إن عصرا تلغى فيه قيمة الفوارق المادية على الأطلاق، ويستوي فيه الحاكم والمحكوم في نظر القانون (1)، ومجالات تنفيذه، ويجعل مدار القيمة المعنوية، والكرامة المحترمة فيه تقوى الله (2) التي هي تطهير روحي، وصانية للضمير، وارتفاع بالنفس إلى آفاق من المثالية الرفيعة، ويحرم في عرفه احترام الغني لأنه غني، وإهانة الفقير لأنه فقير، ولا يفرق فيه بين الأشخاص إلا بمقدار الطاقة الانتاجية (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (3). ويتسارع فيه إلى لجهاد لصالح النوعى الأنساني الذي معناه إلغاء مذهب السعادة الشخصية في هذه ا لدنيا، وإخراجها عن حساب الأعمال (4). (أقول) إن العصر الذي تجتمع له كل هذه المفاخر لهو خليق بالتقديس والتبجيل والأعجاب والتقدير، ولكن ماذا أراني دفعت إلى التوسع في أمر لم أكن اريد أن اطيل فيه ؟ وليس لي أن افرط في جنب الموضوع الذي احاوله بالتوسع في أمر آخر، ولكنها الحماسة لذلك العصر هي التي دفعتني إلى ذلك، فهو بلا ريب زين العصور في الروحانية والاستقامة. أنا أفهم هذا
---
(1) راجع الحادثة التاريخية المشهورة في موقف الأمام علي عليه السلام في مجالس القضاء، وكذلك ما جرى عليه الأمر في تاريخ القضاء الأسلامي. لاحظ الأشارة إلى ذلك في شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 269. (2) إشارة إلى قوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات / 13. (3) البقرة / 286. (4) إشارة إلى الاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجل الأسلام ورفع الظلم ونصرة المستضعفين كما في قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره...) التوبة / 24.
--- [49]
صفحه ۴۸