هوامش
الفصل السابع
الكرامة المهدرة
ولد المخرج السينمائي المصري الشهير يوسف شاهين عام 1926، ونشأ في أسرة مسيحية من الطبقة المتوسطة في مدينة الإسكندرية التي تجمع أجناسا مختلفة من البشر، وتلقى تعليمه في مدارس فيكتوريا كوليدج العريقة. وعندما عاد من دراسة السينما في لوس أنجلوس، انخرط في صناعة السينما المحلية التي كانت تشهد آنذاك رواجا خلال السنوات الأخيرة من حكم الملك فاروق. يمكن أن نرجع أصل المنهج الإنساني المتحرر لذلك المخرج صاحب الفكر المتشعب إلى التعددية والحرية النسبية اللتين سادتا فترة ما قبل الثورة التي أسعده الحظ بأن يولد فيها. لكن في أعقاب الثورة أصبح شاهين عبقريا آخر يعمل تحت وطأة نظام أوتوقراطي وحشي يعتبر الموهبة الإبداعية مدعاة للشك في أحسن الأحوال، وتهديدا لا بد من قمعه في أسوأ الأحوال. أسهمت أفلامه التي يربو عددها عن الأربعين فيلما - والتي تعود إلى ما قبل ثورة 1952 - في التعريف بهوية مصر وتاريخها وذاكرتها. لكن تمرده على تملق النظام أو الإذعان لعقيدة دينية - فضلا عن لجوئه المتكرر لتجسيد شخصية الرجل الشاذ والأنثى المتحررة - جعلته منبوذا إلى حد كبير في الوسط السينمائي المصري وفي وسائل الإعلام المملوكة للدولة. وقد أعلنت الرقابة المصرية أنه من المرجح منع عرض أحدث أفلام شاهين «هي فوضى» (2007) حتى قبل مشاهدته. الفيلم قصة ميلودرامية مشحونة بالغضب حول ثقافة التعذيب داخل أقسام الشرطة في مصر والفساد الملازم لهذه الثقافة. (جدير بالذكر أن الرقابة سمحت بعرض الفيلم في النهاية.) يعود شاهين من خلال فيلم «هي فوضى» إلى موضوع كلاسيكيته «العصفور» (1973) الذي حمل الفساد مسئولية هزيمة مصر في حرب الأيام الستة. منع الفيلم من العرض لدى طرحه، على الرغم من أنه نال لاحقا أرفع جوائز الدولة الثقافية. وفضلا عن مواجهة شاهين لعداء النظام له، فهو صاحب المفارقة التعسة التي تسببت في حظر أحد أفلامه في مصر نتيجة حملة اعتراضات شارك فيها مسلمون ومتطرفون مسيحيون. هاجم المسلمون ملحمته الإنجيلية «المهاجر» (1994) - المأخوذة عن قصة حياة النبي يوسف - بدعوى فتوى صادرة عن الأزهر عام 1993 تحرم تجسيد جميع الأنبياء في أي عمل فني، وهاجمه الأقباط أيضا بدعوى أن تجسيد شخصية النبي يوسف نفسه كانت «غير دقيقة».
لا يكن المخرج الذي يبلغ من العمر اثنين وثمانين عاما سوى الاحتقار للنظام العسكري المصري، وهو ما بدا واضحا في حوار قصير نادر أجراه مع مجلة «قنطرة» الإلكترونية الألمانية عام 2006 حين قال: «نحن نعيش في ظل نظام ديكتاتوري تماما.» استطرد شاهين في التعبير عن يأسه بأنه فقد الأمل في أن تصبح مصر أكثر حرية أو تحررا في المستقبل، وقال عن شباب مصر إنهم حشد من الأرواح التائهة، أقصى ما يحلمون به هو مغادرة هذا البلد: «أراهم يقفون أمام السفارات الألمانية والفرنسية. كلهم يرغبون في الهجرة. اعتدت أن أقول للشباب: «لا تهاجروا! إن كنتم قد أنهيتم دراستكم فنحن بحاجة إليكم هنا.» لكني كنت من الجيل القديم الذي لا يفكر إلا في جمال الوطن. أما الآن فأقول لهم: «ارحلوا!» لن يجدوا فرصة في بلد يعج عن آخره بالفساد. أن تبقى هنا يعني أن تصبح فاسدا.» وربما كان وصف شاهين للوطنية بأنها تفكير عفا عليه الزمن هو أكثر أجزاء الحوار مكاشفة وإثارة للحزن أيضا.
لفت الكثيرون في الغرب الانتباه إلى حالة الهوس الجماعي بالهجرة بين شرائح مختلفة عديدة في المجتمع المصري الذي بات على شفا الانهيار، وإلى الملايين الذين لا يرغبون في الهجرة إلى فرنسا وألمانيا وأي دولة أوروبية أخرى فحسب، وإنما على وجه التحديد إلى الدولة التي درس فيها شاهين؛ الولايات المتحدة. وقد ذكر البعض أن هذا دليل على أن المصريين ليسوا مناهضين للغرب مثلما يظن الأجانب، بمعنى أنهم ليسوا غاضبين تماما من السياسات الأمريكية في المنطقة مثلما يظن الكثيرون. لكن هذا النوع من الحسابات السياسية يخطئ كثيرا في فهم ما يحدث. فالسؤال الحقيقي الذي ينبغي طرحه هو: ما سر رغبة تلك الأعداد الهائلة من الشباب المصري في أخذ فرصتهم في الغرب على الرغم من بغضهم لآثار الهيمنة الأمريكية على المنطقة وغضبهم الشخصي من مساندة واشنطن للديكتاتور الذي يحكم بلادهم (وهو ما يتضح لأي شخص يقضي فترة من الوقت في مصر)؟ الجواب الواضح هو أن بغضهم لوطنهم أكبر بكثير من بغضهم لحفنة من السياسات الخارجية تتبناها الدولة التي سيهاجرون إليها؛ فالثقافة والسياسة، والطموح الشخصي والآراء السياسية غير مرتبطة بعضها ببعض في عقولهم. لكن هناك أمر واحد اتفق عليه الجميع وهو - مثلما أشار شاهين - الرغبة الشديدة في الهجرة خصوصا بين الشباب في مقتبل العمر، وإن كانت غير قاصرة عليهم. في التسعينيات من القرن العشرين، كان اثنان أو ثلاثة من بين كل عشرة مصريين ألتقي بهم يفصحون عن رغبتهم في الهجرة إلى أي بلد آخر. وفي 2007 كلما التقيت بشخص، يفصح لي عن رغبته الجارفة في الهجرة، وعادة ما يكون ذلك في الدقائق الخمس الأولى من حواري معه.
أتذكر واقعة محددة في هذا الشأن؛ فقد استأجرت سيارة أجرة سائقها في العشرينات من عمره عندما كنت في أسوان ليرافقني في جولة إلى السد العالي، وتجاذبنا أطراف الحديث من البداية كأن بيننا صداقة قديمة. وفي طريق العودة إلى المدينة انحرف بالسيارة على جانب الطريق فجأة، وتلا سورة الفاتحة بصوت عال وهو يغمض عينيه، ثم التفت إلي وسألني في جدية موجعة: «أيمكنك مساعدتي في استخراج تأشيرة إلى إنجلترا من فضلك؟» وبعد أن أوضحت في هدوء أن هذا الأمر محال خصوصا وأني لم أعد إلى وطني منذ أن تركته قبل عقد من الزمان، ولا أنوي العودة إليه في المستقبل القريب، بدا أن الإحباط قد بلغ منه مبلغه. وعندما أفكر في هذا الآن يراودني شعور أن الأمر برمته ليس سوى تمثيلية تؤدى أمام أي أجنبي يتحدث معه على الرغم من حداثة المعرفة التي تجمعهما، لكن هذا لا يؤثر على الإحباط الهائل الكامن وراء طلبه. لا يدري أحد كيف استقبل هذا الشاب عزوفي عن العودة إلى بلد هو على استعداد لدفع المال من أجل الهجرة إليه. لكن حتى عندما أوضحت بما لا يدع مجالا للشك لشخص آخر تعرفت عليه أني لن أمنحه الفرصة للفرار إلى الغرب، لم يضع ذلك حدا للإلحاح المتواصل. ولدى عودتي إلى مصر بعد رحلة إلى إيران استغرقت شهرا، سألني فجأة شاب في العشرينات كان قد جاء إلى شقتي لإصلاح جهاز الكمبيوتر عن إمكانية سفر شخص مثله إلى إيران. قال إنه حاصل على شهادة في تكنولوجيا الكمبيوتر، وإنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وتلقى تدريبا في شركة كمبيوتر رائدة في البرمجيات؛ لكنه لا يجد فرصة للعمل في شركة كبرى لأنه لا يجد من يتوسط له. أجبته: «الوضع في إيران أكثر سوءا من مصر. فالاقتصاد في طريقه للانهيار، والحرية هناك أقل منها هنا.» أطرق برأسه مفكرا بضع لحظات، ثم أجاب: «لا يهمني إن عشت على الخبز والماء. كل ما أريده هو الحياة في بلد يحترمني فيه الناس عندما أسير في الشارع.» فاق إلحاح الجميع من أجل الحصول على تأشيرة الحد في الإزعاج، وفي بعض الأحيان يسهل إغفال الحزن واليأس اللذين يدفعان إليه.
كشف تحقيق أعدته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» في يوليو/تموز 2007 أن آلاف الشباب المصريين يحاولون الدخول إلى أوروبا سنويا بطرق غير شرعية. في بعض الأحيان، يبحر هؤلاء من الموانئ المصرية على متن قوارب صيد يديرها عصبة من المهربين. لكنهم يلجئون في الأغلب إلى خوض رحلة محفوفة بالمخاطر إلى إيطاليا عن طريق دولة ليبيا المجاورة التي لا يحتاجون تأشيرة لزيارتها. وغني عن القول إن الفقر المدقع والبطالة والإحساس العام باليأس والعجز من الأسباب التي أوردها التقرير وراء عدم اكتراث المصريين بتعريض حياتهم للخطر. وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2007، تأكدت دقة تقرير «هيئة الإذاعة البريطانية»، عندما عاشت مصر حدادا وطنيا لدى الإعلان عن غرق واحد وعشرين شخصا على الأقل كانوا يحاولون التسلل إلى إيطاليا بحثا عن فرصة عمل، بعد انقلاب القارب الذي كانوا يستقلونه.
لا غرو إذن في سعي المصريين إلى اغتنام فرصة الهجرة غير الشرعية عندما تتاح لهم، بل إن بعضهم يلجأ إلى وسائل غير مشروعة لتمديد إقامته. (لم يحدث قط أن التقيت بشاب لم يعترف لي صراحة أنه إذا حدث وأتيحت له فرصة الهجرة فمحال أن يعود طواعية.) وما يترتب على ذلك يشكل مادة خصبة لوسائل الإعلام الدولية. ففي أغسطس/آب 2006 على سبيل المثال، أصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي وإدارة الهجرة والجمارك الأمريكية تحذيرا لوكالات الأمن وسلطات تطبيق القانون المحلية بأن أحد عشر طالبا مصريا تخلفوا عن إثبات حضورهم في جامعة ولاية مونتانا بعد دخولهم إلى الولايات المتحدة عبر مطار جون إف كنيدي الدولي. كان من المقرر أنهم سيدرسون اللغة الإنجليزية والتاريخ الأمريكي جزءا من برنامج تبادل طلابي مع جامعة المنصورة في دلتا مصر. وكان عليهم تقييد أسمائهم لدى الجامعة بموجب «برنامج تبادل الطلاب والزوار» المعمول به في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول المروعة بغية ضمان منح حق دخول الولايات المتحدة للطلاب الأجانب المصرح لهم فقط. فالعديد من مختطفي الطائرات التي استخدمت في هجمات 11 سبتمبر/أيلول ذكروا في طلبات استخراج التأشيرات أنهم طلاب. واستطاعت السلطات الأمريكية تحديد مكان الطلاب المصريين في النهاية، وألقت القبض عليهم بتهمة خرق بنود التأشيرات وأيضا ضوابط الهجرة، ورحلتهم إلى مصر على الفور. لكن اتضح فيما بعد أن الإرهاب بعيد كل البعد عن تفكيرهم؛ فقد فروا سعيا وراء «الحلم الأمريكي» على حد تعبير «الأهرام ويكلي»، وتخلفوا عن حضور برنامج الاندماج بحثا عن فرصة عمل، وعلى ما يبدو أنهم كانوا ينوون تدبير معاشهم حتى ذلك الحين اعتمادا على المبلغ الذي تلقاه كل واحد منهم كجزء من برنامج التبادل لسد احتياجاته المعيشية والذي يساوي ثلاثة آلاف وخمسمائة دولار. من الواضح أن التداول الواسع والمثير في بعض الأحيان لهذه القضية - سواء في الولايات المتحدة أو في مصر - لم يكن رادعا أمام اثنين من ملاكمي الوزن الثقيل المصريين عن ترك زملائهم في الفريق على نحو مشابه في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007 بعد وصولهما إلى الولايات المتحدة للمشاركة في بطولة العالم للملاكمة. اختفى عماد عبد الحليم وأحمد سمير بعد فترة قصيرة من وصول الفريق إلى أحد المطارات الأمريكية، لكن هذه المرة لم يصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي تحذيرا. تغيب عدد كبير جدا من اللاعبين الرياضيين المصريين - خاصة الملاكمين والمصارعين - في السابق دون إذن وفي ظروف مشابهة للبحث عن بيئة أفضل يستطيعون فيها تنمية مهاراتهم، حتى إن هروب اثنين من الملاكمين هذه المرة لم يسفر عن شيء سوى إعلان السلطات الأمريكية عما حدث. وأكثر ما يثير الدهشة فيما يتعلق بهؤلاء الأشخاص هو أنهم - على عكس من يسافرون بحرا عن طريق ليبيا - ليسوا مثل الفقراء الذين يهاجرون هجرة غير شرعية ويغادرون الصحراء الأفريقية الكبرى مكدسين داخل قوارب متداعية في طريقهم إلى جزر الكناري، أو مثل المكسيكيين الذين يقضون أياما في الصحراء في محاولة لعبور الحدود المكسيكية الأمريكية التي يسهل التسلل منها. فهؤلاء الطلاب كانوا يدرسون في واحدة من أرقى الجامعات الحكومية في مصر، وحازوا على درجة عالية من تقدير أساتذتهم في الجامعة جعلتهم يفوزون بتلك المنح الدراسية التي يطمح فيها أي شخص. وبالمثل فإن الملاكمين قطعوا شوطا كبيرا في عملهما حتى أنهما باتا مؤهلين للمنافسة في البطولات الدولية.
إذا كان أشخاص كهؤلاء لديهم الرغبة في المخاطرة بفقدان كل ما حققوه في سبيل الفرار من مصر، فما الذي يتوقع من الجموع الفقيرة التي ليس لديها ما تخسره سوى أن تلقي بنفسها داخل مراكب صيد في عرض البحر المتوسط وهم لا يملكون سوى الأمل والدعاء؟ الإجابة عن هذا السؤال موجودة في الأقصر؛ المدينة السياحية الأكثر شهرة في مصر على مر التاريخ، والتي تحولت في السنوات الأخيرة إلى عاصمة لبغاء الرجال في الشرق الأوسط. •••
صفحه نامشخص