المقدمة
فن الحياة
نحن غريزة وعقل
كيف نسوس عواطفنا
التربية
القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية
الاستغناء أم الاقتناء
نعيش لنحسب أم نعيش لنحيا؟
العمل والفراغ
العائلة والمجتمع
صفحه نامشخص
الرجل والمرأة والزواج
كيف نصادق زوجاتنا
مجتمعنا الانفصالي الحاضر
الحياة الفنية للمرأة
العادات
التخلص من العادة السيئة
عادة القراءة
البيت متحف
البيت للضيافة
البيت معهد حر
صفحه نامشخص
يجب أن نعيش في حاضرنا
النمو والتطور
الاتصال بالطبيعة
الاتجاه والرؤيا
الحياة مغامرة
الحياة المليئة
الهواية
الخلوة
قيمة الحب للحياة الفنية
من التبلور إلى التجوهر
صفحه نامشخص
لنكن أدباء وشعراء
السعادة
تعقيب على السعادة
المقدمة
فن الحياة
نحن غريزة وعقل
كيف نسوس عواطفنا
التربية
القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية
الاستغناء أم الاقتناء
صفحه نامشخص
نعيش لنحسب أم نعيش لنحيا؟
العمل والفراغ
العائلة والمجتمع
الرجل والمرأة والزواج
كيف نصادق زوجاتنا
مجتمعنا الانفصالي الحاضر
الحياة الفنية للمرأة
العادات
التخلص من العادة السيئة
عادة القراءة
صفحه نامشخص
البيت متحف
البيت للضيافة
البيت معهد حر
يجب أن نعيش في حاضرنا
النمو والتطور
الاتصال بالطبيعة
الاتجاه والرؤيا
الحياة مغامرة
الحياة المليئة
الهواية
صفحه نامشخص
الخلوة
قيمة الحب للحياة الفنية
من التبلور إلى التجوهر
لنكن أدباء وشعراء
السعادة
تعقيب على السعادة
فن الحياة
فن الحياة
تأليف
سلامة موسى
صفحه نامشخص
المقدمة
كتبت هذا الكتاب في ضوء اختباراتي للوسط المصري، وقد عالجت موضوعه من جملة وجهات فلسفية وسيكلوجية واجتماعية.
ونحن نعيش في حضارتنا القائمة عيشا مكيفا بعادات المجتمع، موجها إلى أهدافه، مدربا على أساليبه؛ ولذلك ننساق انسياقا كأننا ذاهلون، لا نقف ونسائل عن القيم البشرية في هذه العادات والأهداف والأساليب.
وليس شك أن غاية الحياة أن نحيا الحياة على مستواها السامي، ومعنى هذا الكلام هو أن نعيش بما لدينا من كفاءات بشرية تسمو على كفاءات الحيوان؛ أي يجب أن نعيش بالوجدان والتعقل، وليس بالغريزة والعاطفة. وفن الحياة هو في النهاية الارتفاع بكفاءاتنا الموروثة إلى ما كسبناه واقتنيناه من التراث الاجتماعي الثقافي.
ولكن هذا التراث الاجتماعي الثقافي يجب ألا يسوقنا وألا يضلنا عن القيم الأصلية في الحياة. وقد التفت في الفصول التالية إلى ثلاثة أو أربعة أشياء لكل منها مكانة مركزية في البحث عن فن الحياة.
التفت - أولا - إلى أن النجاح يجب أن يكون كليا في الحياة، وليس في الحرفة أو الزواج أو الكسب؛ فإن كلمة النجاح في مجتمعنا الاقتنائي كثيرا ما يشتبه معناها بمعنى الإثراء، ولكن الناجح الصادق هو الذي يجعل نجاحه شاملا متوافيا لنشاط حياته كلها.
والتفت - ثانيا - إلى أن المجتمع الذي نعيش فيه كثيرا ما يضلل بنا، ويبعدنا عن القيم البشرية، بل هو أحيانا يسخرنا في أهدافه التي قد تناقض ما ننشد من رقي أو سعادة؛ فهو منا بمثابة المدينة التي تكتنفنا بمساكنها وأضوائها الصناعية، وضوضائها واهتماماتها الزائفة، فنعيش فيها ونكاد ننسى أنه على مسافة ثلاثة أميال منا ينهض الريف في طبيعته النضرة، وأشجاره ومياهه وحيوانه. وقد نألف عادات هذا المجتمع فلا نجد النشاط إلى تغييرها، ولا ننهض إلى الخروج إلى هذا الريف القريب، وكذلك الشأن في تلك القيم الاجتماعية وأثرها في نفوسنا حين نعيش في أسر هذه القيم الزائفة مدى حياتنا.
وقد احتجت إلى أن أوضح أن السعادة، كما ينشدها الجمهور، إنما هي في أغلب الأحيان ذهول وتبلد، أو استرسال في العواطف الحيوانية التي تحركها غرائزنا السفلى، وإن هذه السعادة ليست جديرة بإنسان راق يرتفع إلى أن يجعل من حياته فنا. وعندي أن الوجدان - أي التعقل - هو صميم السعادة، وأنه مهما فدحت الكوارث فإن الوجدان يواجهها في شجاعة وتحد وفهم.
كذلك التفت إلى قيمة الثقافة من حيث إنها تكفل لنا توسعا ذهنيا ينتهي إلى أن يكون توسعا حيويا؛ لأنها - أي الثقافة - تزيد اهتماماتنا، وتعودنا عادات إيجابية عندما نصل إلى الشيخوخة. وعلى القارئ أن يقرأ كتابي الآخر «كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين»؛ فإني هناك أكدت النبرة في هذا المعنى؛ أي القيمة من الدراسة والثقافة للشيخوخة السعيدة.
وكان يمكن أن أسمي هذا الكتاب «الحياة السعيدة» لولا أن كلمة السعادة قد ابتذلت في معان سفلية، كما أن هناك التباسات واشتباهات كثيرة عن حقيقة معناها. وقد احتجت إلى التنبيه عن ذلك، ولكن في عبارة «فن الحياة» ما يرفع القارئ عن مبتذلات كلمة «السعادة».
صفحه نامشخص
وأرجو أن يكون في الفصول التالية توجيه لقرائها من الشباب والكهول.
سلامة موسى
فن الحياة
يعيش الحيوان على المستوى البيولوجي يأكل ويشرب ويتناسل، ولكنا نحن البشر نعيش على المستوى المدني الفني الثقافي، وقد لا يصدق هذا على جميع البشر، أو بتعبير أصح: قد لا يصدق هذا القول من حيث الدرجة التي يبلغها البشر في المدنية والفنون والثقافة، ثم هو لا يصدق على جميع الطبقات حتى في الأمة المتمدنة؛ فإننا ما زلنا نجد الطبقات الفقيرة في مصر والهند تعيش على المستوى البيولوجي، بل الحال كذلك أيضا في الطبقات الفقيرة في أمم أوروبا الجنوبية؛ حيث يقنع أفرادها بالحياة السلبية؛ أي باتقاء الموت والجوع والمرض والفاقة. وهؤلاء جميعا لا يلتذون الحياة وإنما يكابدونها.
ولكن جميع الأمم المتمدنة تحتوي طبقات من الشعب تعيش الحياة الإيجابية؛ إذ هي قد اطمأنت من ناحيتي الجوع والمرض، بل هي قد استبعدت الموت إلى ما بعد السبعين أو الثمانين من العمر، وهي تجد في كفاية العيش ما يتيح لها الاستمتاع الروحي والمادي. وهذه الطبقات تمثل في عصرنا طلائع البشرية القادمة؛ حيث يعيش جميع الأفراد - جميعهم بلا تمييز - على المستوى الفني الكمالي؛ لأن الضروريات تتوافر إلى الحد الذي لا يحسب لها حساب، ولا تكون سببا للهموم والاهتمامات. وليس هذا العصر بعيدا، بل هو أقرب إلينا مما نتخيل.
والإنسان في كفاحه الاجتماعي ينشد الضروريات أولا، حتى إذا توافرت طلب الكماليات، ثم تعود هذه الكماليات ضروريات الأجيال القادمة؛ فهي ترف أولا يقتصر على أفراد معدودين، ثم رفاهية ثانيا تشمل طبقة كبيرة، وأخيرا ضرورة لجميع أفراد الشعب المتمدن المثقف.
انظر إلى الطعام ينشد فيه الإنسان البدائي الشبع، لا يرجو غير الضرورة البيولوجية، وانظر إلى المسكن الذي كان يبنيه للاحتماء من الوحش أو العدو أو الجو، وانظر إلى اللباس الذي كان يتخذه للدفء! أجل، لقد كان الطعام والمسكن واللباس من الضروريات، ولكن من منا نحن المتمدنين يقنع من هذه الثلاثة بالضروريات البيولوجية في عصرنا؟!
صحيح أن للفاقة ضغطها المرهق بين الطبقات التي لا تزال في أسفل الدرج من السلم الاجتماعي، وصحيح أن هذه الطبقات لا تزال تقنع بالضروريات البيولوجية من المسكن واللباس والطعام، ولكن في كل أمة طبقات أخرى استمتعت بقسط كبير من المال والثقافة والحضارة، وهي لذلك تتوخى الفن في كل ما تتناول من عمل؛ فالمسكن ليس مأوى فقط؛ إذ هو متحف أيضا يتزين بالأثاث الفاخر والصور الجميلة والطرف الأنيقة، وسيداتنا وآنساتنا لا يطلبن من اللباس دفئا قدر ما يطلبن منه زينة وجمالا، والمائدة التي تحمل ألوان الطعام تتفنن في ترتيبها وإيجاد الأطباق الثمينة والآنية الغالية عليها. وهذا إلى ترتيب الزهور ونحو ذلك حتى ليعد تناول الطعام منها نشاطا ذهنيا فنيا.
فهنا فنون في البناء والأثاث واللباس والمائدة، نرتاح إليها، ولا نرضى بأن نعيش بدونها تلك المعيشة الفطرية التي كان يقنع بها الإنسان البدائي، وما زال يضطر إلى أن يقنع بها أو بما يقاربها الفقير المغبون. وقيمة الفن أنه يرفع مألوفنا إلى مستوى من الجمال نزداد به لذة واستمتاعا، بل نزداد به فهما ووجدانا.
وبالفن نرفع المشي إلى الرقص، ونرفع النثر إلى الشعر، ونجعل من الكلام بلاغة، وكذلك نستطيع أن نعيش الحياة الفنية؛ فنهدف إلى الفن في الحياة، والبلاغة في السلوك والتصرف.
صفحه نامشخص
ويجب أن يكون فن الحياة أخطر من فنون الحضارة؛ لأنه إذا كان من الحسن أن نتخذ الزي الفني للباسنا؛ فإن من الأحسن أن نتخذ الزي الفني لحياتنا وتصرفنا وسلوكنا.
والمشكلة الأولى لكل إنسان على هذا الكوكب أنه سيعيش سبعين أو ثمانين سنة، فكيف يقضيها؟! هل يعيش تلك الحياة التي يصفها شكسبير بأنها «قصة يقصها أبله، فتحفل بالضوضاء والغضب ثم لا يكون لها مغزى؟» أو يعيش تلك الحياة البقلية يولد وينمو ويموت وكأنه بعض البقول؛ لأن قصارى ما كان يطلب طعام وكساء ومأوى؟!
قد يخطر بذهن القارئ عندما نذكر الحياة الفنية أو الحياة البليغة أننا إنما نقصد إلى زخارف وبهارج، ولكن الفن الخالص والبلاغة الحقيقية يعنيان في لبابهما حكمة وسدادا؛ لأن كلمات الحكمة هي أسمى أنواع البلاغة والفن. ولكن ما هي الحكمة؟
هي العمل أحيانا بالمعرفة.
وهي أحيانا تجاهل المعرفة.
وهي التمييز في القيم والأوزان.
والإنسان يختلف عن الحيوان من حيث أنه وجداني يتعقل، في حين أن الحيوان غريزي يندفع، ونحن نهدف إلى قصد في حياتنا في حين هو يعيش جزافا، ونحن نقرر مصيرنا بأيدينا في حين هو ينساق خاضعا للقدر. وقد يخالف قولنا هذا ذلك المنطق الآلي الذي يرتب النتائج على الأسباب، ولكنه يطابق المنطق العملي الذي نحيا به في مجتمعنا المتمدن.
وحياتنا في عصرنا هذا تضطرب وترتبك، بل أحيانا تلتغز، وقد كان لآبائنا أعلام قديمة يسترشدون بها في طريق الحياة الساذجة التي كانوا يحيونها، ولكن هذه الأعلام لم تعد تكفي لإرشادنا في طريق الحياة الجديدة؛ ولذلك نحن في حاجة إلى تعاليم جديدة نتعلم بها كيف نعيش الحياة الفنية؛ أي الحياة الحكيمة، وكيف نقضي سبعين أو ثمانين سنة على هذا الكوكب ونحن ننمو وننضج إلى الإيناع؛ فلا تكون حياتنا مكابدة، بل التذاذا روحيا وماديا.
ونحن في مجتمعنا إنما نحصل من التعليم - في الأغلب - على أسلوب الارتزاق الناجح، وليس على أسلوب الحياة الناجعة؛ لأننا ننسى أن الحياة أعم وأهم من الكسب، وأننا نكسب كي نعيش، ولا نعيش كي نكسب كما هو الحال الآن.
وإنما صارت الحال كذلك؛ لأن شبح الفاقة يلوح على الدوام في مخيلتنا؛ ولذلك صار التعليم من أجل الارتزاق يغمر كل شيء آخر؛ لأننا نعيش في اقتصاديات القلة في حين أن اقتصاديات الوفرة على الأبواب تنتظرنا، بل تنادينا، ولا تحتاج إلا أن نومئ بأصبع الرضى فيغمرنا الخير الوفير الذي لا نعرف فيه معنى الفاقة أو الحاجة. وعندئذ؛ أي عندما نومئ هذه الإيماءة، ونرضى بالتعاون بدلا من المباراة في الإنتاج، نستطيع جميعنا أن نعيش العيشة الفنية، ونحيا الحياة الحكيمة، وأن نتوخى مأربا فنيا في كل ما نتناول من معارف أو معايش.
صفحه نامشخص
وهنا يثب علينا المتشائم: لكأنك ترى الدنيا مشرقة في ألوان الورد، وقد غمرت السعادة جميع البشر بما سوف يدبرون من تعاليم أو أنظمة، ولكن أين هذا التفاؤل من حقائق الدنيا؟ من الأمراض والرزايا؟ من الرجل يفقد نور عينيه ويرى الدنيا ظلاما؟ من الأم تفقد طفلها، وتضم لحمه الطري ووجهه الحلو في تراب القبر؟ من الشاب يسمع حكم الإعدام من طبيبه الذي ينبئه بمرض لا يعالج؟!
ولكن هذا التشاؤم قد بولغ فيه؛ لأن الكوارث نفسها من فن الحياة وحكمتها، وذلك الإنسان الذي لم تكرثه كارثة تصل إلى مخ عظامه، ذلك الذي لم يحس اللوعة يغص بألمها، ويجمد من هولها، ذلك الإنسان لم يعش الحياة الفنية، ولم يعرف حكمتها، وأقل ما يقال عنه أنه لم يعش الحياة الكاملة. ومع ذلك نحن نبالغ؛ فإن كلا منا يعرف أن أعظم المصائب التي كان قد توقعها لم تقع له، وأن بعض هذه المصائب كان مفيدا قد انتفع به. انظر إلى قول داروين: «لو لم أكن متمرضا إلى حد عظيم لما أتممت كل هذه القدر الكبير من الأعمال»!
وكثيرا ما نعيش سادرين ذاهلين حتى إذا كرثتنا الكارثة تنبهنا، كأننا قد استيقظنا من نوم، فينبلج لنا نور، وتنكشف لنا حقائق ما كنا لنراها لولا هذه الكارثة. وأيام المرض في السرير كثيرا ما تكون أيام التنبيه والتجديد.
ونحن في حاجة دائمة إلى استعمال ذكائنا؛ كي نميز بين لذة العاطفة ولذة الوجدان، وبين السرور الزائل والسعادة الباقية، وبين الامتياز الذاتي في النفس وبين الامتياز المادي في العقار؛ أي بين ما نكونه وما نملكه.
والحياة الفنية هى الحياة الجميلة، ومع جميع التعاريف للفن والجمال لا نزال عاجزين عن تعريفهما الصحيح، ولكن من منا لا يعرف الفن والجمال؟!
إن هناك أشياء نعرفها بالإحساس النفسي، وأشياء أخرى نعرفها بالاختبارات الذهنية، وليست الأولى دون الثانية وإن تكن في مرتبة أخرى. وإذا كنا ننشد الفن والجمال في الأثاث والبناء والرسم؛ فإننا يجب أيضا - بل بأكثر عناية وهمة - أن ننشد الجمال في الحياة، في الشخصية الرشيقة، والذهن اللبق، والجسم الأنيق، كما في الأخلاق السامية، والأهداف الروحية، والعلاقات الاجتماعية.
نحن غريزة وعقل
كي نعيش العيشة الفنية، ونحيا حياة الحكمة والتعقل يجب أن نعرف أن كلا منا مركب من غريزة وعقل؛ الغريزة هي قديمنا الموروث، هي التقاليد البيولوجية، هي ذاكرة النوع الجامدة، والعقل هو جديدنا الذي يتعلم وينمو ويميزنا بالفهم عن الحيوان.
ذلك أن الحيوان يعيش بالغرائز، أو أن 99 في المائة من حياته كذلك، وفهمه للدنيا ذاتي على مستوى منخفض ليس له وجدان موضوعي، ولكن الإنسان بعقله ووجدانه يستطيع أن يجعل فهمه موضوعيا، وأن يصل إلى حقائق الدنيا كما هي في حقيقتها أو ما يقرب من ذلك. وعلومنا وآدابنا وثقافتنا وحضارتنا إنما هي ثمرات العقل وليست ثمرات الغرائز.
الحيوان في ذهول بغرائزه؛ يحيا وكأنه في حلم، والإنسان بالمقارنة به في تنبه ويقظة بعقله ووجدانه، هذا الوجدان الذي يجعله يتصرف وهو يدري أنه يتصرف، ولكن الحيوان لا يدري.
صفحه نامشخص
وهذا الوجدان هو الذي يجعلنا على دراية بالموت والفقر والكوارث حتى قبل وقوعها، ونحن بالطبع نشقى بكل ذلك؛ ولكن هذا الشقاء «إنساني»، ولا نرتضي النزول عنه كي نعيش بالغرائز، نعيش في ذهول كما يفعل الحيوان، وعندما نربي أنفسنا أو أبناءنا إنما نعمد إلى هذا الوجدان، ونستنبط التعقل ومحاولة التعرف إلى الأشياء كما هي في حقيقتها، وليس كما تصورها لنا غرائزنا.
وواضح أنه ليس هناك إنسان يعيش بوجدانه فقط يتعقل كل شيء، ويتفهم الدنيا تفهما موضوعيا؛ لأن كثيرا من تصرفنا يعود إلى الغرائز التي نندفع بها أحيانا اندفاع الحيوان، أو نسلط عليها الوجدان بالتعقل، فنعين لهذا الاندفاع سرعته وطريقته.
ومهما حقر الإنسان وهان وانحط؛ فإنه يستطيع، عندما يتأمل عقله، أن يقول: ما أعظمني! أي ما أعظم عقلي الذي يتجرد من غرائزي، ويبحث النجوم والأخلاق والشرف والسياسة ومستقبل البشر، وفلسفة الكون، وتطور الأحياء.
ومهما عظم الإنسان وسما ونضج؛ فإنه يستطيع، عندما يتأمل غرائزه، أن يقول: ما أحقرني! أي ما أحقر هذه الغرائز التي اندفع بها إلى الطمع والحسد والعدوان والاقتناء والانغماس والنهم والشر!
ولأن الإنسان عرف الخسة التي تنحدر إليها غرائزه، وأحس مضض النفس وصداع القلب في المواقف التي اصطدم فيها عقله بغرائزه؛ لأنه عرف هذه المواقف، عمد في كثير من الأحيان إلى جحد هذه الغرائز بالزهد والنسك، ومن هنا نشأت الرهبنة في بعض الأديان إنكارا للغريزة الجنسية ولبعض الغرائز الأخرى؛ كالاقتناء والتسلط والحسد والانغماس ... إلخ، كأن الغاية أن نعيش بالوجدان والعقل.
ولكن هذا الانحياز نحو التعقل وإنكار الغرائز لا يطيقه إلا الأقلون، بل يجوز لنا أن نشك حتى في هؤلاء «الأقلين»، وهل أطاقوا نسكهم؟ وهل استطاعوا إنكار غرائزهم أم بقيت هذه الغرائز كامنة مختبئة في أغوار نفوسهم تتحين الفرص، لا للثورة على العقل فقط، بل أيضا للتسلل ملتوية منحرفة عن طريقها، حتى حملتهم على أن يسلكوا السلوك الشاذ، ويتصرفوا التصرف السيئ؟!
ونحن نعرف من السيكلوجية أن الغريزة وقت التهابها، عندما نسميها عاطفة، تفور بنا كالماء المغلي، وتطلب المنفس والمخرج، فإذا لم تجدهما اندست وبقيت بقوتها تبحث عن المخارج الضعيفة، حتى إذا وجدتها انفجرت، فلا يكون منها غير الأذى الفادح لشخصيتنا. وأولئك الذين حبسوا الغريزة الجنسية - مثلا - لم ينجحوا قط في إلغائها ومحوها، وقصارى ما وصلوا إليه عربدة جنسية مختلفة الألوان والأسماء، أو هم قد خدعوا أنفسهم من حيث لا يدرون، فاتجه نشاطهم الجنسي إلى ألوان قاتمة من السلوك والتصرف تؤذي المجتمع، وتفتت شخصياتهم.
ولا يطالبنا فن الحياة بكظم العواطف، وقمع الغرائز؛ لأننا لا نستطيع أن ننكر طبيعتنا؛ إذ إننا غرائز وعقل، فيجب أن نصالح بينهما؛ أي أن نهذب غرائزنا، ونجعلها ملائمة لقواعد المجتمع الذي نعيش فيه دون قمع أو جحد.
وفي أغلب الأحوال ينتهي معنى التهذيب للغرائز إلى الاعتدال؛ فلا نسرف في الانقياد للعاطفة الجنسية، ولا نغلو في الطموح والغيرة والحسد والتسلط. وكلمة «غريزة» من الكلمات الغامضة؛ لأننا نجهل أصلها، هل هو طبيعي أم اجتماعي؟ ولكنا عندما نتأمل نشاطنا الاجتماعي كله، ذلك النشاط الذي ينظمه العقل، وإن كان مرجعه غريزيا، نجد أنه يعود إلى ما يشبه أن يكون غريزة واحدة هي شهوة الأمن والطمأنينة.
وهذه الشهوة أصيلة في الطبيعة البشرية، وهي التي تدفعنا إلى جمع المال واقتناء العقارات والمنقولات، والانغماس في الكسب، كما أنها هي الأصل في الغيرة والحسد والطموح والطمع. ونحن نمارس كل هذه الأشياء مدفوعين بالخوف؛ أي الرغبة في الطمأنينة، ثم ننساق في عادات هذا النشاط التي تتملكنا فلا نعرف أين نقف؛ كتلك البهيمة التي نشدها إلى الساقية فتدور وتجرها مكرهة، حتى إذا جئنا كي نحل رباطها ونطلقها رفضت واستمرت في دورتها بقوة الاندفاع الأول.
صفحه نامشخص
فهناك - مثلا - من ينساق لغريزة الخوف ويطلب الطمأنينة بجمع المال. وهذا حسن إذا عرف أين يقف، ومتى يقنع بمقدار من المال يحقق هذه الطمأنينة، ولكن بعيد جدا أن يعرف هذا؛ لأنه حتى بعد أن يحقق هذه الطمأنينة، ويجمع من المال ما يكفيه هو وعائلته ينساق في عادة الجمع، فلا يكون المال خادمه، بل سيده الذي يستبد به، ويحمله على الجهد أكثر من عماله الذين يخدمونه، حتى ليصل إلى مكتبه أو متجره قبل دخولهم، ويخرج بعد خروجهم.
هذا هو شأن كثير من الناس الذين يشقون لأنهم ينساقون مندفعين بغرائزهم دون أن يسلطوا عقولهم عليها؛ فيعتدلون وينظمون نشاطهم كي يعيشوا الحياة الفنية المتناسقة. ومن شأن الغرائز أنها تسرف وتغلو؛ لأن الطبيعة تحرص على بقاء النوع، وقد جهزتنا بهذه الغرائز قبل أن تجهزنا بالعقل؛ وذلك كي تكفل لنا البقاء والتغلب في ميدان التنازع بين أنواع الحيوان وأفراده للبقاء.
اعتبر - مثلا - غريزة التناسل؛ فإن رجلا واحدا - واحدا فقط - يحمل في جسمه من الجراثيم المنوية ما يكفي لتلقيح أناث النوع البشري كله! ونجد مثل هذا الإسراف في سائر الغرائز؛ فإن غريزة الحيوان تحملنا على الرغبة في التسلط بامتلاك هذا الكوكب إذا قدرنا، وقد حاول ذلك الإسكندر وتيمورلنك ونابليون وهتلر. وحين نشرع في الاقتناء نتوهم أننا يجب أن نجمع ما يكفينا ألف سنة!
وقيمة العقل أنه يتسلط على غرائزنا، ويحملنا على الاعتدال، ولكن بلا زهد أو نسك؛ أي بلا إنكار للغرائز. وقد يكون لقليل من الزهد قيمة في التذاذ العيش؛ أي في التأنق في الاختيار بالامتناع عن قبول كل ما يرد؛ كالعطش يجعل الشراب أسوغ، ولكن الاستمرار عليه جنون قاتل.
وتقتضينا الحياة الفنية أن نعيش بالعقل والغريزة معا في مصالحة ووفاق بين الاثنين، ولكن في تحيز نحو العقل؛ لأن العقل إنساني والغريزة حيوانية، ولأن الفرق بين الإنسان الإنساني والإنسان الحيواني هو أن الأول يعتمد في الأكثر على وجدانه وعقله، في حين يعتمد الثاني في الأكثر على غرائزه.
كيف نسوس عواطفنا
العواطف قوات موطرية أو انفجارية، وهي في حال الأولى تكسبنا الطاقة التي ننبعث بها إلى النشاط الذهني أو الجسمي، ولولا هذه القوة الموطرية لما تحركنا إلى الطموح أو الدراسة أو الكسب، وهي لذلك جهاز نافع أيام الصحة، ولكنها تستحيل إلى قوة انفجارية معربدة أيام المرض؛ نتطوح بها إلى الجنون أو الشذوذ أو الإجرام.
والعواطف في مجموعها اجتماعية؛ أي إننا نكسبها من المجتمع وليس من الطبيعة. وصحيح أن هناك عواطف نرثها وراثة طبيعية؛ كالعاطفة الجنسية أو عاطفة الجوع إلى الطعام، ولكن حتى هذه العاطفة «الطبيعية» تتخذ لونا اجتماعيا.
والمجتمع الذي نعيش فيه، بما له من طرق في كسب العيش وأساليب الإنتاج، يعين العواطف الشخصية لكل شخص منا؛ فإذا كنا نعيش في نظام اقتصادي يقوم على المباراة، فإن صفات الأنانية والغيرة والرغبة في التفوق والاقتناء والطموح تصير عواطف شخصية تحفزنا إلى العمل والكسب، وأحيانا تستحيل هذه الصفات إلى عواطف سيئة؛ كالحسد والتسلط والخوف.
وتحدث لنا عواطف أخرى إذا كنا نعيش في مجتمع تعاوني ليس فيه سيد ومسود، وغني وفقير، وكانز ومحروم، كما هي الحال في المجتمعات الاشتراكية.
صفحه نامشخص
ولأننا نعيش في مجتمع قائم على المباراة، فإن جميع الرذائل التي تستتبعها المباراة تتخذ شكلا عاطفيا في نفوسنا؛ ولذلك نشقى كثيرا بالأنانية والحسد والرغبة في التفوق والاقتناء والطموح، ذلك أن الوسط الاقتصادي محدود الفرص؛ فقد يجد غيري فرصة لا أجدها أنا، فأبتئس لتخلفي، وأغار من تقدمه، وأحسده على ذلك. وكل هذه العواطف تؤذيني، أو هي تبعثني على الإفراط في الجهد حتى أموت قبل الأوان؛ بزيادة الضغط للشرايين، أو بعجز القلب، أو بالاختلال في التمثيل السكري، أو قد أبقى مريضا بهذه الأمراض وغيرها وأشقى بها، وهذا إلى هموم لا تنقطع تغشى نفسي بالغم والكآبة، وقد تحملني على الانتحار.
ولذلك نحتاج، كي نعيش الحياة الفنية في هناء، أن نسوس عواطفنا حتى تبقى موطرية تدفعنا إلى السير متئدين، ولا تكون انفجارية تثور بنا وتبددنا. وأول ذلك أن نعرف بوجدان يقظ وتعقل متزن أننا نعيش في مجتمع قائم على المباراة، وأنه يحملنا على اتجاهات مؤذية، فيجب أن نجعل القناعة الاقتصادية مصباح الهداية الذي نستضيء به؛ فلا نتطوح في مطامع لا نقوى على تحقيقها، فنكون لها عبيدا نجري ونهرول طوال حياتنا كأننا مسخرون في جمع المال واقتناء العقار.
وليس هنا مقام التحليل لعواطفنا المختلفة حتى نثبت للقارئ أنها كلها تعود إلى مجتمعنا؛ فإن غيرة المرأة من حماتها أو العكس، وكذلك مناكدة الرئيس لمرءوسيه، ثم الاهتمام المريض للمستقبل، والتضحية بالحاضر للمستقبل، ثم الخوف من الفقر، والخوف على الأولاد من الأخطار. كل هذه العواطف تعود إلى نظام نفسي ينهض على أساس المجتمع الاقتصادي الذي نعيش فيه.
وقصارى ما نستطيع أن نبسطه في هذا الفصل هو نصائح موجزة نبغي بها علاج المجتمع الاقتنائي الذي نعيش فيه؛ أي علاج الفرد مما تجلبه عليه العواطف التي غرسها فيه المجتمع. أما العلاج الحاسم فهو تغيير المجتمع من المباراة إلى التعاون، ومن الاقتناء الفردي إلى الاقتناء العام.
من شأن العواطف أنها لا تؤذينا إذا كانت الكارثة كبيرة فادحة، ولكنها مع فداحتها مفردة؛ أي وقعت مرة واحدة ثم انتهت، فنحن نتحمل الإفلاس التام، أو موت الابن أو الأم، أو كارثة الغرق أو الحريق أو الطلاق، ولكننا لا نتحمل الزوجة التي تناكدنا كل صباح على الطعام أو القهوة، ولا تتحمل الزوجة معاكسة حماتها، ولا يتحمل الطالب توبيخ أبويه كل يوم لفشله في الامتحان؛ أي إذا تكررت المناكدة أو المعاكسة كل يوم، ولو كانت لأسباب تافهة، أدت إلى الانهيار العصبي الخطير؛ لأن العبرة بالتكرار.
لهذا السبب يجب ألا تعيش الزوجة مع حماتها أبدا، وإذا كانت هناك ظروف تضطرهما إلى الاشتراك في العيش، فليكن هذا على وجدان منهما؛ أي يجب على كل منهما أن تعرف أنها في حالة شاذة، وأن تحتاط من الوقوع في المناكدة أو المعاكسة.
يجب على الأب، إذا فشل ابنه أو بنته في الامتحان، ألا يعمد إلى تقريعه كل يوم؛ لأن هذا التقريع قد يؤدي إلى انهيار عصبي خطير؛ وخاصة إذا كان بين 17-25.
الاهتمامات الكثيرة المتنوعة تخفف من ضغط العاطفة وتحول دون اجترارها.
إذا ثقلت العاطفة فإن النشاط الجسمي يخفف من ثقلها؛ حتى المشي والجري يخففان من ثقلها.
من الواجب أن ننبه الرؤساء في المصانع والمكاتب إلى أن يكفوا عن معاكسة مرءوسيهم؛ حتى لا يكون أحدهم كالحماة التي تبعث بزوجة ابنها إلى المارستان؛ لأنها لا تفتأ توبخها وتبخسها.
صفحه نامشخص
يجب أن نقلل من مظاهر الحزن؛ مثل احتفال الأربعين للمتوفى، أو التفجع في الجرائد على المتوفين؛ لأن هذه المظاهر تحيي الحزن القديم عند الغير.
وهذا أحسن ما نستطيع أن نقول في مجتمع المباراة الذي نعيش فيه، وهو مجتمع سيئ في أساسه.
التربية
لا تقل طفولتنا البيولوجية عن 17 سنة، ولا تقل طفولتنا الاجتماعية عن 30 سنة، ومعنى هذا أن مدة التربية عندنا طويلة؛ وذلك أننا لا نولد بأجهزة من الغرائز التامة التي نعمل بها بلا تعليم، كما تفعل صغار السمك التي تسبح عندما تخرج من بيضها، ولا بأجهزة ناقصة كما تفعل صغار الطيور التي تحتاج إلى شيء من التعليم كي تطير وتجرؤ على اقتحام الجو.
ذلك أننا نحن البشر قد استغنينا عن الكثير من غرائزنا، أو قد وضعناها في الصفوف الخلفية من كياننا النفسي، وأقمنا العقل وصيا عليها يديرها ويوجهها؛ حتى إننا لا نأكل ولا نتناسل في استسلام كامل للغرائز؛ إذ إننا نسلط العقل هنا أيضا، ونجعل له التصرف الأعلى. وصحيح أننا لا نستطيع أن نخمد هذه الغرائز، ولكننا نستطيع التصرف بها وتوجيهها.
وتسلط العقل يجعل التربية ضرورية لكل فرد منا؛ وخاصة إذا كنا نعيش في مجتمع راق؛ أي أرقى وأكثر تركبا من المجتمع الزراعي أو البدوي. وتتجه التربية في عصرنا إلى إيجاد عادات ومهارات نكسب بهما العيش، وليس من شك في قيمة التربية؛ وخاصة في مجتمع لا يزال يعيش على اقتصاديات القلة وليس على اقتصاديات الوفرة التي يلتمع فجرها الآن في الأمم المتقدمة في الإنتاج الآلي، ولكن التربية يجب أن تكون للحياة قبل أن تكون للكسب.
وكذلك يجب ألا ترمي التربية إلى تعليمنا المعارف والثقافة فحسب، وإنما يجب أن توجهنا الوجهة التي نتعلم بها وحدنا. وكي نوضح قصدنا نطلب إلى القارئ أن يقارن بين أرسطوطاليس وبين تلميذ في السنة الثالثة أو الرابعة من مدارسنا الثانوية؛ فليس من شك أن التلميذ يفضل هذا الفيلسوف في كثير من معارفه الكيماوية والبيولوجية والطبيعية والجغرافية، ولكن أرسطوطاليس يمتاز باتجاه معين نحو البشر والكون والمعارف. وهذا الاتجاه يحتاج تلميذنا إلى خمسين أو ستين سنة حتى يصل إليه، بل قد لا يصل إليه لأنه لا يجد من يرشده.
ليست التربية السديدة أن أعرف، وإنما هي أن أعرف كيف أعرف؛ أي كيف أعلم نفسي، وأزيد معارفي، وأكون طالبا مدى حياتي. وليست التربية أني أعرف كيف أكسب العيش، بل هي أن أعرف كيف أعيش سبعين أو ثمانين سنة على هذا الكوكب في نمو لشخصيتي وترقية لذهني. ويجب ألا يكون هدف التربية - كما هو الآن - النجاح الحرفي للكسب؛ إذ يجب أن تهدف إلى النجاح في الحياة؛ لأن الحياة أكبر من الحرفة، والنجاح فيها يقتضي النجاح في الصحة والثقافة والعلاقات الاجتماعية والعائلية، والارتقاء الفني والذهني ... إلخ.
يجب أن تهدف التربية إلى أن تحمل كلا منا على الاهتمام بالأثاث الأنيق والرسم الفني كما نهتم للكسب في مجتمع اقتنائي يعيش أفراده بالمباراة، ويجب أن تحرك استطلاعنا إلى درس الطاقة الذرية أو زراعة القطن كما تحركه إلى تقدير ألوان الجمال في الطبيعة: القمر في الريف، والشمس في البزوغ، والبحر والقفر والجبل والسهل؛ لأن هذا الكوكب كوكبنا، ويجب أن نستمتع بما فيه من روعة الطبيعة ومجدها.
والحياة الفنية تحتاج قبل كل شيء إلى درس الفنون، وإلى ترقية الإحساس الفني، بحيث نسلك ونتصرف ولنا في كل ذلك مأرب فني، حتى إذا سرنا في حديقة استمتعنا بالزهور وهي على شجرتها في إشراقها وإيناعها دون أن يبعثنا روح الاقتناء على بترها وقطفها.
صفحه نامشخص
ويجب أن نتعود قراءة الجريدة والمجلة والكتاب كما نتعود القهوة والشاي، ويجب أن نزداد رغبة في امتلاك هذا الكوكب نفسيا وذهنيا وفنيا كلما ازداد هو تقلصا بالمخترعات الجديدة؛ حتى تتسع آفاقنا حسا وذهنان فلا تضيق بحدود القطر أو القارة، بل تشمل شئون العالم كله والبشر جميعهم.
ثم يجب ألا يغيب عنا أن التربية البشرية تخاطب الذهن، أي تزيد الوجدان؛ حتى نعيش في يقظة، ونطلب زيادة هذه اليقظة بتعلم المعارف والفنون، ولا نعيش ذاهلين ذهول الحيوان الذي تسوقه غرائزه. والفرق كبير بين الذهن اليقظ والذهن الذاهل، وهو يعود في الأغلب إلى عادة القراءة. وكذلك الفرق بين شيح هرم قد خرف أو تبلد ذهنه، وبين شيخ لا يزال له حدة وفتوة ويقظة وذكاء، يعود إلى أن الأول لم يتعود القراءة، وأن الثاني قد تعودها. والقراءة تجعل الكلمات مألوفة في الذاكرة سهلة الاستحضار، ولما كانت المعاني مجسمة في كلمات؛ فإن من البعيد جدا أن نجد رجلا يهرم ويتبلد ذهنه ما دامت الكلمات حاضرة معدة لتنبيهه.
ومن هنا القيمة العظمى لصحة الشيخوخة من تعود القراءة؛ لأن الذهن يمرن على الفهم بالقراءة كما يمرن الجسم على الحركة بالرياضة، وتبقى هذه المرانة إلى الشيخوخة.
كذلك يجب أن تكون تربيتنا موسوعية؛ أي يجب أن نلم بجميع المعارف البشرية، وقد أحدثت لنا القنبلة الذرية وجدانا بهذا الإحساس. وصحيح أنه يجب أن تكون لنا بؤرة؛ أي نقطة للتعمق والتخصص في المعارف، ولكن يجب أن نتشعع من هذه البؤرة العميقة إلى التوسع في الآفاق الذهنية الرحبة، كما يجب أن يكون كل منا سقراطيا؛ أي يعرف أنه لا يعرف فيدرس العلوم والفنون والآداب والفلسفات، ويبقى على هذا حتى يموت «وعلى صدره كتاب»، كما قيل عن الجاحظ.
وفي المستقبل القريب، بل القريب جدا، ستتغير التربية من التعليم للحرفة إلى التعليم للحياة، وعندئذ نتجه نحو استخدام فراغنا الذي سيزيد عاما بعد آخر، وكثير منا - حتى في عصرنا هذا - يستمتعون بفراغ يبلغ أربع أو خمس ساعات كل يوم، وعندئذ ستكون مشكلة التربية: كيف يتصرف الشاب أو الفتاة بهذا الفراغ؟ وكيف ينتفع به ويستمتع؟
وهذا السؤال يعود بنا إلى النغمة التي نفتأ نعزف بها، وهي أننا يجب أن نعلم الناس كيف يعيشون الحياة المليئة، وكيف يتعمقون في حياتهم ولا يقنعون منها بالعيش على سطحها أو هامشها، نعلمهم أن غاية التربية أن يحيوا وليس أن يحترفوا، ونحرك فيهم العقل الاستطلاعي اليقظ الذي يشتهي المعارف، ويعرف أيضا أين يبحث عنها ويجدها، ونعلمهم أن هدف الحياة أجل؛ هو الحياة في تعمق وتأنق، وليس هو الحرفة أو المال أو التفوق.
وأخيرا نقول: إن التربية الحقيقية هي التربية الذاتية؛ فلا ييئس أحد لأنه لم يمتز بتعليم جامعي، أو لأن ظروف حياته الماضية لم تهيئ له الفرص للدراسة؛ لأنه يستطيع أن يشرع في أي وقت، وأن يضع البرنامج الدراسي الذي تحتاج إليه تربيته، وهو أقدر إنسان على وضع هذا البرنامج؛ إذ هو الوحيد الذي يعرف حاجاته وكفاءاته.
القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية
نحن نعيش في المجتمع المتمدن بدستور أخلاقي نأخذه كله أو 99 في المائة من العائلة التي نشأنا فيها، والشارع الذي مارسنا فيه اختبارات الطفولة، ومن زملاء المدرسة والحرفة، ومن غير هؤلاء ممن تحملنا حياتنا الحرفية أو الاجتماعية أو السياسية على الاحتكاك بهم. ونحن نزن الرذائل والفضائل بميزان هذا المجتمع، ونأخذ بالقيم التي يعينها لنا.
وكثيرا ما نأخذ بقيم وأوزان فاسدة؛ لأن المجتمع الذي نعيش فيه فاسد، وكثيرا ما يخفى علينا هذا الفساد فنندفع في التيار لا نقف ولا نتردد، ولكن أحيانا نقف ونتردد، وعندئذ يكون التقلقل والبحث والتجديد، ثم تكون قيم وأوزان جديدة.
صفحه نامشخص
والقيم والأوزان إما أن تكون اجتماعية، وإما أن تكون بشرية، وإذا كان المجتمع راقيا كانت كل أو معظم أوزانه بشرية. ومثال الأوزان البشرية: استنكار القتل والفقر والمرض والجهل، وصيانة الصحة، ومكافحة المرض، وتنوير الذهن بالمعارف، وتوزيع الثروة؛ بحيث لا يكون فقر مؤذ ولا ثراء مبطر. ومثال الأوزان والقيم الاجتماعية: التزين، واقتناء القصور والضياع، والتفاخر بالولائم وأبهة العرس أو المأتم ونحو ذلك.
وكي نزيد الإيضاح نفرض أن صديقا عائلا مات وترك زوجته وجملة أولاد؛ فالرجل الذي تغلب عليه الأوزان والقيم الاجتماعية سيحضر المأتم، ويسير خلف الجنازة، ويحضر الصلاة، ويعزي أسرة المتوفى، ثم يعد نفسه قد أنجز جميع واجباته، وربما قد يبالغ في هذه الواجبات فينعيه في الجرائد. ولكن الرجل الذي تغلب عليه الأوزان والقيم البشرية قد يهمل كل هذه الواجبات، ثم يبحث عن حال الأرملة وأولادها، فإذا وجد أنهم في حاجة إلى المال تبرع من جيبه وجمع من غيره ما يقيتها، ثم هو يرعى الأولاد بالنصيحة، ويهيئ لهم وسائل التعليم، ويرعى العائلة تلك الرعاية الاقتصادية التي فقدتها بموت العائل.
ومن هنا نعرف أن الضمير الحسن هو الضمير البشري، وليس هو الضمير الاجتماعي.
ومن هذا المثال الذي ذكرناه نستطيع أن نتوسع فنقول: إن للصحة قيمة بشرية مطلقة، ولكن للمال - بعد أن يتجاوز حدا ما - قيمة اجتماعية فقط، والشاب الذي ينشد في الفتاة جمالها إنما ينشد قيمة بشرية، ولكنه عندما ينشد ثراءها إنما ينشد قيمة اجتماعية. ومن هنا أيضا نقول: إن للزواج قيمة بشرية، ولكن أبهة العرس وجهاز العروس ونحو ذلك تعد من القيم الاجتماعية.
وكثيرا ما تستهلك القيم والأوزان الاجتماعية مجهودنا وصحتنا، كما تحول بيننا وبين القيم البشرية؛ كأن نندفع في جمع المال فنفقد صحتنا قبل الخمسين أو الستين؛ لأن المجهود في هذا الجمع كان أكبر مما نتحمل، وفي الوقت نفسه حال هذا الجمع دون العناية بترقية شخصيتنا وتنوير ذهننا، وهما من القيم البشرية. وكثير من الناس يغمرهم المجتمع بقيمة وأوزانه فلا يرتفعون فوقها؛ ولذلك تجد أن كل اهتمامهم ينحصر في شراء أتومبيل من الطراز الجديد، أو يغمرهم الهم والنكد لأنهم فقدوا صفقة تجارية، مع أن زيادة ألف جنيه أو نقصها في حساب البنك لن يضيرهم!
ومن هنا، ذلك الرجل المحموم بالنجاح ينفق كل مصادره الحيوية في التفوق في حرفته، ثم يفشل في عائلته أو مجتمعه، ولا يدري أن النجاح يجب أن يكون كليا يشمل العائلة والمجتمع والحرفة والفراغ. وكثير من الأمراض النفسية الفاشية في أيامنا تعزى إلى الاندفاع في هذه القيم الاجتماعية دون التفكير في القيم البشرية، وذلك «الرجل الأجوف» الذي تحدث عنه الشاعر إليوت إنما هو رجل قد غمره المجتمع بقيمه وأوزانه، فنسي كلمة الإمبراطور ماركوس أوريليوس حين قال: إن أعظم ما يشتاق إليه ويتمناه في هذه الدنيا كسرة من الخبز مع قطعة من الجبن يأكلها تحت ظل شجرة.
والمحك الذي يفصل بين القيمتين والوزنين أن نسأل عندما نسأل عن شخص ما: ما هو؟
فإننا هنا نسأل عن قيمته البشرية: هل هو جميل، سليم، مثقف، صادق، أمين، سعيد؟
وحين نسأل عن قيمته الاجتماعية نقول: ما عنده؟
فنجيب بأن عنده منزلا به أثاث فاخر، أو عنده ضيعة وأتومبيل وعشرة آلاف جنيه في البنك، ولقب بك ... إلخ.
صفحه نامشخص
والحياة الفنية تقتضينا التمييز بين القيم، وأن نجعل للقيمة البشرية المكانة الأولى في جميع اعتباراتنا؛ سواء في أنفسنا أم في غيرنا، والرجل الطيب هو في النهاية الرجل البشري وليس الرجل الاجتماعي؛ أي الرجل الذي يتعمق ويصل إلى الجذور.
وعندما نتأمل الأنبياء، بل كذلك الفلاسفة والأدباء، نجد أن كل اهتمامهم كان منصرفا إلى تغيير المجتمع بوضع القيم البشرية مكان القيم الاجتماعية.
الاستغناء أم الاقتناء
نحن نعيش في مجتمع «اقتنائي» ننشأ فيه منذ الطفولة على أن هذا لي وهذا لك، وعلى أن أحدنا يسر بأن يكون له أكثر مما للآخر، ثم نشب بعد ذلك فنزداد رغبة في الاقتناء، واندفاعا نحو الامتلاك؛ لأن العادة قد أصبحت عاطفة ومزاجا، ونعيش طوال حياتنا ونحن في تعب؛ لأننا لم نقتن كما اقتنى فلان الذي كنا نعرفه أقل ثروة منا، ونعيش بين جيراننا في مباراة؛ نرقبهم حين تخرج إحدى بناتهم في ثوب زاه، أو حين نقرأ في الصحف عن الترقيات والعلاوات فنمتلئ حسدا؛ لأن هذا الشخص الذي كنا على الدوام نتفوق عليه، أو على الأقل نساويه، قد ارتفع وارتقت أحواله دوننا.
ونحن ننشد الاقتناء والامتلاك لا لأننا في حاجة إلى زيادة، ولكن لأن المجتمع «الاقتنائي» الذي نعيش فيه قد غرس فينا هذه العواطف، فأكسبنا هموما شخصية تنزع بنا إلى الجهد، وتحمل المتاعب؛ كي نتفوق في الجمع، ونستمر في الزيادة، ونبقى على ذلك طوال حياتنا، حتى إننا نرى ناسا قد تقدمت بهم السن وأثقلتهم الشيخوخة ومع ذلك يتعبون ويقلقون بشأن مقتنياتهم وعقاراتهم؛ فهم في هموم دائمة وحسابات لا تنقطع، حتى ليتساءل الإنسان وهم في هذه الحال: هل هم يملكون هذه العقارات أم أن هذه العقارات هي التي تملكهم؟!
وأعظم ما يعود من الضرر على هؤلاء أن هذه الهموم الشخصية تحول دون الاهتمامات العامة، حتى ليقول لك أحدهم: إنه لا يملك الوقت كي يقرأ الجريدة لأنه مشغول بأعماله التي لا تترك له فراغا.
وقد أصبحت أعباؤنا الخاصة ثقيلة حتى إننا جعلنا الفرار منها سنة؛ فنحن نصطاف لا لأننا نرغب في تغيير الجو من الحر إلى البرودة، بل لأننا نحب أن نفر من هذه الأعباء؛ فالتغيير هنا سيكلوجي وليس مناخيا. وعندما نتأمل المصطافين في رأس البر أو الإسكندرية نجد أنهم ينطلقون من القيود، ويحاولون أن يتصلوا بالطبيعة في بساطة من التكاليف والأعباء، تشهد على أنهم كانوا متعبين بما كانوا يقتنون من ملابس غالية مرهقة في المدن.
والحق أننا عندما نتأمل معيشتنا في وسط متمدن، وما يجلبه علينا هذا الوسط من تكاليف، وما يطالبنا به من مطامع، نجد أننا جميعا في حال سيئة من القلق النفسي، مسوقين بأوهام الاقتناء كما لو كنا مسخرين. وهذه الأوهام هي في نهايتها مصطلحات ليست لها قيمة بشرية، وهي لا تزيدنا إلا أعباء وهموما؛ إذ نستطيع أن نستغني عنها، فقد استغنى شبابنا مدة الحرب الأخيرة - مثلا - عن الطربوش، ولم يجدوا سوى الراحة والصحة عندما تخلصوا من هذا التكليف، وسبق أن استغنت الفتيات أيضا - قبل الحرب - عن الجوارب، ولم يشعرن إلا بالراحة والزيادة في الصحة بهذا الاستغناء. أجل، ازداد الجميع صحة لأن الاستغناء عن الطربوش والجوارب قد زاد في تعرض الأعضاء لأشعة الشمس، ولأثرها الصحي في تنبيه الجسم.
وأعود فأقول: إن معظم ما نبذل من مجهودات عظيمة، بل أحيانا مجهودات مضنية مميتة في الاندفاع نحو الاقتناء، إنما هو مصطلحات اجتماعية لا أكثر؛ أي ليس لها في نفوسنا حاجة طبيعية؛ فحاجاتنا الطبيعية قليلة جدا. وقد قنع غاندي - مثلا - بأن يعيش بنحو ثلاثة جنيهات أو أربعة في العام كله؛ فهو يكتفي من اللباس بقطعة من القماش غير مخيطة يتلفع بها، بينا يحتاج أصغرنا إلى عشر قطع كي تغطي بها جسمه كأنها ضمادات مجروح، أو كأنها خرق ملونة لمهرج على مسرح!
وإذا كنا نحن نستبعد أو نستغرب معيشة غاندي، فليس ذلك لأن غاندي مخطئ، بل لأننا نعيش في أسر مصطلحات اجتماعية قد تغلغلت في نفوسنا حتى أضحت عقائد وعواطف.
صفحه نامشخص
والرجل الحكيم هو الذي يعرف كيف يستغني دون أن تنقص حاجاته الضرورية، ومن هنا قيمة الدعوة إلى الحياة البسيطة؛ أي إلى بساطة العيش. وهذه الدعوة هي نداء قديم يتردد صداه عبر التاريخ منذ آلاف السنين. وكلنا نذكر «ديوجينيس» الإغريقي الذي لقيه الإسكندر المقدوني وسأله عما يستطيع أن يؤديه له من مساعدة، فأجاب بأن كل ما يطلبه إنما هو أن يتنحى عنه حتى لا يمنع أشعة الشمس عن جسمه!
ونحن نقرأ هذه النادرة كأنها نكتة، ولكن لماذا؟ أليس أمامنا البرهان على أن ديوجينيس كان على حق، وكان سعيدا ببرميله الذي كان ينام فيه، في حين كان الإسكندر شقيا بما جلب إلى نفسه من هموم وأعباء؟! ألم يعمد الإسكندر إلى الانتحار وهو في الثلاثين؟!
كان الإسكندر يندفع بروح الاقتناء إلى الفتح والحرب، وكان ديوجينيس يندفع بروح الاستغناء إلى العيش في برميل. وكلاهما مسرف، ولكن إسراف ديوجينيس أقرب إلى الحكمة من إسراف الإسكندر.
وغاندي في عصرنا يجري على مذهب الفيلسوف الإغريقي، ويجحد مذهب الفاتح المقدوني، وهو حكيم في هذا السلوك.
وقد كان جان جاك روسو أول من بصر بعبء التكاليف المرهقة التي تفرضها علينا الحضارة، رغم أن حضارة العصر الذي كان يعيش فيه هي البساطة والسذاجة بالمقارنة إلى ما نعيش نحن فيه؛ فقد دعا هو دعوة الريف وتجنب المدينة، ولكن مدينته، حوالي سنة 1770، كانت قرية هادئة بالمقارنة إلى المدن التي نعيش فيها الآن؛ فلم يكن في مدينته ترام أو سيارة أو راديو، ولم تكن مضار المباراة وما تجلب من حسد وهزيمة وقلق جزءا من مائة مما يكابد أبناء المدن في هذه الأيام، وقد ترك بعده «ثوور» الأمريكي المدينة الأمريكية وعاش في الغابة، وترك إدوارد كاربنتر المدينة الإنجليزية وعاش في الريف، وفعل كذلك تولستوي وغاندي.
وليس هؤلاء شاذين؛ لأننا حين نقارن بين حياتنا وحياتهم من حيث القيم البشرية، وسلام النفس، والفراغ للتأمل والراحة، نجد أن الحكمة في جانبهم، والجنون في جانبنا؛ فقد عاشوا بالاستغناء، في حين نعيش بالاقتناء، وامتازوا بأنهم نفضوا عن نفوسهم وأجسامهم وضمائرهم جبالا من الواجبات والأثقال التي ننوء بها ونزعم أننا بفضلها سعداء، مع أن الحقيقة أننا مسخرون في الجمع والاقتناء، ثم في زيادة الجمع والاقتناء، وسنظل على هذا المنوال حتى نموت بالنقطة أو السكتة مجهودين مرهقين.
وأسوأ ما في الحياة التي نعيشها ونحن نعدو وراء المطامع وكأننا نجري في سباق أننا لا نعرف ماذا نقتني ولمن نقتني، ثم هذا العدو في هذا السباق لا يتيح لنا فرصة الوقوف كي نتأمل ونفكر. والواقع أن غريزة الاقتناء تدفعنا مسخرين؛ فلا يلتمع لنا ذكاء، ولا يتردد في رءوسنا خاطر، ولا نتساءل: لماذا كل هذا؟!
نعيش لنحسب أم نعيش لنحيا؟
غاية الحياة هي الحياة. وليست غايتها أن نكون أثرياء أو أصحاء أو علماء أو سعداء؛ لأننا إذا كنا نطلب الثراء أو الصحة أو العلم أو السعادة؛ فإنما لأن كل واحد من هذه الأشياء يؤدي في النهاية إلى الحياة المثلى التي نتمناها.
فيجب لهذا السبب ألا نخطئ الهدف، وهو أن نحيا لأجل الحياة، وإذا نحن جعلنا هذا الهدف نصب عقولنا؛ فإننا لن ننحرف؛ إذ نجد أنه على الدوام يصحح ويقوم انحرافاتنا.
صفحه نامشخص
وأعظم ما نقع فيه من انحراف، بل اعوجاج، هو أن المجتمع يؤثر فينا بأوزانه وقيمه، فيحملنا على أن ننسى أن هدف الحياة هو الحياة، حتى إننا نجد كثرة الناس، بل ربما كلهم - أي كلنا - ننتهي إلى عادات فكرية ونفسية لو أنها امتحنت في نزاهة وذكاء لكانت أقرب إلى الجنون والشذوذ منها إلى التعقل السوي.
وأسوأ هذه العادات عند الطبقة المتوسطة والثرية هي أن نحيل الحياة إلى حساب؛ ذلك أن أحدنا ينسى أنه يجب أن يعيش فيستمتع بحياته ذكاء وصحة واجتماعا ومعرفة وحكمة، ينسى كل هذا ثم يرصد وقته وجهده في الحساب، وما هي زيادة دخله هذا العام على دخله في العام السابق؟ وماذا يستطيع أن يشتري بما ادخر مما يزيد هذا الدخل؟ إلخ.
وأحيانا تستحيل هذه العادة إلى جنون؛ فلا يشتغل الرأس إلا بها، ولا يتحرك النشاط إلا لأجلها؛ حتى إننا لنرثى لصاحبها؛ إذ نجد أنه مأسور قد استرقه الجمع والاقتناء، فلا يعرف لذة الطعام أو الشراب أو التنزه أو الاجتماع بالأصدقاء. وقد يسأل أحدنا عندما يتأمل هذه الشخصية ويقارنها بشخصية أخرى كثيرا ما يحتقرها، مثل شخصية المستهتر في الشراب أو النساء؛ أيهما أفضل؟
وليس هذا السؤال لأن الاستهتار حسن، ولكن لأن قصر الحياة على الحساب بالجمع والطرح، والزيادة والنقصان في الاقتناء أسوأ من أي استهتار؛ لأن أقل ما يقال في المقارنة هنا أن المستهتر مستمتع، ولكنه مبالغ مسرف في الاستمتاع إلى حد الضرر. ولكن هذا الحاسب لا يستمتع بتاتا إلا كما يستمتع النيوروزي؛ أي المريض النفسي بعادة تملكته واستبدت به، وهي بعيدة عن العقل، بل متمردة عليه.
ونحن في عصرنا الحاضر نحتاج إلى كاتب مثل د.ه. لورنس؛ كي يبين لنا أن واجبنا في الدنيا هو أن نعيش؛ فقد ألف هذا الكاتب قصته «عاشق الليدي شاترلي»، وأسرف في دعوته إلى الاستمتاع الجنسي باعتبار أنه أهم من الاعتبارات الاجتماعية التي تنكر علينا ملذاتنا، وتشغلنا بألوان أخرى من النشاط الذي ننحرف به ونزيغ عن هدف الحياة، وهو أن نحيا ونستمتع.
وليس شك أنه أسرف، بل إنه وقع فيما أراد أن يحذرنا منه؛ إذ هو جعل الاستهتار الجنسي هدفا، وكأنه اعتقد أن اللذة الجنسية هي كل ما في الحياة، وهذا خطأ فاضح.
وصحيح أن الاستهتار الجنسي، في القيم والأوزان الصحيحة ، خير من قضاء العمر في الحساب لاقتناء المال وزيادته، ولكن الاستهتار على كل حال إسراف، ثم إن اللذة الجنسية جزء من الحياة، وليست الحياة جزءا من اللذة الجنسية، فإذا نحن تحرينا الحياة المثلى؛ فإننا بلا شك لا نهمل الملذات الجنسية، ولكننا أيضا نضع هذه الملذات في مكانها، فلا تتجاوزه وتطغى على حياتنا كلها؛ إذ إن هناك ملذات أخرى تحتاج إليها الحياة المليئة الحافلة السامية؛ مثل الصحة والمعرفة والصداقة والذكاء والحكمة.
وإسراف لورنس في الإكبار من شأن اللذة الجنسية إنما هو مبالغة يرمي بها إلى تأكيد الظاهرة الجنونية الحاضرة في اندفاع الناس إلى جمع المال وقضاء العمر في الحساب؛ حتى أننا لنجد رجلا في الستين أو في السبعين ليس له من هم سوى الدفاتر يراجعها، والاهتمام بدخله، والتفكير في شراء عقار جديد أو نحو ذلك، مع أن كل ما بقي له من العمر قد لا يتجاوز سنة أو سنتين هو أحوج فيهما إلى أن يعرف ما جهل، أو بعض ما جهل، قبل أن يغادر هذه الدنيا.
ووطأة المجتمع علينا هي التي تسوقنا إلى أن نستبدل الحساب بالحياة، وإلى أن نسخر أنفسنا للجمع والاقتناء دون الاستمتاع بالعيش. وعادات المجتمع هذه ترسخ في نفوسنا بحيث نعيش في هذا الحساب كما لو كنا نملا أو جرادا ننشط نشاطا غريزيا لا نعرف غايته.
والرجل الذي ارتفع إلى أن يجعل من حياته فنا يجب من وقت لآخر أن يسأل نفسه: هل أنا أعيش للحياة أم أن قيم المجتمع وأوزانه قد غمرتني وسخرتني حتى صرت آلة جمع وطرح للحساب؛ أي لزيادة المال والدخل فقط؟
صفحه نامشخص