هوامش
الفصل التاسع
فتح المدائن
فر الفرس بعد القادسية فرار النعام، فبلغ الجانب الأكبر منهم أطلال بابل، وتفرق الآخرون في أرجاء فارس، أما المسلمون فأقاموا بالقادسية شهرين حتى أراحوا ظهورهم وأبل سعد من مرضه، وكان عمر قد كتب إلى سعد ألا يبرح منازله حتى يأتيه أمره، فلما اطمأن إلى أنباء الجند وأمدهم، أمر سعدا بالسير إلى المدائن، وأن يخلف النساء والعيال بالعتيق، على أن يجعل معهم كثفا من الجند يكون لهم حظ سائر الجند من المغنم جزاء حمايتهم عيالات المسلمين.
وقدم سعد زهرة بن الحوية فسار إلى الحيرة ونزلها، فلما بلغها عبد الله بن المعتم وشرحبيل بن السمط عاود سيره إلى المدائن، ولقيه في أثناء مسيرته جمع من الفرس ببرس
1
فهزمهم ففروا ينضمون لمن سبقوهم إلى بابل، وعرف زهرة نبأ الذين اجتمعوا ببابل من فلول القادسية فكتب إلى سعد به إذ كان بالحيرة مع هاشم بن عتبة، وسار سعد يريد بابل، فلقي الفيرزان فهزمه في أسرع من لفت الرداء، وفر الفيرزان إلى نهاوند، والهرمزان إلى الأهواز، ومهران إلى المدائن، وتقدم جند المسلمين، فلقيهم شهريار بكوثي فقتلوه وهزموا أصحابه، ونفل سعد سلب شهريار لمن قتله، وتقدم زهرة بن الحوية إلى ساباط، فصالحه أهلها على الجزية، وذلك حين عرفوا أنه هزم الجند الذي اعترضه فيما بين سورا والدير وقتل قواده، وكذلك كانت جنود المسلمين تسير في أرجاء السواد فلا تلقى مقاومة تذكر، وكان المدنيون يهرعون من كل صوب إلى أمراء هذه الجنود بالطاعة، يعلن فريق منهم إسلامه، ويرضى فريق أداء الجزية، وينزل الجميع على حكم هؤلاء الذين غزوهم وأقاموا العدل بينهم، ثم جلوا عنهم حين فصل خالد بن الوليد إلى الشام، ها هم أولاء يعودون إليهم في قوة بددت كل أمل في جلائهم مرة أخرى، من ذا يجليهم وقد هلك رستم وتضعضعت الروح المعنوية في نفوس الفرس جميعا! إنه إذن الإذعان لقضاء قضاه الله فلا مرد له، ولن يقدر عليه أحد.
أقام سعد ببابل، وقدم زهرة بن الحوية على رأس قوة تسير إلى المدائن، ترى هل أثارت أطلال بابل في نفوس سعد والذين نزلوها ذكر المدينة القديمة التي شهدت حضارة الإنسانية الأولى متداولة بينها وبين طيبة ومنفيس وعالم الفراعنة الأولين؟! وهل تراهم ذكروا عهد الآشوريين وثقافتهم وما كان لبابل في عهدهم من جلال وعظمة بأسوارها المنيعة، ومعابدها الضخمة، وأبراجها الحصينة، وحدائقها المعلقة، وقصورها الفخمة مهد الترف والنعمة والجمال والدلال؟ هم لا ريب قد ذكروا برج بابل، وذكروا تداول الأمم الطارئة عليه، حتى أصبح مضرب المثل لكثرة اللغات التي يتكلمها من نزلوه أسارى أو فاتحين، ولكن لعل ما ذكروه من أمر البرج ومن أمر المدينة نفسها لم يتعد حديثا يتداولونه أويقات سمرهم، فقد كانوا في شغل بما هم مقبلون عليه من فتح المدائن، والمدائن عامرة، وبابل أطلال، والمدائن عاصمة الفرس، وبابل لم تبق عاصمة ولم تبق مدينة، والمدائن عنوان الحياة، وبابل أثر دارس لعهد مضى، والناس يتعلقون بالحاضر وقلما يتخذون من الماضي عبرة، وأكثرهم لا يلتمسون العبرة ما بسم لهم وجه الحياة، فإذا تجهم وجه الحياة وانقبض، ذكروا العهود الخوالي لعل فيها ما يأسو كلوم الحاضر. وقد كان وجه الزمان باسما للمسلمين أي ابتسام، فما لهم ولبابل والآشوريين الذين أصبحوا أحاديث، وهم يرون من حولهم حياة زاخرة، وكنوزا ثمينة، وشعبا لا يلبث حين يسمع باسمهم أن يهرع إليهم بالطاعة، ويلتمس عندهم العفو والمغفرة.
بل إن منهم لمن ذكروا لمرأى بابل فعال المسلمين بها يوم عسكر المثنى بن حارثة على مرتفع من أطلالها، وأقام بين شبكة من جداول دجلة ينتظر هرمز جاذويه وهجومه عليه، ذكر هؤلاء ذلك الموقف العصيب الذي فجأهم بعد مسيرة خالد إلى الشام، وارتقاء شهريران بن أردشير عرش كسرى واعتزامه طرد العرب من بلاده، وذكروا كيف قتل المثنى فيل هرمز، وكيف هزم الفرس وتعقبهم حتى قاربوا المدائن، وتحدث هؤلاء بما شهدوا من ذلك إلى أصحابهم الذين جاءوا مع سعد من المدينة، والذين انضموا إليه من شتى الأرجاء في شبه الجزيرة، وذكروا لهم أن هذا السواد الذي يسيرون فيه بين غدران مترعة ومزارع واسعة وحدائق يانعة، قد خضع لسلطانهم، فأكلوا من خيراته، وأرسلوا إلى المدينة ما استطاعوا أن يرسلوه من ثمراته.
فبابل وسائر الأماكن التي يمر المسلمون بها كانت بعض ما فتحوا وحكموا، كانت القادسية في يدهم، وكانت الحيرة مقر إمارتهم، وكانت برس وكوثي وغيرهما من الريف والقرى تدين لهم، وكانت المدائن مطمح أنظارهم، فهم اليوم يمرون بأماكن لكثيرين منهم فيها ذكريات رفاهة ونعمة، وإنما الفرق بين أمسها ويومها أنها كانت لهم بالأمس مستقرا وكانوا فيها سادة حاكمين، وهي اليوم ميدان فتح جديد، فهم ينتقلون من واحدتها إلى الأخرى متجهين شمالا بشرق من القادسية إلى الحيرة، إلى برس، إلى بابل يريدون ساباط والمدائن وهم يجدونها اليوم أهون أمرا مما كانت من قبل بعد أن فت الوهن في أعضاد أهلها فأيقنوا أن لا مفر لهم من الله إلا إليه.
صفحه نامشخص