وقصارى القول بعد ما تقدم من بيان المذاهب السابقة ونقدها، وهي جماع الآراء في تفسير ماهية الضمير، أننا نختار، ويؤيدنا الواقع والمشاهدة فيما نختار، أن الضمير قوة فطرية في كل إنسان باعتبار جرثومتها وأصلها، وأن للتربية العقلية والأدبية دخلا في نموها وكمالها. ولعلنا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إننا نتفق في هذا مع الغزالي بعد ما نقلناه عنه من تسميته لهذه القوة الهادية للمرء في أعماله المحاسبة له عليها تارة نورا إلهيا وطورا معرفة؛ إذ وصفها بأنها نور إلهي يسيغ لنا القول بأنها في أصلها قوة فطرية، وتسميتها بعد هذا معرفة تجعلنا في حل من تقرير أنها تنمو وتكمل بالتربية. (4-6) تربية الضمير
يرى بعض الباحثين أن الضمير لا يحتاج لتربية ولا تهذيب؛ لأنه لا يتغير ولا يتبدل ولا يضل ولا يجهل، وأما ما يوجد من انحراف عن الجادة فمرجعه ضعف في العزيمة وفساد في الإرادة والخلق؛ لغلبة الشهوات وقوة أسرها في كثير من الأحيان. وإذن فالمطلوب قمع الشهوات الجامحة والخروج عن سلطانها، فيظهر الضمير بكامل سنائه وبهائه، ويسمعنا صوته وأوامره واضحة جلية.
ويرى الآخرون أن الضمير كسائر القوى يتأثر بالشهوات وغلبتها وبإهمال أوامره ونواهيه، فيخرج عن السبيل السوي في أحكامه؛ ولذلك يحتاج لتربية.
ولعل مما يشهد للأولين هذه الآيات وأمثالها:
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ،
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ،
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . على أن الخلق من الناحية العملية لا قيمة له مطلقا، فبإضعاف الشهوات وعدم الانصياع لها، وبإنماء القوة العاقلة وتهذيبها، وبإطاعة الضمير فيما يأمر به؛ بذلك يسلك المرء طريق الخير سواء أقلنا مع الأولين: إن الضمير ظهر على فطرته الأولى، قويا مرهوب الجانب نافذ الكلمة، بعد أن زال ما ران عليه من حجب الشهوات، أو قلنا مع الآخرين: إنه رجع قويا كاملا كما كان حين باعد المرء بين نفسه وبين الشهوات فلم يلق لها بالا ولم يسمع لها صوتا. ولهذا نعالج هذا البحث على طريقة القائلين باحتياجه للتربية، فنقول:
قد يعتور الضمير حالات تجعله غير مأمون الحكم صائب القضاء، ولذلك كان من الضمائر: الضمير المستقيم، والضمير الجاهل ، والضمير الشاك المرتاب.
فالأول هو الذي لم تستطع القوى الأخرى الشهوانية والغضبية أن تلوي عنانه إلى ناحية الشر وتحيله عن جهة الخير.
أما الضمير الجاهل فهو الضمير الذي يوحي بالشر وهو جاهل أنه شر، كالأطفال الذين يعذبون الحيوانات ظانين أنهم يداعبونها، فهم لا يفعلون ذلك عن قسوة أو غلظة ممقوتة، بل يجهلون أو لا يفكرون في أنهم بهذا الصنيع يعذبونها، وكذلك ما نقل إلينا من أن بعض المتوحشين كانوا يقتلون آباءهم المسنين حين لا يستطيعون إطعامهم، معتقدين أن ذلك خير لأنه ينجيهم من عذاب الجوع. وعلاج أمثال هذه الضمائر يكون بتوسيع المدارك العقلية لأصحابها حتى يفهموا الأمور على وجوهها.
صفحه نامشخص