161

لم يبطر الظفر عمرا، ولم يغره بالسير إلى الإسكندرية ليفتحها قبل أن يفتض حصن بابليون على من فيه، فلو أنه فعل لاضطر إلى توزيع قواته ليذر جانبا منها على حصار الحصن وليسير بسائرها إلى الشمال على فرع النيل يقاتل حتى يبلغ العاصمة، وفي هذا التوزيع من الخطر ما لم يغب عنه؛ فقد كثرت القوات اللائذة بالحصن، وأصبح في مقدورها الذود عنه، لا سيما أنها كانت مهددة بالفناء إذا فتح العرب أبواب الحصن ودخلوه عليها عنوة، فلم يكن لها بد من أن تقاتل قتال المستميت، ولئن كانت روحها المعنوية قد تضعضعت، لقد كانت ترجو أن يفتق طول الحصار الحيلة لهرقل أو لقواد الروم بالإسكندرية فيمدوا الحصن وينقذوا من فيه، ولم تكن هذه القوات في ريب من أن الحصار سيطول؛ فقد تقدم الصيف وبدأ فيضان النيل وارتفاع مياهه، فلم يكن في مقدور المسلمين أن يجتازوه أو يهاجموا الحصن على متنه، ولم يكن لهم بد من انتظار هبوط الفيضان، فليصبر حماة الحصن وليصابروا؛ فكثيرا ما غيرت المفاجآت سير الحرب، والظفر في كل حرب لأطول الجند صبرا وأكثرهم احتمالا.

عزم عمرو على محاصرة الحصن، وعزم اللاجئون إليه على الدفاع عنه أو يبيدوا دونه، وقوى عزمهم على الاستماتة في الدفاع ما كانت عليه أسوار الحصن وأبراجه من منعة لا تنال، فهذا الأثر الذي لا تشهد أعيننا منه اليوم في مصر القديمة إلا أطلالا دوارس لأسواء متهدمة وبقايا محطمة لبرجين بينهما باب قديم قد كان حين الفتح العربي قلعة رومانية من أمنع القلاع وأقواها، كانت أسواره ترتفع نحو ستين قدما، وكان سمك هذه الأسوار ثماني عشرة قدما، وكانت صروحه تزيد على الأسوار ارتفاعا، وكان في كل صرح سلم صاعد إلى أعلى البناء يشرف الناظر منه على جبل المقطم من الشرق، وعلى الجيزة والأهرام وصحراء لوبيا من الغرب، ويرى منه مجرى النيل إلى مسافات بعيدة من الشمال ومن الجنوب، وكان النيل يبلغ باب الحصن الأكبر، فكانت السفن الرومانية ترسو عنده إلى جانب درج يهبط منه إليها، وكان هذا الباب الأكبر مصنوعا من الحديد أو مصفحا به فكان اقتحامه مستحيلا لمتانته ولحماية السفن له، هذا إلى أن جزيرة الروضة القائمة وسط النهر كانت بها حصون قوية تزيد حصن بابليون منعة وقوة، وكان في داخل الحصن آبار يستسقى منها حماته، كما كانت المزارع والحدائق الممتدة من حوله تمده بالميرة، وكان يحيط بالحصن خندق عليه قنطرة متحركة لا يستطيع فتحها أو تحريكها إلا من داخله، لهذا كله أمنت القوات المتحصنة به جانب العدو، واطمأنت إلى مقدرتها على الدفاع عنه حتى يأتيها المدد أو تحدث مفاجأة من مفاجآت الحرب ترد العرب على أعقابهم.

حاصر عمرو الحصن ومن فيه، وكان يعلم أن الحصار قد يطول بسبب ارتفاع النهر وتدفع تياره، ولمناعة الحصن وقوة أسواره، لكنه كان يعلم كذلك أن الفيضان لن يدوم إلا شهرا أو شهرين، فمناجزة القوم في أثنائهما كفيلة بأن تزيد روحهم ضعفا، ثم إن تدفع التيار بسبب الفيضان يجعل مجيء المدد على النيل من نقيوس أو من الإسكندرية إلى الحصن أمرا عسيرا، فإذا تعاقبت الأيام والأسابيع ويئس حماة الحصن من المدد ازدادت روحهم ضعفا فذهب ريحهم، فإذا ثبتوا مع ذلك حتى ينزل الفيضان أصبح اقتحام الحصن عليهم أمرا مستطاعا.

كان المقوقس بالحصن

3

منذ ابتدأ الحصار، وكان على إمرة جنود الحصن قائد رومي يسميه مؤرخو العرب «الأعيرج» ويحسب بتلر أن هذه التسمية تحريف منهم لاسم «جورج» وكان جند الحصن كلهم من الروم إلا قليلا من القبط لعلهم كانوا في خدمتهم، وكان الروم بالحصن يرمون العرب بالمجانيق، فيجيبهم العرب بالحجارة والسهام، ودام الحصار على ذلك شهرا والعرب لا تهن لهم عزيمة ولا ينفد لهم صبر، ورأى المقوقس وأصحابه أن النيل قد بدأ فيضانه ينزل، إذ كان شهر أكتوبر سنة 640 قد بدأ، فاجتمعوا في سر ممن معهم وتشاوروا في الأمر وبسط لهم المقوقس رأيه، وكان يرى أن المدد لن يأتي ليرفع عنهم الحصار قبل أشهر، وأن العرب سيضيقون عليهم الخناق في هذه الأثناء ويرهقونهم بألوان البأساء، وكيف لا يفعلون وقد قضوا من قبل على جيوشهم في الفرما وبلبيس وأم دنين والفيوم وعين شمس! وها هم أولاء يحاصرونهم بما لا قبل لهم به، أليس خيرا أن يفتدوا أنفسهم بالمال ليرحل هؤلاء العرب ولتعود مصر إلى ملك الروم؟! وما زال المقوقس يسوق الحجج في بيان ساحر حتى انضم الحاضرون جميعا إلى رأيه، لكنهم رأوا أن من الخير أن تجري المفاوضة مع العرب سرا حتى لا يقف أحد من المدافعين عن الحصن على شيء من أمرها، وأن يتولاها المقوقس بنفسه، وتسلل المقوقس وجماعة من أصحابه من الحصن بعد جنح الليل، وركبوا السفن إلى جزيرة الروضة فلما بلغها أرسل إلى عمرو بن العاص برسالة مع أسقف بابليون وجماعة معه يقول فيها:

إنكم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، ويقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم، فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء.

وانتظر المقوقس أن يعود إليه رسله في اليوم نفسه برد عمرو، فما كان هذا الرد ليزيد على قبول المفاوضة أو رفضها، فإن رفضت عاد كل إلى موقفه وعاد القتال كما كان، وإن قبلت اختار كل فريق مفاوضيه ابتغاء الوصول إلى صلح إن أمكن، لكن رسل المقوقس حبسوا عنه يومين كاملين، فخاف عليهم وقال لأصحابه: أترون القوم يحبسون الرسل أو يقتلونهم ويستحلون ذلك في دينهم! وإنما أراد عمرو بحبسهم أن يريهم حال المسلمين، ولقد عادوا بعد يومين يحمل رئيسهم رسالة عمرو إلى المقوقس يقول فيها:

إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإما أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.

دهش المقوقس لما سمع؛ فليس هذا جواب من يريد المفاوضة، بل هو جواب المنتصر يريد أن يفرض حكمه، أترى بلغ من هؤلاء القوم الغرور أو بلغت منهم الثقة بالنفس فليس إلى إغرائهم بالمال أو بغير المال سبيل! وسأل رسله كيف رأوهم؟ فأجابه رئيسهم: «رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما كان جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كأنه واحد منهم؛ ما يعرف رفيعهم من وضيعهم؛ ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد؛ يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم.»

صفحه نامشخص