فمن هذه البداية التي نسلم بها ينطلق الناس إلى ما هو خلافي من طريق التطبيق الخطأ . فلو كان الناس يملكون هذه القدرة على التطبيق إلى جانب أفكارهم الفطرية لما كان ثمة حائل بينهم جميعا وبين الصواب. فإذا كنت ترى أنك تعرف كيف تطبق مبادئك العامة على الحالات الجزئية فقل لي على أي شيء تؤسس هذا التطبيق؟ - «على ما يبدو لي كذلك.» - ولكنه لا يبدو كذلك لغيرك. وهذا الغير يرى أنه هو أيضا يطبق المبادئ على النحو الصحيح، أليس كذلك؟ - «بلى.» - من الجائز إذن أن كليكما يطبق المبادئ تطبيقا صحيحا على نفس الموضوعات التي لديكما عنها آراء مصطرعة؟ - «كلا، هذا غير ممكن.» - هلا أطلعتنا إذن على طريقة في تطبيق المبادئ أفضل من مجرد أنها تبدو لك كذلك؟ وهل يفعل المجنون شيئا أكثر مما يبدو له صوابا؟ فهل هذا معيار كاف له أيضا؟ - «لا، هذا غير كاف.» - تعال إذن إلى أساس يكون أقوى من مجرد الظن، أي ما «يبدو» لك صائبا. - «ما هو؟» - هذه هي بداية الفلسفة: إدراك اختلاف الناس فيما بينهم، والبحث عن سبب الاختلاف، واطراح الظن، ومساءلة «ما يبدو» ووضعه موضع الشك وتسليط الضوء عليه وتمحيصه، هل «يبدو» على النحو الصحيح؟ والبحث عن معيار يفيدنا مثلما يفيد الميزان في تحديد الأوزان، وتفيدنا المسطرة في معرفة المستقيم والمعوج. هذه هي بداية الفلسفة، هل من الممكن أن نقول: إن كل الأشياء التي تبدو حقا لكل الأشخاص هي حق؟ هل يمكن أن تكون التناقضات حقا؟ - «لسنا نقول: كل الأشياء، بل كل ما يبدو لنا نحن.» - لماذا يكون هذا أحق مما يبدو للسوريين حقا؟ لماذا يكون أحق مما يبدو حقا للمصريين؟ - «ليس أحق على الإطلاق.» - إذن ما «يبدو» لكل واحد ليس كافيا لتحديد واقع الشيء، فحتى في الأوزان والأطوال لا نقنع بمجرد المظهر، بل نجد لكل شيء معيارا ما. فهل ثمة إذن في حالتنا هذه أي معيار أفضل مما «يبدو». هل يجوز أن نترك أهم الأشياء بين البشر وألزمها غير قابلة للتحديد والكشف؟ لا بد أن يكون ثمة معيار. ولماذا لا نطلبه ونكتشفه، ثم نستخدمه ولا نحيد عنه، بحيث لا نحرك إصبعا بدونه؟ فهذا، فيما أرى، هو الذي إذا وجد سيشفي من جنونهم أولئك الذين لا يعرفون معيارا سوى طريقتهم المنحرفة في التفكير ... سوى ما «يبدو» لهم حقا. وبوسعنا بعد ذلك، بادئين من نقاط معينة معروفة ومحددة أن نستخدم المبادئ العامة ونطبقها على الحالات الجزئية تطبيقا قويما.
هكذا: ما هو موضوع بحثنا الآن على سبيل المثال؟ «اللذة». اعرضها على المعيار، ألق بها في الميزان. هل ينبغي للخير أن يكون ذلك الشيء الذي يليق بنا أن نطمئن إليه ونوليه ثقتنا؟ - «هذا ما ينبغي للخير.» - هل يليق أن نثق بأي شيء غير مضمون؟ - «كلا.» - فهل اللذة مضمونة على أي نحو من الأنحاء؟ - «لا.» - خذها إذن وألق بها خارج الميزان، وأزحها بعيدا عن مكان الأشياء الخيرة.
على أن بوسعك إذا لم تكن حاد البصر أن تستعين بمعيار ثان إذا لم يكفك معيار واحد، هل يليق بنا أن نبتهج بما هو خير؟ - «نعم.» - هل من اللائق إذن أن نبتهج بلذة آنية؟ حاشاك أن تقول: نعم، وإلا فسوف أراك غير جدير حتى بالميزان.
هكذا تقيم الأشياء وتوزن عندما نكون مجهزين بالمعايير. وهذا هو التفلسف؛ أن تفحص القواعد وتتحقق منها، وأن تستخدم القواعد عندما تعثر عليها. تلك هي مهمة الرجل الحكيم والرجل الخير» (المحادثات، 2-11). (14) مباهج الفلسفة
كل فن من الفنون مرهق في تعلمه واكتسابه، ثم مبهج من بعد في ثماره ونتاجه، انظر إلى صنعة الإسكاف والحداد كم هي مزعجة في تعلمها، ولكن الحذاء شيء مفيد وجميل، وكذلك أعمال الحداد. وانظر إلى الموسيقى؛ فإن من يشاهد تلميذا أثناء تعلمه للموسيقى سيبدو له هذا العلم أبغض العلوم جميعا؛ ورغم ذلك فإن ثماره سارة ومبهجة حتى لدى أولئك الذين لا يعرفون شيئا عن الموسيقى.
والآن ماذا عن انشغال المرء بتعلم الفلسفة؟ أي بجعل إرادته متناغمة مع الأحداث؛ لا يقع أي حدث ضد رغبته ولا ينتفي أي حدث كان يرغب فيه؛ ومن ثم فهو لا يحبط فيما يريده، ولا يجلب أبدا ما يتجنبه، بل يقضي حياته من غير أسى ولا خوف ولا اضطراب، ويحفظ علاقاته، الطبيعية والمكتسبة، مع الآخرين: كابن، أو أب، أو أخ، أو مواطن، أو زوج، أو جار، أو رفيق سفر، أو حاكم، أو محكوم، شيء مثل هذا هو ما نعتبره عمل الفيلسوف، ويبقى أن نبحث كيف يمكن تحقيق ذلك.
والآن نحن نرى أن النجار يصبح نجارا بتعلم أشياء معينة، والملاح يصبح ملاحا بتعلم أشياء معينة. قد لا يكفي إذن في حالتنا هذه أن نرغب مجرد رغبة في أن نكون حكماء أو أخيارا، بل هناك أيضا أشياء معينة لا بد من أن نتعلمها. فما هي هذه الأشياء؟ يقول الفلاسفة: إن علينا أولا أن نتعلم أن هناك إلها، وأن عنايته توجه الكل، وأنه لا يطلع على أعمالنا فحسب بل على خواطرنا ونوايانا. وعلينا ثانيا أن نعرف ما هي طبيعة الآلهة؛ لأن من يريد أن يرضي الآلهة فإن لزاما عليه أن يتشبه بها جهد ما يستطيع. فإذا كان الإله مخلصا فإن على الإنسان أن يكون مخلصا. وإذا كان حرا فإن على الإنسان أيضا أن يكون حرا. وإذا كان الإله محسنا وشهما، فكذلك على الإنسان أن يكون.
من أين نبدأ إذن؟ نبدأ من فهم الأسماء. - «تعني إذن أنني لا أفهم الأسماء؟» - لا تفهمها. - «وكيف أستعملها إذن؟!» - تماما مثلما يستعمل الأمي كلمات المتعلم، وكما تستخدم العجماوات ظواهر الطبيعة؛ ذلك أن الاستخدام شيء والفهم شيء آخر. فإذا كنت تظن أنك تفهمها فهات أي ألفاظ تريد ودعنا نرى هل تفهمها أو لا. - «حسن، ولكنه شيء بغيض إلى الإنسان أن يفحم وقد كبر الآن وربما قد خدم في ثلاث حملات.» - أنا أعلم هذا أيضا؛ فقد أتيت إلي وكأنما لا يعوزك أي شيء، وكيف يمكن أن تتصور، مجرد تصور، أنك تعاني من أي قصور في أي شيء؟ أنت ثري، ولديك أبناء وزوجة، وربما لديك كثير من العبيد، تعرف قيصر، ولك في روما أصدقاء كثيرون توفيهم حقهم جميعا، أنت تعرف كيف تثيب من أسدى إليك معروفا وكيف تنتقم ممن آذاك. ماذا ينقصك؟ إذا أثبت لك إذن أنك تفتقر إلى أهم الأشياء وألزمها للسعادة، وأنك راعيت حتى الآن كل شيء إلا ما ينبغي أن تراعيه؛ وأول ذلك أنك لا تعرف ماذا يكون الله وماذا يكون الإنسان، وما هو الخير وما هو الشر، فلربما احتملت ذلك. أما الذي لا قبل لك باحتماله فهو أن أقول لك: إنك لا تعرف نفسك أدنى معرفة.
ولكن لماذا تغضب إذا باح لك المعلم بحقيقة جهلك، هل تغضب من الطبيب إذا أخبرك بحقيقة مرضك؟ أو من المرآة إذا عكست لك حقيقة منظرك كما هو؟!
موقفنا الذي نتخذه أشبه بما يجري في سوق المزارعين الموسمية؛ حيث تجلب البهائم والمواشي للبيع، ويأتي أغلب الناس إما للبيع وإما للشراء، غير أن هناك فئة صغيرة يأتون لرؤية السوق فحسب والنظر في كيف يعقد ولماذا، ومن الذي حدد موعده، ولأي غرض.
صفحه نامشخص