9
على مثله تبكي البواكي!» ودخل هشام بن البختري في ناس من بني مخزوم على عمر بن الخطاب فقال: يا هشام أنشدني شعرك في خالد، فأنشده أجود شعره، فلما فرغ من الإنشاد قال عمر: «قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إنه كان ليحب الشرف وأهله، وإن كان الشامت به متعرضا لمقت الله.» وجرى ذكر خالد يوما فاسترجع عمر وقال: «كان والله سدادا لنحور العدو! ميمون النقيبة.» فقال له علي: «فلم عزلته؟» قال: «ندمت على ما كان مني!» ويروى أن عمر كان غائبا يحج حين مات خالد، وأنه كان قد عزم على توليته بعد أن يرجع من الحج، فلما رجع وجده قد مات، وطبيعي أن هذه الرواية إن صحت لا تستند إلى أكثر من قول نسب إلى عمر أو نقل عنه بعد وفاة خالد بن الوليد.
أفكان عمر صادق الحزن على خالد حين خرج عن مألوف رأيه فترك نسوة قريش يندبنه ثم أظهر الندم على عزله وقال فيه كل ما قاله؟ أم اقتضته مروءته أن يكون مجملا مع ابن خاله في مماته، ولم يكن مجملا معه في حياته، فترك النسوة يبكين لعل في البكاء ما يخفف لوعتهن، وقال ما قال يعزي به بني خالد وأهله؟ الله أعلم بالسرائر، ونحن بعد إزاء روايات مضطربة عن هذا الموقف من مواقف عمر، يتعذر علينا أن نقطع أيها الصحيح وأيها الموضوع.
وإن يصدق حزن عمر فلا عجب والموت يسمو بمن مات إلى مقام السيرة المبرأة عن الشماتة والحقد، فللأحياء منها المثل والعبرة، ولقد كان لعمر من قوة ثقته وشدة بأسه وعظيم إيمانه وعدله ، وبالغ رقته ورحمته، وما بينه وبين خالد من صلة الرحم، ما يدعوه للحزن عليه والأسى لمصاب أهله فيه، وكيف لا يحزن وعلى مثل خالد تبكي البواكي! بل كيف لا يحزن ولا يزال اسم خالد يدوي في الآفاق كما لا يزال اسم عمر يدوي فيها، وخالد أعظم بناة الإمبراطورية الإسلامية، وعمر أعظم من وطد ركنها ووجه سياستها!
هذه قصة خالد وعمر وقد وقف غير واحد من المؤرخين عندها، ونصبوا أنفسهم منصب الحكم بين الرجلين ليقولوا: أظلم عمر خالدا أم لم يظلمه حين عزله، وكثيرون يتعصبون لخالد ويقفون في صفه ويرون أن عمر لم ينصفه، فلو أن قصة الأشعث بن قيس صحت على أسوأ وجهيها وكان خالد قد أجازه من إصابة أصابها، لما كفت في رأيهم سببا لعزله، صحيح أن عمر كان شديدا في محاسبة عماله، وأنه كان يسألهم عما كسبوا من مال في ولاياتهم، ويقبض منهم ما لعلهم كسبوه بسببها، لكنه لم يعزل كل من وجه إليه هذه التهمة، بل لقد وجهها إلى عمرو بن العاص وهو على مصر غير مرة ثم لم يعزله، ولم يكن أحد من ولاة عمر وعماله كخالد بأسا وأيدا، ولم يكن لواحد منهم مثل عبقريته في القيادة وإقدامه في الحرب، فليس من الإنصاف أن يشتد عمر في مؤاخذته ما لم يشتد في مؤاخذتهم، أما الذين يتعصبون لعمر ويقفون في صفه، ويرون أنه لم يظلم خالدا حين عزله، فيذكرون أن جائزة الأشعث لم تكن وحدها سبب عزله، وإنما كانت بعض المظاهر لزهو خالد وخروجه على أمر الخليفة، فقد أمره ألا يتصرف في الفيء إلا بعد مراجعته فلم يفعل، وأن يحبسه على ضعفة المهاجرين فجعله لذوي الشرف واللسان؛ لذلك خشي عمر أن يفتتن خالد بالناس كما فتنوا به، فيكون الخطر على الدولة في بقائه، كما خشي أن يظن الناس أن خالدا أصبح ضرورة لا غنى عنها لانتصار جيوش المسلمين، فتصغر أقدر القادة دونه، وتعظم العقيدة فيه فتضعف العقيدة بالله، وذلك شر إن أصاب الدولة وتأصل فيها فسد أمرها ، ولا سبيل إلى استئصال هذا الشر إلا بعزل مصدره، ولو في غير جريرة، فإذا رأى الناس جيوش الدولة لا تزال من بعد مظفرة، قرت عقيدتهم بالله وثقتهم بقوادهم وساستهم، فكان للدولة ولدين الله بذلك كسب لا يقاس عزل رجل بجانبه، ولو كان هذا الرجل خالد بن الوليد.
لم ير كثيرون أن يقفوا من خالد وعمر موقف الحكم إكبارا لهما عن مقام القضاء، والاتهام، واقتناعا بأن ما انتهى إلينا من تفاصيل الحوادث وملابساتها فيه من القصور والاضطراب ما يردنا عن الحكم، وإن أسفوا مع ذلك على ما حدث أشد الأسف، فخالد وعمر رجلان قل نظيرهما في الرجال، فلو أنهما تضامنا إلى النهاية في بناء الإمبراطورية وسياستها، لأسرع الفتح أكثر مما أسرع، ولاتسعت رقعته أكثر مما اتسعت، ولدخل المسلمون القسطنطينية وخالد على رأسهم، ولأدالوا من دولة قيصر ما أدالوا من دولة كسرى، ولكان لذلك أثره الباقي في حياة الإسلامة وفي حياة العالم، ولرأينا من هذا الأثر غير ما نرى اليوم، ولسارت الحضارة غير سيرتها التي عرفنا.
وهذه فروض لا يدري أحد ما كان يصح منها لو لم يحدث ما حدث، وعندي أن عمر إنما عزل خالدا عن كل عمل للسبب الذي عزله من أجله عن إمارة الجند غداة خلافته، فالثقة بين الرجلين لم تكن قائمة في عهد أبي بكر ولا من قبله، وكان عمر يود لو أن أبا بكر عزل خالدا لحادث ابن نويرة أو لحادث غيره، فلما أبى الصديق أن يأخذ بظنة عمر فيه ولم يعزله، لم يكن لعمر يوم تولى أن يفصله عن الجند كله، فقد كانت جيوش المسلمين على اليرموك في إمرته، وكانت ضخامة اسمه وثقة الصديق به تحولان دون عزله؛ لذا اكتفى برد أبي عبيدة إلى مكانه من إمارة الجند، وأن يسير خالد تحت لوائه، فلما انتصر خالد في اليرموك وفتح دمشق ودوت فعاله في شبه الجزيرة كما دوت في العراق والشام، ثم كانت جيوش الروم لا تزال قوية بإزاء المسلمين، لم يكن لعمر إلا أن يحتمل ابن خاله وإن على مضض وأن يعجب بفعاله وإن بقي على سوء رأيه فيه، فلما فر هرقل إلى عاصمة ملكه ثم قمع المسلمون ما حدث من الانتقاض في شمال الشام، وحصنوا ما بينهم وبين الروم من تخوم، وأمن عمر عودة هرقل وجنوده، لم يبق لخالد إلا أن يكبح جماح زهوه؟ وأن ينزل على رأي الخليفة في الفيء وغير الفيء، كما ينزل كل عامل غيره، لكن خالدا ظل على اعتزازه بنفسه واعتداده بمقدرته، فاستأثر بما رأى أنه من الحق لنفسه أن يستأثر به حين توزيع العطاء من مغانمه، مخالفا بذلك أمير المؤمنين عن رأيه، خارجا فيه عن سياسته، وحرك ذلك في نفس عمر كل ما اجتمع فيها من سوء الرأي بخالد قبل حادث ابن نويرة وبعده، فكان الذي حدث من استدعاء خالد إلى حمص ليقف بين الناس موقف المتهم، ولتنزع قلنسوته ويعقل بعمامته؛ وليسأل كأنه خائن للأمانة، وليعزل بعد ذلك فيبقى بعيدا عن ميادين فخره ومجده حتى يموت على فراشه كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء!
رحم الله خالدا ورحم عمر! لقد كانا قوتين من أضخم قوى القدر، اتسعت لهما شبه الجزيرة ما كانتا كمينتين، فلما تفتحتا وانتشرتا ضاق بانتشارهما ملك الفرس والروم مجتمعين؛ فاصطدمتا فلم يكن بد من أن تنكمش إحداهما حتى تبلغ الأخرى مدى انتشارها، وقد رضي خالد أن يكون القوة التي تنكمش، لكي لا يؤدي الصدام إلى تحطيم القوتين جميعا، ومن توفيق الله أن حانت ساعة انكماشه بعد أن اطمأن المسلمون بالشام إلى سلطان أقروه، وعدل أقاموه، وسياسة أحكموها.
أفقر المسلمون بالشام على نحو ما قروا بالعراق، فاستأثروا فيه بمدن أقاموها كما أقاموا البصرة والكوفة، ثم انتشروا في سائر أرجائه؟ كلا! بل أقاموا بدمشق وحمص وغيرهما من المدن الكبيرة فيه، وشجعوا القبائل التي أسلمت وكانت مقيمة بالحاضر المتصل بهذه المدن على الإقامة معهم بها، ثم لم ينتشروا فيما وراءها، وقد يبدو هذا عجيبا؛ ففي الشام الحدائق الغناء، والأودية الممرعة الخصب تكسوها المزارع إلى مدى الأفق، والجبال الباسقة تجلل هاماتها الثلوج ناصعة البياض، والأشجار المثمرة من أعناب وتين وزيتون، والمياه المتدفقة منحدرة من السفوح المرتفعة إلى المنبسطات السهلة الواسعة، فكيف لم يجذبهم كل ذلك إليه ما جذبتهم أرض العراق! السر في ذلك أن بالعراق من أرض البادية ومن أشجار النخيل ما استهوى نفوسا ألفت النخيل وألفت البادية، والناس أكثر ميلا لما ألفوا واطمئنانا إليه، ثم إن أهل العراق كانوا أسرع إلى الإسلام؛ فكان ذلك أدعى لتوثيق الأواصر بينهم وبين أهل شبه الجزيرة، أما نصارى الشام فاستمسك أكثرهم بادئ الأمر بدينهم، ورأوا أداء الجزية أيسر عليهم من تركه، فظل اختلاف الدين حجابا بينهم وبين العرب الفاتحين، على أن سياسة الحكم في القطرين لم تختلف، بل كانت قائمة فيهما على حماية أهل الذمة والتسوية بينهم وإن اختلفت مذاهبهم وأجناسهم، وأن يكون المسلمون جميعا سواء فيما فرضه عليهم الدين الجديد، يؤدون لله حقه، ويهبون له حياتهم راضين مطمئنين.
أدى استقرار المسلمين بالشام والعراق إلى وحدة الجنس العربي، أفما آن لعمر أن يضم هذه الإمبراطورية الناشئة في وحدة تزيدها قوة؟ كان ذلك أكبر رجائه، بل كان ذلك عزمه الصادق، لكن للأقدار حكما لا يستقر أمامه عزم، وقد أرادت الأقدار أن تزداد الإمبراطورية سعة، وأن تزداد رقعتها انفساحا، وسنرى من بعد ما ينطوي عليه حكم الأقدار في ذلك من موعظة بالغة.
صفحه نامشخص