العوامل المساعدة التي تلجأ إليها البرجماتية في تحديد الحقيقة : يدرك معظم البرجماتيين أنه، بينما النجاح العملي قد يكون أهم معيار للحقيقة، فمن الممكن الاستعانة بمعونة إضافية من مصادر أخرى. أول هذه العوامل المساعدة هو «الترابط» الذي عرفناه من قبل: فليس في وسعنا أن نحتفظ بحقائقنا ومعتقداتنا منعزلة وكأنها ذرات تنفصل كل منها عن الأخرى، بل لا بد أن تنسجم في كل. (ولو سألنا في ذلك برجماتيا من الطراز القديم لقال على الأرجح إنه يفضل هذا الاتساق المنسجم على أساس أن حقائقنا ستحرز «نجاحا عمليا أكبر» إذا كونت نسقا مترابطا). والعامل المساعد الثاني الذي تستعين به البرجماتية من آن لآخر هو عامل مميز لهذه المدرسة
5
فعندما نعجز عن الاختيار بين عبارتين على أساس الأدلة التجريبية، أو الترابط، أو «القيمة النقدية
Cash Value » للنتائج المباشرة، فعندئذ يكون لنا الحق في تحديد أي القضيتين «صحيحة» على أساس مقدار ما يمكن أن تسهم به كل منهما من «القيم العليا» أو «قيم الحياة». فمعتقداتنا، ولا سيما تلك التي تتعلق بتجربتنا ككل، تستطيع التأثير في موقفنا من الحياة والعالم الذي نعيش فيه. وهي تستطيع أن تجعل العالم يبدو عقيما أو يبدو جديرا بأن نعيش فيه، وفي إمكانها أن تكسبنا استقرارا عاطفيا «وطمأنينة النفس»، أو أن تؤدي إلى عكس ذلك. وعلى هذا، فعندما يكون علينا أن نقرر ما هي العبارة «الصحيحة» من بين عبارتين متناقضتين - مثل: «النفس خالدة» و«النفس فانية» - فمن الواضح أننا لن نجد عونا كبيرا من معيار النجاح العملي أو الترابط، ولن نجد عونا على الإطلاق من معيار التحقيق الحسي. وإذن فمن الواجب أن نختار بين العبارتين على أساس آخر. وفي مثل هذه الحالات، نجد أن المعيار الذي نحدد على أساسه أي القضيتين تؤدي إلى تحقيق «القيم العليا للحياة» على أفضل نحو هو معيار لا يصلح للتطبيق فحسب، بل ربما كان معيارا لا مفر منه.
6
وينبغي أن يلاحظ أن البرجماتية لا تلجأ أبدا إلى تبرير اختيار عبارة معينة على أنها صحيحة بالنسبة إلى قضية أخرى على أساس «القيم العليا» وحدها. ذلك لأنه لا يحق لنا في نظرها أن نلجأ إلى هذا المعيار الأخير بوصفه محكمة نقض وإبرام إلا عندما تخفق المعايير الأخرى في تحديد «حقيقتها». فإذا استطاعت النتائج التجريبية ، أو «القيمة النقدية»، أو الترابط، أن تقوم بالاختيار لنا، فإن أي التجاء إلى «القيم العليا» يبدو أمرا مريبا، وكأنه نوع من التزييف العقلي. وإذن فلا يحق لنا أن نسمح لسعادتنا الروحية وحاجاتنا العاطفية بأن تتحكم في اختيارنا للحقيقة إلا عندما يستحيل تطبيق المعايير الأخرى، أو عندما تنتهي إلى حالة من التوقف نعجز فيها عن اتخاذ أي قرار. (7) المعايير المختلفة للحقيقة
لا بد أن القارئ يشعر الآن بأنه أكثر تعاطفا مع بيلاطس عندما سأل سؤاله الخالد عن طبيعة الحقيقة. ومع ذلك فإن بحثنا لم ينته بعد. فقد ناقشنا حتى الآن ثلاث نظريات عن الحقيقة، بالإضافة إلى أحد معايير الحقيقة وهو التحقيق الحسي. ولكن هناك عدة معايير أخرى كهذه يتعين علينا بحثها، كلها لا تقل عن معيار التحقيق التجريبي شيوعا، وربما أهمية. ويفضل أشخاص كثيرون أن يطلقوا على هذه اسم «مصادر» الحقيقة لا «معاييرها»، ولكن اللفظ لا أهمية له ما دمنا نفهم علاقة هذه المعايير بالمشكلة الرئيسية.
السلطة : ربما كان معيار الحقيقة الأكثر تداولا، بعد معيار التحقيق الحسي، هو السلطة. فاعتمادنا على السلطة يبلغ من القوة حدا يجعلنا لا نكاد نشعر بذلك عن وعي، ولما كان من الصحيح أن السلطات الأخلاقية والكنسية القديمة قد انهارت إلى حد بعيد، فإن سلطات جديدة من نوع مخالف قد حلت محلها. مثال ذلك أننا نعتمد الآن، في اكتساب «حقائقنا» على سلطة العلم أكثر بكثير مما نعتمد على سلطة الكنيسة. ومن حسن حظنا أننا لسنا مضطرين هنا إلى البت في مسألة كون هذه السلطة الجديدة أكثر فاعلية من حيث هي مرشد لنا في الحياة أم لا. فالمسألة الهامة هي أننا على الأرجح قد أصبحنا معتمدين في اكتساب حقائقنا على مصادر خارجنا أكثر مما كنا في أي وقت مضى. فقد نكون على ثقة من أن العلم سلطة يعتمد عليها أكثر من غيرها. ومع ذلك يظل من الصحيح أنه بدوره مصدر خارجي بالنسبة إلى معظم الأشخاص. وقد نشير إلى النتائج البرجماتية للعلم بوصفها دليلا على إمكان الارتكان إليه، أو قد نؤكد اعتماده المطلق على التحقيق التجريبي بوصفه ضمانا لقبول ما يدعيه من سلطة. كما أن من الجائز أن نكون قد اشتغلنا نحن أنفسنا في المعامل إلى الحد الذي يكفي لتأييد حقائق واحدة من العلوم. ومع ذلك فحتى الباحث المعملي المحترف لا يكون لديه من التدريب ومن الوقت ما يكفي للقيام بعمليات التحقيق هذه في أي ميدان ما عدا ميدانه الخاص. وقد نقول إننا بعد أن نكون قد اختبرنا بعض قضايا العلم عن طريق تجاربنا الخاصة، يكون لنا الحق في افتراض أن الوقائع العلمية الأخرى «صحيحة» بدورها. ومع ذلك، فإن هذا يعني أننا نأخذ بهذه الوقائع الأخرى على أساس السلطة، مهما كان درجة ثقتنا بها.
دور السلطة في التعليم : لا تتاح لمعظمنا من فرص التحقق من السلطات التي يخضع لها ما يتاح حتى للعالم الهاوي ذاته. ومثل هذا يصدق على كل ميادين النشاط البشري. وأغلب الظن أن كمية المعرفة التي نكتسبها بالخبرة المباشرة تمثل، عند الشخص المتعلم، الجانب الأقل بالنسبة إلى مجموع معرفته. وكلما ازددنا تعلما واتسع الأساس الذي نبني عليه ثقافتنا، اتسع حتما نطاق السلطات التي نعتمد عليها؛ إذ إن ارتفاع مستوى التعليم يعني ازدياد كمية المعرفة النظرية والتعلم غير المباشر. فالتلميذ في روضة الأطفال يتعلم إلى حد بعيد بالعمل، وبأداء أوجه نشاط شتى، أما طالب الكلية المتقدم فإن المصدر الأهم لتعليمه هو قراءة موجزات وتلخيصات لأعمال أناس آخرين. ولكن هذه الطريقة المتقدمة، مهما يكن من فعاليتها بوصفها طريقة للتعلم، فإنها تؤكد أهمية السلطة إلى حد الإفراط. وما يصدق على التعليم الرسمي يصدق على كل الميادين. ففي مدنية تبلغ من التعقد والتشعب الهائل ما بلغته مدنيتنا، يكاد كل شيء نقوم به يكون منطويا على تجربة غير مباشرة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك، مصادر أنبائنا، كما أننا في ميادين كالطب والاقتصاد وما إلى ذلك نكاد نقف عاجزين إزاء موكب السلطات التي تتفاوت أنواعها ودرجة إمكان الاعتماد عليها.
وهكذا تصبح المشكلة هي مشكلة التمييز بين مختلف أنواع السلطة ودرجاتها، وفي بعض الأحيان بين الآراء المتعارضة للخبراء في الميدان الواحد. ومع ذلك، فلما كان لكل ميدان معاييره الخاصة، فلا يمكن أن يكون في هذا الكتاب مجال لمحاولة القيام بتقييم مفصل لأنواع السلطة. وحسبنا أن يكون القارئ قد أصبح أكثر إدراكا لحتمية الالتجاء إلى السلطة في تحديد ما ينبغي وما لا ينبغي أن نعده «حقيقة». والواقع أن الفيلسوف كثيرا ما يتملكه اليأس من أن يتمكن من التمييز بين «الحقيقة» وبين «الظن»، وذلك من فرط خضوع الأذهان غير النقدية «للسلطة» (التي تكون عادة آخر سلطة سمعتها أو قرأت لها) وسهولة انخداعها بحيث تصدق أن المعرفة التي اكتسبتها على هذا النحو هي معرفتها الخاصة. ولقد كافح كل من سقراط وأفلاطون من أجل تحقيق هذا التمييز بين الحقيقة والظن، ثم خلفاءه للفلسفة بوصفه ميراثا دائما. وفيما يتعلق «بالحقيقة» اليومية العملية، تحتل السلطة، من حيث الأهمية، مكانا يلي التحقيق الحسي والنجاح العلمي مباشرة. «ما الحقيقة؟» إنها - كما يبدو أن بيلاطس قد أدرك بوضوح - هي إلى حد بعيد ما تحدده السلطة السائدة. وهو ذاته قد اعترف بهذه الحقيقة، إذ قبل أن يحكم في القضية المعروضة عليه، على الأساس الذي أوصى به أولئك الذين كانوا، وفقا للقانون العبري، هم «السلطات» المختصة. (8) معيار الاتفاق الاجتماعي أو اليقين الباطن
صفحه نامشخص