إنه نفسه له ثلاثة أطفال ويعتزم أن يعزز قوات الأسرة الآخذ عددها في التناقص. على كل صار الزواج والإنجاب ومن بعده محاولة كسب ما يكفي من المال لتوفير المأكل والملبس والتعليم للأبناء؛ الموضوع الذي يسيطر على أحاديثنا في الزيارات التي قمت بها للأسرة بين الفينة والفينة؛ فبصرف النظر عن التمتمة بمرارة بين الحين والآخر بأن رئيس البلاد «وغد بكل ما تحمله الكلمة من معنى»، لم يبد أن هناك من يملك الوقت للتفكير في أي مسألة أخرى، ناهيك بالقطع عن الخوض في نقاش عنها.
هذا الواقع القاسي الذي وصفه لي الدكتور عكاشة بوجه عام مرده حسبة بسيطة: يتسلم والد إيهاب شهريا معاشه الحكومي وقدره خمسة وسبعون دولارا، وتقضي قاعدة ذهبية لدى تلك الأسرة الكبيرة أن يأكل أفرادها اللحم معا كل يوم جمعة. ويساوي ثمن كيلوين من اللحم أسبوعيا 15 دولارا، بذا يتبقى من دخل الأسرة الأساسي الشهري 15 دولارا، وهو مبلغ يقل قليلا عما تدفعه شهريا نظير إيجار المنزل الشهري. أثث أشرف شقة مؤجرة بأثاث اشتراه بالتقسيط ليتزوج (تقضي التقاليد المصرية بأن يوفر الزوج الشقة وأثاثها، وأن توفر الزوجة أجهزة المنزل الكهربية)، ولم يتحمل والد أشرف عبء دفع مقدم الشقة وحسب، بل تحمل أيضا دفع قسطها الشهري الذي يساوي أربعين دولارا. وعمل أشرف في قطاع السياحة بأجر شهري قدره أربعون دولارا، أي نظير مبلغ لا يكاد يكفي لدفع إيجار شقته والسفر يوميا ذهابا إلى عمله وإيابا منه في وسائل النقل العامة، أما بسام، ثاني أكبر أخوة إيهاب، فيعمل في مقهى محلي مع أنه تدرب على العمل محاميا، وهذا لأنه لا يملك المال لدفع رشوة للعمل في شركة محاماة محلية، إلا أنه يحصل بالكاد على راتب محام متواضع (دولارين) نظير اثني عشرة ساعة عمل يوميا، وإن حالفه الحظ يحصل على دولار إضافي تقريبا من الإكراميات. لكن صاحب العمل يدفع له راتبه على دفعات متقطعة زاعما أن المقهى لا يدر المال الكافي ليدفع لموظفيه بانتظام. علاوة على هذا - وكأن حال الرجل تحتمل المزيد - يتحمل بسام حساب الزبائن الذين يغادرون دون دفع الحساب. بسام هو فتى ورع رقيق الحاشية يحرص على أداء الصلوات الخمس، ويعيش حالة من القلق الدائم لأن الفتاة التي يرغب في الزواج منها - لكن لا يستطيع - يلاحقها غريم أكثر منه ثراء. لكنه أخبرني أنه يواجه موقفا أصعب يضطره إلى الاختيار بين الاستمرار في الصلاة بمسجد المنطقة والكف عن هذا لأن الكثير من زبائن المقهى ينتظرون موعد الصلاة للهرب أثناء توضئه. وقد مرت عليه أيام تعين عليه فيها أن يدفع نحو دولار لتغطية العجز لصرافة النقود (فثمن كوب الشاي أو النارجيلة يساوي عشرين سنتا تقريبا)، من هنا كان في أحيان كثيرة يجد بعد شراء شطيرة لغدائه، والدفع مقابل وسائل المواصلات العامة ذهابا إلى العمل وإيابا منه؛ أنه أنفق أكثر مما جنى. لم يدفع إيهاب نفسه مالا للالتحاق بالجامعة لأنه كان من أوائل صفه في الثانوية العامة، لكنه يظل مضطرا مع ذلك إلى أن يدبر سبعين دولارا سنويا نظير الكتب الدراسية واثني عشر دولارا نظير الإيجار الشهري وأجرة تنقله بالقطار من وإلى الكلية بين الفينة والفينة، والطعام والفواتير الشهرية (ملابسه هي ملابس أخيه الأكبر القديمة). أخبرني أنه أخذ هذا المال من والده.
كل هذا يطرح سؤالا واحدا: كيف بأي حال استطاع والد إيهاب أن ينفق على أبنائه مبلغا يساوي خمسة أضعاف معاشه الشهري؟ اتضح أنه كان أمامه وسيلتان لذلك: الوسيلة الأولى هي نظام تمويلي واسع الانتشار بين الجيران - لا سيما الزوجات اللائي لديهن أطفال صغار - يساهم فيه كل مشارك بقدر معين من المال شهريا في صندوق نقد مشترك، تذهب أمواله كلها شهريا إلى أحدهم وفق دورة معينة. أما الوسيلة الثانية فهي التسول من الأصدقاء والأقارب واحدا بعد الآخر، لا سيما إن استطاع أحدهم أن يحصل على عمل في إحدى دول الخليج العربي (التي قد يصل راتب العمالة غير المدربة فيها إلى ألف دولار شهريا). ومن حسن حظ إيهاب أن أسرته وأقاربه يهتمون اهتماما بالغا بالتعليم، ولما لاحظ والده منذ وقت مبكر ذكاءه أنفق ليتلقى الدروس الخصوصية، فكثيرا ما يقال إن إرسال الأطفال إلى المدارس من دون أن يكون لهم معلمهم الخاص يشبه حرمانهم من الأحذية والكراسات. ويزعم أن المصريين ينفقون سنويا على الدروس الخصوصية نحو 2,4 مليار دولار، وهو ما يساعد على الإبقاء على الحلقة المستمرة التي تجعل المعلمين أنفسهم متعبين إلى حد أنهم لا يستطيعون أن يدرسوا جيدا في الفصول؛ لأنهم يلقون الدروس الخصوصية حتى الساعات المبكرة من الصباح؛ لرفع أجرهم الضعيف الذي يضاهي دولارين في اليوم.
ونصف الأسر المصرية على أقل تقدير يعاني نفس مشكلة أسرة إيهاب. •••
احتلت النخبة الناصرية الفاسدة موقعا مثاليا يتيح لها استغلال سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبناها السادات في السبعينيات. في ذلك كتب المؤرخ جيمس جونكوفيسكي في كتابه الصادر عام 2000 «مصر: لمحة تاريخية» أن «فئات جديدة برزت مع الطبقة البرجوازية الصاعدة السابقة ومن أوساطها. وانهمك «المروجون للانفتاح» في تجارة الاستيراد، والمضاربات المالية، وفي العمل وسطاء للمستثمرين الأجانب؛ فأخذ تجار متجولون في الترويج للعلامات التجارية الشهيرة في الموضة والإلكترونيات، وظهرت طبقة جديدة من أصحاب الملايين المصريين الذين يركبون سيارات المرسيدس ويسكنون الفيلات الفاخرة بجانب الأهرامات.» أما أغلب المصريين - كأسرة إيهاب - فقد أضحت أحوالهم أكثر سوءا، وازداد إحباطهم مع علمهم أن من ازدهرت أحوالهم في السبعينيات لم يبلغوا الحال الميسورة التي يتمتعون بها بالنزاهة؛ فقد أصبحت العمولات والرشا جزءا طبيعيا من عقد الصفقات لدى الجميع؛ وحتى عندما كف كبار المسئولين عن الانشغال بالاختلاس من خزائن الدولة، تقاضوا الرشا، وجمع المسئولون الحكوميون الإكراميات لأداء واجباتهم الإدارية. ومن الصعب الاستخفاف بأثر إحلال تلك «الأموال القذرة» محل «المال النظيف» على الحالة الاجتماعية والتركيب الطبقي. فبالصورة نفسها التي حل بها بلطجية عصابة عبد الناصر الجهلة محل النخبة الأرستقراطية المثقفة الراقية القديمة، امتلأت صفوفهم بمحدثي النعمة الذين تملكوا فجأة الثروات بتقاضي الرشا أو السفر إلى دول الخليج عقب ازدهار قطاع البترول هناك في السبعينيات، أو بيع الأراضي التي امتلكتها أسرهم الفقيرة سنوات، لكن أصبحت بين عشية وضحاها تساوي ثروة صغيرة مع ازدهار سوق العقارات المسخر لخدمة النخبة الجديدة. هذا يعيد إلى الأذهان من جديد تلخيص رأفت الموجز للأحوال: القمامة تطفو على السطح.
عندما اتخذ تحرير الاقتصاد شكل الخصخصة، كانت له تبعات اجتماعية ثقيلة على من تخلى عنهم. انقطع الدعم المباشر للسلع الاستهلاكية الأساسية مع إصرار منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي على ذلك، وخضعت أربعمائة شركة تقريبا من شركات القطاع العام للخصخصة منذ التسعينيات. اتهم كبار المسئولين كثيرا بتقاضي الكثير من الرشا في صفقات الخصخصة تلك، وأفلتت شركات القطاع الخاص إلى حد بعيد من القيود الحكومية الصارمة. من أمثلة ما يحدث عندما تتحد الحكومات التي ضربها الفساد اتحادا وثيقا مع مستثمري القطاع الخاص الذين لا يعرفون الرأفة: ظاهرة بناء أبراج الكهرباء والاتصالات بالقرب من بيوت الفقراء وفوقها بل وداخلها أحيانا. ويقال للفقراء عند الشكوى إلى المسئولين إنه لا توجد قوانين تحظر تلك الممارسات، فيضطر أطفالهم الذين يعانون من الأصل سوء التغذية ونقص الرعاية الصحية إلى التعايش مع احتمال أن يكونوا معرضين على الدوام إلى نسب عالية من الإشعاعات المسببة للسرطان. وإلى جانب هذه الممارسات الأنانية والإهمال يستمر النظام في زيادة نفقاته على الجيش، في الوقت الذي يقلص فيه إنفاقه على الخدمات الاجتماعية كالتعليم والرعاية الصحية. ويأتي كل هذا سيرا مع الاتجاه العالمي الجديد الذي يفترض أن الثروة التي يخلقها السوق الحر تنتقل شيئا فشيئا من أيدي الأثرياء إلى الفقراء فيعم النفع على الجميع، مما لا يجعل هناك حاجة لوضع آليات دعم اجتماعي بديلة.
من السهل العثور في عشوائيات لندن أو نيويورك العديدة المشابهة على عائلة تعيش هذه المعاناة، وتشكو الشكوى ذاتها من انخفاض مستوى المعيشة، والتعليم، والرعاية الصحية، والفساد الحكومي، والإهمال، لكن ما يميز بريطانيا والولايات المتحدة عن مصر هو الحراك الذي يشهده السلم الاجتماعي فيهما، ووعي الفرد الأساسي بأنه قد يحظى في آخر الأمر بالتقدير ويترك دوامة الفقر واليأس إذا تمتع بتعليم جيد ورغبة في العمل الجاد، أيا كانت الخلفية التي يأتي منها. وباختصار، ثمة طبقة وسطى. ومع أن من يسكنون منازل محدودي الدخل المهملة في بريطانيا والولايات المتحدة قد يظلون نوعا ما عالقين في دوامة الفقر طيلة حياتهم، فيما تتسع الفجوة بين الفقراء والأثرياء في هاتين الدولتين وغيرهما من الدول المتقدمة؛ فإن الطبقة الوسطى في هذه الدول - على العكس منها في مصر - تتمتع بالمزيد من الثقل الاقتصادي بما أنها تملك المزيد من المال، علاوة على أن هذه الدول على عكس مصر تتمتع إلى حد ما بنظام حكم ديمقراطي. من ثم تكون هناك آذان صاغية على الأقل لمشكلات المواطن العادي، هذا إن لم تتخذ على الدوام خطوات لمواجهتها. أما الطبقة التي تحمل اسم الطبقة الوسطى في مصر - التي كان من المفترض أن ينضم إليها أخو إيهاب بسام منذ وقت طويل بما أنه محام مدرب - فقد وقعت عليها تبعات سلسلة الإصلاحات التي أجريت في عهد النظامين الحاكمين التاليين لوفاة عبد الناصر في عام 1970، وساعد الركود السياسي في تهميش دورها في تشكيل السياسات والمجتمع، وقاد إلى زيادة الفجوة بين الفقراء والأثرياء. ويميل النظام الحاكم في مصر إلى المباهاة بأن الاقتصاد المصري شهد أكبر معدلات نموه بعد الثورة، إلا أن سوق العمل يدخله سبعمائة ألف مواطن مصري كل عام، ولا يزال القطاع العام يوظف نحو سبعة ملايين مواطن لا تقبل وظائفهم الخصخصة، مهما أثقلت الأجهزة الحكومية بالأعباء. من هنا يطرح كثيرا السؤال التالي: كم مصريا من السبعة والثمانين مليون مواطن سيفيد من سوق بورصة القاهرة والإسكندرية؟!
الفكرة العامة التي يجب أن نخلص إليها على الأرجح هي أن إفقار الطبقة الوسطى - ومن ثم استئصالها - يضر باستقرار أي دولة على المدى الطويل، ويصبح الوضع أدهى عندما يتخلى النظام الحاكم عن مسئولية إدارة الاقتصاد، والخدمات الاجتماعية تاركا عشرات الملايين من أفراد الطبقة الدنيا بلا حيلة في ظل العواصف التي يقود إليها هذا التنصل. إحدى المخاطر التي قد تنجم أيضا عن ذلك هي نمو بعض الكيانات كجماعة الإخوان المسلمين التي يتكون أعضاؤها من بقايا الطبقة المتوسطة المتعلمة؛ من الأطباء، والمهندسين والمحامين والطلاب والمعلمين. جعلت تلك الجماعة العمل الخيري العام، وتكلف الاهتمام بمعاناة الفقراء المطحونين؛ الوسيلة الأساسية التي ترتكز عليها في حملتها لاستمالة البسطاء إلى الإسلام المتشدد.
صفحه نامشخص
وإن استحوذ الإخوان المسلمون على زمام السلطة، فقد يدفع حكمهم المصريين بعد عقود من الآن إلى تمني عودة الأيام الأخيرة للنظام العسكري الفاسد الحالي، كما يتمنون اليوم عودة الديمقراطية البرلمانية التي كانت قائمة قبل انقلاب عام 1952.
الفصل الثاني
الإخوان
بنى الإخوان المسلمون مؤخرا بناء من ثمانية طوابق في إحدى ضواحي القاهرة؛ ليكون مقرا لممثليهم الجدد في البرلمان، ومع أن الكثير من الأموال تتدفق عليهم من التبرعات الخيرية ومع أنهم قد عصف بهم إلى مناخ سياسي مضطرب يملؤه الفساد والمحاباة، فإنهم نادرا ما يبذرون المال، وفي حالة هذا المبنى، أمكنهم الدفع بحجة مقنعة بأنهم أنفقوا مالهم بحكمة. لقد استحوذوا في انتخابات عام 2000 على خمسة عشر مقعدا فقط من مجموع أربعمائة وأربعة وأربعين مقعدا برلمانيا، لكن بما أنهم في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2005 فازوا بثمانية وثمانين مقعدا، فقد احتاجوا إلى المزيد من المكاتب. استطاع الإخوان بتعزيز حضورهم في البرلمان الذي تستمر فترة عمله خمس سنوات أن يدعموا سمعتهم داخل البلاد وخارجها بوصفهم كيان المعارضة الأكبر والأفضل والأكثر تنظيما في مصر، لكن مع أنهم الأبرز، ما زال الغرب والكثير من المصريين حائرين في معرفة مرادهم بالضبط. أسس حسن البنا عام 1928 الجماعة بوصفها حركة تعارض النفوذ الثقافي الغربي وسيطرة بريطانيا على السياسة المصرية إبان الحكم الملكي الفاسد الخاضع لتأثيرها، ولا يزال الهدف الأساسي الذي تكرس له الجماعة جهودها هو أن يحكم الإسلام المتشدد سيطرته على المصريين، أما ثاني أهدافها فهو إعادة النظر في التحالف المصري السياسي والعسكري مع الولايات المتحدة القائم على التبعية، لا سيما - ولكن ليس فقط - بالنظر إلى علاقته بالقضية الفلسطينية. كما يتطلعون في المستقبل البعيد إلى إعادة تأسيس نظام خلافة إسلامية قائم على نظرة حالمة إلى الحياة في عهد الخلفاء الراشدين الذي تبع وفاة النبي محمد.
كان هدف حسن البنا بالأساس على حد تعبير أحد المؤرخين هو «إصلاح القلوب والعقول»، وهداية المسلمين من جديد إلى الدين الإسلامي الخالص، وصرفهم عن التطلعات والممارسات اللاأخلاقية التي أنشأتها سيطرة الأوروبيين. أبرز جناح الجماعة شبه العسكري جسارته وتفانيه في حروبه ضد جنود الاحتلال البريطاني على قناة السويس في أوائل الخمسينيات، وضد إسرائيل بعد نشأة دولتها اليهودية عام 1948 إلى حد أن الجناح حاز إعجاب القوميين المصريين الذين لم يكونوا لولا هذا ليلتفتوا إلى أجندة الجماعة الإسلامية المتشددة. لكن عبد الناصر حظر الجماعة عام 1954 ثم قضى عليها تقريبا، زاعما أن أعضاءها حاولوا اغتياله أثناء إلقاء خطاب بالإسكندرية في أكتوبر/تشرين الأول من ذاك العام. حينذاك سمعت طلقات الرصاص مباشرة على الراديو المصري، لكن الإخوان أنكروا ضلوعهم في أحداث ذلك اليوم. ومن الجدير بالذكر أن عبد الناصر لم يكن ليترفع عن اختلاق حادثة كتلك لرفع نسبة تأييده بالبلاد، بما أنه من المحتمل - على سبيل المثال - أن يكون قد دبر تفجير مقهى جروبي الشهير في مركز منطقة وسط القاهرة سعيا لزعزعة الاستقرار في أوج صراعه على السلطة مع رئيس الجمهورية الأول الصوري.
وعلى أي حال، كان الإخوان المسلمون بحلول ذلك الوقت قد حشدوا مئات الآلاف من المؤيدين، الذين ظلوا على ولائهم لحلمهم بدولة إسلامية مهما شنق بلطجية عبد الناصر من شنقوا من زملائهم، أو أصدروا بحقهم أحكام الأشغال الشاقة أو التعذيب حتى الموت دون محاكمة. وكانت النتيجة أن دفعت أعمال التعذيب ومعسكرات السجناء وأحكام الإعدام جيلا كاملا من الإخوان إلى التطرف، لا سيما من تأثروا بسيد قطب، وهو عضو بالجماعة أعدم في أغسطس/آب 1966 (مع عدة قادة آخرين) بعد إلصاق تهمة التآمر بهم زورا. زعم قطب في كتاباته أن الدولة الناصرية تنتمي إلى عهد الجاهلية مما يجعل النظام من وجهة نظره خارجا عن الإسلام، ويبرر استخدام العنف للإطاحة به. من ثم واجه النظام العسكري من أوائل السبعينيات إلى أواخر التسعينيات موجة من الأعمال الإرهابية المتأثرة بالفكر الإسلامي، استلهمت في شق منها من كتابات قطب ونفذتها جماعات جهادية انشقت عن جماعة الإخوان المسلمين بعد اتهام قادة الجماعة بالإذعان الشديد للوضع الراهن والنظام العسكري الحاكم. ومن أمثلة أعمال العنف التي تخللت هذه العقود الثلاث: اغتيال الرئيس السادات عام 1981، وقتل بعض المفكرين العلمانيين، والهجمات المتكررة على الأقلية المسيحية، التي أفضت في نهاية الأمر إلى مذبحة قتل فيها عشرات السياح بالقرب من مدينة الأقصر في صعيد مصر عام 1997.
لكن جماعة الإخوان المسلمين نبذت العنف في أوائل السبعينيات، وتبنت بحذر المنهج الديمقراطي وتنصلت علنا من أجندة قطب الأكثر تطرفا، وبرزت - بفضل تأثير مرشدها المعتدل عمر التلمساني - بوصفها شريكا أساسيا في الجدل الذي نشأ حول هوية مصر في أعقاب هزيمة مصر المذلة عام 1967 ووفاة عبد الناصر بعدها بثلاثة أعوام. ركز الجدل على المستقبل لكنه أساسا دار حول الماضي: هل يجب تفسير التاريخ المصري في إطار قومي، أم عربي، أم إسلامي، أم عرقي، أم مؤيد للغرب؛ أم إطار يجمع كل هذا؟ •••
ظلت القاهرة منذ عهد محمد علي ممزقة بين مذهب المتعة الباريسي الغربي من ناحية وتشدد عالم مكة الشرقي من ناحية أخرى. وفيما احتضن القوميون والإسلاميون التقدميون والنخبة المثقفة التي حاربت الاحتلال الأجنبي - المسيحي أو الإسلامي - أفضل ما قدمه الغرب في سعيهم لتحقيق استقلال مصر، عدت جماعة الإخوان المسلمين محمد علي وورثته - لا سيما الخديوي إسماعيل - مبذرين منحلي الأخلاق أهدروا ثروة البلاد، وخرجوا عن سنن الإسلام وقيمه، وكانوا قدوة شجعت على إهمال تعاليم الإسلام. ورأى الإسلاميون الأكثر تطرفا أن هذا هو أساس تدهور أحوال البلاد وأن عكس هذا التيار - وليس تبني الديمقراطية الغربية - هو مفتاح خلاص الأمة الذي يعيد مصر وشعبها إلى عالمها الإسلامي الطبيعي الذي تتأثر به وتستمد منه الإلهام.
سجل تريفور موستين في كتابه «زمن مصر الجميل» الجانب المظلم من القرن التاسع عشر، الذي تحجب عنه الضوء في أحيان كثيرة القصص الشهيرة عن المعارض العالمية والحفلات المبهرة والقصور الفاخرة التي شهدها هذا العهد، وولدت على نطاق واسع استياء استغله كل من الإسلاميين والقوميين، مع اختلاف أهدافهم. لم يعتبر الإخوان المسلمون عهد نابليون وجيشه المحتل بشارة لم تكن بالحسبان تنبئ باتجاه نحو التغيير والتحديث، وإنما عدوا نابليون وجيشه همجا مخربين مصابين برهاب الإسلام، واستندوا في ذلك إلى حجج كثيرة؛ فإعلان نابليون عن احترامه للإسلام لم يعد ذا قيمة كبيرة بعد أن سوى جنوده بالأرض صفوف المصريين المعارضين للاحتلال الفرنسي، أثناء اقتحامهم على صهوة خيولهم الجامع الأزهر - أبرز صرح تعليمي إسلامي - حيث عقلوا خيولهم بمحاريب الصلاة، ووطئت أقدامهم المصاحف، وتبولوا على أرض الجامع وجردوا بعدما ثملوا العباد المسلمين من ثيابهم في غمرة هذه الفوضى وسرقوا ممتلكاتهم.
بالمثل قد يكون قرار إسماعيل تحديث مدينة القاهرة على النمط الباريسي استعدادا لاحتفالات افتتاح قناة السويس عام 1869 قد أبهر ضيوفه الأوروبيين والدائرة المترفة التي أحاطت به، إلا أنه من جهة أخرى أفلس وزارة المالية المصرية، ليقود إلى خلعه عن عرش مصر واحتلال بريطانيا لمصر احتلالا فعليا. في ذلك كتب موستين أن قنصلي بريطانيا وفرنسا عندما أمرا إسماعيل بالتخلي عن العرش، لم يستطع الخديوي اللجوء إلى شعبه؛ لأن طغيانه والضرائب التي فرضها جعلاه مكروها، كما كثرت الشائعات عن علاقاته الجنسية المتعددة، ناهيك عن احتمال أن يكون قد قتل الكثير من العشيقات اللائي لم يخلصن له. وحتى الليبراليين الذين لم يعبئوا بحياته الشخصية أسخطتهم معاملته الخاصة لضيوفه البريطانيين والفرنسيين الذين رأوا أنهم يساوونهم منزلة؛ فقد شعروا بالمذلة لإقصائهم من أوساط الطبقة الأوروبية الرفيعة الجديدة التي نشأت بالقاهرة وحرم من الانضمام إليها الجميع عدا من تجمعهم صلة بأرقى المعارف والمصريين الأكثر تأثرا بالغرب.
صفحه نامشخص
هذا بالطبع لا يعني أن الطبقة الدنيا من جهة أخرى قد تمتعت بأي من أسباب السعادة. اقتبس موستين بعد عام من احتفالات افتتاح قناة السويس وصف لوسي داف جوردون لمعاناة هذه الطبقة في كتاب «رسائل من مصر»، تبدأ لوسي وصفها قائلة: «لا يسعني أن أصف المعاناة الكائنة هنا الآن.» ثم تضيف: «تفرض ضريبة جديدة كل يوم، على كل دابة سواء أكانت جملا أم بقرة أم شاة أم حمارا أم حصانا، ولم يعد الفلاح يجد الخبز، وأصبح يعيش على الشعير المطحون الممزوج بالماء مع الخضراوات النيئة ونبات الفول وما إلى ذلك.» عبر الشاعر المعاصر صالح مجدي عن استياء المصريين كافة من حكم الأرستقراطيين - لا سيما من الخديوي إسماعيل نفسه - بأبيات من الشعر قال فيها:
أنفق المال لا بخلا ولا كرما
على بغي وقواد وأشرار
والمرء يقنع في الدنيا بواحدة
من النساء؛ ولم يقنع بمليار
ويكتفي ببناء واحد؛ وله
تسعون بيتا بأخشاب وأحجار
فاستيقظوا لا أقال الله عثرتكم
من غفلة ألبستكم ملبس العار!
وقد اتسعت الفجوة بين الفقراء والأغنياء أكثر بحلول عهد الملك فاروق . كتب آرثر جولدشميدت في كتابه «مصر الحديثة: نشأة أمة» يقول: «لم يملك فقراء الفلاحين المال لدفع رسوم التعليم لإرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس؛ فلم يكن بمقدورهم حقا الاستغناء حتى عن الدخل الضئيل الذي يحصلون عليه من عمل أبنائهم في الحقول.» ثم أضاف جولدشميدت أن نسبة الوفيات، لا سيما بين الرضع والأطفال في المناطق الريفية، كانت من بين الأعلى على مستوى العالم. ولم يملك الفقراء الأشد فقرا منازل، فنام المشردون على مداخل الأبواب وتحت الجسور وفي محطات السكك الحديدية.
صفحه نامشخص
إن بدا لك هذا الوضع مشابها لوضع مصر اليوم، فهذا لأنه تشبيه في محله على نحو مدهش، يذكرنا بأن مصر قد عادت إلى النقطة التي بدأت منها، وبأن الحنين إلى عهد الملك فاروق الذي تشعر به بعض القطاعات من نخبة العصر الحالي ينم في جزء منه عن نظرة وردية إلى الماضي، تغفل الواقع الذي واجهه المصريون يوميا في تلك الآونة. إلا أن هناك اختلافا جوهريا يفصل هنا بين الماضي والحاضر؛ ففي مصر اليوم الآخذة أحوالها في التدهور، لم يثمر ترف الطبقة الحاكمة عن شيء ذي قيمة، أما الفساد في عهد فاروق فكان أرضا خصبة متطورة لمجتمع متعدد الثقافات يحتضن الفنون والثقافة المصرية ويستوعب أيضا الأفكار الغريبة عن البلاد الواردة من كل بقاع الأرض، مسبغا عليها طابعا مصريا مميزا، شكلته بدقة طبيعة مصر التي تحتضن الاختلاف. نعم كان ذاك عالما مجحفا قاسيا عنيفا يشبه بطريقة ما الحاضر، إلا أنه اتسم بالتنوع والاختلاط. كانت أرضه خصبة تتسع للكثير من الآمال، وحتى إن لم يرجح أن تتحقق تلك الآمال، لقد أتاح هذا العالم باختصار الأمل معه. أما في مصر ما بعد عبد الناصر، التي تجردت من الحس الثقافي وخضعت لتطهير عرقي، فلم يعد حتى للمال قيمة؛ فهو لا ينتج للأثرياء إلا تقليدا عقيما للحياة في بقعة أخرى، ولا يمول إلا حملات البلطجة لإزهاق أي تعبير حر عن الرأي. •••
أحب الرئيس أنور السادات الترويج لنفسه على أنه رجل تقي من الشعب، حتى عندما باع هوية مصر إلى الغرب الذي أبهره وتاق لأن يحتضنه ويحظى باحترامه، من ثم سعى جاهدا لتأسيس علاقات مع قادة جماعة الإخوان المسلمين حتى قبل انقلاب عام 1952. ولما تسلم الرئاسة سارع بإعادة سيطرة أفكار الجماعة على الشارع السياسي، ساعيا إلى إقصاء دائرة عبد الناصر لتحل دائرته محلها في أوائل السبعينيات، وسهل تشجيعه للحركات الشبابية الإسلامية بالدرجة الأولى نشأة الاتحادات الطلابية القوية بالجامعات المصرية. علل السادات لهذا قائلا: «أود تنشئة شباب مسلم أتعهده بالإنفاق، فهؤلاء سيكونون عمادنا.» وقد تحمس الإخوان المسلمون لمبدأ الخصخصة، فهو مبدأ إسلامي لا يمت بصلة للشيوعية، من ثم اعتنقوا في البداية سياسات الانفتاح التي تبناها السادات والتي بدا أنها تفسح مجالا في الاقتصاد للقطاع الخاص، وتفتح سبيلا مجزيا، وتعد بتغيير يختلف عن عهد عبد الناصر الذي لم يكافئ إلا المذعن لنظامه، ويعاقب المعارض. إلا أن نقد الإخوان الجريء المتزايد للفساد والنظام الطبقي الذي ساهمت الخصخصة في مفاقمته، علاوة على نقدهم لتوقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، أعاد الفجوة بين الجماعة والنظام العسكري الحاكم. ثم أعاد حسني مبارك تصوير أعضاء الجماعة من جديد كمجموعة طائشة خارجة على القانون، بعد بضعة محاولات للتصالح معهم في أعقاب اغتيال السادات عام 1981 على يد متطرفين إسلاميين أكثر تعصبا بسبب زيارته لإسرائيل. عنى قانون الطوارئ الذي صدر مجددا عقب اغتيال السادات أن أعضاء الجماعة قد يعتقلون في أي وقت، ولأي سبب، بناء على هوى النظام. وكانت إحدى التبعات العديدة التي تولدت عن ذلك ولا تزال قائمة إلى اليوم هي مئات الإسلاميين المكبلين في غرف التعذيب المصرية. ومن الجدير بالذكر بالطبع أن أعضاء الجماعة، لا سيما بسطائها الذين انضموا إليها عن اقتناع شديد، قد عانوا معاناة هائلة تحت وطأة النظام، تحملوها في كثير من الأحيان بدرجة كبيرة من الصمود. أما قادتهم فقد منحتهم تلك الحقيقة فرصة مستحقة بقدر ما لتصوير أنفسهم على أنهم شهداء الحرية والعدالة. •••
يضطر من يتقدمون للترشح للانتخابات من جماعة الإخوان المسلمين في ظل قانون الطوارئ أن يتقدموا رسميا إلى الانتخابات باعتبارهم «مرشحين مستقلين »، ويديرون حملاتهم الانتخابية علنا تحت أبرز شعاراتهم المبسطة إلى حد مفرط: «الإسلام هو الحل»، ليتضح للجميع انتماؤهم الحقيقي. أول ما وقعت عليه عيناي في صالة الاستقبال بالدور الأرضي لمقرهم الجديد، عندما ذهبت للقاء رئيس ممثليهم في البرلمان كان ملصقا كتب عليه: «القرآن دستورنا، والرسول قدوتنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.»
التقيت بعد بضعة أشهر من انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2005 بممثل الجماعة البارز حمدي حسن في مقر الجماعة الجديد بالقاهرة. وحمدي حسن هو أيضا ممثل كتلة المعارضة البرلمانية للجماعة وهو رجل طويل متوسط العمر بدأ الصلع يزحف على رأسه، ارتدى زيا أنيقا من حلة ورباط عنق (كدأب جميع مسئولي الجماعة). صافحني بقوة ووجهه تعلوه ابتسامة عريضة وأنا أخلع نعلي، ثم سرنا على بسط الصلاة ليستقر بنا المقام على أريكة. تساءلت ما الذي يدعونا إلى الالتقاء في قاعة صلاة، وثمة ثمانية طوابق في هذا المقر الجديد؟ واكتشفت فيما بعد أن حسن هو تجسيد لكل ما يجده نقاد جماعة الإخوان المسلمين مثيرا للسخط؛ من ميلهم إلى الحديث عن أفكار مجردة بدلا من الخوض في التفاصيل، واختزال القضايا في شعارات، والإدلاء للأجانب بما تود حكوماتهم سماعه. أثار غيظي في البداية لإصراره على الحديث إلي بالعربية الفصحى مع أنني احتججت على ذلك بأنني أتحدث العامية المصرية، ومن ثم سأجد فهم ما يقوله أصعب. يفضل الكثير من الإسلاميين التحدث بلسان العربية الفصحى التي تستقي ألفاظها من القرآن؛ إذ يرونها لغة خالصة تقريبا من الشوائب التي أدخلتها تيارات العصر الحديث البذيئة، من ثم هي أقرب إلى اللغة التي تحدث بها النبي محمد. لكن من جهة أخرى لا يستطيع أي مصري آخر تقريبا أن يتحدث بها بطلاقة، أو أن يستمتع بسماع الحديث بها، بل إن المصريين في الواقع يفتخرون بأن لهجتهم صارت اللهجة المشتركة في العالم العربي وهذا يرجع إلى حد بعيد إلى السيطرة التاريخية لقطاع صناعة التليفزيون والأفلام والموسيقى القاهري على المنطقة العربية منذ زمن بعيد. ومن العجيب أن جماعة تزعم أنها تمثل مصالح الشعب المصري الحقيقية وتعظم برامجها الاجتماعية تبقي على فواصل بهذه الأهمية بينها وبين المواطن العادي. اعتمدنا في نهاية المطاف على مترجم يترجم من الفصحى الرفيعة التي استخدمها حسن إلى لغتي - الإنجليزية - أو إلى اللهجة العامية المصرية الدارجة، وهو ما بدا أمرا شديد الغرابة. ولعل عناد حسن يبين كيف قد تنتصر المذهبية على العملية والعقلانية عندما يصعد هو وزملاؤه إلى السلطة.
أخبرني حسن أنه اعتقل مرتين منذ انتخابات ديسمبر/كانون الأول عام 2005، وقال لي أيضا إن «أسر أعضاء الجماعة الآخرين وأصدقاءهم ومعارفهم يعتقلون أو يتعرضون للضغوط دائما؛ فالنظام يهدف إلى ترهيبنا لنقلع عن جهودنا لتحقيق أهدافنا السياسية والدينية.» لكن الأرجح أن أعضاء الجماعة لن يحيدوا عن أهدافهم بقدر ما سيضطرون إلى تبني ردة فعل غير عقلانية تتخذ شكل تحدي النظام تحديا مباشرا أو اللجوء إلى العنف. وحرص حسن على أن يوضح لي أن التغيير الثوري المفاجئ هو عكس ما يؤيده هو وزملاؤه تماما، فقال: «إذا وقع التغيير فجأة في مصر، فستنشأ الفوضى وهذا يضر بمصر والعالم أجمع.»
أردت أن أعرف ما الذي جعل برنامجه كمرشح في الانتخابات يثير سخط الحكومة المصرية إلى هذا الحد، فأجابني:
هذه هي الفترة الثانية لي كممثل في البرلمان، وفلسفتي هي أن الإنسان جزء من مجتمعه. والإخوان المسلمون جزء من كل بقعة من بقاع المجتمع؛ في المنظمات غير الحكومية، والنقابات، والمجالس المحلية، وهذا يجعل برنامجنا مختلفا عن الآخرين. نحن ننظر إلى الجوانب الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية لمشكلات البلاد، ونلبي احتياجات الناس في محافظات البلاد كافة على جميع المستويات، ونقصد المواطن العادي في الشوارع لنتعرف على احتياجاته ونحاول إشباعها. نحن لا نسعى إلى جمهورية إسلامية، وإنما إلى دولة حديثة متحضرة، لكن قائمة على أسس إسلامية، ولا نعارض الديمقراطية أو الدستور، ولا آليات الدولة الحديثة المتحضرة. نحن جبهة معارضة قوية في البرلمان، ونستطيع أن نجعل صوتنا مسموعا.
بالطبع لم يتبين لي من إجابته ما فعله هو وغيره ليتعرضوا للضغط أو الاعتقال أو الحبس؛ فلم يكن أي مما قاله مثار اعتراض أو يشكل تهديدا، لكن قد يتساءل الليبراليون إن كان الإيمان بأن الإنسان جزء من مجتمعه يعني إخضاع حقوق الفرد للمصلحة العامة، في ظل عدم وضوح المسئول عن تعريف ما يسمى بالمصلحة العامة. إلا أن النظام الحاكم ليس ليبراليا على الإطلاق؛ بل ما قد يجده النظام مقلقا أكثر هو سعي الجماعة إلى تلبية احتياجات المجتمع على نحو يدين بطريق غير مباشر ضعف قدرة النظام. لكنني بدلا من التنقيب في النواحي الفلسفية اتجهت إلى الناحية العملية؛ فسألت حسن: هل يمكن أن يضع الإسلاميون والعلمانيون أجندة مشتركة باسم الشعب المصري، عوضا عن التحالف غير الرسمي الذي شكلته جماعة الإخوان المسلمين مع الاشتراكيين وغيرهم من ممثلي جبهة المعارضة بالبرلمان، والجماعات الشعبية الداعمة للديمقراطية كجماعة (كفاية) التي قادت المظاهرات ضد نظام مبارك في الشوارع؟
أجابني: «كثير من الأشياء تدفعنا إلى الاتحاد، لا سيما القضايا السياسية، كاحتمال أن يتسلم جمال مبارك الرئاسة. جميعنا يعارض ذلك، ونحن أيضا نؤيد الإصلاح السياسي، وحرية الأحزاب السياسية، وإنهاء قانون الطوارئ، وتحرير الصحافة. المناخ السياسي هو ما يجمع بيننا.»
وماذا عن حرية التعبير؟ إن أصبح القرآن هو الدستور، ألن يفرض هذا قيودا على المجتمع المصري سيرفضها العلمانيون؟
صفحه نامشخص
أجاب حسن بوجه خال من التعبير: «الدولة الإسلامية يتمتع فيها الجميع بحرية التعبير. يؤكد التاريخ الإسلامي هذا بوضوح شديد؛ تمتع كل المواطنين في الماضي بحق مخاطبة إمام المجتمع الإسلامي أو قائد الأمة متى شاءوا؛ رجالا ونساء، مواطنين وغرباء، مسلمين وغير مسلمين، الدولة الإسلامية لا تفرق بين كل هؤلاء، هذا أساس ديننا، وليس مسألة سياسية. سيكون هذا جزءا من دستورنا لأن القرآن دستورنا. لماذا نستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»
سألته عن شكل علاقتهم بالولايات المتحدة إن تسلموا زمام الحكم.
فأجاب: «ليس على الولايات المتحدة أن تتخوف من الإخوان المسلمين. الولايات المتحدة تدعو إلى المزيد من الحرية والديمقراطية، وتزعم أنها غزت العراق وأطاحت بصدام حسين باسم الديمقراطية، لكن العكس هو الصحيح؛ فهي تدعم طغاة العرب الذين يقمعون شعوبهم بقبضة من حديد ويحرمونهم من الديمقراطية وحقوق الإنسان. التعذيب يمارس في سجوننا كما تدل على ذلك الكثير من الصور التي صدرت والكثير من الأدلة الأخرى.»
صحيح بالفعل، لكن إجابته حتى الآن لم تثر إلا القليل من التفاؤل بنشأة علاقات إيجابية بين الإخوان المسلمين والولايات المتحدة، فهو في الواقع وصف الولايات المتحدة بالنفاق، وبأنها سبب معاناة الشعوب العربية؛ فقلت له وماذا عن إجابة سؤالي: كيف ستكون علاقة الإخوان المسلمين بالولايات المتحدة؟
تمتم قائلا: «هذه بلادنا، وهي لنا؛ فلماذا تملي علينا الولايات المتحدة الأوامر عبر الطغاة الذين تستخدمهم؟ علينا أن نتمرس على أن نكون أفضل، وعلى أن نكون دولة ديمقراطية وإسلامية تحترم أيضا التقاليد الغربية، لكن لماذا لا نتمتع بثروات بلادنا الشاسعة؟ لماذا لا يسنح لنا أن نحيا في أمن وبكرامة.»
بدا لي أن الحصول على إجابة مباشرة من حسن أصعب من استخراج الماء من قلب الصخر. لكن ربما كان الأمر يستحق سؤاله سؤالا آخر. قلت له إن الكثيرين يرون أن جماعة الإخوان المسلمين تساعد مبارك لأنها تعطيه ورقة رابحة في تعاملاته مع واشنطن، فالأمريكيون شديدو التخوف من الحركات الإسلامية إلى حد أن مبارك يمكنه أن يتجاهل النقد الموجه إليه فيما يتصل بالجماعة، ويظل مستمرا في اعتماده على المساعدات المالية الضخمة التي تعد أساسا لتأييد نظامه. سألت حسن: ألا تزعجه هذه الحقيقة؟
سارع بتأييد قولي قائلا: «النظام الحاكم يستخدمنا لترهيب الولايات المتحدة.» ثم أطبق صامتا، فألححت في سؤاله قائلا: «ما شعورك حيال هذا التناقض؟» فسألني وقد انتقلت إليه حيرتي: «أي تناقض؟» فكررت له السؤال بمزيد من الوضوح، فأجاب: «سنوات حكم مبارك ليست إلا بضع قطرات في محيط عمر هذه الأمة. الاتحاد السوفييتي على سبيل المثال سقط وعمره سبعون عاما فقط. نحن موقنون من أن المستقبل لنا، وسنصادق أي دولة ترغب في مصادقتنا. نحن متحلون بالإيمان ونعلم أن لدينا مبرراتنا فيما ندعو إليه. أعتقد أن أي دولة غربية تفهمنا حقيقة ستؤيدنا، ولن تكون ضدنا مع الطرف الآخر. هذا لأن مبادئنا صالحة للتطبيق في كل مكان، ويقبلها الجميع، وهي تحقق السلام والأمن في كل أنحاء العالم وتجلب العدل والمساواة للجميع. إذا طبقت مبادئنا، فلن تكون هناك حروب أو مجاعات.»
خلص حسن في النهاية إلى أنه لا يهتم بما تدعيه الولايات المتحدة أو تفعله ضد الإخوان المسلمين، وقال بثقة: «نحن نعلم أن فلسفتنا وعقائد الشعوب الغربية ستتفقان. لا تنبع الإشكالية إلا من الحكام. يبدو أنهم في قرارة أنفسهم يضمرون الشر لنا ولشعبنا.» •••
كتب مؤرخ الشرق الأوسط إيلي كيدوري في مقال كلاسيكي بعنوان: «الشرق الأوسط والقوى» يقول: «إحدى أبسط الوسائل التي عرفتها البشرية وأفضلها للإبقاء على اتصالها بالواقع هي مقارنة أقوال المرء بأفعاله، أو مقارنة معتقداته بأدائه.» تحدث كيدوري عن الكيفية التي يسيء بها الغرب كثيرا تصوير العالم العربي لبعده عنه وقلة معرفته به، لكن هذه الوسيلة تكون مفيدة أيضا من الناحية العملية عندما ندرس أهداف جماعة الإخوان المسلمين، وأهداف حمدي حسن بوجه خاص.
في دورة 2000-2005 البرلمانية، صب أعضاء جماعة الإخوان المسلمين اهتمامهم الأكبر على تقييد حرية التعبير في ثلاثة مجالات هي الثقافة والإعلام والتعليم؛ وهذه السيطرة ضرورية لتحقيق أهداف أجندتهم الساعية إلى أسلمة المجتمع المصري من جذوره. لكن لا يسع المرء إلا الإعجاب باستراتيجيتهم رغما عنه. يستخدم الإخوان حيلة بارعة للفوز بقلوب وعقول العديد من الناخبين، تقوم على الجمع بين أجندة غامضة مفتوحة للتأويلات المختلفة تحظى بتأييد مختلف الجماعات، وتستند بوجه عام إلى المبادئ الإسلامية المتصلة بالأخلاقيات المتأصلة في المجتمع، وبين أجندة أخرى عملية تسلط الضوء على الثقافة. كان هجوم الإخوان الشرس على وزير الثقافة فاروق حسني - عندما زعم أن ارتداء الحجاب ينم عن رجعية - دليلا آخر على تواصل حملاتهم تلك على الصعيد الثقافي. فعلى أي حال، إذا أرادت المرأة أن تصون كرامتها وأن تلتزم بتقاليد الإسلام، أفلا يكون من حقها أن تفعل هذا؟ إن وصف ارتداء الحجاب بأنه دلالة على الرجعية ينتقص من قدر التقاليد ومن يتبعها بدلا من أن يحترمها. لكن حرية التعبير في منظور الإخوان المسلمين تتوقف عند هذا الحد. على سبيل المثال: ورد في صحيفة الأهرام أن كتاب «الإخوان في برلمان 2000-2005» - وهو كتاب يتناول بالتفصيل أداء ممثلي الجماعة الخمسة عشر في البرلمان في تلك الفترة - جاء فيه أن عضو البرلمان السابق من الجماعة جمال حشمت كان السبب في إجبار فاروق حسني على منع إصدار ثلاث روايات وصفتها الجماعة بأنها تروج للتجديف على الله وممارسات جنسية غير مقبولة. ووفقا لصحيفة الأهرام ويكلي، كشف الكتاب أيضا أن حمدي حسن تصدر بنفسه على الدوام حملات الإخوان المسلمين لإخماد حرية التعبير الثقافي سواء أعلى صعيد الأعمال الأدبية أم مسابقات ملكات الجمال، متخذا من حجة التجديف على الله سلاحا. وهو يتهم فاروق حسني شخصيا بتصدر «الحرب التي تقودها الولايات المتحدة حاليا ضد الثقافة والهوية الإسلامية». يظهر أيضا الكتاب أن إجمالي عدد القضايا المتصلة بالثقافة والإعلام يساوي 80٪ من مجموع القضايا التي طرحها أعضاء الجماعة في دورة 2000-2005 البرلمانية.
صفحه نامشخص
لكن لا يدعو أي من هذا بالطبع إلى الدهشة؛ فالثقافة محرك قوي لا سيما في مجتمع تسيطر عليه الدولة إلى حد بعيد. فبالتحكم في الثقافة، تضطلع الدولة بدور الأب، والأب جميع تصرفاته ينظر إليها على أنها دلالة على صلاحيته للاضطلاع بالسلطة. لا شك أن الإخوان المسلمين يدركون أن القيم والأخلاقيات ذات صدى في نفوس المصريين، وأنهم يستخدمون الضلالة والزيغ كأدوات للنقد. وهنا قد يكتسب منطق حمدي حسن القائل إن الإنسان جزء من مجتمعه دلالة مخيفة إن تتبعنا ما يفضي إليه؛ فبما أن المجتمع أكثر أهمية من الفرد، فعلى الفرد إما أن يساير المجتمع أو أن يقصى عنه خوفا من أن ينتشر ضلاله. فكما يوضح باري روبين في كتابه «الأصولية الإسلامية في السياسة المصرية» (2002)، استخدمت الجماعات الإسلامية المعتدلة كجماعة الإخوان المسلمين الترهيب للسيطرة على الحياة الاجتماعية والفكرية في مصر في محاولات جهيدة استغلت «الإجراءات القضائية، والتعليم، والمنظمات غير الحكومية لتلبية احتياجات المواطنين وممارسة الضغط.» وأحد الأمثلة الكثيرة والصراعات التي تندرج تحت ذلك القضية التي كانت الأكثر جذبا للانتباه عالميا، وهي قضية الأستاذ نصر حامد أبو زيد، من جامعة القاهرة، الذي اتهمه زميل متدين له بالتجديف على الله لإصداره كتاب عام 1992 يستخدم أسلوب دراسة نقدي لتحليل عبارات من القرآن. وحكمت إحدى محاكم القاهرة بعد سلسلة من القرارات المتضاربة في محاكم أدنى درجة بأن أبا زيد بالفعل مرتد عن الإسلام، وهو أسوأ صور الانحراف عن الشريعة، ويعاقب عليه بالموت. وقد دعا بعض رجال الدين بالفعل إلى إعدامه، إلا أن حكم المحكمة اقتصر على القضية التي كانت تنظرها في ذلك الوقت تحديدا وهي: هل يجب تطليق زوجة أبي زيد منه - باعتبار أنها مسلمة صالحة تحتاج إلى الحماية - أي، هل يجب أن تتدخل الدولة لحماية سمعتها وشرفها، بصرف النظر عن رغبتها. وقررت المحكمة أن هذا هو الحكم الصحيح المنصف، وأمرت بتطليق الزوجة. وفر الزوجان إلى أوروبا حيث ظلا منفيين خارج البلاد. ومن الصعب أن نصدق أن جماعة الإخوان المسلمين ستدعوهما إلى العودة إلى مصر في حال دانت لها السيطرة على البرلمان. شعر المحامي الإسلامي الذي قاضى أبا زيد آنذاك - باعتباره شخصا مستقلا لا باعتباره عضوا من جماعة الإخوان المسلمين - بسعادة بالغة. ويذكر روبين أنه قال: «هذه هي البداية وحسب. وسنفعل هذا بكل من يحسب أنه أكبر من الإسلام.» •••
لا شك أن زعم الإسلاميين الدائم أن أجندتهم لا تتبنى الديمقراطية وحسب بل ترتقي بها أيضا، هو محض هراء؛ فالديمقراطيات الغربية تكفل من الناحية النظرية مشاركة جميع المواطنين بصرف النظر عن أيديولوجياتهم وآرائهم وديانتهم، لكن جماعة الإخوان المسلمين ومثيلاتها تجعل المشاركة السياسية في المجتمع خاضعة لمبادئ الشريعة الإسلامية؛ فعلى أي حال ليس هناك من هو «أكبر من الإسلام»! على سبيل المثال: تراقب الهيئات القضائية والتشريعية الحكومية في الغرب أفعال الدولة لضمان التزامها بقواعد الديمقراطية، إذ تتحكم كل من السلطات الثلاث في الأخرى. أما في ظل نظام إسلامي، فالإخوان المسلمون أنفسهم سيضطلعون بمراقبة أفعال الدولة للتحقق من التزامها بقواعد الشريعة الإسلامية؛ بعبارة أخرى الإسلاميون سيراقبون أنفسهم! فوق ذلك لا يكفل الإخوان المسلمون حرية العقيدة إلا لأتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث؛ إذ إن القرآن - بسبب ظروف النبي محمد - لا يذكر شيئا عن الديانة البوذية مثلا ولا يعادي إلا تعدد الآلهة (الذي كانت مكة مركزا له آنذاك)، والذي ينتقده بطبيعة الحال بما أنه يسعى لأن يحل محله. أما حرية تكوين الجماعات التي تتمتع بها منظمات المجتمع المدني في النظام الديمقراطي فسترتهن في النظام الإسلامي بحدود الشريعة الإسلامية. والإخوان المسلمون يعارضون قيام الدولة على المنظومات الديمقراطية القائمة على النمط الغربي؛ فالحكومة الإسلامية تقوم على نظام الشورى (مجلس شورى)، وتبجيل القائد، ومبايعة الإمام. هذا ما تنص عليه الشريعة الإسلامية، وهذا ما ينبغي أن يكون. المنطق هنا باختصار مغلوط يفترض أن الإنسان قد حصل على كامل حريته وحقوقه في ظل الديمقراطية الإسلامية، مما يغني عن أي شك أو نقاش أو رأي أو بحث أو أي شيء آخر يسهم في تطور الثقافة، باستثناء بعض الانتقادات التافهة التي قد يعيرها الحاكم المعظم أذنه من حين لآخر. هذا هو المبدأ الحاكم والموجه في المملكة العربية السعودية، والنتائج يراها الجميع في الإنجازات الرائعة التي حققتها المملكة المجدبة على مدار العقود السبعة الماضية في الموسيقى والفن والأدب والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا.
اتضحت حقيقة جماعة الإخوان المسلمين عندما وضعت الجماعة أول برنامج سياسي مفصل لها في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007. يقرر البرنامج حرمان النساء والأقباط من تولي الرئاسة، ويزمع إنشاء هيئة من علماء الدين المسلمين لمراقبة أداء الحكومة، وهي خطوة رأى الكثير من مراقبي المشهد أنها تذكر إلى حد مخيف بالدولة الإسلامية في إيران. كما جاء في وثيقة البرنامج أن المرأة لا تستطيع أن تتولى الرئاسة لأن واجبات هذا المنصب الدينية والعسكرية «تتناقض مع طبيعتها ودورها الاجتماعي والإنساني». والمدهش أن مسودة البرنامج - كما قيل - تناولت قضايا تخص المرأة في فصل بعنوان «القضايا والمشكلات» مع مشكلات أخرى كالبطالة وعمل الأطفال. وفي الوقت الذي أكدت فيه مسودة البرنامج على «تساوي الرجل والمرأة في الكرامة الإنسانية»، حذرت من «إثقال المرأة بواجبات تنافي طبيعتها ودورها في الأسرة». •••
اكتملت رحلة الإخوان المسلمين الطويلة التي تخللتها معارك مستمرة ضد القمع، والتعذيب، والإعدام الاستبدادي عندما انتخب الكثير من الإسلاميين لعضوية البرلمان عام 2005. ورأى الكثيرون من مراقبي المشهد أن هذا الحدث كان أيضا نقطة بارزة في طور انصراف الجماعة عن العنف. ويراقب الغرب تحول الجماعة تدريجيا إلى تيار مسيطر في المشهد السياسي بقدر ما يراقب الأحزاب السياسية الإسلامية التي نتجت جميعها تقريبا عن تجربة الإخوان المسلمين مع الانتخابات والديمقراطية في العالم العربي والإسلامي بوجه عام. تتباين أنشطة الإخوان المسلمين من دولة إلى دولة، وفصائلهم مستقلة رسميا بعضها عن بعض، إلا أن قادة الجماعة اقتبس عنهم قولهم إن جميع فروع الإخوان المسلمين مشتركون في العقيدة، وإنهم يسترشدون بالفرع المصري الرئيسي. وقد أطلق ظهورهم القوي في الانتخابات المصرية سيلا من الأطروحات في الصحف السياسية كتبها محللون للوضع في الشرق الأوسط، أغلبهم يدعو واشنطن إلى التفاعل مع الجماعة التي بدأ ينظر إليها بدرجة متزايدة في الدوائر السياسية العملية الأجنبية على أنها الخيار الأقل ضررا مقارنة بالنظام العسكري الحاكم على الصعيد السياسي المصري الداخلي.
لكن لعل ما بدا ظاهريا كنصر انتخابي للإخوان المسلمين كان أي شيء عدا ذلك. فاز الإخوان ب 20٪ من المقاعد الانتخابية، لكن 25٪ من المصريين على أقصى تقدير أدلوا بأصواتهم آنذاك. وبما أن هذا الرقم الأخير هو ما أعلنه النظام الحاكم، فحتى هذا الرقم يجب أن يكون موضع شك إلى أقصى الحدود. فأي شخص جاب شوارع مصر يوم الانتخابات البرلمانية كان سيجد صعوبة في العثور على واحد من أبناء البلد يعلم حتى بإجراء الانتخابات، ناهيك عن أن تكون لديه أدنى فكرة عن مرشحي دائرته أو أن يكون متجها فعليا إلى مراكز الاقتراع. لكن حتى إن سلمنا بالإحصائيات الرسمية لعدد الناخبين، فإحدى التفسيرات المحتملة لنتيجة الانتخابات هي أن جماعة الإخوان المسلمين لم تنجح إلا في الحصول على تأييد نسبة صغيرة ممن تسمح أعمارهم بالتصويت، على الرغم من عدم رضا الأغلبية الكاسحة من الشعب المصري عن أداء النظام الحاكم. إلا أن هذا المنطق في مضمونه يفترض أن من أدلوا بأصواتهم هم عينة تمثل الشعب المصري بأكمله، لكن ليس هناك دليل ملموس يدعو إلى تصديق هذا أيضا . ثمة معنيان لنتيجة الانتخابات ، أحدهما أن من أدلوا بأصواتهم امتلكوا الحافز للإدلاء بأصواتهم، أو أن الإخوان المسلمين على وجه التحديد امتلكوا الحافز للإدلاء بأصواتهم، وبهذا تكون نسبة ال 20٪ نسبة مغالى فيها. وقد يكون العكس هو الصحيح؛ فثمة احتمال ألا يكون الكثيرون من مؤيدي الجماعة قد أدلوا بأصواتهم خوفا، من ثم تكون تلك النسبة معبرة عن عدد أقل من الواقع. وبعبارة أخرى، لا سبيل إلى معرفة الحقيقة، حتى إن افترضنا أن الإحصائيات التي ذكرت حقيقية ولم تتلاعب بها الحكومة بتقليص النسبة التي حصل عليها الإخوان من الأصوات أو برفعها لبث الخوف في الغرب. وباختصار، من التهور القفز إلى اعتبار نتيجة الانتخابات نصرا انتخابيا للإخوان المسلمين.
إلى جانب هذه التفاصيل المعقدة - التي يتجاهلها الغرب إلى حد بعيد - تروى أيضا الكثير من التجارب التي تدل على أن أغلب من يصوتون للإسلاميين قد يفعلون ذلك اعتراضا على فساد ووحشية النظام العسكري الحاكم الذي نجح في قمع كل البدائل العلمانية للإخوان، وليس لتقديرهم الشديد لما ترمز إليه الجماعة، على الرغم من انصرافها إلى الانغلاق على ذاتها واتجاهها إلى التدين اتجاها أقل علانية في أعقاب هزيمة عام 1967. يذكرنا هذا بقصة حركة حماس في الأراضي المحتلة، وجميعنا يعلم ما آلت إليه هذه القصة. لكن في هذا السيناريو البديل، قصة الإخوان المسلمين ليست قصة انتصار في وجه المحن بقدر ما هي قصة فشل في حشد تأييد شعبي كبير، على الرغم من الأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها مصر، والتي أثبتت في دول أخرى أنها إلى حد بعيد أرض خصبة لانتشار الإسلامية؛ سواء الإسلامية الراديكالية أو غيرها.
يرى الكثيرون أن الحكومة المصرية أزعجها نجاح الإخوان المسلمين غير المتوقع في انتخابات عام 2005، وهو أمر يدل عليه الفساد المستشري على نطاق واسع، وهجمات شرطة مكافحة الشغب العنيفة على مؤيدي الجماعة في الشوارع، واعتداءاتها البدنية على المتواجدين في قواعد دعم الإخوان المسلمين؛ سعيا لمنعهم من الإدلاء بأصواتهم، وهذه نظرية تستوجب الدراسة. تابعت قوات الأمن بالفعل اعتقالاتها العشوائية لأعضاء الجماعة بعد انتهاء الانتخابات. وهدف هذا في جزء منه إلى الإبقاء على ممثلي الجماعة الجدد في البرلمان تحت السيطرة، وبعدها قرر النظام تأجيل انتخابات المجالس المحلية وهو ما يبدو بوضوح تخوفا من فوز الإخوان المسلمين بالمزيد من المكاسب. ويوحي هذا ظاهريا بنظام يخيفه ويزعجه سطوع نجم الإخوان فجأة، إن لم يكن يوحي أيضا بالإصابة تماما بجنون الارتياب. لكن علينا دائما أن نتذكر أن من يحدد في النهاية الرابح والخاسر في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وفارق الفوز والخسارة هو النظام العسكري الحاكم ورئيسه الممثل له، وذلك على حد قول نقاد مبارك. السياق إذن هو سيد الموقف. فقد عقدت انتخابات عام 2005 في توقيت مثير جدا للفضول. تحمس الأمريكيون من جديد للديمقراطية - أو هذا على الأقل ما أعلنوه - وهذا تنافى تماما مع تأييدهم للأنظمة الديكتاتورية كنظام مبارك؛ ولا يمل الإخوان المسلمون من الإشارة إلى ذلك. من ثم تعرض مبارك في مستهل عام 2005 لضغط محدود من واشنطن فترة وجيزة للإسراع بتطبيق برنامج إصلاح داخلي تأخر كثيرا. فإذا افترضنا أن نظام مبارك ارتأى أن وجود الإخوان المسلمين في البرلمان بنسبة أكبر أمر مناسب من شأنه أن يبعث برسالة ضمنية إلى الأمريكيين مفادها أن عليهم أن يحذروا أو يتخوفوا من أن تنحرف نواياهم الطيبة عن مسارها في حال ضغطوا بشدة من أجل الديمقراطية في البلاد؛ فهل سيكون هذا شطحا بالخيال؟ تزامن هذا بالطبع مع فوز حركة حماس الراديكالية الإسلامية في انتخابات السلطة الوطنية الفلسطينية عقب ضغوط الولايات المتحدة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة. وبعبارة أخرى، بمنح الإخوان المسلمين خمس مقاعد البرلمان، كان مبارك يبعث برسالة خفية لشركائه الذين ثارت ثائرتهم فترة وجيزة في واشنطن، يقول لهم فيها: إن لم تريدوني، فرحبوا بصعود الإسلاميين، لكن أجندة هؤلاء (بعكس أجندتي) تناهض عسكريا إسرائيل والولايات المتحدة. وبعبارة أخرى، كان النظام في واقع الأمر يخبر الأمريكيين أنهم لا يستطيعون أن يحصلوا دائما على مرادهم. واستطاع نظام مبارك أن يحقق المستحيل؛ إذ خفت حدة الضغوط الأمريكية عقب انتصار الإخوان المسلمين في الانتخابات، فيما ظلت قبضة نظام مبارك تسحق قاعدة الجماعة ، بالطريقة نفسها التي تسحق بها أجهزة أمن الدولة التي لا تعرف إلا العنف والقمع جميع حركات المعارضة المنشقة. ولا عجب في أن الإخوان المسلمين في الانتخابات التي أجريت بعد أن تراجعت الولايات المتحدة عن حملتها لنشر الديمقراطية قد فشلوا في الفوز بمقعد واحد، مع أنهم خاضوا الانتخابات بتسعة عشر مرشحا. •••
من هنا يجب أن يراعى في أي نقاش عن نفوذ الإخوان المسلمين في مصر أن عدد المقاعد التي يحظون بها لا يعبر بالضرورة عن حجم التأييد الحقيقي الذي يتمتعون به. وفوق ذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن الغالبية العظمى من المصريين لم يصوتوا لهم أو للحزب الوطني الديمقراطي التابع لمبارك، بل إنهم لعنوا كلا الفريقين بالإصرار على الامتناع عن التصويت.
لكن إن كان مبارك يستخدم الإخوان المسلمين في مواجهة واشنطن لتحقيق مصالحه، فهذا لا يعني أن تلك اللعبة ليست خطيرة، كما لا يعني أن واشنطن ليست في مأزق حقيقي بسبب مساعدة ديكتاتور يفتقر إلى الشعبية والكاريزما ولا يسمح إلا لجبهة معارضة إسلامية تحت سيطرته بتحديه تحديا رمزيا. فعلى المدى الطويل قد يصبح الإخوان المسلمون الكيان الأبرز، وبما أنهم كيان المعارضة الوحيد المنظم المنسق، فسيصبحون في موقع مناسب للتحرك سريعا لملء أي فراغ في مركز السلطة إن أطاحت ثورة شعبية بالنظام الحاكم، مع أنهم لن يكونوا المحرك لتلك الثورة.
وبما أن أعضاء الإخوان يتمتعون بالخبرة الإعلامية ويتابعون عن كثب نظرة الغرب لهم، فلا شك أن ثقتهم في جماعتهم قد تزايدت عندما قفز محللو الوضع السياسي المعتمدون في واشنطن على موجة «نهضة التيار الإسلامي» في مصر، التي أتت على صهوة كتب ناجحة ككتاب جينيف عبده «لا إله إلا الله: مصر وانتصار الإسلام»، وكتاب ماري آن ويفر «صورة لمصر: جولة في عالم الإسلام الجهادي» (الذي أعيد إصداره عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، مضافا إليه فصل جديد عن أسامة بن لادن)، والذي يصور مصر على أنها ساحة معركة تتنازع عليها الديكتاتورية والتيار الإسلامي. لعل هذه الجلبة التي ثارت في واشنطن قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من استراتيجية مبارك السياسية، ولو بغير قصد. إنها استراتيجية تساعد على الإيحاء بنبوءة تحقق ذاتها، تستخدم للتلاعب بالتأييد المحدود الذي يتمتع به الإخوان المسلمون داخل البلاد لخلق تهديد زائف يعظم من شأنه السياسيون بالخارج. •••
صفحه نامشخص