ولم يطق الفرس أن يثبتوا لهذا البأس فانهزموا وانقلبوا يولون الأدبار، يريدون أن يعبروا الجسر، فلما رأى المثنى انهزامهم سابقهم إلى الجسر وسبقهم إليه وردهم عنه، فازداد اضطرابهم، فتفرقوا تصعد جماعة على شاطئ النهر وتصوب أخرى، وحصرهم فرسان المسلمين وهم في اضطرابهم فقتلوهم شر قتلة، وبلغ من فزع الفرس وهم على هذه الحال أن كان الرجل من المسلمين يقتل عدة منهم فلا يرتد إليه أحد يحاول قتله، حتى لقد سمي يوم البويب هذا يوم الأعشار؛ لأنهم أحصوا مائة رجل من العرب قتل كل واحد منهم عشرة من الفرس في المعركة.
وظل المسلمون يتعقبون الفالة من عدوهم يمعنون فيهم قتلا إلى الليل، فلما أصبحوا عادوا يتعقبونهم كرة أخرى إلى الليل، بذلك أزهق في البويب من الأرواح أكثر مما أزهق في أية غزوة أخرى، فكانوا يحرزون قتلى الفرس بمائة ألف، بقيت جثثهم صرعى طريحة في الميدان حتى بليت وصارت عظاما، ثم بقيت دهرا طويلا لم تدفن إلا بعد بناء الكوفة، ثم عفى عليها التراب أزمان الفتنة.
انتصر المسلمون بالويب كما ترى نصرا مبينا، وكان اجتماع الناس على محبة المثنى من أسباب ذلك النصر، بل كان أجل هذه الأسباب وأعظمها، لقد رأوه يخوض الغمار قوي اليقين جريء الجنان، ففعلوا فعله واستبسلوا استبساله، فنصرهم الله، وكان الذين فروا من الزحف يوم الجسر يقاتلون لا يبالون الموت يريدون أن يتطهروا من عار هزيمتهم، فبينما كان المثنى يعدل الصفوف للمعركة رأى أحدهم يتقدم صفه مندفعا نحو الفرس مستقبلا، فقرعه بالرمح وقال له: «لا أبا لك! الزم موقفك، فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل.» وأجاب الرجل: «إني بذلك لجدير.» واستقر ولزم الصف، وكان لسائر القواد والجنود مواقف بطولة تسجل بمداد الفخر. لما حمي وطيس المعركة اندفع مسعود بن حارثة أخو المثنى يخوض غمارها، فصرع قبل أن ينهزم الفرس فتضعضع من معه، فرأى ذلك وهو دنف فقال: «يا معشر بكر بن وائل! ارفعوا رايتكم رفعكم الله! لا يهولنكم مصرعي.» وكان قبل أن يصاب قد قال لهم: «إن رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه؛ فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، الزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم.» وقاتل أنس بن هلال النمري النصراني حتى قتل، وحمل غلام نصراني من التغلبيين على مهران فقتله واستولى على فرسه ثم انتحى يترنم بقوله: «أنا الغلام التغلبي، أنا قتلت المرزبان.» ولما سبق المثنى الفرس إلى الجسر فمنعهم من عبوره حاز عرفجة بن هرثمة كتيبة منهم إلى الفرات، فلما أحرجوا كروا على عرفجة ورجاله وقاتلوهم قتال المستميت ونالوا منهم، فقال رجل لعرفجة: «لو أخرت رايتك!» فكان جواب ابن هرثمة: «علي إقدامها.» وحمل بها على الفرس فولوا نحو الفرات، فما بلغه منهم أحد حيا، وجرح من أعلام المسلمين يومئذ وقتل عدد غير قليل، كما جرح وقتل مثلهم من بني النمر وبني تغلب وغيرهم من عرب العراق، لكن النصر توج استشهادهم فأبقى على التاريخ ذكرهم، فهم أحياء عند ربهم يرزقون.
وانتهت المعركة، فضم المثنى أخاه مسعودا وأنس بن هلال النصراني إليه، وتوجع لما أصابهما، لم يفرق اختلاف دينهما من وجده عليه، ثم صلى على من استشهد من المسلمين وقال: «والله إنه ليهون علي وجدي أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا ولم يجزعوا ولم ينكلوا، وفي الشهادة كفارة.»
وجلس المسلمون أمسية فراغهم من المعركة مغتبطين يسمرون، قال المثنى: «قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العرب في الجاهلية كانوا أشد علي من ألف من العرب، ولمائة من العرب اليوم أشد علي من ألف من العجم، إن الله أذهب بأسهم ووهن كيدهم، فلا يروعنكم زهاء ترونه، ولا قسي فج ولا نبال طوال؛ فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت .» وذكر بعضهم أخذ المثنى الجسر على الفرس وما أدى ذلك إليه من إفناء جيشهم، فلم يدع المثنى المتحدث يسترسل في حديثه، بل أنكر صنيع نفسه في ذلك وأظهر الندم عليه وقال: «لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم؛ فإني غير عائد فلا تعودوا ولا تقتدوا بي، أيها الناس، فإنها كانت مني زلة، لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع.»
وهذه العبارة من القائد المنتصر في معركة عظيمة أزالت عن المسلمين عار معركة الجسر، تشهد بشجاعة المثنى وصراحته في الحكم على نفسه، كشجاعته في قيادة المعارك وخوض غمارها، فلو أنه كان ممن يزدهيهم الفخر ويلعب بلبهم إعجاب الناس بهم لما قال منها كلمة، لكنه رأى الفرس الذين ارتدوا عن الجسر يقتلون من المسلمين ويستميتون يريدون الثأر منهم، فأسف لموت من مات من جنوده، وندم على فعلته، وقدر ما ربما كان يترتب على استماتة عدوه من انقلاب كفة النصر، ثم كان جريئا في إعلان خطئه حتى لا يقع في مثله غيره.
غنم المسلمون في البويب مغانم كثيرة، وأصابوا بقرا وغنما ودقيقا، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن على تخوم شبه الجزيرة، وإلى عيالات من أقاموا بالحيرة ممن سبق إلى العراق في الأيام التي خلت قبل البويب والجسر، ورأى النسوة اللاتي أقمن على تخوم شبه الجزيرة إقبال الخيل عليهن تحمل الميرة، فحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد، فقال عمرو بن عبد المسيح وكان مع القافلة: «هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش.» واستأمن الرجال النساء وبشروهن بالفتح ودفعوا إليهن ما جاءوا به، وقالوا هذا أول المغنم.
وأمر المثنى القواد والرجال فانطلقوا في السواد حتى بلغوا ساباط على مرأى من المدائن وجيوش الفرس تفر أمامهم فرار النعام لا تمنعهم من شيء ولا تمنع منهم أحدا، وانطلق المثنى بدوره فغزا الخنافس والأنبار أيام سوقهما، فنال منهما ما شاء الله أن ينال من المغانم، وبلغ المسلمون دجلة وأغاروا على قرية بغداد وبلغوا تكريت، وجعلوا كلما غزوا يقتلون المقاتلة ويسبون الذرية ويستاقون الأموال، حتى كان لهم من ذلك ما لا يحصى، بذلك دان لهم العراق كله كرة أخرى، وقسم المثنى الفيء على الناس، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل، ونفل بجيلة ربع الخمس تنفيذا لعهد عمر، ثم بعث بثلاث أرباعه إلى أمير المؤمنين بالمدينة.
استتب الأمر للمثنى كما استتب من قبل لخالد بن الوليد، فانتشر المسلمون في سواد العراق ينالون من رزقه وينعمون بخيراته، وأقام المثنى بالحيرة يفكر فيمن أفنت هذه الموقعة الضروس من جند المسلمين، وفي الوسيلة لتعزيز الجيش بمن يقوم مقامهم فيه، ولعله لم يكن يستعجل المدد، فقد استولى الرعب على نفوس الفرس بعد ما كرثتهم البويب، حتى لقد خيل إليه أن لا قيام لهم بعدها، وأن خلافهم بالمدائن سيشتد على أثرها، وأن الثورة ستشب بسبب هذا الخلاف في كل أرجاء فارس فتوهن أمرها وتزعزع نظامها.
جدير بنا أن ندع المثنى يفكر في موقفه، وأن نفكر نحن فيما للبويب من دلالات على التاريخ؛ فلهذه الغزوة أكثر من دلالة، لقد رأينا النصارى العرب من أهل العراق يقفون في خطوط المسلمين يحاربون الفرس بالحمية التي يحاربهم بها المسلمون، ورأينا المثنى يقول لأنس بن هلال النمري: «يا أنس! إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتني حملت على مهران فاحمل معي.» ثم يقول مثل هذا القول لابن مردى الفهري التغلبي، ألا يقطع ذلك بأن الحرب في العراق لم تكن حربا صليبية، ولا حربا إسلامية، وأن الدين لم يكن هو الذي أثارها، وإنما أثارها حرص العرب على أن يتخلص بنو جنسهم من النير الأجنبي الذي ركبهم قرونا طويلة، وأن يكون الجنس العربي وحدة سياسية أينما كانت منازله؟ أحسب الأمر واضحا فلا سبيل إلى الريبة فيه، والاعتبارات التي أثارت الحرب في العراق هي التي أثارت الحرب في الشام، أما الفتح لنشر الإسلام بالسيف فلم يدر بخاطر أبي بكر ولا بخاطر عمر، وإن دار بخاطرهما أن تكون الدعوة إلى الإسلام حرة لا يقف في سبيلها عائق من العوائق .
صفحه نامشخص