فأذعنت لرأيه، وكانت قد شعرت بشيء من الراحة بعد ما خصفت قدميها بتلك الأعواد المخضلة، فقامت تعتمد بيمناها على فرع قطعته من تلك الشجرة، وبيسراها على كتف بول حتى بلغا غابة كثيفة قد أحاط بها من جميع أقطارها كثير من الأدواح الباسقة الملتفة، فدخلاها، وما أمعنا فيها إلا قليلا حتى احتجب عنهما وجه الشمس وراء تلك الهضاب الشامخة والأدواح العالية، وغاب عن عينيهما الجبل المثلث الرأس، وكان علمهما الذي يهتديان به، فإذا هما في مضلة بهماء لا يريان فيها غير الصخور العالية، والهضاب المشرفة، والأشجار المتشابكة، والمسالك المتشابهة، والأعماق المتغلغلة، فذعر بول ذعرا شديدا، ووقف في مكانه حائرا ذاهلا لا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع؟ ثم اندفع يعدو ها هنا وها هنا هائما مخبولا عله يجد طريقا أو مسلكا، أو دليلا يهديه الطريق، فلم يجد، فتسلق شجرة عالية ووقف بين فرعين من فروعها وظل يدور بنظره حوله ليرى موضع الجبل المثلث الرأس، أو يرى قرص الشمس في منحدرها إلى مغربها، فلم ير غير ذوائب الأشجار العالية تتلألأ على أوراقها الخضراء أشعة الشمس الذهبية قبل انحدارها إلى الغروب، وغير الظلال الممتدة التي يرسلها الليل طلائع لجيوشه الزاحفة المتدفقة، وكانت الريح قد هدأت وخفت صوتها، شأنها ساعة الغروب، وساد السكون على كل شيء، فأصبحت الغابة كأنها كوكب من كواكب السماء، السابحة في أجواز الفضاء، لا يدب فيها حيوان، ولا يخطر إنسان، فملك الخوف قلب بول وجن جنونه، وأخذ يصيح بأعلى صوته لا يدري من يحدث ومن ينادي، الغوث، النجدة، النجدة، إلي أيها الناس لتنقذوا فرجيني البائسة المسكينة، فلم يجبه غير الصدى المتردد.
ولم يزل يكرر هذا النداء والصدى يردد صوته حتى خيل إليه أن صوته قد أصبح صدى من تلك الأصداء، فنزل من مكانه خائرا متضعضعا، ليس وراء ما به من الهم غاية، ثم وقف وأجال نظره في الفضاء فلم ير ماء ولا ثمرا، ولا نخيلا ولا شجرا، ولا كنا ولا مأوى، ولا شيئا مما يقتات به المقتات، أو يتعلل به المتعلل، فصرخ صرخة عظيمة، وتهافت على الأرض باكيا منتحبا، فذعرت فرجيني حين رأته على تلك الحال وهرعت إليه وضمته إلى نفسها وظلت تقول له : لا تبك يا بول، فإن بكاءك يقتلني هما وكمدا، واغفر لي جريمتي التي أجرمتها إليك، فلولاي لما قاسيت هذا البلاء الذي تقاسيه الآن، ولقد كان خيرا لي ألا أقدم على عمل من أعمال الخير أو الشر إلا بعد استشارة أمي، ثم قالت له: دع البكاء والنحيب ولنتوجه إلى الله تعالى بالضراعة والابتهال عسى أن يفرج كربتنا، ويجعل لنا من أمرنا مخرجا.
وجثيا يصليان صلاة طويلة استغرقت شعورهما ووجدانهما، وذهبت نفساهما فيها حيث تذهب نفوس القانتين المتبتلين في مواقف خشوعهم وابتهالهم، وكانت الشمس قد انحدرت إلى مغربها ولم يبق منها في حاشية الأفق إلا كما يبقى على صفحة البحر الهادئ من آثار السفينة الماخرة، فلبثا على ذلك هنيهة ثم استفاقا على صوت كلب ينبح نباحا شديدا، فصاح بول: إنه كلب أحد الصيادين الذين يرصدون الأيائل في أعماق هذه الغابات ليطلقوا عليها كلابهم فتعقرها، ثم اشتد نباح الكلب وأخذ يدنو منهما شيئا فشيئا، فارتعدت فرجيني وقالت: يخيل إلي يا بول أني أسمع صوت كلبنا «فيديل» لا، بل هو بعينه، وما ارتبت فيه قط.
وما أتمت كلمتها حتى كان الكلب «فيديل» تحت أقدامهما يتمسح بهما ويجاذبهما أثوابهما، ويكاد - لو استطاع - أن يبكي فرحا بهما، ثم ما لبثا أن رأيا الزنجي دومينج مقبلا عليهما، فازداد سرورهما واغتباطهما، وما وقع نظر الرجل عليهما حتى هرع إليهما وجثا تحت أقدامهما باكيا مستعبرا، وظل يقول لهما: لقد مر بأميكما اليوم يا ولدي يوم ما مر بهما مثله مذ نزلا هذه الأرض حتى اليوم، ولقد كان جزعهما عظيما جدا حينما عادتا من الكنيسة فلم تجداكما، ولم تعرفا أي سبيل سلكتما، ولا أي أرض اشتملت عليكما، ولم تستطع ماري أن تقول لهما شيئا؛ لأنها كانت مشتغلة ببعض الشئون وراء الكوخ في الساعة التي خرجتما فيها فلم تركما، وقد فتشنا عنكما في كل مكان وسألنا عنكما كل غاد ورائح فلم نجد من يدلنا عليكما، فرأيت أن أستعين بالكلب «فيديل» على تتبع آثاركما، فأحضرت له بعض أثوابكما وألقيتها بين يديه فاشتمها ، وكأنه علم ما يراد منه، فألصق خيشومه بالأرض وانبعث في الطريق التي سرتما فيها، فعل الدليل الحاذق، فتبعته أخترق الغابات والأجمات، وأتسلق الصخور والهضاب، وأجتاز الجداول والأنهار، وأشعر بجميع ما شعرتما به من المتاعب والآلام، حتى بلغنا ضيعة الرجل الأوروبي على شاطئ النهر الأسود، وهنالك حدثني بعض الذين عرفتهم من عبيده وأجرائه أنكما حضرتما إليه لتسألاه العفو عن زنجية مسكينة كانت قد أبقت منه وخافت الرجوع إليه، فوعدكما بالعفو عنها، ثم ما لبثتما أن عدتما أدراجكما قبل أن تعلما ما تم في شأنها.
فاضطربت فرجيني وقالت: وماذا تم في شأنها؟ ألم يعف الرجل عنها؟ فابتسم دومينج وقال: نعم عفا عن قتلها وإزهاق روحها، أما ما دون ذلك فلا، فإنه ما لبث على إثر ذهابكما أن أمر بشدها إلى بعض الأشجار عارية، وظل يجلدها بسوطه حتى تناثر لحمها، وتدفق دمها، ثم تركها مكانها تتأوه آهات تستبكي العيون وتذيب الأكباد، وقد رأيتها بعيني فلم أستطع البقاء أمامها لحظة واحدة.
وما أتم كلمته حتى صعقت فرجيني وهتفت بكلمتها التي كانت ترددها دائما: آه رب، لم لم تجعل طريق الخير سهلا لينا كطريق الشر؟!
ثم عاد الزنجي إلى حديثه يقول: ثم انكفأ «فيديل» راجعا فتبعته فسار قليلا على شاطئ النهر الأسود، ثم صعد الجبل الصغير المشرف عليه فصعدت وراءه حتى قادني إلى عين ماء جارية رأيت على مقربة منها نخلة من نخيل الجوز ساقطة محترقة لا يزال ينبعث دخانها وبقايا طلع مشوي متناثر حولها، فعلمت أنكما عجتما بهذا المكان، وأن الجوع قد نال منكما منالا عظيما فتجشمتما في طلب الطعام هذا العناء الكثير، ثم قادني الكلب بعد ذلك إلى هنا كما تريان، ونحن الآن على مقربة من الجبل المثلث الرأس، وبيننا وبين المزرعة أربعة فراسخ، وقد أرسلت لكما سيدتاي هذا الطعام فكلاه وخذا لنفسكما راحتها وسكونها، ثم نرى بعد ذلك كيف نعود، وأخرج لهما طعاما كثيرا، وأثمارا متنوعة، وركوة ماء قراح، وشيئا من شراب الليمون المحلى بالسكر، وجلسوا جميعا يأكلون ويشربون فرحين مغتبطين، لولا ما كان ينغص على فرجيني أحيانا من ذكرى تلك الزنجية المسكينة المعذبة، حتى فرغوا من الطعام وتهيئوا للمسير، فإذا بول وفرجيني ضعيفان متضعضعان لا يستطيعان الانتقال خطوة واحدة لما نالهما من الأين والإعياء.
فوقف دومينج وقفة الحائر المضطرب لا يدري ماذا يصنع: أيحملهما على عاتقه، وهو ما لا طاقة له به، أم يقضي الليل بجانبهما، ووراءهما أماهما تنتظرانهما انتظار الظامئ الهيمان علالة الماء البارد؟ أم يرجع إلى المزرعة وحده ليعود منها بمن يساعده على حملهما؟ وكيف له بتركهما وحدهما في هذه القفرة الموحشة التي لا يعلم إلا الله ماذا تضم بين أقطارها من مخاوف وأهوال، فتنفس تنفسة طويلة وأنشأ يقول: أسفي على تلك الأيام المواضي حين كنت أحملكما فيها يا ولدي على ذراع واحدة ما أشكو ولا أتبرم، أما اليوم فقد وهن عظمي، وضعفت منتي، وتقاربت خطاي، ولم يبق لي من الحياة إلا هذه الخطوات البطيئات التي أخطوها إلى قبري!
وإنه لكذلك إذ لمح أشباحا سوداء تنحدر إليه من قمة الجبل كأنها قطع الليل، فراعه منظرها، ثم تبينها فإذا قوم من الزنوج السود الآبقين من ظلم مواليهم البيض في شعاب الجبال ومخارمها، وكانوا قد سمعوا وهم في مكمنهم حديثه مع الولدين ورأوا حيرته في أمرهما فجاءوا لمساعدته، وقال زعيمهم: إن هذين الأبيضين الصغيرين من أطيب الناس قلبا، وأشرفهم نفسا، وأدناهم رحمة فقد جشما اليوم نفسهما عناء عظيما في سبيل مساعدة زنجية مسكينة كان قد بلغ بها الشقاء والبلاء مبلغهما، فرحماها وأويا إليها وذهبا بها إلى سيدها ليشفعا لها عنده ويسألاه العفو عنها والمرحمة بها، وقد رأيناهما صباح اليوم وهما سائران معها إلى شاطئ النهر الأسود، فشكرنا لهما في أنفسنا فضلهما ونعمتهما، وعجبنا كيف استطاع ذلك الإهاب الأبيض الدميم أن يضم بين أقطاره قلبا غير أسود، وقد سمعنا الآن حوارك معهما، وعلمنا أنهما في حاجة إلى من يحملهما إلى مزرعتهما، فجئنا لنتولى ذلك بأنفسنا مكافأة لهما على نعمتهما التي أسدياها إلى تلك الطريدة المسكينة.
ثم أشار إلى أصحابه فاقتطعوا في لحظات قليلة بضعة أعواد من بعض الأشجار العاتية وصنعوا منها ما يشبه المحفة، فصعد إليها بول وفرجيني، وحملها أربعة منهم على عواتقهم، ومشى الباقون أمامهم ينيرون الطريق بمشاعلهم، ويغنون أغانيهم الخاصة كأنما قد نسوا جميع همومهم وآلامهم التي يعالجونها في أنفسهم، حتى وصلوا عند منتصف الليل إلى المزرعة.
صفحه نامشخص