نقاط الضعف الرئيسية في نظرية الترابط : أوضحنا في الفقرات السابقة، بطريقة ضمنية، أبرز نقاط الضعف في هذه النظرية؛ ذلك لأنه لو لم يكن لدينا هذا الشرط المقيد، وهو أن تتفق نتائجنا مع الواقع الموضوعي على نحو قابل للإثبات، لغدا من الممكن عندئذ تشييد أروع وأعقد البناءات الفكرية على مقدمات لا يزكيها شيء سوى كونها تتفق مع مصالحنا الأنانية (كما في مذاهب الأيديولوجية السياسية أو الاقتصادية)، أو كونها تتفق مع تطلعنا إلى نظرة إلى العالم تعطينا ثقة وأملا. والخطر الأساسي هو أن الذهن غير النقدي قد يعجب بالبناء في صورته النهائية، وبنتائجه (ولا سيما إذا كانت ترضي رغبته في الاطمئنان العاطفي أو التبرير الأخلاقي) إلى حد يؤدي به إلى إغفال ملاحظة الأسس التي شيد عليها البناء بأكمله. وكثرا ما يحدث، عندما يقوم مفكر تحليلي بكشف هذه الأسس، أن يتغير موقف الذهن الذي كان قبل ذلك يقبل النسق بأكمله، فيتحول إلى رفض الكل لأنه لم يعد يقبل المقدمات الأصلية. ولكن الأكثر من ذلك حدوثا أن ينقب هذا الذهن من حوله ويحاول أن يضع أسسا خاصة به تتألف من مقدمات مقبولة أكثر من الأولى، ثم ينقل البناء الفكري بأكمله سليما فوق الأساس الجديد. وقد يحدث أحيانا أن يدرك ذهن أن المقدمات الأصلية مسلمات غير مقبولة، ويعترف بأنها غير مرضية، وربما ممتنعة، ولكنه يظل يؤكد في عناد أن أي نسق يبلغ هذا الحد من الروعة، ويصل إلى مثل هذه النتائج البديعة التي تطرب لها النفس، لا بد أن يكون صحيحا بغض النظر عن اسمه. ومن الأوضح أنه عندما يكون لأي شخص «إرادة اعتقاد» كهذه، فأغلب الظن أننا نكون مضيعين لوقتنا لو قمنا حتى بمناقشة مشكلة الحقيقة معه. وعندما يكون البناء الفكري الذي يصر على الاحتماء في داخله، قد ظل صامدا قرونا طويلة، فعندئذ يكون من الأكثر عقما أن نحاول إقناع المؤمن غير النقدي بأن هذا البناء ليس مشيدا على أسس واقعية موضوعية يمكنها أن تصمد للاختبار الذي يتخذ من التطابق معيارا للحقيقة. (6) النظرية الثالثة: النظرية الحقيقية عند البرجماتيين
لن يكون من الإنصاف أن نحكم على من يختار نظرية الترابط، بدلا من نظرية التطابق، بأنه يسلك اعتباطا، أو يفكر على النحو الذي يرضي رغباته فحسب. فهناك احتمال في أن يكون قد استعان، عن وعي أو دون وعي، بثالث النظريات الكبرى عن الحقيقة في الاختيار بين النظريتين اللتين ناقشناهما من قبل . هذه النظرية الثالثة هي المفهوم «البرجماتي» للحقيقة
3
وأهم ما تقول به هذه النظرية هو أن معيار الحقيقة الوحيد الذي له دلالة هو معيار النجاح العملي
Workability
أي الثمار التي تحملها والنتائج التي تؤدي إليها. وهكذا تكون العبارة صحيحة في نظر البرجماتي إذا كانت تعبر عن واقع أو تصف موقفا نستطيع أن نسلك على أساسه ونحقق النتائج المتوقعة. فقضيتنا القديمة «الكتاب على المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة» ليست في حقيقة الأمر إلا خطة للسلوك الممكن، فهي تعني أنني إذا ذهبت إلى الحجرة المجاورة ونظرت إلى المنضدة، فسوف أجد الكتاب. ولو تصرفت على أساس هذه الخطة، ووجدت الكتاب بالفعل في المكان المذكور، فعندئذ تصبح العبارة صحيحة - أو بتعبير أدق، تكتسب الصحة أو الحقيقة.
على أن النظرة المثالية العامة إلى الحقيقة هي شيء مختلف كل الاختلاف - فبينما المدارس الفرعية داخل المذهب المثالي تتباين أفكارها إلى حد ما، فإن هذه المدارس كمجموعة تنظر إلى الحقيقة على أنها شيء ينبغي أن يكون شاملا من الوجهة المنطقية. فهي ترتبط مباشرة بالواقع النهائي؛ ذلك لأن من النظريات المميزة للمثالية، كما رأينا من قبل، أنها تدمج «الخير والجمال والحق» لتكون الواقع من الكل. ومن ثم فإن «للحقيقة» وجودا مستقلا، وتجربتنا معها تتخذ دائما طابع الكشف. فالحقيقة موجودة، ونحن نكتشفها؛ ومن هنا تؤلف «مطلقا» من نوع ما. أما البرجماتي فلا يرى أن هناك شيئا اسمه الحقيقة المطلقة بوصفها كيانا له وجود مستقل مكتف بذاته. وإنما هي على الأصح شيء نصنعه. فنحن نصوغ أحكاما من أنواع شتى لأننا نحتاج إلى عوامل ذهنية تساعدنا على التعامل مع تجربتنا. ولا تصبح هذه الأحكام حقائق إلا عندما نسلك على أساسها. وهكذا فإن أية عبارة هي بالنسبة إلى البرجماتية فرض ينبغي تحقيقه بالسلوك على أساسه وملاحظة النتائج.
البرجماتية والعلم : المصدر الرئيسي للبرجماتية هو مناهج البحث العلمي. ذلك لأن العلم، من حيث نظرته إلى «الحقيقة» هو برجماتي بطبعه. فبعد أن يصوغ العالم فرضه لتفسير الوقائع المراد بحثها، يكون المعيار المألوف الذي يتخذه للتحقق من ذلك الفرض هو تصميم تجربة نقدية تؤدي إلى نتيجة قاطعة تنتهي «بنعم أو لا». وفي استطاعة الباحث أن يتنبأ بالنتائج التي يتوقع من التجربة أن تسفر عنها (إذا كان الفرض صحيحا) على أساس معرفته بهذا الميدان العلمي ومبادئه المقررة. وهكذا فعندما تجري التجربة، «ويوجه الأسئلة إلى الطبيعة ويرغمها على الإجابة»، تكون حقيقة الفرض متوقفة تماما على كونه مؤديا إلى النتائج المتوقعة أو غير مؤد إليها. وإذن فالبناء الكامل للعلم يبنى على القدرة على النجاح العملي: فالفرض الذي ينجح أو يسفر عن نتائج هو الذي يقبل بوصفه حقيقة.
4
والواقع أن البرجماتي، شأنه شأن أي شخص آخر، يتأثر كل التأثر بمنجزات العلم الحديث. ولما كانت هذه المنجزات قد تحققت بفضل استخدام هذه النظرية عن الحقيقة، التي تتصف بأنها عملية، غير مثالية، وثيقة الصلة بالحياة اليومية، فمن الطبيعي أن تقترح مدرسة فلسفية ما، التوسع في هذه النظرية بحيث تنتظم التجربة بأسرها. إذ يبدو من المنطقي أن نفترض أن أية نظرية تثبت أنها مثمرة إلى هذا الحد في مجال معين، ستثبت قيمتها في المجالات الأخرى بدورها. غير أن الهجمات الرئيسية على هذا التوسع البرجماتي للنظرية قد أتى من جانب أنصار المثالية المطلقة، وتركز على ادعائها أن النجاح العملي وحده هو معيار الحقيقة. ومن الجائز أن بعض البرجماتيين الأوائل قد ارتكبوا خطأ تبسيط مشكلة الحقيقة إلى حد الإفراط، وحاولوا - في حماسة الرواد - أن يقيموا نظرية يكون فيها معيار النجاح العملي الأوحد هذا هو الذي يتحكم بذاته في تحديد ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. غير أن البرجماتية الناضجة في أيامنا هذه قد انتفعت من هذه الانتقادات، وهذبت نظريتها بحيث تحذف منها أية زوائد كهذه.
صفحه نامشخص