بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وأفاض علينا سابغ النِّعَم، في الظاهر والباطن والسِّرِّ والعلن، ما عَلِمنا منها وما لم نعلم، حَمْدَه القديمَ الذي حَمِدَ بهِ نفسَه، أفضلَ الحمد وأكملَه، حمدًا يعجز العقلُ عن حصره، واللسانُ عن وصفه، وتَقْصُرُ عنه الهِمَم.
وأفضل الصلاة وأتمُّ السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمةً للأُمم، من قيل له: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣]، ورضي الله عن أصحابه مصابيح الظُّلَم أبد الآبدين ما خطَّ قلم.
أما بعد:
فإن أولى ما صُرِفَتْ إليه نفائسُ الأيام، وأعلى ما خُصَّ بمزيد الاهتمام: الاشتغالُ بالعلوم الشرعية، ولا سيما الفقه منها، لقول النَّبي ﷺ: "مَن يُردِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّههُ في الدِّين" (^١).
فَحَرِصَ العلماءُ على تعلُّم الفقهِ وتعليمه إلى أن لَقِيَ رَواجًا واسعًا، ونشأت عنه مدارسُ متعدِّدة.
وقد مرَّ فقهنا الإسلامي الشامخ بمراحل متعددة من التدوين، وحاز قَصَبَ السَّبْق في هذا المَيدان، مذهبُ الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، على يد محمد بن الحسن الشيباني مُدَوَّن المذهب وناشره رحمهما الله تعالى.
وصُنِّف بعد كُتِب الإمام محمد تآليف عديدة: بين مختصَر ومطوَّل، ومُخِلٍّ ومُفْرِط، ومدقَّق ومُحَرَّر، وكان من أدق كتب الحنفية في نقل المذهب تخريجًا وتلخيصًا وتحقيقًا وتمحيصًا كتاب "الهداية" للإمام برهان الدين المَرْغِيناني، واختصر هذا الكتاب الإمامُ تاج الشريعة محمود المَحْبُوبي بكتاب سماه "وقاية الرواية في مسائل الهداية"، وهو أحد المتون الأربعة المعتمدة عند الحنفية، ثم جاء الإمام مُلَّا علي القاري فشرحه واستوفي مقاصده وأظهر فرائده من عيون كتب الحنفية، بكتاب سماه "فتح باب العناية"، فكان شرحه حقًّا فتحًا لباب العناية رحمه الله تعالى.
_________
(^١) أخرجه البخاري (فتح الباري) ١/ ١٦٤، كتاب العلم (٣)، باب من يُرِد الله به خيرًا (١٣)، رقم (٧١).
1 / 9