أما بعد فابدءوا بدمشق فانهدوا لها فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل بخيل تكون بإزائهم في نحورهم، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل بدمشق من يمسك بها ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص، وضع شرحبيل وعمرا بالأردن وفلسطين.
تلقى أبو عبيدة رسالة عمر، فبعث إلى فحل بعشرة من قواده في مقدمتهم أبو الأعور السلمي، وسار هو وخالد بن الوليد في قوة الجيش الكبرى يقصدون دمشق، ورأى الروم الذين لجئوا إلى فحل مقدم المسلمين عليهم، وكان أثر اليرموك وما أورثه إياهم من فزع لا يزال آخذا بنفوسهم، فأطلقوا ماء بحيرة طبرية ونهر الأردن في الأرض حولهم، فأوحلت وتعذر السير فيها، وغاظ المسلمون ما صنع عدوهم، فوقفوا بإزائهم يحاصرونهم ولا يستطيعون التقدم في الأرض الموحلة إليهم، وظل ذلك موقفهم حتى فرغ إخوانهم من فتح دمشق، واستطاعوا أن يمدوهم بقوات زادتهم بأسا وإقداما.
ولم يكن عجبا أن يفتح المسلمون دمشق مع مناعة حصونها وما أمدها هرقل به من جند عظيم، فقد كانوا إلى حين نصرهم الله باليرموك يسيرون في أرض مياهها جارية، لكن ما بها من خصب وزرع لم يزد على مواقع الخصب بالمدينة وما حولها، فلم يبلغ إغراؤه ما بلغت دلتا النهرين بالعراق، فلما ساروا من الواقوصة على اليرموك إلى دمشق رأوا جمالا يبهر بهاؤه اللب، وتسحر بهجته القلب، رأوا أراضي البلقاء في الجنوب تمتد مروجها إلى مسرح النظر، ورأوا في الشمال مراعي جولان أبهى نضرة وأمرع خصبا، ثم رأوا مزارع القمح والشعير متلاحقة بين هذه المراعي تقوم خلالها الأشجار مختلفا أنواعها، منها المثمر وغير المثمر، ومنها ذو الأريج يفوح شذى زهره فيعطر ما حوله من الأرجاء، والنهيرات والغدران تجري مياهها الصافية مصقولة الصفحة حينا، متدفقة في اندفاع حينا آخر، تسقي هذه الزروع والأشجار والحدائق الغناء، وقد تحدرت من تلال كست سفوحها الخضرة أو نمت فوقها الأشجار الباسقة، فجلت رباها كأنها الأعلام بين أودية تنبسط تارة وتتموج بين الارتفاع والانخفاض تارة أخرى، وهي في انبساطها وفي تموجها يكسوها بساط من الزهر بألوانه البهيجة الفواحة، وزادت بنات الأصفر على تعبير العرب، هذا الوسط الطبيعي الرائع رواء وبهجة، يتهادين فوق هذه الربى وبين هذه الأودية، فتمسك النظر قدودهن الممشوقة وخدودهن الملساء أشربت وجناتها حمرة تنم عن عافية وري، وقد سواهن البارئ أحسن تسوية وقومهن أحسن تقويم، فكن ملائك هذه الجنان التي يسير العربي خلالها في الطريق إلى العاصمة الحصينة، وها هنا وهناك تقوم المدائن التي أنشأها الرومان وأقاموا فيها المسارح والملاعب والكنائس، وكلها عمائر تلفت عظمتها النظر وتثير الإعجاب، وهناك على حدود الأفق إلى الشمال تبدو أعالي الجبال توجت هاماتها الثلوج، فبدت في جلال، ما أشبهه بجلال المشيب، ناصع البياض، أي شيء هذا السحر الباهر وهذا الجمال الساحر! وهل من باعث غير الإيمان أقوى منهما يدفع إلى المغامرة في سبيلهما! ولهؤلاء الجنود المسلمين من قوة الإيمان بالله ورسوله أوفى حظ وأوفر نصيب، وقد زاد هذا السحر قوة الإيمان في نفوسهم، فدفعهم يسرعون إلى عاصمة الشام وهم أشد ما يكونون حرصا على فض حصونها والدخول إلى قلبها.
بل لقد زادهم اسم دمشق حرصا على الإسراع إليها والاستيلاء عليها، فكم سمعوا بعجائبها من إخوانهم وآبائهم الذين كانوا يذهبون أثناء رحلة الصيف بالشام إليها! وكم حدثهم عن تاريخها بنو وطنهم من المسيحيين الذين يحجون إلى بيت المقدس، ثم يذهبون إلى مقر الملك بالشام يجتلون نعمة الحضارة فيه، ويبتاعون من متاجره الغنية تحفا لا مثيل لها بالمدينة المقدسة بفلسطين، قص عليهم هؤلاء المسيحيون تاريخها، فأذكوا في نفوسهم تطلعا أي تطلع لمشاهدتها والتمتع بجناتها الفيحاء ومياهها الجارية وظلالها الوارفة وفاكهتها الشهية، وما فيها من جمال يحدث عن حاضر فاتن وماض أكثر فتنة، فدمشق من أقدم مدائن العالم إن لم تكن أقدمها جميعا،
4
وقد توالت عليها عصور عظيمة كانت فيها مقر عبادة وثنية ضخمة، فلما جاءت المسيحية جعلت من معبدها الوثني كنيسة لأتباع السيد المسيح لا يبذها في جمالها وجلالها إلا كنيسة أنطاكية كبرى معابد المسيحية بالشام، هذا إلى ما أقامه الروم فيها من عمائر فاقت كل ما وقعت عليه أعين هؤلاء العرب في طريقهم إليها جلالا وعظمة، كيف إذن لا تنهب جيوش المسلمين الطريق إليها نهبا! وكيف يخامرها ريب في أنها لا بد مستولية عليها بعد أن قهرت الروم باليرموك، وقضت من جندهم على عشرات الألوف خروا صرعى في الميدان أو تردوا هلكى في هاوية الواقوصة!
ولم يجد هذا الجيش الظافر في طريقه مقاومة تذكر، فلم يكن الروم يعتمدون في قتالهم على ما كان يعتمد عليه الفرس من التحصن بالأنهار ومجاري المياه المتشابكة بين دجلة والفرات؛ لأنه ليس بالشام مثل هذه الأنهار، ولم يكن الروم يندفعون إلى المعارك مستميتين اندفاع الفرس؛ لأن العراق كان للفرس منه نصيب عظيم، وكانت المدائن عاصمة الأكاسرة على شاطئ دجلة أكبر أنهاره، أما الشام فكان ولاية رومية، وكانت القسطنطينية عاصمة القياصرة بعيدة عن بيت المقدس وعن دمشق؛ فلم يكن في نفوس المدافعين عنها من الحماسة والاستماتة ما كان في نفوس المدافعين عن المدائن، ولم تبعث العصبية الدينية في نفوسهم حب الاستشهاد في سبيل بيت المقدس، فقد غلب الفرس الروم واستولوا على كنيسة القيامة وعلى كنيسة المهد من قبل، فلم يجد أهل البلاد في هذا التغيير الذي طرأ على حكامهم ما يدعوهم إلى افتداء هذه المعابد بأرواحهم، فإذا كان هرقل قد رد الفرس واسترد فلسطين، فلم يكن حكم عماله خيرا من حكم الفرس ولا أكثر رفقا ومعدلة، لذلك لم يعتمد هرقل على شيء في هذه البلاد اعتماده على المدن المحصنة، كدمشق وحمص وأنطاكية، اعتزازا بحصونها، واطمئنانا إلى قوة مقاومتها.
بلغ المسلمون غوطة دمشق فازدادوا حماسة واندفاعا؛ فقد رأت أعينهم هذا السهل الفسيح تقوم عليه أم المدائن وأقدمها، وكأنه قطعة من الجنة هبط بها الملائكة من سماء الخلد إلى هذه الأرض: أنهار جارية، وعيون دافقة، وأشجار متشابكة الأغصان، وأعناب وتين وزيتون وجنة نعيم، وبين هذه الظلال الوارفة تسري خلالها نسمات تضوع عطرا، قامت منازل المترفين الذين آتاهم الله من فضله ورزقهم من طيبات هذه الدنيا، تحدث عما كان فيها ومن كان فيها من سادة يمتعون وجوار كأنهن الحور العين، أين من هذا الجمال الرائع والنعمة السابغة، ما رأت عيون الذين صحبوا خالد بن الوليد إلى العراق، وكانوا يرونه سحرا أي سحر، وفتنة أي فتنة! فإذا صحت كلمة خالد بالعراق: «ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب! وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه.» إذا صحت هذه الكلمة بالعراق مرة فإنها تصح أمام دمشق وغوطتها ألف مرة، فما يرون هنا ليس هو الطعام بلغ من الكثرة مبلغ التراب، وإنما يرون مع الطعام ما لم يكن يدور لهم في خيال، وما حسبه أكثرهم مما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر.
ألفى المسلمون منازل الغوطة وقصورها خالية لا يسمع فيها إلا غناء الأطيار على أفنان بساتينها، ذلك أن أهل المنازل والقصور هجروها ليحتموا من الغزاة بأسوار المدينة المنيعة، وكانت أسوار دمشق مضربا للممثل في التحصن والمنعة، بنيت من حجارة ضخمة متينة، وعلت إلى ارتفاع يزيد على ستة أمتار في سمك يزيد على ثلاثة، وكانت حصونها رفيعة الذرى كثيرة الشرفات، يحتمي بها الرماة بالسهام والمجانيق من المدافعين فيها، وقد زادها هرقل تحصينا بعد غزو الفرس إياها، أملا في أن ترد كل طامع في الإمبراطورية، وكان بالأسوار أبواب منيعة يحكم إغلاقها فلا تدع سبيلا لداخل إلى المدينة أو خارج منها، وأحيطت الأسوار بخندق يزيد عرضه على ثلاثة أمتار طمته مياه نهر بردى، بذلك كانت دمشق كلها قلعة واحدة ذات أبراج في كل نواحيها، فلم يكن لمهاجمتها سبيل إلا بعد حصار طويل يفت في أعضاد أهلها، ويضعف عزائمهم ويحملهم على التسليم.
قدر أبو عبيدة ما يقتضيه اقتحام المدينة الحصينة من هذا الحصار الطويل، فأمر جنوده ففتحوا كنائس الغوطة ومنازلها واتخذوها مساكن يأوون إليها، وقدر أن هرقل قد يبعث بجنود من حمص أو فلسطين يحصرون قواته حول دمشق بين حصون المدينة وجيوش الروم، فبعث ذا الكلاع الحميري فعسكر بين دمشق وحمص، وبعث علقمة بن حكيم ومسروق العكي فعسكرا بين دمشق وفلسطين، فلما اطمأن إلى ما صنع من ذلك أمر قواده وجنوده بالتقدم لحصار العاصمة، تمهيدا لاقتحامها، وعين لكل منهم بابا من أبوابها ينزل عليه، فنزل هو على باب الجابية، ونزل عمرو بن العاص على باب توماء، ونزل شرحبيل بن حسنة على باب الفراديس، ونزل يزيد بن أبي سفيان على الباب الصغير أو باب كيسان، أما خالد بن الوليد فنزل على الباب الشرقي، وكان على مقربة من هذا الباب دير يسمى دير صليبا اتخذه خالد مقرا له، ولذلك سمي من بعد دير خالد.
صفحه نامشخص