قال: وما العمل، والشقة بعيدة، والمنال وعر، والأرض قاحلة جدباء لا ماء فيها ولا ثمر ولا شيء مما يتبلغ به المتبلغ، أو يتعلل به الظامئ.
قالت: إن الله الذي يسمع زقزقة العصفور الصغير في عشه فيرسل إليه الحبة التي تقوته والقطرة التي ترويه سيسمع دعاءنا ويرد لهفتنا، وما ذلك عليه بعزيز.
ثم سارا في طريقهما، فما أبعدا إلا قليلا حتى سمعا خرير ماء على البعد، فانتعشا وصاحا بصوت واحد: «إن ها هنا ماء»، وتبعا الصوت حتى وصلا إلى صخرة عظيمة عالية يتفجر من صدوعها ماء زلال رقراق كأنه ذوب البلور في شفوفه ولمعانه، فشربا منه حتى ارتويا، ووجدا من حوله بعض الأعشاب التافهة فأصابا منها قليلا ثم جلسا في مكانهما.
وإنهما لكذلك إذ لمحا على البعد نخلة سامقة من نخيل الجوز، والجوز أنواع كثيرة متعددة، وهذا النوع منها دقيق مستطيل لا يزيد حجم ساقه عن حجم ساق الإنسان إلا قليلا، وربما ذهب في الهواء ستين قدما أو أكثر، وله في شعفاته لفائف ضخمة متراكمة أشبه بلفائف الكرنب، تحمل في جوفها طلعا أبيض ناصعا، حلو الطعم، جيد الغذاء.
فابتهجا بها إذ رأياها، وهرعا إليها، وكانا بين أن يصعداها - وهو ما لا سبيل إليه - أو يقطعاها - وهو ما تعيا به قوتهما - عقبة كئود؛ لأن جذعها على رقته ونحافته مؤلف من خيوط ليفية متداخلة متينة النسيج، سميكة القشرة، تعيا بها الفئوس القاطعة، فلم يبق أمامهما إلا أن يحرقاها فتهوى بين أيديهما فيظفرا بثمرها، ولم يكن لديهما نار ولا شيء مما تقتدح به النار، وليس في تلك المدرة جميعها - على كثرة صخورها وأحجارها، واختلاف صورها وأشكالها - حجر من أحجار الاقتداح، ففتقت الحاجة لبول حيلة من أغرب الحيل وأبدعها، وقديما فتقت الحاجات حيل الرجال، واستثارت دفائن ذكائهم وفطنتهم، وما انتفع العالم في جميع شئونه وأحواله بمثل ما تفتقه الحاجات والضرورات، ولا نبتت أغراس المعارف والعلوم والمستكشفات والمخترعات إلا في تربة الفقر والإقلال، فعمد إلى ظر رقيق الأطراف مما يقوم لدى سكان تلك الأصقاع مقام المدى في منفعتها وجدواها، فبرى به طرف غصن يابس متين حتى صيره كالسهم، ثم عمد إلى غصن آخر من نوع غير نوعه فثقبه ثقبا دقيقا بحد ذلك الحجر نفسه ثم أدخل طرف الغصن الأول في ثقب الغصن الثاني بعدما شد عليه بقدمه وظل يديره بكلتا يديه بسرعة عظيمة، فما هي إلا لحظات حتى التهب الغصنان وانبعث منهما دخان وشرر، فجمع بضعة أعواد يابسة وأوراق جافة وألقاها على النار فاشتعلت، فأدناها من ساق النخلة فنشبت بها ولم تلبث إلا قليلا حتى هوت بين يديه هوي الكوكب الناري من سمائه، فأخذ يفض اللفافات عن طلعها الأبيض النضير، وجلس هو وفرجيني يشتويان ويأكلان ألذ طعام وأهنأه حتى اكتفيا، ومرت بهما ساعة سرور وغبطة نسيا فيها بؤسهما وشقاءهما، ثم ما لبثا أن جمعا شتات نفسهما وأخذا يتمثلان حيرتهما وضلالهما، وبعد الشقة بينهما وبين أرضهما، ويذكران قلق أميهما عليهما، وجزعهما لغيابهما، ويقولان في نفسهما: لا بد أن تكون الظنون قد ذهبت بهما مذاهب سيئة في شأنهما حينما عادتا من الكنيسة إلى المزرعة فلم تجداهما، ولم تعرفا الوجه الذي ذهبا فيه.
ثم نهضا من مكانهما وأخذا يدوران بأنظارهما يمنة ويسرة ليتعرفا الطريق التي أتيا منها فأضلاها، فسقط في أيديهما ولم يعرفا كيف يعودان، وكان بول أهدأ من فرجيني روعا وأثبت جأشا، فظل يعللها ويهدئ روعها ويقول لها إن كوخنا يكون دائما في مثل هذه الساعة تحت قرص الشمس، فإذا نحن اتجهنا جهة الشرق لا نحيد عنه يمنة ولا يسرة، ثم إذا صعدنا هذا الجبل المثلث الرأس الذي نراه أمامنا لا نلبث أن نجد أنفسنا في مزرعتنا.
وأخذا يسيران في الوجهة التي توهماها، فمرا بغابات كثيرة، وأدواح ملتفة، وهضاب عالية، وأنهار جارية، لم يطأ السائحون لها أرضا حتى اليوم، وظلا على ذلك ساعتين حتى اعترض طريقهما نهر واسع يتدفق ماؤه تدفقا، فذعرت فرجيني لمنظره ومنظر الصخور السوداء الجاثمة في مجراه، واستحال عليها أن تضع قدمها فيه، فلم ينشب بول أن حملها على ظهره وخاض بها الماء لا يحفل بتياره المتدفق، ولا بصخوره المتزلقة، وظل يقول لها وهو سائر بها: لا تخشي شيئا يا أختاه، فإني جلد قوي لا يعجزني حمل شيء من الأشياء كيفما كان شأنه، وأشعر أني أزداد قوة وجلدا حين أكون معك، وأستطيع أن أقول لك إن نفسي كانت تحدثني بشر عظيم لذلك الرجل مولى الجارية حينما ظننت أنه احتقرك وازدراك فلم يحفل بك ولا برجائك، ولو أنه فعل لبطشت به بطشة لا أبالي بعواقبها.
فاضطربت فرجيني وقالت له: ولكنك لا تفعل يا بول إلا إذا أردت أن تكون غلاما شريرا، دع الأشرار يا صديقي وشأنهم، لا تهجهم، ولا تعترض طريقهم، عسى أن يموت شرهم في صدورهم حينما لا يجد له مضربا ولا منتدحا، ثم تنهدت ورفعت رأسها إلى السماء وقالت: آه يا رب! لم لم تجعل طريق الخير سهلا لينا كطريق الشر؟
ولم يزل سائرا بها حتى بلغ الضفة الأخرى، وأراد أن يستمر في سبيله حاملا إياها على ظهره حتى يصعد بها الجبل المثلث الرأس اعتزازا بقوته وبأسه، فألحت عليه ألا يفعل، فأنزلها.
واستمرا سائرين في أرض وعرة كأداء كاطراد السيف تحفى فيها النعال، وتدمى الأقدام، وكانت فرجيني قد نسيت نعلها في كوخها حينما ورد عليها من أمر تلك الزنجية المسكينة ما أذهلها وطار بلبها، فأضر بها الجهد، وأدمى قدميها المسير، فلم تزل تتحامل على نفسها حتى وصلت إلى جدول ماء جار، فترامت على ضفته وأخذت تنضح قدميها بمائه، ثم مدت يدها إلى شجرة فرعاء حانية عليها فاقتطعت بعض أعوادها وأوراقها ونسجت منها لنفسها ما يشبه النعل فانتعلته فهدأ بعض ما بها، وأقبلت على بول تقول له: ها هي ذي الشمس قد أشرفت على المغيب، ولا تزال الشقة بيننا وبين المزرعة بعيدة جدا، وقد نال مني التعب، ولم يبق لي جلد على المسير، فاتركني وحدي هنا واذهب إلى المزرعة لتخبر أهلنا خبرنا فيطمئنوا علينا، وابعثوا إلي من قبلكم من يحملني إليكم، فأبى بول مستعظما الأمر، وقال: الموت أهون علي من أن أتركك وحدك في هذا المكان الموحش المقفر، فسأبقى معك ما بقيت، فإن أظلنا الليل قطعت لك نخلة من نخيل الجوز فأطعمتك ثمرها كما فعلت الغداة ثم نسجت لك من أعوادها وأغصانها مهادا لينا تنامين عليه وأنا ساهر بجانبك حتى الصباح.
صفحه نامشخص