وعندما نتأمل الحب الجنسي نجد أنه غريزة ذاهلة، ولكن الحب البشري عقل ووجدان؛ ولذلك نحن نزداد وننمو بالحب البشري الذي ترتقي به شخصيتنا؛ لأن هذا الحب يستنبط منا أحسن الخصال في الحنان والرقة والظرف والكياسة، بل أحيانا في التضحية. وهذا الحب هو الذي يجعل الإنسان إنسانيا، وما ندعو إليه من إخاء بشري، أو ما نقدره من خصال في صديق، أو ما نتعلق به من آمال نرضى بأن نضحي لتحقيقها، إنما كل هذا يعود إلى الحب البشري الذي كسبناه من عواطف الأمومة والبنوة.
قلنا: إن الحب البشري عقل ووجدان، ولذلك نحن نزداد فهما بالحب؛ لأن الحب ينبه الذهن ويوقظه، وهو هنا نقيض الحب الجنسي الذي ننساق فيه بالغريزة؛ ولذلك أيضا كثيرا ما نجد أن بذور العبقرية، أو على الأقل النبوغ، تعود إلى الحب؛ لأن الصبي الذي يحب الطبيعة ويجمع الأحياء أو الزهور أو الأصداف والمحار، هذا الصبي يحدوه حب بشري قد استحال إلى حب للطبيعة، ينبه ذكاءه، ويبسط آفاقه، ويكبر شخصيته. وهو بهذا الحب أقرب ما يكون إلى النبوغ أو العبقرية؛ لأنه - بالحب - يرى أكثر، ويفهم أكثر، كما ترى الأم في ابنها وتفهم أكثر مما يرى غيرها فيه؛ للحب الذي تحس به نحوه.
والحياة الفنية تطالبنا بأن نجعل الحب شعارنا؛ لأنه، أي الحب، يملؤنا تفاؤلا فنبتعد عن الخوف والقلق والشك، ونستكثر من الأصدقاء، أو على الأقل نلتزم أصدقاءنا، ونخدمهم في سرور. وإذا جعلنا أساس علاقتنا بالناس والدنيا حبا فإننا لا نسأم الحياة، بل نجد كل ما فيها يدعو إلى العطف والفهم.
ولكن الحب مثل الشجاعة يحتاج إلى تدريب. وصحيح أننا نكسب شيئا من الحب العائلي؛ أي من علاقتنا بالأم والإخوة والأب، ولكن هذا الذي نكسبه عفوا في طفولتنا وصبانا يحتاج إلى الرعاية والتنمية. ونستطيع أن نتعود الحب بالصداقة والتعاون والضيافة والخدمة، حتى ولو كانت طفولتنا قد أهملت، أو كانت الفرص فيها قليلة لتنمية الحب.
والرجل الذي تنبعث فيه عاطفة الحب نحو المجتمع أو البشر هو أقرب الناس إلى السعادة، وهو أبعد الناس عن الشقاء النيوروزي. وكلمة السعادة من الكلمات التي يجب ألا نخلطها بإحساس السرور، ولكن الحب يبعث السعادة الحقة الدائمة أكثر مما يبعثها السرور الزائف الزائل.
ومن هنا تأكيد الأديان جميعها للحب؛ إذ لا يمكن أن يتأسس دين على غير الحب؛ لأن الدين ينشد السعادة، والحب بجميع مركباته الذهنية والعاطفية هو أعظم الأسس للسعادة. وعبارة «المركبات الذهنية والعاطفية» تحمل معنى توضيحيا للحب؛ ذلك أن الحب يحتاج إلى تربية كما يحتاج إلى مرانة، ويجب لذلك أن يكون مثقفا من ناحية بالتربية، وعمليا من ناحية أخرى بالمرانة.
فنحن نعرف أن الرجل المثقف الذي يتجه الوجهة العالمية، ويدرك المغزى للتطورات البيولوجية والتاريخية، ويدأب طوال عمره في درس الشئون البشرية، مثل هذا الرجل المثقف يحب؛ لأنه يعرف أكثر من غيره، وقلبه سمح؛ لأن قلبه أعرف؛ فاتساع المعرفة سبيل إلى اتساع الحب؛ ولهذا السبب أيضا يعد الأدب في صميمه والفلسفة في صميمها دعوة إلى الحب البشري والخير العام.
ولكننا نحتاج كي نجعل الحب مزاجنا النفسي واتجاهنا الأخلاقي، إلى المرانة؛ أي يجب أن نؤدي عملا ما يحمل معنى الحب، وكل منا يستضيء هنا بمعارفه السابقة؛ لأنه على قدر هذه المعارف يكون الضوء المنير الذي يعين الهدف والسلوك. وقد يقنع أحدنا بالإحسان لمعاونة الفقراء، أو الانضواء إلى جمعية لمنع القسوة على الحيوان، أو معاونة الصبيان المشردين، أو نحو ذلك، ولكن هناك من يعرف أكثر لأن ثقافته أوسع وأعمق، وهو لذلك أنفذ بصيرة في الأسباب التي تجر البؤس والمرض والرجعية والجهل. وقد يجد - لهذا السبب - أن الدعوة الاشتراكية والكفاح لنشرها خير الأعمال التي يجب أن يقوم بها؛ لأنها جماع الإصلاحات التي ينشدها غيره متقطعة مجزأة. وقد يجد عملا آخر، ولكن المهم أننا نحب بممارسة الحب، وأن هذه الممارسة تزيد حبنا للبشر كما تزيدنا فهما وسعادة، ولو شاء أحدنا أن يصف الدين الذي يؤمن به دون أن يعين اسمه بأنه دين الحب، لقال أحسن ما يقال وأسمى ما يقال عن الدين.
من التبلور إلى التجوهر
عندما يأخذ الكيماوي في تحليلاته لإحدى المواد التي يقصد إلى عزلها يكون منتهى ما ينشد من نجاح أن يبلورها؛ أي يخرجها نقية خالصة من الأخلاط التي كانت تشوبها وهي خامة. وهذا التبلور هو محاولة للوصول إلى الجوهر؛ أي هو تجوهر.
صفحه نامشخص