تقع نهاوند وهمذان في صميم العراق العجمي، وهما لذلك من صلب المملكة الفارسية؛ فأهلهما من الفرس جنسا ولغة ودينا، لا يمتون إلى العراق العربي وأهله بنسب، ولا يعرفون من لغة العرب كلمة؛ لذلك كانت نكبة الفرس في نهاوند نكبة في صميم ملك كسرى، فلم يكن له ولا لبني وطنه بعدها إلا الإذعان والنزول على حكم المسلمين، أو الحرب الضروس تنتهي بهم إما إلى نصر يخرج العرب من بلادهم، أو هزيمة تزيل الأكاسرة عن عرشهم، وتقضي القضاء الأخير على دولتهم وسلطانهم!
وكان الأمر كذلك بخاصة؛ لأن العراق العجمي يتوسط ولايات المملكة كلها: تقع إلى شماله أذربيجان وطبرستان وجيلان، وإلى شرقه سمان وصحراء إيران، وإلى جنوبه فارس وكرمان، وإلى غربه وجنوبه الغربي يقع العراق العربي وتقع خوزستان، وبالعراق العجمي مدن كبيرة تعد في حكم العواصم، منها أصفهان وهمذان والري، فإذا توغل المسلمون فيه واستولوا على هذه المدن فتح ذلك أمامهم أبواب إيران كلها فانساحوا فيها، وهيهات لقوة بعد ذلك أن تقف في طريقهم!
ولكن! كيف ليزدجرد أن يقف تيار الغزاة الجارف؟ لقد رآهم منذ نصرهم بالقادسية يندفعون خلال العراق العربي إلى المدائن وجلولاء، ويقيمون البصرة والكوفة، ويحطمون مقاومة الهرمزان في خوزستان، ويواجهون قوات فارس مجتمعة بنهاوند فيقضون عليها أيما قضاء، ألا يدل ذلك على أن الأقدار حالفتهم ووقفت في صفهم فلن يستطيع أحد صدهم! ومحالفة الأقدار هي التي طوعت لهم غزو هرقل بالشام وطرده إلى بزنطية والاستيلاء على بيت المقدس مهد النصرانية ومستقر هيكل سليمان، أليس خيرا ليزدجرد أن يصالح غزاة ذلك شأنهم، فيدع لهم ما فتحوا ويكتفي بما بقي له من ملك أجداده؟! ولعل القدر الذي تجهم له اليوم يكون أبر به غدا! أم ترى تصده كبرياء الملك تأثل في فارس عشرات الأجيال والقرون عن أن يطلب الصلح مقهورا، وتدفعه حماسة الشباب إلى مغامرة جديدة؟! الحق أنه اضطرب بين الأمرين أشد الاضطراب، فمن ذا يكفل له إذا طلب الصلح ألا يرفض خليفة المسلمين مطلبه، فيكون الرفض مذلة له شر مذلة؟! ومن ذا يكفل له إذا دعا قومه إلى مغامرة جديدة أن يجيب مرازبة فارس وأمراؤها نداءه، فإذا لم يجيبوه أقام في ملكه كأنه مخلوع عن عرشه، لا يسمع له أمر، ولا ينضوي أحد إلى لوائه؟! لذا ترك الأمر للقدر يجري به كما يشاء، من غير أن يكون له في رحمة القدر كبير رجاء.
وأضعف رجاءه انصراف الأمراء والمرازبة كل إلى شأنه، لقد تعاهدوا على نصرته يوم تولى العرش وجلس بالمدائن في إيوان كسرى؛ لأن المملكة كان لها يومئذ جيش تعتز به، ويحمل الناس على طاعته، وقد انضووا إلى لوائه وبعثوا بالجيوش إلى نهاوند لمقاتلة عدوه يوم كان الرجاء في صد الغزاة لا يزال قويا في نفوسهم، أما وقد تضعضع جيش الدولة، وضعف الرجاء في جلاء الغزاة، فقد اضطربوا وانصرف أكثرهم يفكر كل أمير في إمارته وفي مصير ولايته: أيدافع المسلمين عنها، أم يصالحهم على أن يظل واليا باسمهم عليها، لم تبق صلة هؤلاء الأمراء بيزدجرد صلة ولاء ونظام، بل صلة مجاملة لمليك أوهن القدر سلطانه، فجعل يتنقل تنقل الشريد بين بلاد مملكته، فإن يكن القدر قد كتب في لوحه قرب خاتمته فلهم العذر أمام أنفسهم عما صنعوا، وإن تكن الأخرى فلهم إلى يزدجرد عودة، وهو لا ريب يقدر يومئذ حكم الضرورة عليهم.
أنت في حل من التثريب على هؤلاء الأمراء لهذا التفكير؛ فالدول لا تقوم ولا يرتفع شأنها بمثله، لكن هذا التفكير كان طبيعيا بحكم الأحداث التي أصابت فارس في العهد الأخير، وكان طبيعيا؛ لأنه كان وليد التاريخ الفارسي منذ أقدم الحقب، فقد استقر الفرس في الأرض التي أطلق عليها اسمهم قبل ميلاد المسيح بعدة قرون، وكانوا يوم استقروا بها شعبا شديد الحرص على بساطة العيش، صعب المراس، صلب القناة في الحرب، شديد الطموح إلى التوسع والفتح، وقد التقوا هم والميديون في العراق العجمي، ودارت بين الفريقين حرب طاحنة انتهت إلى صلح أذعن به أهل ميديا لسلطان الفرس وانخرطوا في سلكهم، واندفعوا وإياهم يقاتلون عدوهم، وتخطى الفرس بلاد إيران إلى ما بين النهرين، وساروا منها إلى مصر وإلى بلاد الإغريق، فكانت بينهم وبين مدن اليونان وقائع ردهم بها الإغريق عن أوروبا، وكانت فارس يومئذ ولايات استقر في كل ولاية منها أمير من أمرائها المحاربين، فنصب نفسه ملكا عليها، واستقل بإدارة شئونها، ثم اجتمعت هذه الولايات في اتحاد قام كسرى على رأسه، وتولى توجيه شئونه العامة، واتخذ «الملك الأعظم» لقبا له، وقاتل الفرس الدول المجاورة لهم في الشرق والغرب فانفسح سلطانهم، حتى دهمهم الإسكندر المقدوني، فغلبهم على أمرهم ومد سلطانه في أرجاء بلادهم، وكانت سياسة الإسكندر تدع شئون الحكم الداخلي لأهل البلاد؛ لذا بقي أمراء فارس ولهم ما كان لهم من سلطان مطلق في الولايات التي أقاموا أنفسهم ملوكا عليها، فزاد ذلك في استمساكهم بهذا الملك وحرصهم عليه، واستردت فارس استقلالها بعد الإسكندر، وقام بنو ساسان بأمرها فكانوا أكاسرتها، وكانت المدائن عاصمتها، وإن احتفظ أمراؤها ومرازبتها بسلطانهم في مختلف ولاياتها، وعاد بنو ساسان بفارس سيرتها الأولى تقاتل وتمد سلطانها، وتدفقت إليها الأموال من مختلف الأرجاء في البلاد المفتوحة تدفقا نزع بأهلها إلى الترف، فأخذوا من أسبابه بأعظم حظ وأوفر نصيب، واطمأن الفرس إلى هذا الترف عهودا طوالا تفننوا في أثنائها في أسبابه، فتحدر بهم شيئا فشيئا إلى الشهوات الدنيا، فأورثهم رخاوة أضعفت فيهم صفات البطولة والإقدام التي كانت لآبائهم وأجدادهم، ثم لم يستعيضوا عن هذه الصفات صدق العزم وقوة الجلد مما تبعثه الحضارة السليمة إلى نفوس الآخذين بها، فانكمش بذلك سلطانهم شيئا فشيئا، وقد حاولوا استعادة هذا السلطان في أوائل القرن السابع المسيحي، فحاربوا الروم وظفروا بهم واستولوا على بيت المقدس وعلى مصر ، وانهزم الروم أمامهم بسبب ما فشا فيهم من سوء الحكم وفساد النظام، فلما تولى هرقل أمر الروم رد الفرس على أعقابهم، واسترد الصليب الأعظم منهم، ولم يقف أثر الهزيمة بالفرس عند ارتدادهم إلى تخومهم، بل ضعفت نفوسهم، وفشت الفوضى في بلاطهم، وتزعزعت ثقتهم بأنفسهم، فلما فاجأهم العرب زادتهم هذه العوامل رخاوة، فلم يستطيعوا الثبات في وجه غزاتهم، فجعل كل منهم يتلمس النجاة لنفسه، وجعل أمراؤهم يلتمسون السلطان الزائف في كنف الفاتح يستمتعون به ولو إلى حين، تاركين كسرى رمز وحدتهم وعزتهم تجري الأقدار في أمره بما تشاء.
كان ذلك شأن عاهل الفرس وشأن كثيرين من المرازبة والأمراء في دولته، أما عمر فلم يلبث حين اطمأن إلى انتصار جنده بنهاوند ومصالحتهم أهل همذان أن ذكر قول الأحنف بن قيس: إن الفرس لن يزالوا يقاومون المسلمين ما دام يزدجرد بين أظهرهم، فلم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه، لا مفر إذن من تعقب الفرس في أرجاء ملكهم حتى يجلو عنه كسرى فيصير خالصا للمسلمين، فأي الخطط أنجع لبلوغ هذه الغاية؟
لم يكن لعمر أن يسير الألوية التي عقدها لتنساح في أرض فارس قبل أن يفتح العراق العجمي كله، فيحمي بذلك ظهره، ويأمن خط رجعته، ويسيطر على الطرق التي تسير خلالها الأمداد من العراق العربي ومن شبه الجزيرة لتعزيز جنده، ولكن! هل تسير القوات في هذا العراق العجمي من همذان إلى الري تفتحها، أم تنحدر من نهاوند إلى أصبهان لتخضع من هذه الولاية المترامية الأطراف أفسح أرضها رقعة، وأكثرها بخوزستان وبالعراق العربي اتصالا؟
فقد كان يزدجرد مقيما بالري حين دخل العرب نهاوند وهمذان، فلما رآهم اقتربوا من مقره خف إلى أصبهان يحرض أهلها على المقاومة، وبلغ ذلك عمر فأمر بالسير إلى أصبهان وكان رجاؤه أن يتولى يزدجرد الدفاع عنها فيقع أسيرا، فتتحطم بأسره مقاومة الفرس كلها؛ لذلك أمر عبد الله بن عبد الله بن عتبان فسار إليها فيمن كان معه من جند الكوفة ومن تبعه من جند النعمان بن مقرن بنهاوند .
وفي رواية أن عمر بن الخطاب شاور الهرمزان فقال له: ما ترى؟ أبدأ بفارس أم بأذربيجان أم بأصبهان؟ وأجابه الهرمزان: إن فارس وأذربيجان الجناحان وأصبهان الرأس، فإن قطعت أحد الجناحين قام الجناح الآخر، فإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بالرأس، واطمأن عمر إلى هذا الرأي فأمر بالسير لفتح أصبهان.
وأصبهان، أو أصفهان، مدينة عظيمة كانت عاصمة إقليم من أقاليم العراق العجمي يطلق عليه اسمها، وكانت تتألف من مدينتين متجاورتين: جي واليهودية، وهذه الأخيرة كانت مستعمرة يهودية الأصل، أنشأها يزدجرد الأول إجابة لرغبة زوجه اليهودية شوشن دخت، أما جي فهي القصبة، وهي من أصح المواضع تربة وأطيبها هواء وأعذبها ماء، ولذلك اختارها الملوك مسكنا لهم، وتقع أصبهان في نهاية المنطقة الجبلية من جهة الجنوب، وهي خصبة الأرض واسعة الرقعة، تصل الطرق المعبدة بينها وبين شتى أرجاء المملكة، فالطريق منها إلى الري يمر بقاشان ثم بقم.
صفحه نامشخص