--- [15]
صفحه ۱۴
أيها اقارئ الكريم: هذا إنتاج اغتنمت له عطلة من عطل الدراسة في جامعتنا الكريمة - النجف الأشرف - وتوفرت فيها على درس مشكلة من مشاكل التاريخ الأسلامي، وهي (مشكلة فدك)، والخصومة التاريخية التي قامت بين الزهراء (صلوات الله عليها) والخليفة الأول (رضي الله تعالى عنه). وكانت تتبلور في ذهني استنتاجات وفكر، فسجلتها على أوراق متفرقة، حتى إذا انتهيت من مطالعة مستندات القضية ورواياتها، ودرس ظروفها، وجدت في تلك الوريقات ما يصلح خميرة لدراسة كافية للمسألة، فهذبتها ورتبتها على فصول، اجتمع منها كتيب صغير، وكان في نيتي الاحفاظ به كمذكر عند الحاجة، فبقي عندي سنين مذكرا ومؤرخا لحياتي الفكرية في الشهر الذي تمخض عنه، غير أن حضرة الوجيه الفاضل الشيخ محمد كا ظم الكتبي ابن الشيخ صادق الكتبي (أيده الله) طلب مني تقديمه إليه ليتولى طبعه. وقد نزلت على رغبته تقديرا لأياديه البيضاء على المكتبة العربية والأسلامية. والكتاب هو ما تراه بين يديك. المؤلف
--- [17]
صفحه ۱۵
الفصل الأول
على مسرح الثورة * فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون. الزهراء عليها السلام
--- [19]
صفحه ۱۷
تمهيد وقفت لا يخالجها شك فيما تقدم عليه، ولا يطفح عليها موقفها الرهيب بصبابة من خوف أو ذعر، ولا يمر على خيالها الذي كان جديا كلم الجد، تردد في تصميمها، ولا تساورها هاجسة من هواجس القلق والارتباك، وها هي الان في أعلى القمة من استعدادها النبيل، وثباتها الشجاع على خطتها الطموح، واسلوبها الدفاعي، فقد كانت بين بابين لا يتسعان لتردد طويل، ودرس عريض، فلا بد لها من اختيار أحدهما وقد اختارت الطريق المتعب من الطريقين الذي يشق سلوكه على المرأة بطبيعتها الضعيفة لما يكتنفه من شدائد ومصاعب تتطلب جرأة أدبية، وملكة بيانية مؤثرة، وقدرة على صب معاني الثورة كلها في كلمات وبراعة وفنية في تصوير النقمة، ونقد الأوضاع القائمة تصويرا ونقدا يجعلان في الألفاظ معنى من حياة، وحظا من خلود، لتكون الحروف جنود الثورة الخيرة، وسندها الخالد في تاريخ العقيدة، ولكنه الأيمان والاستبسال في سبيل الحق الذي يبعث في النفوس الضعيفة نقائضها، ويفجر في الطبائع المخذولة قوة لا تتعرض لضعف ولا تردد. ولذا كان اختيار الثاثرة لهذا الطريق مما يوافق طبعها، ويلتئم مع شخصيتها المركزة على الانتصار للحق، والاندفاع في سبيله.
--- [20]
صفحه ۱۹
وكانت حولها نسوة متعددات من حفدتها ونساء قومها كالنجوم المتناثرة يلتففن بها بغير انتظام، وهن جميعا سواسية في هذا الاندفاع والاتياع، وقائد تهن بينهن تستعرض ما ستقدم عليه من وثبة كريمة تهيئ لها العدة والذخيرة، وهي كلما استرسلت في استعراضها ازدادت رباطة جأش، وقوة جنان، وتضاعفت قوة الحق التي تعمل في نفسها، واشتدت صلابة في الحركة، وانبعاثا نحو الدفاع عن الحقوق المسلوبة، ونشاطا في الاندفاع، وبسالة في الموقف الرهيب، كأنها قد استعارت في لحظتها هذه قلب رجلها العظيم، لتواجه به ظروفها ا لقاسية وما حاكت لها يد القدر. أستغفر الله بل ما قدر لها المقدر الحكيم من مأساة مرؤعة تهد الجبل وتزلزل الصعب الشامخ. وكانت في لحظتها الرهيبة التي قامت فيها بدور الجندي المدافع شبحا قائما ترتسم عليه سحابة حزن مرير، وهي شاحبة اللون، عابسة الوجه، مفجوعة القلب، كاسفة البال، منهدة العمد، ضعيفة الجانب، مائعة الجسم، وفي صميم نفسها، وعميق فكرها، المتأملة إشعاعة بهجة، وإثارة طمأنينة، وليس هذا ولا ذاك استعذابا لأمل باسم، أو سكونا إلى حلم لذيذ، أو استقبالا لنتيجة حسنة مترقبة، بل كانت الأشعاعة إشعاعة رضا بالفكرة، والاستبشار بالثورة، وكانت الطمأنينة ثقة بنجاح، لا هذا الذي نفيناه بل على وجه آخر، وإن في بعض الفشل الاجل إيجابا لنجاج عظيم وكذلك وقع، فقد قامت امة برمتها تقدس هذه الثورة النائرة بل تستمد منها ثباتها واستبسالها في هذا الثبات. ودفعتها أفكارها في وقفتها تلك إلى الماضي القريب يوم كانت
--- [21]
صفحه ۲۰
موجهات السعادة تلعب بحياتها السعيدة، ويوم كان نفس أبيها يصعد، ونسمه يهبط. وكان بيتها قطب الدولة العتيد، ودعامة المجد الراسخة المهيمنة على الزمن الخاشع المطيع. ولعل أفكارها هذه ساقتها إلى تصور أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضمها إلى صدره الرحيب، ويحوطها بحنانه العبقري، ويطبع على فمها الطاهر قبلاته التي اعتادتها منه، وكانت غذاءها صباحا ومساء. ثم وصلت إلى حيث بلغت سلسلة الزمن، فيواجهها الواقع العابس وإذا بالزمان غير الزمان وها هو بيتها مشكاة النور ورمز النبوة والأشعاعة المتألقة المحلقة بالسماء، مهدد بين الفينة والفينة، وما هو ابن عمها الرجل الثاني في دنيا الأسلام باب علم النبوة (1)، ووزيرها المخلص (2)، وهارونها (3) المرجى، الذي لم يكن لينفصل ببدايته (4) الطاهرة عن بداية
---
(1) إشارة إلى الحديث المشهور: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 1: 64 طبعة دار الفكر، وصححه السيوطي في جمع الجوامع، وأخرجه الترمذي في صحيحة بلفظ آخر، وراجع: التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم / الشيخ منصور علي ناصب 3: 337، قال: رواه الترمذي والطبراني وصححه الحاكم. (2) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث الدار أو الأنذار - المشهور: (إن هذا - والأشارة إلى علي - أخي ووزيري وخليفتي فيكم...) راجع الرواية الكاملة في تاريخ الطبري 3: 218 - 219 طبعة المطبعة الحسينية بمصر، وراجع تفسير الخازن 3: 371 طبعة دار المعرفة. (3) إشارة إلى الحديث المتواتر: (أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) راجع: صحيح البخاري 5: 81 باب 39، صحيح مسلم 4: 1873، التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم / الشيخ منصور علي ناصف 3: 333. (4) راجع: نهج البلاغة، خطبة 192 ضبط الدكتور صبحي الصالح ص 300 - 301 قال الأمام علي عليه السلام: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد... ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الأسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي وأشم ريح النبوة...).
--- [22]
صفحه ۲۱
النبوة المباركة، فهو ناصرها في البداية، وأملها الكبير في النهاية، يخسر أخيرا خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقوض معنوياته النورية التي شهدت لها السماء والأرض جميعا، وتسقط سوا بقه الفذة عن الاعتبار ببعض المقاييس التي تم اصطلاحها في تلك الأحايين. وهنا بكت بكاء شقيا ما شاء الله لها أن تبكي، ولم يكن بكاء بمعناه الذي يظهر على الأسارير، ويخيم على المظاهر، ت بل كان لوعة الضمير، وارتباع النفس، وانتفاضة الحسرات في أعماق القلب، وختمت طوافها الأليم هذا بعبرتين ندتا من مقلتيها. ثم لم تطل وقفتها، بل اندفعت كالشرارة الملتهبة وحولها صويحباتها حتى وصلت إلى ميان الصراح، فوقفت وقفتها الخالدة، وأثارث حربها التي استعملت فيها ما يمكن مباشرته للمرأة في الأسلام، وكادت ثورتها البكر أن تلتهم الخلافة لولا أن عاكسها شذوذ الظرف، وتناثرت أمامها العقبات. (أجواء الحدث) تلك هي الحوراء الصديقة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ريحانة النبوة، ومثال العصمة، وهالة النور المشعة، وبقية الرسول بين المسلمين - في طريقها إلى المسجد - وقد خسر ت أبوة في أزهى الابوات في تاريخ الأنسان، وأفيضها
--- [23]
صفحه ۲۲
حنانا، وأكثرها إشفاقا، وأوفرها بركة. وهذه كارثة من شأنها أن تذيق المصاب بها مرارة الموت أو أن تظهر له الموت حلو اشهيا، وأملا نيرا. وهكذا كانت الزهراء حينما لحق أبوها بالرفيق الأعلى، وطارت روحه الفرد إلى جنان ربها راضية مرضية. ثم لم تقف الحوادث المرة عند هذا الحد الرهيب، بل عرضت الزهراء لخطب آخر قد لا يقل تأثيرا في نفسها الطهور، وإيقادا لحزنها، وإذ كاء لأساها عن الفاجعة الاولى كثيرا وهو خسارة المجد الذي سجلته السماء لبيت النبوة على طول التاريخ، وأعني بهذا المجد العظيم سيادة الامة وزعامتها الكبرى، فقد كان من تشريعات السماء أن يسوس آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم امته وشيعته، لأنهم مشتقاته ومصغراته، وإذا بالتقدير المعاكس يصرف مراكز الزعامة عن أهلها، ومناصب الحكم عن أصحابها،
---
(1) كان تخطيط السماء أن يتولى علي وأهل البيت الأطهار إمامة الامة وزعامتها، وقد كانت هناك عملية إعداد واسعة النطاق تربويا وفكريا لمثل هذه الخلافة والزعامة، بل كان هناك منهج واضح تتوالى خطواته بهذا الاتجاه وتشهد لذلك نصوص ا لقرآن الكريم والسنة المطهرة، بما لا يدع مجالا للشك. (راجع بحثا مستفيضا حول هذه النقطة في كتاب نشأة التشيع والشيعة للشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه) بتحقيق الدكتور عبد الجبار شرارة)، فقد أثبتنا بالأرقام والشواهد والنصوص هذه الحقيقة بالرجوع إلى المصادر المعتمدة والروايات الصحيحة عند إخواننا أهل السنة. وراجع أيضا على سبيل المثال: تاريخ الطبري 3: 218 - 219 الطبعة الاولى / المطبعة الحسينية بمصر، تاريخ الخلفاء / السيوطي: 171، الصواعق المحرقة / ابن حجر: 127، مختصر تاريخ ابن عساكر / ابن منظور 17: 356 وما بعدها. (*)
--- [24]
صفحه ۲۳
ويرتب لها خلفاء وامراه من عند نفسه. وبهذا وذاك خسرت الزهراء أقدس النبوات والابوات، وأخلد الرئاسات والزعا مات بين عشية وضحاها، فبعثها نفسها المطوقة بآفاق من الحزن والأسف إلى المعركة ومجالاتها، ومباشرة الثورة والأستمرار عليها. والحقيقة التي لا شك فيها أن أحدا ممن يوافقها على مبدئها ونهضتها لم يكن ليمكنه أن يقف موقفها، ويستبسل استبسالها في الجهاد إلا وأن يكون أكلة باردة، وطعمة رخصيصة للسطات الحاكمة التي كانت قد بلغت يومذاك أوج الضغط والشدة. فعلى الأشارة عتاب، وعلى القول حساب، وعلى الفعل عقاب، فلم يكن ليختلف عما نصطلح عليه اليوم بالأحكام العرفية، وهو أمر ضروري للسلطات يومئذ في سبيل تدعين أساسها، وتثبيت بنيانها. أما إذا كان القائم المدافع بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبضعته (2)، وصورته الناضرة، فهي محفوظة لا خوف عليها بلا شك، باعتبار هذه النبوة المقدسة، ولما للمرأة في الأسلام عموما من حرمات وخصائص تمنعها وتحميها من الأذى.
---
(1) راجع: أخبار السقيفة في تاريخ الطبري 2: 244 طبعة دار الكتب العلمية - بيروت، وما دار فيها، ومن ذلك قول الخليفة الثاني: (اقتلوا سعد بن عبادة...). (2) جاء في الحديث الصحيح: (فاطمة بضعة مني من اذاها فقد اذاني....). راجع: التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم 3: 353 عن البخاري ومسلم وغير هما، صحيح البخاري - باب فضائل الصحابة 5: 83 باب 43 حديث رقم 232 طبعة دار القلم - بيروت، صحيح مسلم 4: 1902 حديث رقم 2493 باب فضائل الصحابة - فضائل فاطمة عليها السلام.
--- [25]
صفحه ۲۴
مستمسكات الثورة: ارتفعت الزهراء بأجنحة من خيالها المطهر إلى آفاق حياتها الماضية ودنيا أبيها ا لعظيم التي استحالت حين لحق سيد البشر بربه إلى ذكرى في نفس الحوراء متألقة بالنور، تمد الزهراء في كل حين بألوا ن من الشور والعاطفة والتوجيه، وتشيع في نفسها ضروبا من البهجة والنعيم، فهي وإن كانت قد تأخرت عن أبيها في حساب الزمن أياما أو شهورا، ولكنها لم تنفصل عنه في حساب الروح والذكرى لحظة واحدة. وإذن ففي جنبيها معين من القوة لا ينضب، وطاقة على ثورة كاسحة لا تخمد، وأضواء من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفس محمد تنير لها الطريق، وتهديها سواء السبيل. وتجردت الزهراء في اللحظة التي اختمرت فيها ثورة نفسها عن دنيا الناس، واتجهت بمشاعرها إلى تلك الذكرى الحية في نفسها لتستمد منها قبسأ من نور في موقفها العصيب، وصارت تنادي: إلي يا صور السعادة التي أفقت منها على شقاء لا يصطبر عليه... إلي يا أعز روح علي، وأحبها إلي... حدثيني وأفيضي علي من نورك الألهي، كما كنت تصنعين معي دائما. إلي يا أبي أناجيك إن كانت المناجاة تلذ لك، أبثك همومي كما اعتدت أن أفعل في كل حين، واخبرك أن تلك الظلال الظليلة التي كانت تقيني من لهيب هذه الدنيا لم يعد لي منها شئ.
--- [26]
صفحه ۲۵
قد كان بعدك أبناء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب إلي يا ذكريات الماضي العزيز حدثيني حديثك الجذاب ورددي على مسامعي كل شئ لاثيرها حربا لا هوادة فيها على هؤلاء الذين ارتفعوا أو ارتفع الناس بهم إلى منبر أبي ومقامه، ولم يعرفوا لا ل محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقوقهم، ولا لبيتهم حرمة تصونه من الأحراق (2) والتخريب، ذكريني بمشاهد أبي وغز واته ألم يكن يقص علي ألوانا من بطولة أخيه وصهره واستبساله في الجهاد (3)، تفوقة على سائر الأنداد، ووقوفه إلى صف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشد الساعات، وأعنف المعارك التي فر فيها فلان وفلان وتقاصر عن اقتحامها (4) الشجعان. أيصح بعد هذا أن نضع أبا بكر على منبر النبي وننزل بعلي عما يستحق من مقام ؟ !
---
(1) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 312. (2) إشارة إلى التهديد بإحراق بيت الزهراء عليها السلام، راجع: الأمامة والسياسة / ابن قتيبة: 12، والطبري في تاريخه 2: 233 طبعة دار الكتب العلمية - بيروت، شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 47 - 48، رواية تنص على أن عمر بن الخطاب جاء إلى بيت فاطمة عليها السلام في عصابة في رجال من الأنصار ونفر من المهاجرين، فقال: (والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم). (3) راجع تاريخ الطبري 2: 25 و65 و66، عندما قتل علي عليه السلام طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين... وقتل أصحاب الألوية، أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من المشركين، فقال: (احمل عليهم)، فحمل عليهم ففرق جمعهم، وقتل عمرو الجمحي، ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من المشركين، فقال لعلي: (احمل عليهم)، فحمل عليهم ففرق جمعهم، وقتل شبية بن مالك. فقال (جبريل) عليه السلام: (يا رسول الله إن هذه للمواساة)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه مني وأنا منه)، فقال (جبريل): (وأنا منكما...). (4) راجع: رواية سعيد بن أبي وقاص في صحيح مسلم 4: 1873، صحيح الترمذي 5: 596، الصواعق المحرقة / ابن حجر: 143 فهي تنطق بهذا المعنى.
--- [27]
صفحه ۲۶
خبريني يا ذكريات أبي العزيز أليس أبو بكر هو الذي لم يأتمنه الوحي على تبليغ (1) آية للمشركين ؟ وانتخب للمهمة عليا، فماذا يكون معنى هذا إن لم يكن معناه أن عليا هو الممثل الطبيعي للأسلام الذي يجب أن تستند إليه كل مهمة لا يتيسر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرتها ؟ إني لأتذكر بوضوح ذلك اليوم العصيب الذي أرجف فيه المرجفون لما استخلف أبي عليا على المدينة وخرج إلى الحرب، فوضعوا لهذا الاستخلاف (2) ما شاؤوا من تفاسير، وكان علي ثابتا كالطود لا تزعزعه مشاغبات المشاغبين، وكنت احاول أن يلتحق بأبي ليحدثه بحديث الناس، وأخيرا لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم رجع متهلل الوجه ضاحك الأسارير، تحمله الفرحة إلى قرينته الحبيبة ليزف إليها بشرى لا بمعنى من معاني الدنيا بل بمعنى من معاني السماء. فقص علي كيف استقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورحب به وقال له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (3)، وهارون موسى كان شريكا له في الحكم، وإماما لامته، ومعدا لخلافته، فلابد أن يكون هارون محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليا للمسلمين وخليفته فيهم من بعده.
---
(1) إشارة إلى قصة تبليغ سورة براءة، وهي في مسند الأمام أحمد بن حنبل 1: 3 طبعة دار صادر - بيروت، وفي الكشاف / الزمخشري 2: 243، قال: (روي أن أبا بكر لما كان ببعض الطريق لتبليغ سورة براءة، هبط جبرائيل عليه السلام فقال: (يا محمد لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك، فأرسل عليا...). راجع الرواية أيضا في صحيح الترمذي 5: 594. (2) راجع تفصيل الرواية في تاريخ الطبري 2: 182 - 183، البداية والنهاية / ابن كثير الدمشقي 7: 340. (3) راجع: التاج الجامع للاصول في احاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم / الشيخ منصور علي ناصف 3: 332، قال: رواه الشيخان والترمذي، صحيح مسلم 4: 1873، خصائص النسائي: 48 - 50. (الشهيد)
--- [28]
صفحه ۲۷
ولما وصلت إلى هذه النقطة من أفكارها المتدفقة صرخت إن هذا هو الأنقلاب الذي أنذر تعالى في كتابه إذ قال: (و10 ما محمد إلا رسول رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم)
---
(1). فها هم الناس قد انقلبوا على أعقابهم، واستولى عليهم المنطق الجاهلي الذي تبادله الحزبان في السقيفة حين قال أحد هما: (نحن أهل العزة والمنعة، واولوا العدد والكثرة، وأجابه الاخر: من ينازعنا سلطان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن أولياؤه وعترته) (2) وسقط الكتاب والسنة في تلك المقاييس ثم أخذت تقول: يا مبادئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جرت في عروقي منذ ولدت كما يجري الدم في العصب، إن عمر الذي هجم عليك في بيتك المكي الذي أقامه النبي مركزا لدعوته قد هجم على آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دارهم وأشعل النار فيها أو كاد.. (3). يا روح امي العظيمة إنك ألقيت علي درسا خالدا في حياة النضل الأسلامي بجهادك الرائع في صف سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وسوف أجعل من نفسي خديجة علي في محنته القائمة (4).
---
(1) آل عمران / 144. (2) راجع تفصيل ذلك في أخبار السقيفة / تاريخ الطبري 2: 234 وما بعدها، شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 6: 6 - 9، فقد نقلا هذه المحاورات والمداخلات. (3) في هذه المسألة التي كثر فيها الكلام، راجع: تارى الطبري 2: 233، أخرج عن ابن حميد بسند قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه رجال من المهاجرين فقال: (والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة...). (4) إشارة إلى موقف زوج الرسول الكريم خديجة الكبرى التي خصها الله بالكرامة في موقفها من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند محنته مع قريش في تكذيبه.
--- [29]
صفحه ۲۸
لبيك لبيك يا اماه إني أسمع صوتك في أعماق روحي يدفعني إلى مقاومة الحاكمين. فسوف أذهب إلى أبي بكر لأقول له: (لقد جئت شيئا فريا، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة (1)، ولانبه المسلمين إلى عواقب فعلتهم والمستقبل القاتم الذي بنوه بأيديهم وأقوال: (لقد لقحت فنظرة ريثما تحلب، ثم احتلبوها طلاع القعب دما عبيطا، وهناك يخسر المبطلون، ويعرف التالون، غب ما أسس الأولون) (2). ثم اندفعت إلى ميدان العمل وفي نفسها مبادئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وروح خديجة، وبطولة علي، وإشفاق عظيم على هذه الامة من مستقبل مظلم. طريق الثورة: لم يكن الطريق الذي اجتازته الثائرة طويلا، لأن البيت الذي انبعث منه شرر الثورة ولهيبها هو بيت علي عليه السلام، بالطبع الذي كان يصطلح عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت النبوة (3)، وهو جار المسجد (4) لا يفصل بينهما سوى جدار
---
(1) و(2) من خطبتها، راجع: شرح نهج البلاغة 16: 212. (3) ينقل الرواة والمؤرخون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استمر أكثر من ستة أشهر بعد نزول آية التطهير يقف على باب دار علي وفاطمة عليها السلام، عند ذهابه إلى الصلاة وهو يقول: (السلام عليكم يا نهل البيت)، راجع: مسند الأمام أحمد بن حنبل 3: 285 طبعة دار صادر، المستدرك على الصحيحين / الحاكم ا لنيسابوري 3: 158. (4) في مسند أحمد بن حنبل 4: 369، وفي تاريخ ابن كثير 3: 355، كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبواب شارعة في المسجد، فأمر رسول الله بسد هذه الأبواب إلا باب علي عليه السلام.
--- [30]
صفحه ۲۹
واحد، فلعلها دخلته من الباب المتصل به، والمؤدي إليه من دارها مباشرة، كما يمكن أن يكون مدخلها الباب العام. ولا يهمنا تعيين أحد الطريقين، وإن كنت ارجح أنها سلكت الباب العام لأن سياق الرواية التاريخية التي حكت لنا هذه الحركة الدفاعية يشعر بهذا، فإن دخولها من الباب الخاص لا يكلفها سيرا في نفس المسجد، ولا اجتياز طريق بينه وبين بيتها، فمن أين للراوي أن يصف مشيها، وينعته بأنه لا يخرم مشية
---
(1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو لم يكن معها بالطبع ؟ ! ولو تصورنا أنها سارت في نفس المسجد، لا ينتهي سيرها بالدخول على الخليفة، وإنما يبتدي بذلك، لأن من دخل المسجد صدق عليه أنه دخل على من فيه، وإن سار في ساحته من أن الراوي يجعل دخولها على أبي بكر متعقبا لمشيها، وهذا وغيره يكون قرينة على ما استقريناه. النسوة: وتدلنا الرواية على أن على الزهراء كانت تصحب معها نسوة (2) من قومها وحفدتها كما سبق ذكره، ومرد هذه الصحبة وذلك الاختيار للباب العام إلى أمر واحد، وهو تنبيه الناس، وكسب التفاتهم باجتيازها في الطريق مع تلك النسوة ليجتمعوا في المسجد، ويتهافتوا حيث ينتهي بها السير بقصد التعرف
---
(1) راجع الرواية، وأن مشيها لا يخرم مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 211. (2) المصدر السابق. (*)
--- [31]
صفحه ۳۰
على ما تريده، وتعزم عليه من قول أو فعل، وبهذا تكون المحاكمة علنية تعيها أسماع عامة المسلمين في ذلك الوسط المضطرب. ظاهرة: سبق أن الرواية التاريخية جاءت تنص على أن الزهراء لم تكن لتخرم في مشيتها مشية أبيها صلى الله عليه وآله وسلم. ويتسع لنا المجال لفلسفة هذا التقليد الدقيق، فلعله كان طبيعة قد جرت عليها في موقفها هذا بلا تكلف ولا اعتناء خاص، ولى هذا ببعيد فإنها (صلوات الله عليها) قد اعتادت أن تقلد أباها وتحاكيه في سائر أفعالها وأقوالها ، ويحتمل أن يكون لهذه المشابهة المتقنة وجه آخر بأن كانت الحوراء قد عمدت في موقفها يو مذاك إلى تقليد أبيها في مشيه عن التفات وقصد فأحكمت التمثيل، وأجادت المحاكاة، فلم تكن لتخرم مشية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأرادت بهذا أن تستولي على المشاعر وإحساس الناس، وعواطف الجمهور بهذا التقليد البا هر الذي يدفع بأفكار هم إلى سفر تصير، وتجول لذيذ في الماضي القريب حيث عهد النبوة المقدس، والأيام الضواحك التي قضوها تحت ظلال نبيهم الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون في إرهاف هذه الأحساسات وصقلها صقلا عاطفيا ما يمهد للزهراء الشروع في مقصودها، ويوطئ القلوب لتقبل دعوتها الصارخة، واستجابة استنقاذها الحزين، ونجاح محاولتها اليائسة أو شبه اليائسة. ولذا ترى أن الراوي نفسه أثرت عليه هذه الناحية أيضا من حيث يشعر أو لا يشعر، ودفعه تأثره هذا إلى تسجيلها فيما سجل من تصوير الحركة
--- [32]
صفحه ۳۱
الفاطمية: صرخة باركتها الزهراء، ورعتها السماء فكانت عند اندلاعها محط الثقل الذي تركز عنده الحق المذبوح، والمحاولة اليائسة التي شاعت حولها ابتسامات أمل استحالت بعد انتهائها إلى عبوس مرير، ويأس ثابت، واستسلام فرضته حياة الناس الواقعة يو مذاك. ثورة لم تكن لتقصد بها الثائرة نتيجة لها على ما يطرد في الثورات الاخرى بقدر ما كانت تهدف إلى تثبيت الثورة لذاتها، وتسجيلها فيما يسجله التاريخ في سطوره البارزة، فكانت الثورة على هذا بنفسها تؤدي الغرض كاملا غير منقوص، وهذا ما وقع بالفعل وبه نفسر الحكم بنجاحها وإن فشلت كما سنوضحه في موقع آخر من هذا الكتاب.
--- [33]
صفحه ۳۲
الفصل الثاني
فدك بمعناها الحقيقي والرمزي
* بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. (قرين الزهراء) أمير المؤمنين عليه السلام (نهج البلاغة / تنظيم صبحي الصالح: 416)
--- [35]
صفحه ۳۳
(الموقع:) فدك: قرية في الحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، وهي أرض يهودية في مطع تاريخها المأثور
---
(1). وكان يسكنها طائفة من اليهود، ولم يزالوا على ذلك حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها فصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصف من فدك وروي أنه صالحهم عليها كلها (2). (فدك في أدوارها الالى:) وابتدأ بذلك تاريخها الأسلامي، فكانت ملكا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها مما لم
---
(1) راجع معجم البلدان / ياقوت الحموي 4: 238 - 239 طبعة دار احياء التراث العربي - بيروت - 1399. (2) راجع: فتوح البلدان / البلاذري: 42 - 46، وما كان من أمر فدك ومصالحة أهلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصف، وأنها خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. وفي ص 46 قال: (ولما كانت سنة عشر ومائتين أمر أمير المؤمنين المأمون عبد الله بن هار ون الرشيد، فدفعها إلى ولد فاطمة، وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة...).
--- [36]
صفحه ۳۵
يوجف عليها بخيل ولا ركاب (1)، ثم قدمها لابنته الزهراء (2)، وبقيت عندها حتى توفي أبوها صلى الله عليه وآله وسلم فانتزعها الخليفة الأول رضى عنه الله - على حد تعبير صاحب الصواعق المحرقة (3) - وأصبحت من مصادر المالية العامة وموارد ثروة الدولة يو مذاك، حتى تولى عمر الخلافة فدفع فدكا إلى ورثة (4) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبقيت فدك عند آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن تولى الخلافة عثمان بن عفان فأقطعها مروان بن الحكم على ما قيل (5)، ثم يهمل التاريخ أمر فدك بعد عثمان فلا يصرح عنها بشئ. ولكن الشئ الثابت هو أن أمير المؤمنين عليا انتزعها من مروان على تقدير كونها عنده في خلافة عثمان - كسائر ما نهبه بنو امية في أيام خليفتهم. (في عهد أمير المؤمنين:) وقد ذكر بعض المدافعين عن الخليفة في مسألة فدك أن عليا لم يدفعها عن المسلمين بل اتبع فيها سيرة أبي بكر، فلو كان يعلم بصواب الزهراء وصحة دعواها ما انتهج ذلك المنهج. ولا اريد أن أفتح الجواب بحث التقية على مصراعيه واوجه بها
---
(1) كما هو مقتضى النص القرآني: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ) الحشر / 6. (2) فتوح البلدان: 44. (3) راجع: الصواعق المحرقة: 38. (4) راجع: شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 16: 213. (5) فتوح البلدان: 44، إن بني امية اصطفوا فدك وغيروا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، شرح نهج البلاغة 16: 216.
--- [37]
صفحه ۳۶