وتصالح عمرو والمقوقس على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين على كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ منهم الحلم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء، وعلى أن للمسلمين منهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأن لهم أرضهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، وألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
عقد هذا الصلح وعلق نفاذه على رضا الإمبراطور به، وأخذ المقوقس على نفسه أن يبعث به إلى هرقل، واتفق الفريقان على أن تبقى جيوشهما حيث هي حتى يجيء رد قيصر، وأن يبقى الحصن مع الروم إلى ذلك الحين، وركب المقوقس النهر إلى الإسكندرية، ومنها بعث بتفصيل ما حدث إلى القسطنطينية مصحوبا بمذكرة إضافية طلب في ختامها إلى هرقل إقرار الصلح حتى يكفي مصر شر الحرب وويلاتها، وحار هرقل حين اطلع على المذكرة وعلى الوثائق، فلم يعلم منها أكان الصلح خاصا بحصن بابليون، أم كان مداه ترك مصر كلها للعرب؟ وهل يبقى العرب في البلاد بعد أخذ الجزية أو يرحلون عنها؟ لذلك استدعى المقوقس إليه يجلو له ما اشتبه عليه، وحاول المقوقس حين لقيه أن يهون الأمر، فذكر له أن العرب قد يحملون على الخروج بعد من مصر، فلما أحرجه الإمبراطور بالسؤال لم يجد خيرا من الحقيقة يصارحه بها، فقال له: «لو رأيت هؤلاء العرب وبلاءهم في القتال لعرفت أنهم قوم لا يغلبون، فليس لنا من سبيل خير من الصلح مع عمرو قبل أن يفتح حصن بابليون عنوة وتصبح البلاد غنيمة لهم.»
لم يكن هرقل بالذي يجهل قوة العرب وبأسهم؛ فقد بلا من ذلك في الشام من سنوات عدة ما لم ينسه وما لا يمكن أن ينساه، لكنه لم يتوقع قط أن تدور الدائرة على جيوشه في مصر، وأن تدور عليهم بهذه السرعة، فالعوامل الجنسية والجغرافية التي أعانت العرب في الشام لا شيء من مثلها في وادي النيل، وهو أعرف الناس بحصن بابليون، وأنه أمنع من أن ينال منه محاصر ما حسنت قيادة المدافعين عنه، وقد كان له بمصر مائة ألف من الجند يقاتلهم اثنا عشر ألفا، فكيف يغلب هذا العدد القليل الذي يسير في الصحراء تلك القوات الضخمة المتحصنة في أسوار متينة وقلاع مملوءة عتادا؟ لا بد في الأمر من سر هو الذي أدى إلى النكبة النكراء التي أصابته في صميم ملكه، لهذا ثار ثائره، فاتهم المقوقس بأنه خان الدولة وتخلى للعرب عن مصر، وحكم عليه بأنه مرتكب مجرم ووصفه بالجبن والكفر، وأسلمه إلى حاكم المدينة فشهره وأوقع به المهانة، ثم نفاه من بلاده طريدا.
لم يكن هرقل غاليا حين ثارت بنفسه الهواجس وتولاه الريب في الأسباب التي أدت إلى هزيمة جنده، ولسنا نقصد من هذا القول إلى الحكم على المقوقس بأنه تعمد خيانة الدولة، وإنما نقصد إلى أن الحصن كان يستطيع أن يقاوم، وألا تنزل بحماته أية هزيمة لو أن قائده كان قادرا فلم يعرض من فيه للقاء العرب في ميدان مكشوف، واكتفى بأن يسدد إليهم النبل والمجانيق، ولا أدل على ذلك مما حدث بعد نفي المقوقس، فقد رفض هرقل إقرار الصلح مع عمرو وعرف المسلمون بمصر هذا الرفض في الأيام الأخيرة من ديسمبر سنة 640، فانتهت الهدنة وعاد القتال بين الفريقين، وكان حماة الحصن قد قل عددهم، ولم يأتهم مدد من أية ناحية، وكانت الأحوال كلها مواتية للعرب؛ وقد انتهى الفيضان وهبط ماء النيل، وغاض الماء من الخندق الذي حول الحصن، وأصبح في مقدورهم مهاجمته، غير أن الروم ألقوا في الخندق حسك الحديد عوضا عن مائه، وجعلوا هذا الحسك كثيفا عند مدخل أبوابه، فصد هذا العمل العرب عن التقدم لمهاجمة الحصن وأخذه عنوة وأبقاهم حوله شهورا عدة اقتصر الأمر في أثنائها على ترامي الفريقين بالمجانيق والسهام، ولم يكن في مقدور حماة الحصن غير هذا؛ ولذا ردهم العرب إلى الحصن كل مرة خرجوا فيها منه يحاولون لقاءهم، وكذلك تصرمت أشهر الشتاء والحصن يقاوم، فلو أنه جاء المدد من نقيوس أو من الإسكندرية، ولو أن هرقل بعث من لدنه بقائد من مهرة قواده على قوة من الجند للدفاع عنه، لتغير وجه الموقف، وللقي المسلمون في الاستيلاء على هذه المنطقة المنيعة مشقة كبيرة، لكن المرض فتك بأهل الحصن ولم يأتهم المدد، وكانت عيونهم تصعد كل يوم فوق أبراجه فلا ترى إلى أبعد حدود الأفق لهذا المدد أثرا، ثم إنهم كانت تبلغهم الأنباء كل يوم بأن العرب يشنون الغارات على ما حولهم من الأراضي، وأقبل شهر مارس من سنة 641 وجف ماء النيل أو كاد، وفي هذه الأثناء جاءت الأنباء بموت هرقل في النصف الأول من فبراير سنة 641
4
فاضطرب الروم لموته أي اضطراب، مع ذلك بقي الحصن يقاوم، وبقي الأمل يداعب نفوس حماته بمجيء المدد لإنقاذه.
وكانت نكبة هرقل في مصر من الأسباب التي عجلت منيته؛ فقد حم بعد لقائه المقوقس وأعجزه الاضطراب عن التفكير في إمداد بابليون أو تنظيم الدفاع عنها، ولم يفكر أحد غيره في هذا الأمر؛ لأن الدولة كانت كلها ترزح تحت عبء ثقيل من عار هزيمتها منذ استولى العرب على دمشق وعلى بيت المقدس، وطردوا الروم من الشام وساروا ينشرون الفزع في أرجاء مصر، على أن متانة أسوار الحصن وأبراجه طوعت للذين ظلوا على قيد الحياة من حماته أن يثبتوا للغزاة إلى آخر شهر مارس والأيام الأولى من شهر أبريل.
ولقد ضاق العرب ذرعا بالشهور السبعة التي انقضت منذ حاصروا الحصن، فهانت عليهم الحياة وهانت عليهم أنفسهم، وذكروا فعال خالد بن الوليد بدمشق، وسعد بن أبي وقاص بالمدائن، ونعيم بن مقرن بنهاوند، فلم يروا أن يكونوا دون هؤلاء الأبطال إقداما وجرأة، وكان الزبير بن العوام أشدهم حماسة وأكثرهم على الموت في سبيل الله إقبالا، فقام في الناس فقال: «إني أهب نفسي لله، وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين.» ثم أقبل بعد أيام تحت جنح الليل مع كتيبة آزرته فطمموا الخندق المحيط بالحصن في موضع اختاروه ووضعوا سلما على السور علاه الزبير بعد أن أمر أصحابه إذا سمعوا تكبيره أن يرقوا إليه وأن يجيبوه جميعا، واستوى الزبير بأعلى الحصن وانطلق يكبر وسيفه يلمع في يده، فتبعه أصحابه وصعدوا السلم وساروا إلى جانبه وكبروا معه؛ وأجاب المسلمون من خارج الحصن تكبيرهم، فلم يشك الروم أن العرب قد اقتحموا الحصن فهربوا، وعمد الزبير إلى باب الحصن ففتحه ودخل المسلمون واستولوا على ما فيه.
هذه رواية، وتذهب رواية أوردها بتلر عن الطبري إلى أن الزبير علا الحصن مع أصحابه، وأناموا من كان هناك من حرسه، وملكوا رأسه، وأرادوا الهبوط إليه، فألفوا حماته بنوا حائطا تعترض الممشى التي فوق السور من تلك الناحية فأقاموا حيث كانوا، فلما بكر الصبح عرض قائد الجند في الحصن على عمرو أن يسلمه إليه على أمان من فيه من الجند، واعترض الزبير على الصلح وقال لعمرو: لو صبرت قليلا لنزلت من السور إلى داخل الحصن، ولكان الأمر على ما نشتهي، ولم يقف عمرو عند قوله، بل كتب عهد الصلح مع قائد الحصن، على أن يخرج الجند منه في ثلاثة أيام فيركبوا النهر ومعهم قوتهم لبضعة أيام تاركين الحصن وما فيه من الذخائر وآلات الحرب للمسلمين، والطبري لا يورد مثل هذا التفصيل، على أن المؤرخين المسلمين جميعا يذكرون أن عمرا أجاب المقوقس إلى الصلح على الجزية بعد أن اقتحم المسلمون الحصن، فإذا صح أن المقوقس لم يكن بالحصن وكان قد نفي بعد ذهابه إلى هرقل، فلعل قائد الحامية هو الذي صالح عمرا على ما جاء في رواية بتلر.
خرج جند الروم من الحصن في اليوم السادس من شهر أبريل سنة 641 من ميلاد المسيح؛ لكنهم أبوا، في هذا اليوم الذي انسحبوا فيه يجلل هامهم الخزي والعار ، إلا أن يجعلوا منه للمصريين يوم نواح وحسرة؛ فقد سحبوا القبط الذين سجنوهم داخل الحصن في أثناء الحصار، وقطعوا أيديهم، ونكلوا بهم تنكيلا أثار الأسقف المصري حنا النقيوسى مؤرخ ذلك العهد، وحمله على أن يسبهم في ديوانه وأن يسميهم: «أعداء المسيح الذين دنسوا الدين برجس بدعهم، وفتنوا الناس عن إيمانهم فتنة شديدة لم يأت بمثلها عبدة الأوثان ولا الهمج، وعصوا المسيح وأذلوا أتباعه، فلم يكن في الناس من أتى بمثل سيئاتهم ولو كانوا من عبدة الأوثان.»
صفحه نامشخص