الإهداء
مقدمة
1 - إبكتيتوس: المختصر «النص الكامل»
2 - إبكتيتوس: دراسة وتعليق
الإهداء
مقدمة
1 - إبكتيتوس: المختصر «النص الكامل»
2 - إبكتيتوس: دراسة وتعليق
المختصر
المختصر
تأليف
إبكتيتوس
الإهداء
إلى ملهمنا الأخير وبلسمنا المتبقي لنداوي به البشاعة؛ إلى شوبان العود الأستاذ نصير شمة. طائر من الغيب حط على غصننا الواهن في الوقت الخطأ، فما أجازه لدينا سوى أن الفن الحقيقي لا زمن له.
عادل مصطفى
مقدمة
لم يكن فردريك الأكبر يذهب في حملة عسكرية، إلا وهو يحمل في حقيبته نسخة من «المختصر».
جيمس ستوكدال
في مدرسته الفلسفية في نيقوبوليس يقف هذا الشيخ النحيل بين تلامذته من صفوة الشبيبة الرومانية، مكللا بتواضعه، مدججا بصدقه، مسيجا بحيائه. وجوده كله ينبض في كلماته، كلماته المتوهجة التي تضج بالحياة وتكتنز بالمعنى وتغنى بالجمال عن الزينة. فيتلقفها تلميذه النابه فلافيوس أريانوس وينزلها في الرق كما هي حريصا عليها ضنينا بها. ثم لا يجد بدا من الإشراف على نشرها بنفسه وقد علم أن الشراكة في الحكمة لا تنقصها، وأن تحريك الرياحين يزيدها طيبا.
ذلك هو إبكتيتوس الفيلسوف الرواقي الذي نبه شأنه في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي والثلث الأول من القرن الثاني؛ وكانت حياته صورة لفكره، ورفع نفسه من العبودية والبؤس إلى أعلى مدارج الحياة العقلية والروحية: «عبد، أعرج، معوز، ولكن عزيز لدى الآلهة» كما نقش على شاهد قبره.
أحبه الإمبراطور هادريان وآثره، وقيل إنه زار مدرسته في نيقوبوليس. واقتبس منه الإمبراطور ماركوس أوريليوس كثيرا في «التأملات»، وكتب فيها: «إنني لمدين لرستيكوس بتعرفي على «محادثات إبكتيتوس» التي تفضل علي بنسخته الخاصة منها» (التأملات، 1-7). ويذكره أوريجين ويقول عنه: إنه عمل خيرا مما عمله أفلاطون! كما أثنى عليه القديس أوغسطين في الفصل الخامس من «مدينة الله». أما بليز بسكال، أحد أمراء البيان في كل العصور، فكان يعد «محادثات إبكتيتوس» أحد أعز كتابين لديه. ويعتبره ماثيو أرنولد واحدا من ثلاث شخصيات تاريخية
1
هي الأكثر إلهاما له وعونا في الأوقات العصيبة.
يسأل قارئ «المحادثات» و«المختصر»: من أين لهذا الشيخ الواهن كل هذه الإمرة، وهذا السلطان على طلبته من علية الرومان؛ حكام العالم في ذلك الزمان؟!
ذلك شيء لا يكون إلا علويا. تلك إمرة العقل وسلطان الحكمة، إنه ليرأم الشاب الفتي ويلقي القول على قلبه فيقلم عتوه ويذهب بشرته، ويعده لدوره، ويشكله بفلسفته، ويؤتي فيه أثره كأن قلبه في يده وقلوب الشباب في ضلاله:
الزم الصمت فثمة خطر كبير بأن تقيء في الحال ما لم تهضمه.
مدرسة الفيلسوف مشفى لا يفترض أن يروح منه الطلاب في لذة بل في ألم.
يظن الكثيرون أن الحر فقط هو من ينبغي أن يتعلم، بينما يرى الفلاسفة أن المتعلم فقط هو الحر.
لكل نوع من الكائنات جماله، وجمال الإنسان في الجانب الإنساني منه: العقل. وفي هذا فلتعمل التطرية والتهذيب. أما شعرك فدعه لمن جبله وفق اختياره.
إننا نتحدث عن أنفسنا كأننا معدات أو أمعاء أو سوءات، فنخاف ونرغب ونتملق الذين يقدرون على مساعدتنا في هذه الأشياء ونخشاهم أيضا.
لا أحد يرسم أمامه دريئة من أجل أن يخطئها!
أنت روح ضئيلة تضطرب هنا وهناك حاملة جثة.
لقد فزت بخير من الوليمة التي فاتتك؛ فزت بإعفائك من التزلف.
ليست الأشياء ما يكرب الناس، بل فكرتهم عن الأشياء.
من يرض بالعيش حيثما وضعه الله فإنه على استعداد لمغادرة مسكن الروح إذا كان البيت مليئا بالدخان.
هو إن كان حاذقا فسيعرف جدارتك. أما إن كان غير حاذق فلن يقدرك وإن كتبت إليه مائة توصية.
لا تغضب إذا باح لك المعلم بحقيقة جهلك. وهل تغضب من الطبيب إذا أخبرك بحقيقة مرضك؟ أو من المرآة إذا عكست لك حقيقة منظرك كما هو؟!
صحبة الفلاسفة خير من صحبة الأغنياء. لن يلحق بك خزي إذا أنت شوهدت على أبواب الفلاسفة، ولن تعود أدراجك خاوي الوفاض.
الخائن منبوذ يفر منه الجميع فرارهم من الزنابير.
لا تقل «فقدته» ... قل «رددته».
فهل يهمك بوساطة من استرد منك الواهب ما أعطى؟!
محصن بالفلسفة ... لا حد بعد الحد ... التعفف امتلاك مضاعف ...
يسري القول في مسمع الفتى من هؤلاء مسرى النسغ في النبتة ، فيشيع فيه ويمس ضميره، ويتحول إلى كيان عضوي، إلى حياة. (1) عدتك في المحن
يقول برتراند رسل في «تاريخ الفلسفة الغربية»: ثمة صدق وبساطة عظيمان في الكتابات التي تسجل تعليم إبكتيتوس. وإن أخلاقه لرفيعة وعلوية. وقلما يجد المرء أي تعاليم تفوقها إسعافا له حين يكون في موقف يقتضيه في المقام الأول أن يقاوم سلطة مستبدة.
2
يعلم إبكتيتوس أن ليس ثمة من أذى حقيقي يمكن أن يلحق بالمرء إلا ما يجره العقل على نفسه (حين يخطئ في أحكامه على الأشياء). الضرر لا يكون إلا ذاتيا.
3
ليس ثمة معنى لأن يكون المرء ضحية لغيره؛ فالمرء لا يمكن أن يكون ضحية إلا لنفسه! إذا مثلت أمام جبار الأرض فتذكر أن هناك من يرنو من الأعالي إلى ما يجري وأن عليك أن ترضيه لا أن ترضي هذا الإنسان. وتذكر قول سقراط: «بوسع أنيتوس وميليتوس بالتأكيد أن يقتلاني. أما أن يؤذياني فذاك ما ليس في وسعهما.» واختم مرافعتك بقولك: «أنا لن أتضرع إليك، ولن أبالي بالحكم الذي ستتخذه (فأنت الذي على المحك الآن!) إنما أنت من يحاكم الآن وليس أنا» (المحادثات، 2-2).
كن على يقين من الموت؛ فذلك أمر لا حيلة فيه. ولكن احترس من «الخوف من الموت»؛ فذلك أمر في قدرتك. «من التعس أن تنضج أكواز الذرة ثم لا تحصد، ومن التعس أن يكبر الإنسان ثم لا يموت» (المحادثات، 2-6). «جميع الطرق الموصلة إلى هاديس
4
متساوية. ولكن إن شئت الحقيقة فإن طريق الطاغية مختصرة. الطاغية الذي يحكم عليك بالقتل؛ فلم نعرف طاغية قتل إنسانا في ستة أشهر، أما الحمى فكثيرا ما تستغرق عاما لكي تقتل. كل هذه الأشياء مجرد لغط وضجة أسماء فارغة» (المحادثات، 2-6). (2) مهرجان الوجود «ماذا بوسعي أن أفعل، أنا الرجل المسن الأعرج، سوى أن أكبر الله. لو كنت عندليبا لقمت بمهنة العندليب. ولو كنت تما لقمت بمهنة التم.
5
ولكني كائن عاقل، فينبغي أن أكبر الله. هذه مهنتي، وأنا مؤديها، ولن أتنحى عنها ما حييت.» وما هو بالهين هذا الدور الذي أؤديه؛ فإذا كان الكون كتابه والخلائق كلماته، فإن القراءة قراءتي والفهم فهمي والتأويل تأويلي. فحمدا لزيوس على أن دعاني إلى مهرجان الوجود، وجعلني مشاهدا للعرض الرائع، بل ومؤولا له. وماذا علي إذا صرفني بعد انقضاء مدتي المقدرة؟ لا شيء. سأغادر مرضيا، وأنصرف دون تلكؤ، وما أزال أرضى بقضائه حتى أجعل مقدوره إرادتي، ومحتومه اختياري. (3) عصا هرمس ... الإرادة الخيرة
عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه.
الإمام علي
الإرادة الخيرة تحول كل الشرور الخارجية إلى خير صميم ومادة لممارسة الفضيلة. هل تكالبت عليك المتاعب وتعاورتك الخطوب؟ هذه مناسبة لممارسة الصبر والجلد. هل أساء إليك جارك؟ تلك فرصة لتدريب وجدانك على العفو والصفح والإحسان. جرب هذا السلاح الجديد الذي يلقف كل الأسلحة المضادة، ويرد إليك عدو الأمس صديقا مخلصا ووليا حميما.
هذه هي «عصا هرمس» السحرية التي تحول كل شيء تمسه إلى ذهب. «إذا ألم بي أي شيء من هذه الأشياء فما زال بوسعي أن أفيد منه خيرا» (المختصر، 18). هات ما شئت ولسوف أحيله إلى خير: المرض، الموت، الفقر، السب، السجن؛ كل أولئك يصير مادة لعمل الإرادة، تستخلص منه الخير وتصنع منه السعادة!
لقد تعرض إبكتيتوس في مستهل حياته لأبلغ ضروب القسوة والغلظة، ورأى الفساد والطغيان رأي العين، فما استكان لما لاقى ولا جزع، بل استخلص منه حكمة وورعا بسطا ظلهما على عصره وأصبحا مضرب الأمثال في كل العصور: «بم ينبغي على المرء أن يتسلح في مثل هذه الظروف؟ أيكون بشيء آخر غير التمييز بين ما لي وما ليس لي؟ بين ما بوسعي وما ليس بوسعي؟ ينبغي أن أموت، ولكن هل يعني ذلك أنني ينبغي أن أموت نائحا؟ ينبغي أن أصفد بالأغلال، ولكن هل ينبغي أيضا أن أئن وأعول؟ ينبغي أن أنفى، ولكن من ذا الذي يمنعني من أن أذهب إلى المنفى مبتسما منشرحا وادعا؟!» (المحادثات، 1-1). «المرض إعاقة للبدن، ولكن ليس للإرادة، إلا إذا شاءت الإرادة ذلك. العرج إعاقة للأرجل وليس للإرادة. وقل الشيء نفسه عن كل شيء يحدث، فلسوف تجده إعاقة لشيء آخر، ولكن ليس لك أنت» (المختصر، 9). أرني رجلا برغم المرض فهو سعيد، وبرغم الخطر فهو سعيد، وبرغم السجن فهو سعيد، أكن قد رأيت رواقيا.
خلاصك وتلفك كلاهما يقبع داخلك. كلاهما قرارك الخاص. «سدة القضاء عالية وغيابة السجن واطئة. غير أن بوسع الإرادة أن تبقى متكافئة إذا اخترت لها ذلك في الحالين، وستكون سقراطا
6
إذا استطعت أن تكتب أناشيد شكر وأنت في السجن» (المحادثات، 2-6). (4) العلاج الفلسفي
نحن مسئولون عن انفعالاتنا.
الانفعالات أحكام (أو تضمر أحكاما) قبلناها بإرادتنا وصدقنا عليها باختيارنا.
الانفعالات تقييمات، تقديرات، طرائق في إدراك العالم والحكم على الأشياء.
والتأمل العقلي يتيح لنا مراجعة الأحكام المبتسرة حول ما رأيناه إهانة أو فقدانا، من شأن هذه المراجعات «المعرفية» أن تخلصنا من قبضة «الانفعالات» السلبية. «الموت ليس مريعا ... وإنما المريع هو الحكم بأن الموت مريع» (المختصر، 5). «من شتمك أو ضربك لم يهنك، وإنما الذي أهانك هو حكمك بأن هذه الأشياء إهانة» (المختصر، 20). «لا تحدث نفسك بأن هذه الأشياء ضرورية ولن تعود ضرورية» (المحادثات، 4-1). «ليس لزاما أن نتخلص من الفقر، بل أن نتخلص من فكرتنا عن الفقر، ولسوف نكون بخير حال» (المحادثات، 3-17).
صحح الفكر يصح الانفعال.
فكرة رواقية بسيطة تلقفها السيكولوجيون المعاصرون فجعلوا منها مدارس علاجية وطيدة وصيحات سيكوباثولوجية رائجة، تقوم على تغيير الانفعالات المرضية (الاكتئاب، القلق، الخوف، الهلع ...) بتغيير الفكر، عملا بقول شيشرون «أعمل مجاذيف الفكر إذا شئت أن تحول النفس.»
7 (5) الاكتفاء بالفضيلة
كفى بالقناعة ملكا، وبحسن الخلق نعيما.
الإمام علي
الاكتفاء بالذات، السيادة على الذات: هذا هو الدرس الرواقي الأول، وهذا هو الترياق الناجع ضد الروح المادية الاستهلاكية البائسة التي تسود المشهد المعاصر. «أما أن تفغر فمك وما تنفك تلهث وراء الأشياء الخارجية فلا مناص لك من أن تهرول هنا وهناك وفقا لإرادة سيدك، من هو سيدك؟ هو من يملك أن يمنح تلك الأشياء أو يمنعها» (المحادثات، 2-2).
اللذة، والمال، والمجد، أشياء رواغة وغير مضمونة، والمراهن عليها خاسر وإن ربح. إننا نعيش في عالم «هيراقليطي» دائب التدفق، لا ثابت فيه إلا التغير. ولكي نظفر بالسعادة فإن علينا ألا نتشبث بما هو بطبيعته عابر وصائر ومفلت، علينا ألا نهدهد رغباتنا بل نقتلها، ألا نغنى بالأشياء بل عنها. «أشرف الغنى ترك المنى.»
8
والنفس تكلف بالدنيا وقد علمت
أن السلامة منها ترك ما فيها
الفضيلة هي الخير الوحيد. الفضيلة غاية في ذاتها، وليست وسيلة إلى أي شيء آخر. الفضيلة ثواب ذاتها، لست مضحيا بشيء حين تترك كل شيء من أجل الفضيلة.
لا تدعه سعيدا من اكتسب شيئا بطريقة ممقوتة ومغثية لك. وماذا ارتكبت العناية إذ تعطي ما هو أفضل لمن هو أفضل؟ ألا تفضل أن تكون شريفا على أن تكون غنيا؟ لماذا تغضب إذن ما دمت تحظى بالأفضل؟ للأعلى دائما ميزة على سواه في الشيء الذي فيه علا، إنما العبرة في أن يصح العزم على أمر صائب (المحادثات، 2-15):
كم حكمة هي جهل
وغفلة هي فخر
9
الشخص الذي سرق مصباح إبكتيتوس كان أكثر منه يقظة، ولكنه اشترى المصباح بثمن باهظ؛ بالصيرورة لصا!
فيم غضبك على البعض؟ لأنهم يغشون وينهبون وينافقون؟ لقد ارتكبوا خطأ في فهم طبيعة الخير والشر. ذلك أدنى أن ترثي لهم وتشفق عليهم وتظهرهم على خطئهم، لا أن تبغضهم وتلعنهم وتهجرهم. فإذا فشلت في ذلك فتحمل ضريبة فشلك: السماح والعفو!
كل إثم تناقض؛ لأن أولئك الذين يأثمون لا يرغبون في ذلك. إنهم يريدون تحقيق مصلحتهم (خيرهم)، ولكن هل هم يحققونها؟ كلا؛ فالخير الوحيد هو الفضيلة. لقد ارتكبوا تناقضا، الملكة العاقلة تبغض التناقض. اكشف لها تناقضا ولسوف تقلع عنه. فإذا فشلت فاعتب على نفسك لا على من فشلت في إقناعه. (6) الواجب المدرسي الرواقي
لسانك يقتضيك ما عودته.
10
السجايا والسمات ترسخ ذاتها بمعنى ما: التوقح يرسخ الوقاحة، والغدر يوطد الغدر، والتطفيف في الأخذ والعطاء يجعل الجشع أكثر جشعا. من هنا تأتي أهمية التدريب والاعتياد. يوصينا الفلاسفة بألا نكتفي بالتحصيل والدرس بل نقرنهما بالفعل والممارسة. لقد طال اعتيادنا للأفعال والاستجابات السلبية حتى تحولت إلى عادة تزداد صلابة بالتكرار والتواتر. وطال اعتيادنا للانفعالات العنيفة حتى أصبحت طبيعة ثانية: «إن الحديد بالحديد يفلح.»
11
ولا يفل العادة إلا العادة المضادة: التدريب، هذا هو الواجب المدرسي الرواقي. إذا كنت غضوبا نكدا فإن علي أن آخذ نفسي بالتدريب على التسامح والعفو، وأن أفرح بكل يوم يمر وقد أمكنني أن أقابل الإساءة بالإحسان والإهانة بالصفح. فإذا مر شهر وصفحتي نقية من النزق والغل أكون قد أحرزت تقدما على الدرب وآتيت برا بنفسي. (7) المواجدة ومواطنة العالم
لا وطن إلا للكراهية والأنانية. الأخوة لا وطن لها.
لامارتين
ليس بلد أحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك.
الإمام علي
لماذا تضيق على ذاتك دائرة الانتساب حتى تختنق بنفسك وتشرق بريقك؟! كن «مواطن العالم». مواطنة العالم لا تنفي ولاءك لوطنك المحلي بل تطهر هذا الولاء وتنقذه من التعنت والتزمت والشوفينية البلهاء.
12
تعلم كيف تضع نفسك موضع هذا الآخر المغاير ... كيف «تضع قدمك في حذائه» ... كيف تغمد نفسك، تقمصا وخيالا، في ظروفه وأوضاعه وطباعه، وترى الوجود في زاويته. تعلم «مقايضة المواقع في المخيلة» بتعبير آدم سميث. تلك هي «المواجدة»
empathy ، ملاك الذكاء الانفعالي، وقوام الكوزموبوليتانية الرواقية، وشرط الاندماج في عصر العولمة؛ فالعالمية ليست وقفا على الاقتصاد، بل تشمل مجتمعنا الأخلاقي أيضا.
13
ولسوف تطرفك هذه المواطنة الرحبة بهداياها: أشقاء جدد، بيض وسود، رجال ونساء، أحرار وعبيد، إخوتك الذين لا تعرفهم، أحبائك الذين حجبتهم عنك غمامة القبيلة. عانق، إن كان عطفك قد جف فلسوف يدر مرة ثانية ويغمرك بالدفء والغبطة، بل تعرف على نفسك فيهم فأنت لن تعرف ذاتك إلا عبرهم!
بالصفاء والانفتاح؛ صفاء الرؤية وانفتاح الروح، يتمدد نطاقي الخاص، ويضيف إليه أصقاعا ويضم ممالك. (8) المختصر «المختصر»
14
Manual (Enchiridion)
هو لمع من «المحادثات» اقتبسها أريان ودونها بصياغة محكمة فصارت، شأن «المحادثات»، من عيون التراث الغربي وروائعه الخوالد.
لا يغني «المختصر» عن قراءة «المحادثات».
15
غير أنه يسعف القارئ المعاصر، المتعجل المقل، و«ما لا يدرك كله لا يترك كله.» كما أن «المختصر» قد حفظ لنا نتفا من «المحادثات المفقودة»؛ أي من الأبواب الأربعة التي قيل: إنها فقدت من الأبواب الثمانية الأصيلة للمحادثات، ولسنا نجدها حقا في المحادثات المتوافرة لدينا. وبهذا الاعتبار يمكن القول أيضا بأن قراءة «المحادثات» لا تغني عن قراءة «المختصر».
كان «المختصر» كتابا مفضلا لدى بعض المسيحيين الأوائل، وقد صار، مع تغيير طفيف لبعض الكلمات، ضربا من الدليل المرشد عند القديس نيلوس وعند نساك جبل سيناء.
16
ويقول جيمس ستوكدال في محاضرته «شجاعة تحت النيران - اختبار مبادئ إبكتيتوس في مختبر للسلوك البشري»: «أنبأني رينلاندر أن فردريك الأكبر لم يكن يذهب في حملة عسكرية إلا وهو يحمل في حقيبته نسخة من «المختصر».»
17 (9) الدرس الأخير: تملك الأفكار
بحسبك من حديث عما يكونه الرجل الصالح؛ كن رجلا صالحا.
ماركوس أوريليوس
ولست أعتد للفتى حسبا
حتى يرى في فعاله حسبه
البحتري
آية الهضم التام أن يتحول المهضوم إلى الهاضم. فأنت، كما يقول بياجيه، حين تهضم الملفوف فإنك تحوله إلى أنسجتك وبنائك العضوي ولا تتحول أنت إلى ملفوف!
وكذا أيضا يقول إبكتيتوس. إنه يهيب بالطالب ألا يتعجل ادعاء العلم والتصدي لوعظ الناس قبل أن «يتملك»
appropriate
أفكاره تملكا حقيقيا و«يتمثلها»
assimilate
تمثلا تاما: «لا تقل أبدا إني فيلسوف، ولا تكثر الحديث بين الجهال عن نظرياتك، بل بينها بالأفعال. فإذا كنت في وليمة فلا تقل كيف ينبغي الأكل بل كل كما ينبغي ... وإذا دار أي حديث بين الجهال حول أي نظريات فلسفية فالزم الصمت دائما؛ فثمة خطر كبير بأن تقيء في الحال ما لم تهضمه. وعندما يأتي اليوم الذي يقال لك فيه: إنك لا تعرف شيئا، فلا يثير ذلك غضبك ولا سخطك - فثق عندئذ أنك قد وضعت قدمك على بداية طريق الحكمة.
ذلك أنه حتى الخراف لا تقيء عشبها لكي تري الرعاة كم أكلت، بل عندما تهضم الكلأ داخلها فإنها تخرجه صوفا ولبنا. أنت أيضا لا تظهر النظريات للجهال بل الأفعال الناتجة عن النظريات بعد أن يتم هضمها» (المختصر، 36). «لا تلق على الناس مواعظ فلسفية، بل أرهم في نموذجك الخاص أي صنف من البشر تصنع الفلسفة، وكف عن العبث» (المحادثات، 3-13).
من شأن الفكر الذي تتملكه حقا أن يتحول من جلبة مسموعة إلى مشهد مرئي.
أن يتجلى في أفعالك.
ويذوب في كيانك.
ويغيب فيك.
عادل مصطفى
الفصل الأول
إبكتيتوس: المختصر «النص الكامل»
(1) ما في قدرتنا وما ليس في قدرتنا
من الأشياء ما هو في قدرتنا وطوقنا، ومنها ما ليس في قدرتنا وليس لنا به يد؛ فمما يتعلق بقدرتنا: أفكارنا ونوازعنا ورغبتنا ونفورنا، وبالجملة كل ما هو من عملنا وصنيعنا، ومما لا يتعلق بقدرتنا أبداننا وأملاكنا وسمعتنا ومناصبنا، وبالجملة كل ما ليس من عملنا وصنيعنا.
أما الأشياء التي في قدرتنا فنحن بطبيعتنا أحرار فيها، لا حائل بيننا وبينها ولا عائق، وأما الأشياء التي ليست في قدرتنا فهي أشياء هشة وعبودية وعرضة للمنع وأمرها موكول لغيرنا.
تذكر إذن أنك حين تأخذ ما هو بطبيعته مملوك على أنه حر، وما هو موكول لغيرك على أنه لك، فلسوف تخيب وتأسى وتنخذل، ولسوف تلوم الآلهة والبشر. أما حين لا تأخذ إلا ما هو لك على أنه لك، وحين تدع ما هو لغيرك على أنه، حقا، لغيرك، فلن يكون لأحد سلطان عليك، ولن يصدك أحد عن سبيلك، ولن تلوم إنسانا ولن تتهم أحدا، ولن تفعل أي شيء غصبا، ولن يضرك أحد، ولن يكون لك عدو إذ لا يمكن أن يمسك أذى.
إذا كنت تصبو إذن إلى مثل هذه الأشياء العظيمة فتذكر أنك لن تشتريها بثمن قليل، إنما سيتعين عليك أن تتخلى عن بعض الأشياء كل التخلي، وأن ترجئ الأخرى في الوقت الحاضر. أما إذا كنت تريدها وتريد معها النفوذ والثروة أيضا، فلربما تخسر حتى هذه الأشياء نفسها (النفوذ والثروة) لأنك صبوت أيضا إلى تلك (الأشياء العظيمة). يقينا سوف تفوتك تلك الأشياء التي بها وحدها تتحقق السعادة والحرية.
فليكن دأبك إذن منذ البداية أن تقول لكل «انطباع» مزعج: «أنت مجرد انطباع، ولست بأي حال ذلك الشيء الحقيقي الذي تمثله.» ثم افحصه وقدره بتلك المعايير التي لديك، وأولها هذا: أيتعلق هو بالأشياء التي في قلوبنا أم بالأشياء الخارجة عن إرادتنا؟ فإذا كانت الأخيرة فكن على استعداد لأن تقول بأن هذا الانطباع لا يعنيك في شيء.
1 (2) الرغبة والنفور
تذكر أن الرغبة تتطلب حصولك على ما أنت راغب فيه، وأن النفور يتطلب تجنبك لما أنت نافر منه؛ أن من يفشل في بلوغ الشيء الذي يرغب فيه هو محبط، ومن يحيق به الشيء الذي يتجنبه فهو شقي. إذن لو أنك لا تجتنب إلا تلك الأشياء المكروهة التي في قدرتك اجتنابها فلن يلم بك أي شيء تعافه. أما أن تجتنب المرض أو الموت أو الفقر فسوف تعرض نفسك للشقاء. فلتقض في نفسك إذن على كل رهبة من الأشياء التي ليست في قدرتك، وليكن نفورك فقط من الأشياء المكروهة التي في قدرتك اجتنابها؛ على أن تلجم في نفسك كل رغبة في اللحظة التي أنت فيها؛ ذلك أنك لو رغبت في أي من الأشياء التي ليست في قدرتنا فمن المحتم أن يخيب أملك وأنت لم تنل بعد تلك الأشياء التي في قدرتنا والتي هي جديرة بالرغبة.
2
ولكن استخدم فقط ملكة النزوع المناسب «إلى» الشيء و«عنه»، وحتى هذه استخدمها بقدر وبلطف وتحفظ.
3 (3) تذكر بقية الخصائص
فيما يتصل بأي شيء لك فيه بهجة أو منفعة أو تحبه حبا جما لا تنس أن تضيف هذا إلى مواصفاته: «ما هي طبيعة هذا الشيء؟» بادئا من أدناها شانا. إذا كنت شغوفا بكوب فخاري معين قل لنفسك إنه كوب من الفخار؛ ومن ثم فإذا انحطم لم تأسف لانحطامه. وإذا كنت تقبل ولدك أو زوجك فقل: إنه كائن إنساني هذا الذي تقبله؛ ومن ثم فإذا مات طفلك، أو زوجك، لم تذهب نفسك عليهم حسرات.
4 (4) الانسجام مع الطبيعة مطلبي أيضا
إذا كنت معتزما القيام بعمل ما، ذكر نفسك بطبيعة هذا العمل. فإذا كنت ذاهبا لكي تستحم فتمثل في نفسك ما يحدث في الحمامات العامة؛ ثمة من يرشش الماء، والبعض يتدافعون بالمناكب، وآخرون يسب بعضهم بعضا، وهناك من يسرق. وهكذا سوف يتسنى لك الاضطلاع بشأنك على نحو آمن إذا قلت لنفسك: لقد اعتزمت الآن أن أغتسل وأن أحفظ إرادتي في انسجام مع الطبيعة. وليكن هذا دأبك في أي عمل آخر؛ فبذلك إذا ألمت بك في اغتسالك أي عوائق سيمكنك أن تقول: «لم يكن مقصدي الاغتسال فحسب، بل قصدت أيضا أن أحفظ إرادتي في انسجام مع الطبيعة، ولن يكون لي أن أحفظها هكذا إذا أنا تبرمت مما يحدث.» (5) الأحكام هي ما يكرب
5
ليست الأشياء ما يكرب الناس ولكن أحكامهم عن الأشياء. الموت مثلا ليس مريعا، وإلا لكان سقراط أيضا رآه كذلك. وإنما المريع هو الحكم بأن الموت مريع؛ لذا فعندما ينتابنا الإحباط أو الاضطراب أو الحزن فإن علينا ألا نلوم غير أنفسنا؛ أعني غير أحكامنا نحن. أن يلوم المرء الآخرين على ما أصابه ... ذلك من شيمة الجاهل. أما بداية العلم فأن تلوم نفسك، وأما تمام العلم فألا تلوم نفسك ولا غيرك.» (6) استخدام الانطباعات
إياك أن تزدهي بمناقب سواك. إذا قال الفرس في خيلائه: «أنا جميل.» فإن بطوقنا أن نحتمله. أما إذا اخذك العجب فقلت: «عندي فرس جميل.» فاعلم أنك إنما تفتخر بمزية تخص الفرس.
6
ما الذي يخصك إذن؟
استخدامك للانطباعات.
فإذا ما استخدمت الانطباعات بما يوافق الطبيعة ربما يحق لك عندئذ أن تفتخر، ما دام افتخارك هو بشيء يخصك. (7) انتبه إلى القبطان
مثلما يحدث حين ترسو سفينتك في رحلتها بعض حين بأحد الموانئ: إذا ذهبت لكي تشرب فقد يطيب لك في الطريق أن تلتقط قوقعة من هنا أو كمأة من هناك. غير أن فكرك وانتباهك ينبغي أن يكونا ملتفتين دوما إلى السفينة، مرتقبا نداء القبطان للإبحار. هنالك يتعين عليك أن تلقي بكل هذه الأشياء وإلا فسوف تربط ويلقى بك في السفينة كالشاة. كذلك الأمر في الحياة: فإذا وهبت، بدلا من القوقعة أو الكمأة، بزوجة أو ولد، فلا بأس. ولكن إذا ما نادى القبطان فإن عليك أن تهرع إلى السفينة، تاركا إياهما، غير مكترث بأي منهما، أما إذا كنت شيخا طاعنا في السن فإياك أن تبتعد عن السفينة، وإلا فلن تكون قادرا لحظة الاستدعاء على المجيء في الموعد.
7 (8) أرد ما يكون
لا تطلب من الأشياء أن تجري مثلما تريد، بل اطلب أن تجري الأشياء مثلما تجري، وبذلك تمضي حياتك في سكينة وسلام.
8 (9) الإعاقة الخارجية
المرض إعاقة للبدن، ولكن ليس للإرادة، إلا إذا اختارت الإرادة ذلك.
العرج إعاقة للأرجل، وليس للإرادة.
وقل الشيء نفسه عن كل شيء يحدث، فلسوف تجده إعاقة لشيء آخر ولكن ليس لك أنت. (10) الملكة المطلوبة
لدى كل شيء يعرض لك فتش في نفسك عن الملكة التي تعينك على استخدامه.
إذا عرض لك شخص مغر أو مليح فستجد أن التعفف هو الملكة المطلوبة.
إذا فرض عليك عمل شاق ستجد الجلد.
إذا نالتك إهانة فستجد الصبر.
وهكذا إذا وطنت نفسك على ذلك، فلن تجرفك المظاهر وتغلبك على أمرك. (11) رد الودائع
فلقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة.
الإمام علي، عند دفن فاطمة الزهراء
لا تقولن لشيء: «إني فقدته»، بل قل «إني رددته».
هل مات ولدك؟ لقد استرد.
هل ماتت امرأتك؟ لقد استردت.
هل أخذت ممتلكاتك؟ ألم تسترد هذه أيضا؟
9
لعلك تقول: «إن من أخذها مني لشرير.» فهل يهمك بوساطة من استرد منك الواهب ما أعطى؟! فما دام قد أعطاكها فتعهدها كشيء يخص غيرك، تماما مثلما يتعامل عابرو السبيل مع النزل.
10 (12) ثمن الصفاء
إذا شئت أن تحرز تقدما فلتقلع عن مثل هذه الاستدلالات: «إذا أهملت شئوني فلن أجد لي سندا.» «ما لم أقوم خادمي فسوف يسوء حاله.»
فلأن تموت جوعا، فتشفى بذلك من الأسى والخوف، خير لك من أن تعيش غنيا معتكر المزاج. ولأن يكون خادمك سيئا خير لك من أن تكون أنت تعيسا.
فلتبدأ من أصغر الأشياء: انسكب شيء من الزيت؟ سرق النبيذ؟ قل: «هذا ثمن خلو البال وصفاء النفس، ولكل شيء ثمن.»
إذا ناديت خادمك، فاذكر أنه قد لا يجيبك. وإذا أجابك فقد لا ينفذ ما تريده. غير أنه ليس من السطوة بحيث يكون بمقدور مثله أن يعكر صفوك. (13) إما الطبيعة وإما الأشياء الخارجية
إذا شئت أن تحرز تقدما فلا تستنكف أن تبدو بليدا ساذجا تجاه الأمور الخارجية. لا ترغب في أن يظنك الناس عليما بأي شيء . وإذا بدا للبعض أنك ذو شأن فلا تثق في نفسك. ولتعلم أنك لا يمكنك أن تبقى منسجما بإرادتك مع الطبيعة، وأن تضمن لنفسك الأشياء الخارجية في الوقت نفسه؛ ذلك أن المرء إذا اهتم بهذه فلا مناص له من أن يهمل تلك. (14) ما السيد؟ وما العبد؟
من السخف أن تطلب لأبنائك وزوجك وأصدقائك البقاء إلى الأبد؛ فذلك يعني أنك تريد أن يكون في قدرتك ما ليس في قدرتك، وأن يكون من ممتلكاتك ما ليس من ممتلكاتك. وهكذا إذا تطلبت من خادمك ألا يخطئ فأنت أحمق؛ لأنك تتطلب من الرذيلة ألا تكون رذيلة بل تكون شيئا آخر.
أما إذا أردت ألا يخيب رجاؤك فبوسعك ذلك: أن تنصرف إلى ما هو بإمكانك. إنما السيد هو من يملك سطوة على المسود فيحدد له ما يريده وما لا يريده، ويعطيه هذا ويمنع عنه ذاك. من يرد أن يكون حرا إذن فليكف عن أن يرغب في أي شيء أو يتجنب أي شيء في قدرة غيره، وإلا فإنه يكون لا محالة عبدا.
11 (15) سلوك المآدب
تذكر أنك ينبغي أن تسلك في الحياة مثلما تسلك في مأدبة، هل دار عليك أي صنف؟ فامدد إليه يدك ونل منه قسطك باعتدال. هل فاتك؟ فلا تستوقفه، ألم يأت بعد؟ فلا تمدد إليه رغبتك بل انتظر حتى يصل إليك.
افعل ذلك فيما يتعلق بالأطفال والزوجة والمناصب العامة والثروة، ولسوف تكون في النهاية جديرا بالمشاركة في ولائم الآلهة.
فإذا تعففت حتى عما وضع قبالتك وكنت قادرا على ازدرائه، فلن تكون شريكا فقط في ولائم الآلهة بل في ملكهم.
12
فبهذا المسلك صار ديوجين وهيراقليط وأضرابهما إلهيين عن حق، ولقبوا بذلك. (16) لا تنح في داخلك
إذا ما رأيت شخصا يبكي متحسرا، لفراق ولد أو لوفاته، أو لفقدان ممتلكاته، فاحذر أن يأخذك الظاهر بعيدا فتظن أن الأضرار الخارجية هي ما يبكيه، بل اذكر في الحال أن «ما يكرثه ليس الحدث؛ فمثل هذا لا يكرث غيره، بل فكرته عن الحدث.»
لذلك لا تدخر وسعا في أن تواسيه بالكلمات ، بل أن تنوح معه إذا أمكن ذلك، ولكن احذر أن تنوح أيضا في دخيلتك.
13 (17) ممثل في مسرحية
14
تذكر أنك ممثل في مسرحية تمضي مثلما يشاء لها المؤلف؛ قصيرة إذا شاء لها القصر، وطويلة إذا شاء لها أن تطول. إذا راقه أن تلعب فيها دور شحاذ فإن عليك أن تؤديه أداء طبيعيا. وقد يريدك أن تؤدي دور أعرج أو مسئول حكومي أو صاحب عمل خاص. وأيا ما كان دورك، فهذه مهمتك: أن تجيد أداء الشخصية المقيضة لك. أما اختيار الشخصية فليس هذا من شأنك. (18) نذر الشؤم
إذا تصادف أن نعق غراب بالشؤم فلا تدع المظاهر تأخذك بعيدا، بل سارع إلى التمييز وقل لنفسك: «لا شيء من هذه الأشياء يشير إلي، إنما يشير إلى جسدي التافه، أو إلى ممتلكاتي الضئيلة، أو سمعتي أو أبنائي أو زوجتي. أما بالنسبة لي فكل النذر هي نذر خير إذا شئت ذلك. فإذا ما ألم بي أي شيء من هذه الأشياء فما زال بوسعي أن أفيد منه خيرا.»
15 (19) الحرية هي الغنى «عن»
بوسعك أن تكون شخصا لا يقهر، إذا أنت أحجمت تماما عن الدخول في صراع ليس في قدرتك الفوز فيه. فاحذر إذا رأيت امرءا يتسنم مكانا رفيعا أو يتقلد سلطة عظيمة أو يحوز مجدا، أن تخلبك المظاهر فتحسبه سعيدا. فإذا كان جوهر الخير يكمن فيما هو في قدرتنا، فلن يكون ثمة مكان للحسد أو الغيرة. فلا تطمح من جانبك إلى أن تكون حاكما أو رئيسا أو قنصلا، بل أن تكون رجلا حرا. وليس ثمة غير طريق واحد إلى الحرية: أن تضرب صفحا عما ليس في قدرتك.
16 (20) ثورة الغضب
تذكر أن من شتمك أو ضربك لم يهنك، وإنما الذي أهانك هو حكمك بأن هذه الأشياء إهانة. فاعلم إذن كلما أغضبك أحد أن فكرتك ذاتها هي ما أغضبك؛ لذا حاول جهدك في المقام الأول ألا تجرفك المظاهر؛ فبمجرد أن تمنح نفسك مهلة وتتريث في الأمر سيكون أيسر عليك أن تتمالك نفسك. (21) فكر في الموت
ضع نصب عينيك، في كل حين، الموت والمنفى وكل ما يبدو مرعبا، ولكن اجعل الموت أولها جميعا. عندئذ لن تفكر أبدا في أي شيء دنيء، ولن تتوق إلى أي شيء توقا زائدا عن الحد. (22) الاستهزاء بالفلسفة
إذا كانت لديك رغبة مخلصة في اكتساب الفلسفة، فلتعد نفسك منذ البداية لتلقي ما لا يحصى من استهزاء الآخرين وسخريتهم، وقولهم: «ها قد عاد إلينا فيلسوفا دفعة واحدة.» وقولهم: «من أين أتى بهذا الخد المصعر؟» أما من جهتك فلا تصعر خدك حقا، وتمسك بتلك الأشياء التي تراها الأفضل، تمسك بذلك المكان الذي قيضك الله له. واعلم أن ثباتك على تلك الحال سوف يجعل من كان يسخر منك بالأمس يعجب بك. أما إذا انخذلت أمامهم فستكون قد جلبت على نفسك ضعفين من السخرية.
17 (23) محصن بالفلسفة
إذا تصادف لك أن التفت إلى الأشياء الخارجية لكي ترضي شخصا ما فثق أنك قد ضللت السبيل. فاقنع إذن، في كل شيء، بكونك فيلسوفا. وإذا أردت أن تبدو أيضا لأي شخص كفيلسوف، فلتبد فيلسوفا لنفسك، وسوف يكفيك هذا. (24) مواطن مخلص ... عون وثروة
لا تدع مثل هذه الأفكار تنغص عيشك: «سوف أقضي العمر خامل الذكر نكرة.» إذا كان خمول الذكر شرا فاعلم أنه ليس بالإمكان أن يلحق بك أحد خمول ذكر أكثر مما يلحقه بك ذلك الذي يورطك في عمل شائن. هل هو شأنك أن تحوز منصبا أو تدعى إلى وليمة؟ كلا. إذن، كيف يمكن أن يكون ذلك خمولا للذكر؟ إن مهمتك أن تكون ذا شأن في تلك الأمور التي هي في قدرتك فحسب، والتي بوسعك فيها أن تبلغ أعظم شأن.
18
لعلك تقول: «ولكني لن أكون قادرا على أن أقدم العون لأصدقائي.»
فماذا تعني بكلمة «عون»؟ تعني أنك لن تقدم لهم مالا، ولن تمنحهم المواطنة الرومانية؟ فمن قال لك إن أشياء من هذا القبيل هي في قدرتك وليست في قدرة سواك؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يعطي غيره ما ليس يملكه هو نفسه؟ لعلهم يقولون لك: «حسنا، فلتكسب هذه الأشياء إذن لكي تفيض علينا بحظ منها.» فقل: «إذا كان بالإمكان أن أكتسب المال وأبقي على تواضعي وإخلاصي وشهامتي، فلتدلوني على الطريق ولسوف أكتسبه. ولكن إذا كنتم تريدونني أن أفقد الأشياء التي هي خير والتي هي في حوزتي، لكيما تحظوا بالأشياء التي ليست خيرا، فما أظلمكم وأحمقكم. ثم ما هو الأفضل: أن يكون لكم مال أم أن يكون لكم صديق مخلص شريف؟ فلتساعدوني إذن على أن أكون ذلك الشخص لا على أن أفعل ما هو حقيق أن يجردني من هذه الصفات. - «ولكن وطني، بقدر ما يعتمد علي سوف يفقد عوني.»
مرة ثانية، ماذا تعني بكلمة «عون» هنا أيضا؟ لن يحظى الوطن بأروقة معمدة أو حمامات بواسطتك. وماذا في ذلك؟ فالوطن لن يتزود بالأحذية بواسطة الحداد، ولا بالأسلحة بواسطة الإسكاف. ولكن بحسبه أن ينصرف كل إلى العمل الموكول له فيؤديه أتم الأداء. وإذا كان عليك أن تزود الوطن بمواطن إضافي مخلص وشريف، ألن يكون هذا ذا نفع له؟ فكذلك أنت.
ستقول: «أي مكان إذن سوف أشغله في الدولة؟»
أيما مكان يمكنك أن تشغله محتفظا بإخلاصك وشرفك. أما إذا دفعتك رغبتك في نفع الدولة إلى أن تفقد هذه الصفات، فأي نفع يمكن أن ينالها منك إذا ما صرت صفيقا خائنا؟! (25) دفع الثمن
هل فضل عليك غيرك في دعوة إلى وليمة، أو في تكريم، أو اجتماع مجلس؟
إذا كانت هذه الأشياء خيرا، فإن عليك أن تغبط من نالها. أما إذا كانت شرا فلا تحزن لأنك لم تنلها. واعلم أنك لا يمكن أن يسمح لك بمنافسة الآخرين في الأشياء الخارجية دون أن تستخدم نفس الوسائل للحصول عليها. وإلا فكيف يمكن لامرئ لا يتردد على أبواب أي كان ولا يلازمه ولا يتملقه أن يحظى منه بما يحظى به من يفعل هذه الأشياء؟ إنك لمجحف وجشع إذا كنت تتخلى عن دفع الثمن الذي تباع به هذه الأشياء، وتريد أن تحصل عليها بالمجان.
حسن، بكم يباع الخس؟ بأوبول
obolus
مثلا؟ فإذا حظي بالخس دافع الأوبول وأحجمت أنت عن الدفع وعدت من غير خس، فلا تحسب أنه حظي بأي أفضلية عليك؛ فإن لديه الخس ولديك الأوبول الذي لم تدفعه.
كذلك الأمر في حالتنا هذه؛ أنت لم تدع إلى وليمة مثل هذا الشخص؛ لأنك لم تدفع له الثمن الذي يباع به العشاء؛ إنه يباع بالإطراء، يباع بالتزلف. أسد إليه الثمن إذن إذا كان في ذلك مصلحتك. أما إذا أردت أن تحتفظ بالثمن وتحظى بالشيء في آن معا فأنت جشع وأحمق.
أتظن أنك لم تفز بشيء في مقابل العشاء الذي فاتك؟
بل فزت حقا، فزت بإعفائك من تملق من لا تريد أن تتملقه، وإعفائك من تحمل فظاظة الحجاب على بابه. (26) الطبيعة لا تختلف
من يرد أن يعرف إرادة الطبيعة فليطلع على الأمور التي لا يختلف فيها أحدنا عن الآخر. مثلا، إذا كسر خادم جارنا كوبا أو ما أشبه، فإننا نسارع بقولنا: «لا بأس، مثل هذه الخسائر لا بد منها.» عليك إذن إذا انكسر كوبك أنت، أن تكون مثلما كنت بإزاء كوب غيرك.
فلتطبق هذا على ما هو أعظم من الأمور؛ هل توفي ابن لأحد أو توفيت زوجته؟ ليس منا من لن يقول: «هكذا حال البشر.» فإذا ما توفي أحد من ذويه لم يلبث أن يقول: «وا أسفاه، كم أنا حزين!» فلنتذكر دائما ما نجده في أنفسنا عندما نسمع بحدوث الشيء نفسه للآخرين. (27) العالم ليس شرا
لا أحد يحدد أمامه دريئة (هدفا للرمي) من أجل أن يخطئها! وبالمثل، لا شيء في العالم هو شر في طبيعته وصميمه. (28) تسليمك لعقلك!
إذا سلم أحد جسدك لأول عابر فسوف تغضب ولا ريب.
أفلا تخجل إذن وأنت تسلم عقلك لأي عابر بحيث إذا سبك تكدرت وتعكر صفوك؟! (29) رياضة الفلسفة
في كل فعل تهم به انظر فيما سبق وما يلحق، ثم امض في الفعل نفسه. وإلا فإنك ستبدأ بحماس، غير مبال بالعواقب، حتى إذا ما اعترضتك بعض المصاعب انسحبت منخذلا.
هل تريد أن تفوز في الأوليمبياد؟ أنا أيضا أريد، وحق الآلهة؛ فهذا شيء رائع. ولكن انظر فيما يسبق ذلك وما يتلوه، فإذا راقك فاشرع في العمل؛ إن عليك أن تلتزم في كل شيء بقواعد؛ أن تأكل وفق نظام صارم، أن تمتنع عن لذيذ الطعام، أن تأخذ نفسك بالتدريب، شئت أم أبيت، في مواعيد محددة، في الحر والبرد، ألا تشرب ماء باردا، وألا تشرب نبيذا على هواك. وباختصار، يجب أن تسلم نفسك لمدربك مثلما تسلمها للطبيب؛ وعندئذ، عندما تمضي إلى المباراة فقد تقع في مصرف، وقد تنخلع ذراعك، أو يلتوي كاحلك، أو تستف ترابا كثيرا، وربما تضرب، وبعد كل هذا تخسر المنازلة.
إذا بقيت تنوي - بعد النظر في كل هذه الاعتبارات - أن تدخل في المسابقات الرياضية، فادخل. وإلا فلتعلم أنك سوف تسلك كالأطفال الذين يلعبون حينا دور المصارعين، وحينا آخر دور المجالدين، وتارة ينفخون البوق، وطورا يمثلون تراجيديا إثر رؤيتهم لهذه العروض وإعجابهم بها. كذلك أنت أيضا ستكون آنا مصارعا وآنا آخر مجالدا، وتارة فيلسوفا، وطورا خطيبا؛ ولكن لن تكون شيئا على الإطلاق بكل روحك. أنت تقلد، كالقرد، كل ما تراه. يروقك الشيء تلو الآخر بكل تأكيد، غير أنه يفقد لديك جاذبيته بمجرد أن تألفه؛ ذلك أنك لم تدخل في أي شيء قط بتبصر أو بعد استقصاء الأمر كله وتمحيصه، بل دخلته باستخفاف ورغبة فاترة.
هكذا البعض إثر رؤيتهم لأحد الفلاسفة، أو سماعهم لمتحدث مثل يوقراطيس
Euphrates (ومن ذا يجاريه حقا في الحديث؟!) تراودهم فكرة أن يكونوا هم أيضا فلاسفة.
انظر يا صاحبي، قبل كل شيء، ما هو الأمر، ثم تفحص طبيعتك الخاصة ومدى قدرتك على تحمل ذلك. هل تريد أن تشارك في «الخماسي» أو أن تكون مصارعا؟ انظر إلى ذراعيك وفخذيك وتفحص جنبيك؛ «فكل ميسر لما خلق له.»
أتظن أنك إذ تمضي في هذه الأشياء يكون لك أن تأكل مثلما تأكل، وتشرب مثلما تشرب، وتغضب وتستاء مثلما اعتدت؟ إنما يتعين عليك أن تبقى صاحيا، أن تعمل، أن تهجر عشيرتك، أن يزدريك خادم، أن يسخر منك كل ساخر، أن يكون لك النصيب الأدنى في كل شيء؛ في الشهرة، في المنصب، في المحاكم، في كل صغيرة وكبيرة.
انظر في كل هذه الأشياء، وانظر هل تريد أن تستبدل بها خلو البال والحرية والسكينة، وإلا فلا تقترب. لا تكن كالأطفال آنا فيلسوفا، ثم جابيا، ثم خطيبا، ثم موظفا لقيصر؛ فهذه الأشياء لا تتسق.
إنما عليك أن تكون شخصا واحدا، جيدا أو رديئا. إما أن تنمي ملكتك العقلية، وإما أن تنمي أشياءك الخارجية. إما أن تنصرف إلى الأشياء الداخلية وإما إلى الأشياء الخارجية؛ أي إنك إما أن تكون أحد الفلاسفة، وإما أن تكون أحد السوقة. (30) تأمل العلاقات
العلاقات تحدد الواجبات. «هو والدك» تعني أن عليك أن ترعاه، وتذعن له في كل أمر، وتحتمله إذا أهانك أو ضربك. - «ولكنه أب سيئ.» - حسنا، وهل لديك أي حق طبيعي في أب جيد؟! كلا، بل في أب فحسب. - «أخي يسيء إلي.» - احرص إذن على أن تحفظ العلاقة التي تربطك به، ولا يهمك ما يفعله هو، بل ما يجب عليك أنت فعله إذا كانت غايتك أن تظل منسجما مع الطبيعة. فما كان لأحد أن يضرك ما لم ترد أنت ذلك. إنما يقع بك الضرر إذا افترضت أنت أنك أضرت.
كذلك إذن سوف تعرف واجبك من علاقتك، بالجار، بالمواطن، بقائد الجيش، إذا أنت اعتدت أن تتأمل العلاقات. (31) التقوى
أما بخصوص التقوى تجاه الآلهة، فلتعلم أن هذا هو رأس الأمر: أن تتصورهم على النحو الصحيح، بوصفهم موجودين ويديرون الأشياء على أقوم نحو وأعدله، وأن تعقد عزمك على هذا، أن تطيعهم وتمتثل لإرادتهم في كل شيء يحدث، وتتبعهم طائعا في كل ما يجري بوصفه من تصريف الحكمة العليا؛ فبذلك لن تلوم الآلهة أبدا ولن تتهمها بالتقصير.
ولكن لن يتسنى لك ذلك إلا بأن تنصرف عن الأشياء التي ليست في قدرتك، وأن تعد الخير والشر مقصورين على الأشياء التي في قدرتك؛ ذلك أنك إذا رأيت أيا من الأشياء التي ليست في قدرتك خيرا أو شرا، فإنك قمين بالضرورة أن تتبرم إذا ما فشلت في الحصول على ما ترغب أو وقعت فيما لا ترغب، وأن تلوم المتسببين في ذلك أو تكرههم.
فهكذا جبل جميع المخلوقات: أن يتجنبوا أو يفروا مما يبدو لهم ضارا وما يبدو سببا للضرر، وأن يلتمسوا أو يعجبوا بما يبدو نافعا أو جالبا للمنفعة. من الصعب إذن على شخص يرى أنه يضار أن يبتهج بما يراه سببا للضرر، مثلما أنه من الصعب أن يسر بالضرر نفسه.
لذا فحتى الأب يساء بابنه إذا لم يقاسمه ما يبدو خيرا. وهذا ما جعل بولينيسيس
وإتيوكليس
Eteocles
عدوين أحدهما للآخر؛ إذ حسب كلاهما أن الملك خير.
لهذا السبب أيضا يلعن الزارع الآلهة، وكذلك الملاح، والتاجر، وأولئك الذين يفقدون زوجاتهم وأبناءهم. فحيثما كانت المصلحة كانت التقوى!
وعلى ذلك، فإن كل من يهتم بشأن الرغبة والنفور ويضع كلا منهما في نصابه الصحيح يكون قد اهتم بالتقوى أيضا. على أنه من الواجب كذلك على الجميع الإراقة للآلهة وتقديم البواكير والأضحية وفقا لسنن الأسلاف، بصفاء ومن غير رثاثة ولا إهمال ولا شح ولا إفراط. (32) الكهانة
إذا لجأت إلى الكهانة، فتذكر أنك لا تعرف ما سوف تسفر عنه، بل جئت لتستفتي الكاهن. غير أنك تعرف مقدما أي صنف هو من النبوءة إذا كنت ذا عقل فلسفي؛ ذلك أنه إذا كان من بين تلك الأشياء التي ليست في قدرتك فمن المتيقن أنه ليس خيرا ولا شرا. إذن لا تجلب معك إلى الكاهن رغبة ولا نفورا، وإلا فإنك تدنو منه خائفا وجلا. فأما وقد اطمأن عقلك بأن كل ما سيجري سيكون «غير فارق»
indifferent
ولن يضيرك شيئا كيفما كان، ما دمت قادرا على أن تستخدمه استخداما صحيحا، وهذا ما لا يملك أحد أن يصدك عنه، فلتقبل على الآلهة إذن بثقة لتلقي المشورة. ولتذكر بعد ذلك، عندما تتلقى النصيحة، أي ناصحين اتخذتهم، ونصيحة من تلك التي تعصيها إن عصيت. أقبل إلى الكهانة، مثلما أوصى سقراط، في الحالات التي يكون فيها الاعتبار كله متعلقا بالحدث، ويكون فيها العقل والخبرة عاجزين تماما عن كشف الأمر المعني. أما إذا كان واجبك أن تشاطر صديقك أو وطنك خطرا محدقا، فإن عليك ألا تستشير الكاهن أينبغي أن تشاطر أم لا. فحتى إذا أنبأك الكاهن أن النذر نحس، فمن البين أن ذلك لا يخرج عن أن يكون إشارة إلى الموت أو العاهة أو النفي. غير أن بنا عقولا، وهي تهيب بنا حتى في هذه الأخطار، أن نقف إلى جانب صديقنا ووطننا. واذكر في ذلك نبأ العراف الأكبر البيثيادي، الذي ألقى من المعبد ذلك الرجل الذي تقاعس عن إنقاذ صديقه حينما كان يغتال.
19 (33) سلوكيات الرواقي
ابدأ بتحديد طابع ونموذج في السلوك تلتزم به، سواء كنت منفردا أو كنت مع الآخرين.
الزم الصمت ما استطعت ولا تتكلم إلا في الضرورة وبكلمات موجزة. ولكن إذا اقتضى الأمر، في أحيان نادرة، أن تتحدث، فلتتنكب الحديث في الأشياء الشائعة: عن المجالدين أو عن سباقات الخيل أو عن الرياضيين، أو عن الأطعمة أو الأشربة، تلك الموضوعات المبتذلة للحديث. وتنكب بصفة خاصة الحديث عن الناس، سواء بالذم أو بالمدح أو بعقد المقارنات بينهم. عليك أن تستميل رفاقك، ما استطعت، إلى الحديث فيما يليق. أما إذا ألقت بك الظروف بين غرباء، فلتصمت.
إياك وكثرة الضحك، سواء بتحينه أو بالإطالة فيه. اجتنب الحلف تماما إن أمكن، فإذا لم يمكن فاجتنبه جهد ما تستطيع.
تجنب المحافل الشعبية والسوقية، فإذا ما دعت الظروف فلتأخذ كل الحذر من أن تنزلق إلى الإسفاف دون أن تدري. ولتعلم أنه مهما يكن المرء نقيا، فإن رفيق السوء لا بد من أن يلوثه.
أما عن ضروريات الجسد، فلا تأخذ منها إلا الكفاف؛ كاللحم والشراب والكساء والمأوى والخدم، وقاطع كل ما يتصل بالأبهة والترف.
أما الجنس فتعفف عنه ما استطعت قبل الزواج. فإذا مارسته فلتكن ممارسة مشروعة. ولكن لا تكن فظا ولا مضيقا تجاه من يستبيحون لأنفسهم هذه الأشياء. ولا تكثر من التباهي بأنك لا تفعل ذلك.
إذا أنبأك شخص بأن فلانا يتحدث عنك بما يسيء فلا تدافع عن نفسك ضد ما قال، بل قل: «إنه لا يعرف بقية عيوبي، وإلا لما اقتصر على هذه.»
ليس عليك أن تكثر من حضور المباريات. فإذا شاءت الظروف أن تكون هناك فلا تبد حرصا تجاه أي طرف أكثر من حرصك على نفسك! أي أرد الأشياء أن تكون ما تكونه فحسب، وأن يفوز الذي يفوز فحسب. فهكذا تسلم من أي متاعب. ولكن امتنع تماما عن الهتاف والسخرية والانفعالات العنيفة. وعندما تنصرف لا تكثر من التعليق على ما حدث، وعلى ما لا يسهم في صلاح حالك، وإلا بدا من حديثك أنك مأخوذ بالمشهد أكثر من اللائق.
لا تهرع إلى الندوات الخاصة وتعجل في حضورها. فإذا حضرت فاحتفظ برصانتك واتزانك، ولكن تجنب أن تكون ممتعضا نكدا.
إذا ذهبت للاجتماع بأحد، وبخاصة بمن هو من علية القوم، فتمثل في نفسك كيف كان سقراط أو زينون قمينا أن يسلك في مثل هذا الموقف، ولن تعدم إذ ذاك التناول الصحيح لأي شيء يتم.
إذا ذهبت لتمثل أمام أي شخص ذي سلطان، فتخيل في نفسك أنك قد لا تجده بالمنزل، أنك قد لا يسمح لك بالدخول، أن الأبواب قد لا تفتح لك، أنه قد لا يعيرك اهتماما. فإذا كان من واجبك رغم كل هذا أن تذهب، فاحتمل ما يحدث، وإياك أن تقول (لنفسك): «لم يكن الأمر يستأهل.» فهذا إسفاف ومن شيمة من تزعجه الأشياء الخارجية.
تجنب في محادثاتك أن تكثر من ذكر مغامراتك ومن الإطالة في الحديث عن الأهوال التي صادفتها، فمهما تكن هذه شائقة لك، فما هو بشائق للآخرين بنفس الدرجة أن يسمعوا مغامراتك. تجنب بالمثل محاولة إثارة الضحك، فهذا منزلق قد يهوي بك إلى الإسفاف، وهو جدير أيضا أن يذهب بهيبتك لدى جلسائك.
من العادات الخطرة أيضا الاقتراب من البذاءة. فإذا وقع أي شيء من ذلك فانهر من أقدم عليه إذا سمحت الظروف. فإذا لم تسمح فليكن صمتك على الأقل وخجلك وامتعاض سحنتك معبرا بوضوح عن استيائك من هذا الحديث. (34) اللذة
حين تراودك خيالات متعة مرتقبة، فاحذر أن تأخذك بعيدا، شأن غيرها من الخيالات. بل انتظر قليلا وامنح نفسك مهلة، ثم استحضر في ذهنك كلتا اللحظتين: تلك التي ستنال فيها المتعة ، وتلك التي ستندم فيها بعد ذلك وتوبخ نفسك. وضع مقابل ذلك بهجتك وغبطتك بنفسك إذا أنت تعففت عن اللذة. أما إذا بدا لك الوقت ملائما للانغماس، فاحترس ألا يقهرك سحر اللذة وتخلبك متعتها وإغراؤها، وضع في الكفة الأخرى كم هو أفضل بكثير إدراكك بأنك قد انتصرت عليها. (35) لا تتحرج مما هو صواب
إذا قررت أن تفعل شيئا ترى أنك ينبغي أن تفعله، فلا تتحرج من أن ترى فاعلا إياه، حتى إذا كان رأي الأغلبية سوف يدينك فيه؛ ذلك أنك إذا كان فعلك خطأ فإن عليك أن تجتنبه. أما إذا كان صوابا، فلماذا تخشى الذين سوف يعيبونك مخطئين؟!
20 (36) الأكل
مثلما أن عبارة «الوقت نهار» وعبارة «الوقت ليل» تعنيان الكثير وهما منفصلتان، فإذا اتصلتا لا تعنيان شيئا، كذلك أخذك نصيبا أكبر قد يفيد جسدك كثيرا، أما إذا كنت مجتمعا بغيرك في وليمة وتريد أن تلتزم باللياقة الاجتماعية فلن يفيدك في ذلك شيئا؛ لذا عندما تأكل مع غيرك، فلا يكن حرصك مقصورا على فائدة الجسم من الأصناف المقدمة أمامك، بل أيضا على فائدة الكياسة تجاه مضيفك. (37) دور يتجاوز قدراتك
إذا حاولت أن تضطلع بدور يتجاوز قدراتك، فأنت لا تخزي نفسك فيه فحسب، بل تصرفها أيضا عما كانت قادرة على أدائه. (38) إيذاء العقل
عندما تمشي فأنت تأخذ حذرك من أن تطأ مسمارا أو أن تلوي قدمك.
فلتأخذ حذرا مماثلا من أن تؤذي عقلك الموجه. وإذا راعينا هذه القاعدة في كل فعل فسوف نباشره بأمان أكبر. (39) لا حد بعد الحد
الجسد لكل منا هو المقياس القويم لحاجاته المادية، مثلما أن القدم هي مقياس الحذاء. فإذا ما وقفت عند ذلك فقد التزمت بالمقياس. أما إذا تجاوزته فسوف تنزلق بعيدا بالضرورة كمن يهوي من جرف.
كذلك الأمر مع الحذاء؛ فإذا ما تجاوزت ملاءمته للقدم، فسوف يصبح مذهبا في البداية، ثم أرجوانيا، ثم مرصعا بالجواهر.
ذلك أن ما تخطى المعيار مرة فلن يجد حدا يحده. (40) النساء
ما إن تبلغ النساء سن الرابعة عشرة حتى يتملقهن الرجال بلقب «سيدات »
dominae . وإذ يدركن أنهن لا يعتد بهن إلا كمانحات لذة للرجال، فإنهن يبدأن في تجميل أنفسهن ويضعهن في ذلك كل آمالهن.
حري بنا إذن أن نحاول جهدنا أن نظهرهن على أن قيمتهن الحقة لدينا هي في دماثة الخلق وفي التواضع والحكمة. (41) متعلقات الجسد
من البلاهة أن تكب على ما يتعلق بالجسم: أن تطيل التدريب، والأكل، والشرب، وتصريف الوظائف الحيوانية الأخرى.
مثل هذه الوظائف ينبغي أن تؤديها بشكل عابر، وأن تصرف جل اهتمامك إلى العقل.
21 (42) الإهانة
إذا أهانك أحد بالقول أو الفعل، فتذكر أنه يفعل أو يقول ذلك لأنه يراه موافقا له؛ فمن غير الممكن له أن يتبع ما يبدو لك أنت صوابا بل ما يبدو صوابا له هو؛ وبالتالي فإذا كان على خطأ في رأيه يكون هو الطرف المضار، من حيث هو الطرف المضلل؛ ذلك أن من يأخذ قضية صادقة على أنها كاذبة فإنه لا يضر القضية، بل يضر نفسه بضلاله في شأنها. إذا انطلقت إذن من هذه المبادئ فسوف تكون متسامحا مع من يهينك، قائلا لنفسك في كل مناسبة: «هكذا يبدو له الأمر.» (43) مقبضان
لكل شيء مقبضان؛ مقبض يمكن أن يحمل به الشيء، والآخر لا يمكن أن يحمل به. إذا ارتكب أخوك إساءة ما تجاهك فلا تأخذ الأمر بمقبض الإساءة؛ إذ لا يمكنك حمله بهذه الطريقة. بل خذه بالمقبض المقابل؛ أنه أخوك، وأنه نشأ معك؛ بذلك سوف تمسك الأمر كما ينبغي له أن يمسك. (44) استدلال متساوق
هذان الاستدلالان غير متساوقين منطقيا:
أنا أغنى منك، إذن أنا أفضل منك.
أنا أبلغ منك، إذن أنا أفضل منك.
أما هذان فأكثر تساوقا:
أنا أغنى منك، إذن أنا لدي ممتلكات أكثر.
أنا أبلغ منك، إذن أسلوبي في الخطاب أفضل من أسلوبك.
غير أنك، بعد كل شيء، لست ملكا ولا أسلوبا. (45) الحكم بعد المداولة
هل يغتسل فلان سريعا؟ لا تقل: إنه يسيء الاغتسال.
هل يشرب فلان كثيرا؟ لا تقل: إنه يسيء الشراب.
فما دمت لم تقف على «الحكم» الذي دفعه إلى ذلك، فكيف تعرف أنه يسيء الفعل؟!
هكذا تتجنب الوقوع في «تصديق»
assent
أي «مظاهر»
apperances
ما لم يتم لك فهمها. (46) طبق المبادئ
أوضع العلم ما وقف على اللسان، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان.
الإمام علي
لا تقل أبدا إني فيلسوف، ولا تكثر الحديث بين الجهال عن نظرياتك، بل بينها بالأفعال.
22
فإذا كنت في وليمة فلا تقل كيف ينبغي الأكل، بل كل كما ينبغي. بهذه الطريقة كان سقراط أيضا يتجنب الادعاء على الإطلاق. وعندما كان أشخاص يأتون إليه لكي يقدمهم إلى فلاسفة كان يأخذهم إلى الفلاسفة ويوصي بهم ولا يكترث قط بأنهم يغفلونه.
وعلى ذلك، فإذا ما دار أي حديث بين الجهال حول أي نظريات فلسفية، فالزم الصمت دائما، فثمة خطر كبير بأن تقيء في الحال ما لم تهضمه، وعندما يأتي اليوم الذي يقال لك فيه إنك لا تعرف شيئا، فلا يثير ذلك غضبك ولا سخطك، فثق عندئذ إنك قد وضعت قدمك على بداية طريق الحكمة.
ذلك أنه حتى الخراف لا تقيء عشبها لكي تري الرعاة كم أكلت، بل عندما تهضم الكلأ داخلها فإنها تخرجه صوفا ولبنا، أنت أيضا لا تظهر النظريات للجهال، بل الأفعال الناتجة عن النظريات بعد أن يتم هضمها.
23 (47) لا تفاخر بتجلدك
24
إذا تعلمت أن تكيف جسدك على الاكتفاء بأقل القليل، فلا تفاخر بذلك. وإذا اقتصر شرابك على الماء فلا تقل في كل مناسبة: «إن شرابي الماء.» بل انظر أولا إلى الفقراء كم يفوقوننا اقتصادا وتحملا لشظف العيش. وإذا شئت أن تدرب نفسك على الجلد والاحتمال، فلتفعل ذلك لنفسك لا للآخرين. لا تحاول أن تجترح العجائب.
25
ولكن إذا اشتد بك العطش فاستف قبضة من الماء البارد واتفله ولا تقل شيئا.
26 (48) دلائل التقدم
صفة الجاهل وأمارته أنه لا يرتقب النفع ولا الضرر من نفسه، بل من الأشياء الخارجية.
صفة الفيلسوف وأمارته أنه يرتقب كل النفع والضرر من نفسه. أمارات المتقدم على درب الحكمة هي أنه لا يذم أحدا ولا يطري أحدا ولا يلوم أحدا ولا يتهم أحدا، ولا يتحدث عن نفسه كما لو كان شيئا ما أو كما لو كان لديه علم ما. وإذا أعيق أو تعثر يتهم نفسه. وإذا مدح يسخر في نفسه من المادح، وإذا انتقد لا يرد. بل يمضي حذرا كأنه الناقه يخشى أن يتعتع أي عضو فيه لم يلتئم بعد. إنه ينفي عنه كل رغبة. أما نفوره فيحصره فيما هو في قدرته ومضاد للطبيعة، إن نزوعه معتدل تجاه كل شيء. إذا بدا غبيا أو جاهلا لا يبالي. وباختصار، يراقب نفسه كما لو كان عدوا مترصدا لها في مكمن. (49) التفسير
حين يفاخر شخص بأنه يستطيع أن يفهم كتابات كريسبوس
Chrysippus
ويفسرها، فقل لنفسك: «لو لم تكن كتابات كريسبوس غامضة لما وجد هذا الشخص ما يفتخر به. ولكن ماذا أريد أنا؟ أريد أن أفهم الطبيعة وأتبعها؛ لذا أتساءل من الذي يفسر الطبيعة، وأسمع أن كريسبوس يفسرها، فألجأ إليه، فلا أفهم كتاباته، فألتمس من يفسرها.» ليس ثمة حتى الآن ما يدعو إلى الفخر. ولكن عندما أعثر على المفسر يبقى أن أعمل بالتعاليم. هذا وحده هو مدعاة الفخر. أما إذا أعجبت بمجرد التفسير فلن أعدو أن أكون لغويا لا فيلسوفا، اللهم إلا أنني بدلا من أن أفسر هومر أفسر كريسبوس. إذا طلب مني أحد إذن أن أقرأ له كريسبوس، فإنني أحمر خجلا إذا فشلت في أن تكون أفعالي متناغمة مع كتاباته. (50) التزم بالمبادئ
أيا ما كانت المبادئ التي اتخذتها لنفسك، فالتزم بها كأنها قوانين، وكأن من الفجور أن تنتهك أيا منها. ولا تلتفت إلى ما عسى أن يقول الناس عنك؛ فهذا ليس شأنك. (51) المنازلة الآن
إلام تنتظر حتى تنتدب نفسك لأجل المراتب ولا تحيد عن حدود العقل؟ لقد تلقيت النظريات التي ينبغي الإلمام بها وألممت بها، أي معلم آخر إذن ما زلت ترتقبه حتى تحيل إليها مهمة تقويم نفسك؟ أنت لم تعد صبيا، لقد كبرت. فإذا بقيت مهملا كسولا، وما تنفك تسوف وتماطل وترجئ اليوم الذي ستنتبه فيه إلى نفسك، فلن تراوح وستظل جهولا في حياتك وفي مماتك، الآن إذن اعتبر نفسك جديرا بالعيش كراشد وسالك على درب الفلسفة، وخذ كل ما تراه حقا واجعله قانونا صلبا لا يقبل الانتهاك. فإذا عرض لك عارض من ألم أو لذة أو مجد أو شين، فتذكر أن النزال الآن، الأوليمبياد الآن ولا يمكن أن تؤجل. وبانكسارة واحدة وتخاذل واحد يذهب الفوز أو يأتي.
27
هكذا بلغ سقراط الكمال، مقوما نفسه بكل وسيلة، غير مصغ إلى شيء سوى العقل. ورغم أنك لست سقراطا بعد، فإنه ينبغي عليك أن تعيش كمن يطمح أن يكون سقراطا. (52) المواضيع الثلاثة في الفلسفة
الموضوع الأول والأهم في الفلسفة، هو: التطبيق العملي للنظريات (المبادئ العملية/الأخلاق).
28
مثال ذلك: «لا تكذب.» والموضوع الثاني، هو: البراهين، مثل: «لماذا ينبغي علينا ألا نكذب؟» والثالث: هو ما يضفي التماسك والتبيان على هذين. مثال ذلك: كيف نعرف أن هذا برهان صائب؟ إذ ما هو البرهان؟ ما هو اللزوم المنطقي؟ ما هو التناقض؟ ما هو الصدق؟ ما هو الكذب؟
الموضوع الثالث ضروري من أجل الموضوع الثاني، والثاني من أجل الأول. غير أن الموضوع الأهم بين الثلاثة والأجدر بأن نتلبث عنده هو الموضوع الأول.
29
إلا أننا نفعل العكس تماما! فنحن نقضي وقتنا كله في الموضوع الثالث، وننفق فيه كل جهدنا، بينما نهمل الأول كل الإهمال؛ ولذلك نكذب، وإن كنا على استعداد أن نبرهن في الحال لماذا ينبغي علينا ألا نكذب. (53) مأثورات اجعلها نصب عينيك
ينبغي أن تكون المبادئ التالية طوع يدنا في كل حين:
30
قدني يا زيوس، وأنت أيها القدر،
إلى حيثما رسمتما لي الطريق؛
فأنا متبعكما دون تردد، وحتى لو أخذني الارتياب،
فتثاقلت وتملصت، فلن أكون مع ذلك أقل متابعة لكما.
كليانتس: أنشودة إلى زيوس
من يسلم بالقدر،
سيكون في البشر حكيما، وفي قوانين السماء خبيرا.
يوربيدس: شذور، 965
وهذا الثالث:
أي أقريطون، إذا كان هذا يرضي الآلهة، فلتكن مشيئتها.
أفلاطون: أقريطون،
34d
بوسع أنيتوس وميليتوس أن يقتلاني، ولكن ليس بوسعهما أن يؤذياني.
أفلاطون: الدفاع،
30c-d
الفصل الثاني
إبكتيتوس: دراسة وتعليق
(1) حياة إبكتيتوس
ولد إبكتيتوس عام 50م (وقيل 60)، في هيرابوليس
Hierapolis
من أعمال أفروجيا
بآسيا الصغرى (تركيا الحالية). كان يتحدث يونانية أمه العبدة، ولا يعرف شيء عن أبيه. ولفظة «إبكتيتوس» ليست اسمه، ولكنها كلمة يونانية لقب بها وتعني «الشخص المقتنى»؛ أي العبد. وفي سن الخامسة عشرة من عمره سيق إلى روما حيث بيع بثمن بخس في سوق الرقيق لرجل اسمه «إبافروديت»
Epaphroditus
هو معتق الإمبراطور نيرون وسكرتيره.
أخذ إبافروديت عبده إبكتيتوس ليعيش في «البيت الأبيض لنيرون» في وقت كان فيه الإمبراطور شديد الإهمال للإمبراطورية وكثير الترحال إلى اليونان لممارسة هواياته في التمثيل والموسيقى وقيادة العربات. وفي الوقت الذي قضاه في روما كان مشغولا بقتل أخيه (غير الشقيق)، وقتل زوجته، وأمه، وزوجته الثانية. وانتهى به الحال إلى الانتحار، وكان إبافروديت هو الذي أعانه على الموت فوجأ عنقه حين تعثر في قتل نفسه بينما كان الجنود يقتحمون بابه ليعتقلوه.
لعل هذا الحدث قد أزاح إبافروديت إلى الظل وأتاح لإبكتيتوس فيما بعد حرية التنقل في روما، فانجذب إلى المحاضرات العامة للمعلمين الرواقيين الذين كانوا فلاسفة روما في تلك الأيام. وأخيرا تتلمذ على يد أفضل معلمي الإمبراطورية على الإطلاق وهو ميزونيوس روفوس
Musonius Rufus . وبعد عشر سنوات أو تزيد من الدراسة اكتسب إبكتيتوس نفسه صفة فيلسوف، وتزامن ذلك مع انعتاقه من الرق ونيله حريته. فشرع في إلقاء دروسه كمعلم رواقي حتى عام 91م عندما أمر الإمبراطور دوميتيان
Domitian
بطرد الفلاسفة من روما وإيطاليا كلها؛ لأنهم كانوا ينتقدون الإمبراطور ويمثلون قوة ضغط تقف في وجه العرش الإمبراطوري. فرحل إبكتيتوس إلى نيقوبوليس
Nicopolis
وهي مدينة أسسها أغسطس احتفالا بنصره في إكتيوم، تقع في الشمال الغربي لبلاد اليونان (ألبانيا الحالية). وأسس مدرسة فلسفية اجتذبت إليها نفس الصنف من المستمعين الذي اجتذبه سقراط من قبل ذلك بخمسة قرون: الشبيبة الأرستقراطية التي كانت تعد لتقلد المناصب العليا في مختلف المجالات. كان الشباب الأرستقراطي الروماني يفد إليه أفواجا ليصغي إلى دروس العبد الفيلسوف الذي طار صيته وعلا شأنه على كره منه، حتى قيل: إنه لقي رواجا لم يلقه أفلاطون في زمنه. فكانت خيرة العائلات وصفوة القوم يرسلون إليه أفضل أبنائهم في أواسط العشرينيات من عمرهم لكي يعلمهم العلم ويصرفهم عن حياة الترف والدعة، ويبصرهم بكنه الحياة الصالحة، ويعدهم لمهامهم الصعبة في خدمة مواطنيهم.
كان إبكتيتوس مضرب الأمثال في التجلد والصبر على البلايا. يروى أنه عندما كان عبدا لإبافروديت أراد سيده أن يلهو فلوى ساقه بآلة للتعذيب. فقال له إبكتيتوس: «إنك ستكسر رجلي.» ولكن الرجل تمادى في ليها وإبكتيتوس لا يبدي جزعا حتى كسرت ساقه، فلم يزد على أن قال: «ألم أقل لك إنك ستكسر ساقي؟» (المحادثات، 1-12).
ظل إبكتيتوس يلقي دروسه بينما هو يعيش عيشة التقشف والبساطة، في منزل ليس فيه سوى حصير وحشية من القش ومصباح من الطين استعاض به عن المصباح الحديدي الذي سرق منه. وكان يعيش وحيدا أعزب إلى أن تبنى طفلا كان بعض أصدقائه يهمون بنبذه في العراء، فأراد أن يعوله واستخدم امرأة فقيرة لتربيه، وقد امتد به الأجل حتى طعن في السن وأدرك عصر الإمبراطور هادريان الذي حكم حتى عام 138م، ويروى أن أحد المعجبين به اشترى مصباحه الطيني بعد وفاته بثلاثة آلاف دراخما.
ورغم تضارب الآراء فمن المرجح أن إبكتيتوس لم يكتب بنفسه أي شيء مما وصل إلينا من أعماله. وإنما يعود الفضل في ذلك إلى تلميذه أريانوس الذي كان من قواد الجيش الروماني وحاكما على «كبدوكية» ومؤرخا شهيرا، وهو مؤلف لكتاب كبير عن «تاريخ الإسكندر». كان أريانوس يدون لنفسه أقوال أستاذه حرفيا بقدر ما تسعفه مهارته في الاختزال. فكتب كتابا أسماه «محادثات إبكتيتوس»
Discourses (Entretiens)
يرجح أنه كان يتألف من ثمانية أبواب بقيت لنا منها أربعة. ونشر كتابا أسماه
Manual (Enchiridion)
أي «الكتيب» أو «الموجز» أو «المختصر» أو «المحصل» أو «الدليل المرشد». وهو عبارة عن قطوف من «المحادثات» دبجها أريان في صياغة محكمة مختصرة تسعف القارئ المشغول، ولكنه لا يغني الباحث عن قراءة «المحادثات». (2) مقدمة أريان ل «المحادثات»
إلى لوشيوس جاليوس، مع تمنياتي له بالسعادة
وبعد، فأنا لم أكتب «محادثات إبكتيتوس» هذه بالطريقة التي يفترض أن يكتب بها المرء مثل هذه الأشياء، ولا أنا عمدت بنفسي إلى نشرها. بل إنني لأصرح بأني لم أكتبها فضلا عن أن أقوم بشرها. إنما وجه الأمر أنني حاولت أن أدون كل ما سمعته يقول حرفيا جهد ما أستطيع، بغية أن أحتفظ بها لنفسي فيما بعد كمذكرات لأفكار إبكتيتوس وشجون حديثه؛ ومن ثم فإن «المحادثات» بطبيعتها أشبه بما عسى أن يفضي به إنسان لآخر عفو الخاطر، لا بما يكتبه بقصد أن يقرأه آخرون. وإذ كان الأمر كذلك فلست أعرف كيف وقعت «المحادثات» في أيدي الناس بدون موافقتي أو علمي. غير أنني لا يهمني في شيء أن أرى، بعد، غير متضلع في الكتابة، ولا يهم إبكتيتوس على الإطلاق أن يستخف أي شخص بأقواله؛ ذلك أنه عندما كان يفوه بهذه الكلمات فقد كان من البين أنه لم يكن يبتغي إلا أن يحث عقول مستمعيه إلى خير الأشياء. فإذا ما آتت هذه «المحادثات» حقا هذه النتيجة ستكون، في اعتقادي، قد حققت ما ينبغي أن تحققه أقوال الفلاسفة، وإلا فليعلم من يقرءونها أن إبكتيتوس عندما كان يلقيها لم يكن مستمعه يملك إلى أن يتجاوب معها ويهتدي بما أراد إبكتيتوس أن يهدي به. أما إذا لم تؤت «المحادثات» نفسها، كما هي مكتوبة، هذا الأثر فلعل الخطأ خطئي، أو لعل هذا الشيء مما لا سبيل إلى اجتنابه.
والسلام (3) درب الحكمة
غاية الفلسفة عند إبكتيتوس هي غاية عملية أخلاقية: أن ترشد الناس إلى طريق الحياة الصالحة، الطريق الذي يؤدي إلى «اليوديمونيا»
Eudaimonia
أي الحياة السعيدة المزدهرة. الفلسفة عند إبكتيتوس هي فن الحياة. ومثلما أن المادة الخام التي يعمل عليها النجار هي الخشب، والمادة التي يعمل عليها المثال هي النحاس، كذلك الأمر في الفلسفة-فن الحياة فإن مادتها، أو خامتها، هي الحياة، حياة كل إنسان منا.
يعرف الحكيم الرواقي أن حياة الإنسان الواقعية ليست وردية اللون على الدوام، ويعرف أن أغلب الناس غير قانع بحياته، وأن العوائق والإحباطات تتربص به كل حين، والخيبات والمصاعب تقعد له كل مرصد، وأن لحظات الهناء الحقيقي نادرة وقصيرة، وحتى هذه يتناوشها القلق ويأكلها الحرص وينقصها من أطرافها . إننا مهددون في كل لحظة بالفشل والخسران، والمرض والإصابة، والأخطار والكوارث. وحتى السلامة ليست غير عدو خفي وداء دوي؛ لأنها لا تسلمنا إلا للفناء الآجل والموت المحتوم. «ولكن ما هي الفلسفة؟ أليست تعني الاستعداد لمواجهة الأمور التي تلم بنا؟» (المحادثات، 3-10). لا تعد الفلسفة بتقديم أي شيء «خارجي» من الأشياء التي يظنها الناس خيرا ويرهنون لديها هناءهم وسعادتهم. إنما تنجم الآلام والكروب من اعتقاداتنا الخاطئة عما يكونه الخير الحقيقي، إننا نستثمر أملنا في الشيء الخطأ، أو على الأقل بالطريقة الخطأ. فقدرتنا على بلوغ السعادة والازدهار تعتمد على إرادتنا وحدها ولا تتوقف على أي شيء آخر. غير أن امتلاك الإرادة الخيرة، الإرادة التي تستخلص الخير من كل أمر، ليس بالمهمة اليسيرة، ولا يتم دفعة واحدة، إنه يتطلب الممارسة والتدريب وعدم الاكتفاء بالتعلم النظري، فمزاولة الأفعال يحفظ الطبع ويثبته.
درب الحكمة طويل، درب الانسجام مع الطبيعة. «ليس هناك شيء عظيم يتأتى فجأة، فحتى العنب والتين لا يأتيان فجأة. إذا قلت لي الآن إنك تريد تينة سأجيبك بأنها تتطلب وقتا، دعها تزهر أولا، ثم تحمل ثمرا، ثم تنضج. أليست شجرة التين إذن تقتضي الأرض زمنا حتى تكمل عملها ولا تؤتي ثمارها في ساعة واحدة؟ أتظن أن بإمكانك أن تملك ثمار العقل البشري بسهولة وفورية؟! حذار أن تتوقع ذلك حتى لو قلت لك» (المحادثات، 1-15).
تتمثل الدعوى المحورية للأخلاق الرواقية في أن الخير الوحيد هو الفضيلة والأفعال التي تبعثها الفضيلة، والشر الوحيد هو الرذيلة والأفعال المدفوعة بالرذيلة. عندما يسعى المرء إلى اللذة مثلا أو الثروة، ظنا منه أن هذه الأشياء خير، فإنه يرتكب خطأ في الحكم يفضي إلى خطأ في الوجدان والنزوع؛ فالخير هو الشيء النافع لصاحبه تحت كل الظروف، وهو وصف لا ينطبق على اللذة والثروة والمنصب والصحة وغير ذلك من الأشياء الخارجية التي قد يستخدمها المرء استخداما سيئا فتكون وبالا عليه. جميع الأشياء إذن، عدا الفضيلة والرذيلة، هي أشياء «أسواء» أو «لا فارقة»
indifferent ؛ أي ليست بذاتها خيرا ولا شرا.
يسعى الرواقي، شأنه شأن غيره من الناس، إلى الثروة وإلى الصحة وإلى المجد، ويفضلها على الفقر والمرض والخمول، غير أنه يفعل ذلك بطريق مختلفة عن سواه ممن لا يعيش حياة فلسفية؛ إنه «يفضلها» في حالة تساوي جميع العوامل، ويسميها «المفضلات»
preferables ، لا بوصفها خيرا في ذاته، بل بما لها من قيمة أداتية؛ إذ يمكن أن تسهم في ازدهار الحياة بصفتها موضوعات نعمل فيها إرادتنا الخيرة وليس بأي صفة أخرى، غير أنه لا يبتئس لفقدها ولا تذهب نفسه عليها حسرات؛ لأنها ليست خيرا. إنما الخير هو الاستخدام القويم لهذه المفضلات حين تتوافر للمرء. ولن تكون حياته بدونها أقل خيرا ما دام محتفظا بالإرادة الخيرة ومتقبلا لما يجري به القضاء. «الإرادة إذن تحمل في ذاتها كل خير وكل شر. ولما كانت الأشياء الخارجية «متساوية»، فالأفعال الخارجية ليست في ذاتها حسنة ولا قبيحة إذا فصلناها عن الإرادة العاقلة التي تحدثها. وليس معنى هذا أن كل شيء خير، وإنما «الخير» هو ما يفعله المرء مع حسن النية، والشر هو ما يفعله مع سوء النية» (المحادثات، 4-8). «وإذن فالعقل والإرادة عند إبكتيتوس أمران متميزان من الأشياء التي يؤثران فيها. وأفعالنا ينبغي أن لا يحكم عليها بحسب نتائجها، سارة كانت أو مؤلمة، بل بحسب النية التي تصاحبها. والحاكم على الإنسان بالإدانة أو بالبراءة هو الضمير.»
1 (4) ما في قدرتنا
لكي يحفظ المرء إرادته الأخلاقية ويحقق حياة سعيدة مزدهرة، فلا بد له من أن يعرف ما هو في قدرتنا وما ليس في قدرتنا؛ لأنه خليق إذا فشل في ذلك أن يظل متوهما أن أشياء مثل الثروة والمنصب والصحة هي خير في حين أنها أشياء «غير فارقة»، ويظل من ثم مهددا بالإحباطات والكروب وعرضة للانفعالات المضطربة التي ليس لنا رغبة فيها وليس لنا سيطرة عليها. ثمة أشياء في قدرتنا وطوقنا وأشياء ليست في قدرتنا وليس لنا بها يد. «فمما يتعلق بقدرتنا أفكارنا ونوازعنا ورغبتنا ونفورنا، وبالجملة كل ما هو من عملنا وصنيعنا، ومما لا يتعلق بقدرتنا أبداننا وأملاكنا وسمعتنا ومناصبنا. وبالجملة كل ما ليس من عملنا وصنيعنا. أما الأشياء التي في قدرتنا فنحن بطبيعتنا أحرار فيها، لا حائل بيننا وبينها ولا عائق. وأما الأشياء التي ليست في قدرتنا فهي أشياء هشة وعبودية وعرضة للمنع وأمرها موكول لغيرنا» (المختصر، 1-1).
ما في قدرتنا إذن هو سلطاننا على أنفسنا، قدرتنا على الحكم بما هو خير وما هو شر، استخدامنا للانطباعات والتصورات، واتخاذنا في حياتنا أحكاما موافقة لطبيعة الأشياء، أحكاما تلهمنا أن حصول الأشياء أمر ضروري وتجعلنا نذعن لحدوثها ونقبلها كما هي وكما أوجدها مصرفها. لا نطمع في تغييرها أو نلوي أعناقها لكي تتخذ شكل رغباتنا وأمانينا.
لنا أن نتخذ احتياطنا لئلا يسطو لص على ممتلكاتنا، ولكن نية السرقة تبقى بطبيعة الحال في قدرة اللص. وقد نحرص على سمعتنا نقية من الشين والدرن، ولكنها في النهاية تتحدد بما يظنه الناس بنا وهو أمر متروك لهم وخارج عن قدرتنا وسلطاننا. «أجدر بك إذن أن تشكر الآلهة على أنها أعفتك من المحاسبة على الأشياء التي ليست في قدرتك، ومنها أبواك وإخوتك وجسمك وممتلكاتك وحياتك وموتك، دع هذه الأشياء يصرفها مصرفها ولا تكب إلا على ما هو في قدرتك: الاستخدام الصحيح للانطباعات» (المحادثات، 1-12). (5) الاستخدام الصحيح للانطباعات
يذهب إبكتيتوس إلى أن الثبات أمام الشدائد والسيطرة على الانفعالات العنيفة، وهو ما نعنيه بالموقف الرواقي في لغتنا الحديثة، يتطلب منا أن نستخدم انطباعاتنا، أو مدركاتنا، استخداما قويما موضوعيا بريئا من أي تزيد أو افتئات على الواقع.
تبدأ المعرفة عند الرواقيين ب «الانطباع» (المظهر)، وهو الأثر الذي يطبعه في الذهن شيء خارجي كما ينطبع الخاتم على الشمع، وسرعان ما يتخذ الانطباع الحسي شكل «قضية»
proposition
مفادها أن شيئا ما أو آخر هو القائم هناك حقا وصدقا (في الخزانة حبل مثلا أو في الخزانة ثعبان). ذلك هو «التصديق»
assent
العقلي على الانطباع الغفل. ينطوي هذا التصديق على «حكم قيمة»
value judgement
يفيد أن هذا الشيء مرغوب أو غير مرغوب أو غير فارق، ومن شأنه أن يحدد موقفنا الوجداني (الرغبة/النفور) والنزوعي (الإقدام/الإحجام) تجاهه. يرى الرواقيون أن أغلب البشر بعيدون عن المعيار العقلاني بعدا كبيرا يجعلهم يصدقون على انطباعات زائفة أو يتزيدون على الانطباع الموضعي بأحكام ليست منه. ويوصي الحكيم الرواقي بأن نمارس أشد الاحتياط والتريث حين نقوم بالتصديق على انطباعات «محملة بالقيمة»، وأن نتوقف عن الحكم إذا كان ثمة ما يدعو إلى أقل شك.
لا يقتصر الاستخدام القويم للانطباعات على التقدير الصحيح لصدق الانطباع، بل يشمل أيضا التقدير الصحيح لقيمة الانطباع. ويذهب الرواقيون إلى أن جميع الانطباعات أو المظاهر غير قادرة على منح السعادة ولا قادرة على منعها. إنها «لا فارقة» في هذا الشأن. والمعيار الرواقي هنا واضح وحاسم وقاطع: ليست الأشياء الخارجية خيرا ولا شرا، لأنها خارجة عن إرادتنا. إنما الخير والشر هما فعل الإرادة ومقصوران على ما هو داخل في نطاق قدرتها. «... كذلك ينبغي أن نتدرب يوميا ضد الانطباعات؛ فهذه أيضا تقترح علينا أسئلة: «مات فلان؟» الجواب: الأمر ليس قدرة الإرادة؛ الأمر بالتالي ليس شرا. «أب حرم ابنا معينا من الميراث، ما رأيك في ذلك؟» إنه شيء خارج عن إرادتنا، ومن ثم فهو ليس شرا. «أدان قيصر فلانا»، ذاك شيء خارج عن الإرادة ... ليس شرا. «الرجل مبتئس لذلك.» الابتئاس شيء يعتمد على الإرادة: إنه شر. «الرجل تحمل الإدانة بشجاعة.» هذا شيء داخل في قدرة الإرادة: إنه خير. إذا دربنا إرادتنا على هذا النحو فسوف نحقق تقدما؛ لأننا لن نصدق على أي شيء ليس لديه انطباع قابل للإدراك (لن نزايد على المدركات الموضوعية بأحكام من عندنا). ولدك مات. ماذا حدث؟ ولدك مات. لا أكثر؟ لا أكثر. سفينتك فقدت. ماذا حدث؟ سفينتك فقدت. فلان زج به إلى السجن. ماذا حدث؟ لقد زج به إلى السجن. أما أنه في هذا قد نكب فذاك شيء يزايد به كل من رأيه الخاص. تقول: «ولكن زيوس لم ينصف في هذه الأمور.» لماذا؟! لأنه خلقك قادرا على الاحتمال؟! لأنه خلقك شهما؟! لأنه سلب من الأشياء التي تحيق بك القدرة على أن تكون شرا؟! لأن بوسعك أن تكون سعيدا بينما تعاني ما تعانيه؟ لأنه فتح لك الباب إذا كانت الأشياء لا تروقك؟!
2
أيها الرجل، اذهب وكف عن الشكوى» (المحادثات، 3-8).
لكي نبلغ اليوديمونيا يتوجب علينا أن ننصف في حكمنا على الأشياء؛ «فليست الأشياء ما يكرب الناس، ولكن أحكامهم على الأشياء» (المختصر، 5). «تذكر أن من شتمك أو ضربك لم يهنك، وإنما الذي أهانك هو حكمك بأن هذه الأشياء إهانة. فاعلم إذن كلما أغضبك أحد أن فكرتك ذاتها هي ما أغضبك؛ لذا حاول جهدك في المقام الأول ألا تجرفك المظاهر؛ فبمجرد أن تمنح نفسك مهلة وتتريث في الأمر سيكون أيسر عليك أن تتمالك نفسك» (المختصر، 20). (6) المواضيع الثلاثة للفلسفة
ثمة مواضيع ثلاثة للبحث
topoi
تتقاسم الأنشطة التي يطبق فيها طالب الفلسفة مبادئه الرواقية. إنها تدريبات عملية إذا نجح في اتباعها بلغت به الحياة اليوديمونية التي هي غاية البشر جميعا وبوسعهم تحقيقها. «الموضوع الأول يتعلق بالرغبة والنفور، ويكفل للإنسان ألا يفشل أبدا في تحقيق رغباته ولا يقع أبدا فيما يكره. والموضوع الثاني يتعلق بالنزوع إلى الفعل أو الإحجام عنه، وبصفة عامة هو السلوك القويم؛ أي الفعل المنظم الحصيف غير الطائش. والموضوع الثالث يتعلق بالتحرر من الوهم والحكم المتسرع، وبعامة هو كل ما يتصل ب «التصديق»
assent » (المحادثات، 3-2).
موضوع الوجدان
يتناول مبحث الوجدان الأشياء التي ينبغي على الإنسان أن يرغب فيها. ويذهب الرواقيون إلى أن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يرغب فيه الكائن العاقل هو الخير الحقيقي؛ أي الفضيلة والفعل المدفوع بالفضيلة. أما «الأشياء الخارجية» التي ليست تحت إمرتنا وليس لنا سلطان عليها، فإن من يرغب فيها إنما يضع أمله في يد الغير ويضع نفسه تحت رحمة الظروف، فيتعرض للإحباط واليأس والقلق والجزع وغيرها من الانفعالات التي تورثه الشقاء والتعاسة. وبدلا من أن نحاول التخلص من هذه الانفعالات بالتهالك للحصول على ما نرغب فيه من الأشياء الخارجية يوصينا إبكتيتوس بالطريق الأقصر؛ وهو قتل الرغبة نفسها في الأشياء الخارجية والاستغناء عن كل ما هو خارج سلطة إرادتنا، بحيث تقتصر رغبتنا على الفضيلة والفعل العقلاني الفاضل، وهو شيء في مقدورنا وطوع إرادتنا. «فلتنصرف عن الأشياء التي ليست في قدرتك، وتعد الخير والشر وقفا على الأشياء التي في قدرتك؛ ذلك أنك إذا رأيت أيا من الأشياء التي ليست في قدرتك خيرا أو شرا فإنك قمين بالضرورة أن تتبرم إذا ما فشلت في الحصول على ما ترغب أو وقعت فيما لا ترغب، وأن تلوم المتسببين في ذلك أو تكرههم» (المختصر، 31).
فإذا ما سعينا إلى «المفضلات»، الصحة والمنصب والمال والولد ... إلخ، فينبغي أن يكون سعينا وئيدا مشروطا بحيث لا نبتئس إذا أخفقنا في نيلها أو إذا فقدناها بعد الحصول عليها. إنما يأتينا القلق من رغبتنا فيما ليس في قدرتنا، أما الحكيم الرواقي الذي يعد الأشياء الخارجية غير فارقة، ولا يرغب إلا فيما هو طوع إرادته، لا يمن عليه أحد بشيء ولا يسلبه أحد شيئا، فمن أين يأتيه القلق؟ (المحادثات، 3-12).
موضوع النزوع
يتناول مبحث النزوع الإقدام والإحجام، ماذا أفعل وكيف أسلك كفرد في سياق ظروفي الشخصية الخاصة لكي أؤدي بنجاح دوري ككائن اجتماعي عاقل يسعى إلى الامتياز.
من البديهي أن نتائج أفعالنا ليست خاضعة لإرادتنا خضوعا تاما؛ غير أن ميلنا إلى الفعل على نحو معين دون الآخر، وسعينا نحو مجموعة من الأهداف دون الأخرى هما في قدرتنا ومن اختيار إرادتنا. وعلى الإنسان أن يحسن هذا السعي وذاك الميل، وليس عليه أن يضمن النتائج، ما دام أمر النتائج متوقفا على عوامل أخرى ليست جميعها تحت إمرتنا وسيطرتنا. يقول الشاعر العربي في هذا المعنى:
وعلي أن أسعى ولي
س علي إدراك النجاح
ويضرب إبكتيتوس مثالا لذلك عملية الرمي بالقوس والسهم. إن الرامي يريد أن يصيب بسهمه صميم الهدف، غير أن هذه النتيجة المثالية تتوقف، إلى جانب إجادة الرمي، على عوامل أخرى ليست تحت سيطرته، فقد ينحرف السهم عن مقصده قليلا بفعل حركة الريح، وقد تنزلق أصابع الرامي، وقد ينكسر القوس ... إلخ. يقصر الرامي الرواقي اهتمامه على إجادة الرمي، ولا يبتئس البتة إذا خابت رميته ولم تصب الصميم. كذاك الأمر في الحياة بصفة عامة؛ يرى الإنسان غير الرواقي أن نجاحه في الحياة هو في أن يصيب الهدف . أما الرواقي فيرى أن نجاحه هو في أن يجيد الرمي.
لهذا الفرق الدقيق في التوجه الحياتي متضمنات سيكوباثولوجية هائلة، إن إصابة الهدف غير مضمونة مهما تصدق الجهود؛ ومن ثم فإن الإنسان غير الرواقي عرضة للإحباط والاضطراب، وحتى إن حالفه الحظ مرة ونال مراده، فإنه يظل مرتهنا للحظ وتحت رحمة الظروف ويظل طائف الخيبة يلازمه ويؤرقه. إنه من وجهة النظر الرواقية مريض حتى لو أمهلته الأعراض حينا وهادنه الحظ.
ويذهب إبكتيتوس إلى أن الأفعال القويمة إنما تقاس بالعلاقات التي ترتبط بها: علاقة الأخوة، الأبوة، البنوة، الصداقة، الزوجية، الجيرة، المواطنة، الزمالة، المهنة ... إلخ. يقول إبكتيتوس: «العلاقات تحدد الواجبات. «هو والدك» تعني أن عليك أن ترعاه وتذعن له في كل أمر، وتحتمله إذا أهانك أو ضربك. - «ولكنه أب سيئ.» - حسنا، وهل لديك أي حق طبيعي في أب جيد؟ كلا، بل في أب فحسب. - «أخي يسيء إلي.» - احرص إذن على أن تحفظ العلاقة التي تربطك به. ولا يهمك ما يفعله هو، بل ما يجب عليك أنت فعله إذا كانت غايتك أن تظل منسجما مع الطبيعة. فما كان لأحد أن يضرك ما لم ترد أنت ذلك. إنما يقع الضرر إذا افترضت أنت أنك أضرت.
كذلك إذن سوف تعرف واجبك من علاقتك: بالجار، بالمواطن، بقائد الجيش. إذا أنت اعتدت أن تتأمل العلاقات» (المختصر، 30).
إن الأفعال التي نتخذها يجب أن تكون مدفوعة بالواجبات المحددة التي علينا الاضطلاع بها وفقا لموقعنا وعلاقاتنا بالآخرين وأدوارنا التي تبنيناها في تعاملاتنا مع المجتمع الأوسع. وإن مصلحتنا في العيش الهانئ ككائنات عاقلة تقتضينا أن نسلك السلوك الفاضل وأن نتحلى بالصبر والرفق والعدل وصفاء النفس ولين الجانب، والشجاعة إذا اقتضى الأمر، و«حيثما تخليت عن أي من هذه المبادئ، فإنك تعاني الخسران في الحال، ليس خسرانا من الخارج بل خسران صادر من الفعل نفسه» (المحادثات، 4-12).
إن فشلنا في أن نتذكر من نحن، سيفضي إلى فشلنا في اقتفاء تلك الأفعال اللائمة لظروفنا والتزاماتنا الشخصية، يحدث ذلك لأننا ننسى ما هو النعت أو الاسم الذي يسمنا: ابن، أخ، مواطن، قائد ... «فكل اسم من هذه الأسماء إذا عايناه حق عيانه يشير دائما إلى أفعال لائقة به» (المحادثات، 2-10).
إذن لكي يحقق الطالب الرواقي تقدما في مجال الفعل يتعين عليه أن يكون على وعي دائم، لحظة بلحظة، بشيئين اثنين: ما هو الدور الاجتماعي الذي يقوم به، وما هي الأفعال المطلوبة أو المناسبة لأداء هذا الدور على أفضل نحو ممكن.
موضوع التصديق (الحكم)
عندما «نصدق» على انطباع معين فإننا نلزم أنفسنا بهذا الانطباع بوصفه تمثيلا صحيحا لما تكونه الأشياء، قائلين: «نعم، هكذا الأمر.» مبحث التصديق إذن هو تدريب نطبقه على انطباعاتنا، حيث نقوم بتأويلها والحكم عليها، لكن ننتقل من «الانطباع ب» شيء ما إلى «إعلان أن» هذا الشيء هو القائم هناك؛ «فكما اعتاد سقراط أن يقول: إن حياة لا تخضع للنقد هي حياة غير جديرة بأن نحياها، كذلك علينا ألا نقبل أي انطباع لم يتم تمحيصه، بل أن نقول: «قف، دعني أرى ماذا تكون ومن أين أتيت.» تماما كما يقول العسس: «أرنا أمارتك»» (المحادثات، 3-12). «فليكن دأبك إذن منذ البداية أن تقول لكل انطباع مزعج: «أنت مجرد انطباع، ولست بأي حال ذلك الشيء الحقيقي الذي تمثله.» ثم افحصه وقدره بتلك المعايير التي لديك، وأولها هذا: أيتعلق هو بالأشياء التي في قدرتنا، أم بالأشياء الخارجة عن إرادتنا؟ فإذا كانت الأخيرة فكن على استعداد لأن تقول بأن هذا الانطباع لا يعنيك في شيء» (المختصر، 1).
إن علينا أن نفعل ذلك حتى لا نقع ضحية التقييمات الذاتية الزائفة، فيكون بوسعنا أن نتحرر من الخداع ومن عقد أحكام طائشة تضللنا في مسارنا في المجالين الآخرين: الوجدان والفعل، من شأن التقييم الخاطئ أن يؤدي بنا إلى أن نرغب في الأشياء الخطأ (أي الأشياء اللافارقة)، وأن نأتي الأفعال غير المناسبة فيما يتصل بوجداناتنا والتزاماتنا. الموضوع الثالث إذن، أي التصديق، يضمن سلامة الموضوعين الآخرين؛ أي الوجدان والنزوع، وبعبارة أخرى فإن التقييم الصحيح يفضي إلى الرغبة الصحيحة والفعل الصحيح. «سفينتك فقدت. ماذا حدث؟ سفينتك فقدت. أما أنك قد نكبت فذاك تزيد من عندك.» ما ينبغي تجنبه إذن هو أن نضيف إلى انطباعاتنا، بتسرع ودون تقييم صحيح، أي حكم بأن خيرا أو شرا قد وقع؛ لأن الخير الوحيد هو الفضيلة الأخلاقية، والشر الوحيد الذي يمكن أن يحل بأي منا هو أن ينخرط في أفعال مدفوعة بالرذيلة؛ لذا فأن ترى فقدان سفينة على أنه كارثة يعد تصديقا للانطباع الخاطئ؛ فالانطباع الذي لدينا لا يعدو أن يكون فقدان سفينة. أما أن تتخذ الخطوة الإضافية بأن تعلن أن هذا نكبة أو ضرر فهو تصديق بانطباع لا وجود له في واقع الأمر، وعند الرواقي أن فقدان سفينة ليس أكثر من أحد «اللامفضلات اللافارقة»، ولا يمثل ضررا حقيقيا.
قلنا إن جميع أفعالنا ترتكز على التصديقات التي نمنحها للانطباعات التي نتلقاها. لدي على سبيل المثال انطباع بشاب يمسك بامرأة عجوز من ذراعها. يتمثل هذا الانطباع لملكتي العقلية في صورة «قضوية»
propositional : شاب يهاجم امرأة عجوزا. لقد منحت تصديقا لهذه القضية، وهذا التصديق يخلق في اعتقادا بأن الشاب يهاجم العجوز. وقد أثار هذا «وجداني» وحثني على «الفعل» فتدخلت فيما يجري، لأكتشف أن الشاب في حقيقة الأمر كان يساعد العجوز على عبور الطريق. لقد ارتكبت خطأ في هذه الحالة: لقد صدقت على انطباع كاذب.
من دأب الناس أن تصدق على «قضايا»
propositions
عن الأحداث تنطوي على «أحكام قيمة» مضمرة: «لقد كان موته شيئا فظيعا.» «وددت لو لم يحدث هذا.» «لم تجر المقابلة على ما يرام.» أما لدى الرواقي فإن كل حدث خارجي هو «شيء غير فارق»؛ أي ليس في ذاته خيرا ولا شرا؛ لذا فحيثما يصدق أي امرئ على انطباع بأمر خارجي ينطوي في داخله على حكم قيمة، فإنه يرتكب خطأ إبستمولوجيا، يوضح ماركوس أوريليوس هذه المسألة في التأملات بقوله: «لا تزايد على رواية الانطباع الأول بشيء من عندك. افترض أنه قد جاءك أن شخصا ما يعيبك؛ هذا ما روي، أما أنت قد أضرت، فهذا ما لم يرو. أو هبني أرى طفلي مريضا، هذا ما أراه، أما أنه في خطر فشيء لا أراه. هكذا التزم دائما بالانطباع الأول ولا تضف عليه شيئا من أفكارك أنت. وهكذا كل ما في الأمر، وإلا فإن بوسعك أن تضيف ما لا نهاية له إضافة من يعرف كل ما يجري في العالم» (التأملات، 8-49).
يطبق إبكتيتوس هذا المبدأ في تقييمه للتراجيديات اليونانية الكبرى والملاحم الهومرية. وعلى العكس من أولئك الذين يذهبون إلى أن الحالة البشرية تراجيدية في صميمها (نيتشه المبكر على سبيل المثال)، فإن إبكتيتوس يرى أن هذه القصص مجرد نتاج لتصديقات خاطئة من جانب شخصيات تعاني قصورا. عن الإلياذة مثلا يقول إبكتيتوس: «لا تعدو مكونات الإلياذة أن تكون انطباعات واستخدام تلك الانطباعات، انطباعا دفع باريس إلى أن يخطف هيلين، وانطباعا دفع هيلين إلى أن تتبعه. إذن لو كان ثمة انطباع لدى مينيلاوس جعله يستشعر أنه لخيره ومن مصلحته أن سلبت منه مثل تلك الزوجة فماذا كان سيحدث؟ كنا عدمنا الإلياذة، بل والأوديسا أيضا» (المحادثات، 1-28).
إن أفعال أبطال هوميروس وشخصيات أسخيليوس وسوفوكليس ليست أكثر من نواتج تصديقات خاطئة - اختيارات معرفية خاطئة. ومعاناة هذه الشخصيات هي نتيجة مباشرة لهذه الاختيارات. يعي إبكتيتوس جيدا أن أغلب البشر بعيدون كل البعد عن المعيار العقلاني للحكيم المثالي. ومن ثم فإنه مقدر لهم أن يصدقوا على انطباعات زائفة. ووصيته لنا هي أن نمارس أشد الاحتياط عندما نقوم بالتصديق على أي انطباعات وأن نتوقف عن الحكم إذا كان ثمة ما يدعو إلى أقل شك. والسبيل إلى تجنب المعاناة التي نشهدها في التراجيديات والملاحم الكبرى هو التوقف عن وضع اختيارات في صورة تصديقات عندما نواجه بانطباعات محملة بالقيمة ... بل نتأسى بقول سقراط: «أي عزيزي أقريطون، إذا كان هذا ما تريده الآلهة، فلتكن مشيئتها.» ولا نقول: «ما أتعسني من شيخ؛ تراني أنفقت العمر وبلغت المشيب من أجل هذا؟!»
3
لعلك تسأل: من الذي يقول مثل ذلك. وأنا لن أسمي لك أحدا من المغمورين أو النكرات. ألم يقل بريام مثل هذا؟ ألم يقل أوديب؟ بلى، جميع الملوك يقولون هذا! وماذا تكون المسرحيات التراجيدية غير ضرب من الشعر يعرض المآسي التي تحيق برجال أفرطوا في تقدير قيمة الأشياء الخارجية؟ فإذا كانت التراجيديا تعلمنا أن نضرب صفحا عن أي شيء خارجي غير خاضع لإرادتنا، فأنعم بهذا الجانب من التراجيديا الذي يعينني على أن أعيش سعيدا مطمئنا. فإذا كنت ترى في التراجيديا رأيا آخر فلك ما تريد» (المحادثات، 1-4). (7) الله
يستخدم إبكتيتوس كلمة «الله»، و«الآلهة»، و«زيوس»، على التعاوض. فقد جمع الرواقيون بين نظرة تعدد الآلهة على ما كان معهودا في آراء الجمهور اليوناني القديم، وبين مذهب الرواقية الخاص في وحدة الوجود، فقالوا: إن الآلهة هي في مجموع الطبيعة مظاهر مختلفة لإله واحد، وعلى هذا النحو ظل الرواقيون يستعملون لفظة «الآلهة» بالجمع، ولم يحذفوه من لغتهم ولا من مذهبهم. يقول إبكتيتوس في «المختصر»: «أما بخصوص التقوى تجاه الآلهة، فلتعلم أن هذا هو رأس الأمر: أن تتصورهم على النحو الصحيح، بوصفهم موجودين ويديرون الأشياء على أقوم نحو وأعدله. وأن تعقد عزمك على هذا: أن تطيعهم وتمتثل لإرادتهم في كل شيء يحدث، وتتبعهم طائعا في كل ما يجري بوصفه من تصريف الحكمة العليا. فبذلك لن تلوم الآلهة أبدا ولن تتهمها بالتقصير» (المختصر، 30).
على أن إبكتيتوس يتحدث عن «الله» أكثر مما يتحدث عن «الآلهة». وفي «المختصر» يستخدم إبكتيتوس تشبيه «القبطان»، الذي يدعونا للعودة إلى ظهر السفينة لاستئناف الرحلة ليمثل لنا حتمية الرحيل عن هذه الحياة إلى الحياة الأخرى: «مثلما يحدث حين ترسو سفينتك في رحلتها بعض حين بأحد الموانئ. إذا ذهبت لكي تشرب فقد يطيب لك في الطريق أن تلتقط قوقعة من هنا أو كمأة من هناك. غير أن فكرك وانتباهك ينبغي أن يكونا ملتفتين دوما إلى السفينة، مرتقبا نداء القبطان للإبحار. هنالك يتعين عليك أن تلقي بكل هذه الأشياء، وإلا فسوف تربط ويلقى بك في السفينة كالشاة. كذلك الأمر في الحياة: فإذا وهبت، بدلا من القوقعة أو الكمأة بزوجة أو ولد فلا بأس، ولكن إذا ما نادى القبطان فإن عليك أن تهرع إلى السفينة تاركا إياهما غير مكترث بأي منهما» (المختصر ، 7).
وفي غير موضع من «المحادثات» و«المختصر» يصوره في صورة «المعطي» الذي يجب أن نرد إليه جميع الأشياء التي تمتعنا بها على سبيل القرض: أقاربنا وأصدقاءنا حين يحجبهم الموت، وممتلكاتنا حين نفقدها في الكوارث: «لعلك تقول إن من أخذها مني لشرير، فهل يهمك بوساطة من استرد منك الواهب ما أعطى؟! فما دام قد أعطاكها فتعهدها كشيء يخص غيرك، تماما مثلما يتعامل عابرو السبيل مع النزل» (المختصر، 11). «هل تسخط وتتأبى على مقادير زيوس التي قضى بها وحددها لك مع آلهة القدر التي غزلت في حضوره خيط مصيرك لحظة ميلادك؟» (المحادثات، 1-12). كلا، بل يجمل بك أن تصلي لله لكي يقودك إلى المصير الذي رسمه لك، وتقول مع كليانتس: «قدني يا زيوس، وأنت أيها القدر، إلى حيث رسمتما لي الطريق، فأنا متبعكما دون تردد، وحتى لو أخذني الارتياب فتثاقلت وتملصت، فلن أكون مع ذلك أقل متابعة لكما.»
يأخذ إبكتيتوس ب «حجة التصميم الذكي» لإثبات وجود الله؛ فالنظام والتناغم البديع الماثل في الكون والمدرك للعيان، مرده إلى عناية إلهية ترأم العالم وتسيره بذكاء وتبصر. «الله اصطفى الإنسان ليكون مشاهدا لله وأعماله. ليس مشاهدا فقط، بل ومفسرا أيضا ... ما أروع أن ترحل إلى الأولمب لتشاهد أعمال فيدياس، والأروع أن تشاهد أعمال الله وإبداعه حيثما كنت» (المحادثات، 1-6).
ويأخذ الرواقيون بمذهب خاص في «وحدة الوجود»، مفاده أن كل ما بالوجود هو مادة. ثمة مادة منفعلة غفل من كل صفة، وثمة مبدأ فاعل وإلهي وهو العقل الكامن في المادة، وهو جسم لطيف يداخل المادة ويتغلغل في العالم كالعسل في الشمع ويشيع فيه كالروح في البدن ويحدث الأشياء بإعطائها صورها.
ويذهب الرواقيون إلى أن عقل كل إنسان منا هو قبس من الله أو «كسرة من زيوس»، وأن العقلانية التي يملكها كل منا هي في الحقيقة جزء من عقلانية الله، وهي العقلانية التي يعرفها إبكتيتوس في المقام الأول بأنها القدرة على الاستخدام الصحيح للانطباعات: «إبكتيتوس، لو كان بالإمكان لكنت جعلت جسدك الضئيل حرا لا يعوقه عائق، وكذلك ثروتك الضئيلة. ولكن أفق، فهذا الجسد ليس خاصتك: إنه مجرد صلصال سويته بعناية، ولما تعذر أن أهبك ذلك فقد منحتك شيئا من نفسي: ملكة الاختيار بين البدائل، الطلب والإعراض، الرغبة والنفور، وباختصار: استخدام مظاهر الأشياء. فإذا استطعت أن تحفظ هذه العطية وتجعل ملكك محصورا فيها مقصورا عليها، فلن تعرف القيد أبدا ولا العوائق، ولن تئن ولن تشكو، ولن تتملق أحدا، كيف تستهين إذن بكل هذه المزايا؟!» (المحادثات، 1-1). «ما الذي وهبني الله كشيء يخصني ويخضع لسلطاني، وما الذي أبقاه لنفسه؟ وهبني كل الأشياء التي تقع داخل نطاق إرادتي (قدرتي)، وأخضع هذه الأشياء لسيطرتي دون موانع أو عوائق. أما جسدي المجبول من طين، فكيف يمكن أن يجعله خالصا من العوائق؟! لم يكن بد من أن يجعل جسدي عرضة لثوران «الكل»، وكذلك ممتلكاتي وأثاثي ومنزلي وأبنائي وزوجتي، لماذا إذن أتمرد على الله؟ لماذا أريد ما هو خارج عن إرادتي؟ لماذا أريد أن أمتلك ما ليس لي على الإطلاق؟ - ولكن ما هو الموقف الذي ينبغي علي أن أتخذه تجاه هذه الأشياء التي منحت لي؟ - أن أحفظها لدي وفقا للطريقة التي أسديت بها إلي والأمد المقدر لها في حيازتي، ولكن من أعطى يسترد. وإذا استرد الواهب ما أعطى فلماذا أمانع؟ إن من الحماقة أن أمانع من هو أقوى مني. والأهم من ذلك أنه من الغبن أن أفعل ذلك؛ فمن أين حصلت على هذه الأشياء عندما جئت إلى الوجود؟ لقد منحني إياها والدي، ولكن من الذي منحه إياها؟ ومن الذي خلق الشمس، والثمار، والفصول؟ ومن الذي عقد الصلات بين البشر؟
ثم بعد أن تلقيت كل شيء - حتى نفسك - من غيرك، أتغضب وتلوم المعطي إذا أخذ أي شيء منك؟ من أنت؟ ولأي غاية جئت إلى العالم؟ ألم يأت بك هذا الواهب وأضاء لك السبيل؟ ألم ينعم عليك برفاقك؟ ألم يهبك حواسك؟ ألم يمنحك العقل؟ وبأية صفة أتى بك إلى هنا؟ أبصفة كائن مخلد؟! ألم يأت بك بصفة كائن يعيش على الأرض بجسد ضئيل لكي تعاين إدارته، وتشاهد معه العرض الرائع ، وتشارك في مهرجان الوجود لفترة وجيزة؟ وبعد أن شاهدت العرض والمراسم بقدر ما أتيح لك ألن ترحل عندما يذهب بك، حامدا وشاكرا له على ما أراك وما أسمعك؟ تقول: «بلى، ولكني ما زلت أريد المزيد من متعة المهرجان.» والمبدأ أيضا يود لو تطول به المراسم، والمتفرجون في الأوليمبياد يودون رؤية المزيد من المتنافسين، ولكن الاحتفال انتهى، فاذهب شاكرا قنوعا ... أخل مكانا لغيرك، ثمة آخرون ينبغي أن يولدوا كما ولدت فيجدوا مكانا لهم ومأوى وحوائج. فإذا لم يرحل السابق فماذا يبقى للاحق؟ لماذا أنت جشع لا تقنع؟ لماذا تزحم العالم؟!» (المحادثات، 4-1). (8) العيش في انسجام مع الطبيعة
كثيرا ما يطلق على وجهة النظر التي يتبناها الطالب الرواقي والأفعال التي يؤديها سعيا إلى الامتياز اسم «اتباع الطبيعة» أو «الحياة في انسجام مع الطبيعة»، إنه على وعي دائم بموقعه وصفته وبالأفعال التي تليق بهما، وتقبل غير مشروط لقدره ومصيره، وإذعان لحدوث الأشياء مثلما تحدث ومثلما شاء لها مصرفها. فإذا عنفه أخوه فإنه لا يستجيب لذلك بالغضب والسخط؛ لأن هذا مضاد للطبيعة التي حددت كيف ينبغي أن يتعامل الأخوان.
ولكي نحفظ أنفسنا في انسجام مع الطبيعة فإن علينا أن ننتبه إلى شيئين: إلى أفعالنا بحيث تأتي استجاباتنا على نحو ملائم، وإلى العالم الذي نجترح فيه أفعالنا والذي يحث تلك الأفعال في المقام الأول: «إذا كنت معتزما القيام بعمل ما، ذكر نفسك بطبيعة هذا العمل. فإذا كنت ذاهبا لكي تستحم فتمثل في نفسك ما يحدث في الحمامات العامة: ثمة من يرشش الماء، والبعض يتدافعون بالمناكب، آخرون يسب بعضهم بعضا، وهناك من يسرق، وهكذا سوف يتسنى لك الاضطلاع بشأنك على نحو آمن إذا قلت لنفسك: لقد اعتزمت الآن أن أغتسل وأن أحفظ إرادتي في انسجام مع الطبيعة، وليكن هذا دأبك في أي عمل آخر، فبذلك إذا ألمت بك في اغتسالك أي عوائق سيمكنك أن تقول: «لم يكن مقصدي الاغتسال فحسب، بل قصدت أيضا أن أحفظ إرادتي في انسجام مع الطبيعة، ولن يكون لي أن أحفظها هكذا إذا أنا تبرمت مما يحدث»» (المختصر، 4).
في هذه الشذرة عن الحمامات يتحدث إبكتيتوس عن المتاعب المتوقعة في مواقف معينة، ويوصينا بتوقع مثل هذه المتاعب بحيث إذا وقعت لا تثير فينا عجبا ولا غضبا. وفي مقابل ذلك ثمة مواقف تحل فيها الشدائد بغتة وعلى غير انتظار، إلا أن استجابة الرواقي تظل واحدة في الحالتين: إنه يتقبل ما قدره الله له، ويجعل من وقوع المحنة مناسبة لممارسة الفضيلة وتقوية الإرادة. «إن الشدائد تكشف الرجال؛ ومن ثم فإذا نزلت بك نازلة فتذكر أن الله يعجم عودك، شأنه شأن مدرب المصارعة الذي يمتحنك بمنازلة شاب شديد البأس، لعلك قائل: «لأي غرض؟» ... عجبا، عساك أن تصبح بطلا أوليمبيا، وهذا لا يتم بدون عرق، وعندي أنه لم يحظ إنسان بمحنة أنفع من محنتك إذا أنت تعاملت معها مثلما يتعامل الرياضي مع خصم فتي» (المحادثات، 1-24).
هكذا ينبغي أن نفهم كل شدة تلم بنا في الحياة، إنها فرصة جديدة لتقوية إرادتنا الأخلاقية. تماما مثلما أن كل جولة جديدة للمصارع هي فرصة له لتدريب مهارته في المصارعة. «الحكيم هو من يسلم أمره لمدبر الكل ويذعن لحكمه مثلما يذعن المواطنون الصالحون لقوانين الدولة. هكذا تكون الحرية الحقة: الحرية ليست في الانفلات والإباحة؛ فالحرية والجنون لا ينسجمان. إنما الحرية التزام بالأصول، حين أمضي في أي شأن؛ الكتابة مثلا، وأريد أن أكتب كلمة
Dion ، هل أكتبها كيفما اتفق أو كيفما يحلو لي؟ كلا، فقد تعلمت أن أكتبها كما ينبغي لها أن تكتب. كذلك الحال في الموسيقى، وفي أي فن آخر أو علم. وإلا فلن تكون ثمة جدوى لأي معرفة إذا كانت المعرفة تخضع لنزوات كل واحد وتتلون بمزاجه ... علي إذن أن أتعلم كيف أجعل رغبتي هي أن يحدث كل شيء مثلما يحدث، وكيف تحدث الأشياء؟ تحدث كما أراد لها مصرفها جل وعلا ... التعلم يجب ألا يتوخى تغيير بنية الأشياء؛ فليس هذا في قدرتنا ولا هو من المستحب أن يكون في قدرتنا، بل يتوخى أن نحفظ عقولنا في تناغم مع الأشياء مثلما هي ومثلما تشاء لها الطبيعة» (المحادثات، 1-12). (9) تشبيهات الحياة عند إبكتيتوس
يستخدم إبكتيتوس عددا من الاستعارات للحياة، لكي يوضح ما ينبغي أن يكونه الموقف الرواقي منها.
الحياة كمهرجان
يحثنا إبكتيتوس على أن ننظر إلى الحياة كمهرجان نظمه الله لمصلحتنا، كشيء يمكن أن نعيشه بابتهاج، ونتحمل مصاعبه التي تحيق بنا لأننا نرنو بأعيننا إلى المشهد الأعرض الذي يدور. «ألم يأت الله بك هنا ككائن فان يعيش على الأرض بجسد ضئيل لكي يشاهد إدارته ويشارك معه، لفترة قصيرة، في مهرجانه؟» (المحادثات، 4-1).
تهيب بنا الأخلاق الرواقية أن نعيش على أفضل نحو ممكن وأن نؤدي واجباتنا كمواطنين في العالم؛ مدينة الله العظيمة.
الحياة كلعبة
إذا كانت الأشياء نفسها غير فارقة، فإن استخدامنا للأشياء فارق!
ليس ثمة تعارض بين الحزم والطمأنينة، أو بين الحرص والشهامة.
ولكي يوضح ذلك يشبه إبكتيتوس الحياة بلعبة النرد: إن الأرقام ليست في قدرتنا، أما استخدام الأرقام فهو في قدرتنا. وعلينا من ثم أن نؤدي اللعب بمهارة وتدقيق. ولا تناقض إذن بين الحرص (في الأداء، أي فيما هو في قدرتنا) وبين خلو البال (تجاه الأرقام، أي فيما ليس في قدرتنا).
ويشبه إبكتيتوس الحياة أيضا بلعبة الكرة: لا يتساءل أحد لحظة هل الكرة شيء جيد أو شيء رديء! بل ينظر فقط هل يمكنه أن يرميها أو يلقفها بالمهارة المناسبة. ما يهم في لعبة الكرة هو ملكة المهارة والحذق والسرعة والحكم التي يبديها اللاعبون. وإنما بكفاءة استخدام هذه الملكات نعتبر اللاعب قد أجاد اللعب. وفي حين نبدي كل الحرص في إجادة اللعب فإننا غير مكترثين البتة بمادة الكرة. كذلك الأمر في الحياة: إذ نعمل مهاراتنا في مادة خارجية ما. ليس علينا أن نقيم المادة نفسها، جيدة أم رديئة، بل أن نبدي مهارة في استخدامها ونجيد التعامل معها.
الحياة كمسرحية
قلنا: إن إبكتيتوس يهيب بنا أن «نتذكر من نحن» وأي «اسم» نحمله؛ وذلك لأن الدور الذي نلعبه في الحياة سيحدد الأفعال اللائقة بنا؛ فالحياة أشبه بمسرحية علينا أن نتقن دورنا فيها، وليس علينا أن نختاره ، ولا هو من اللائق أن نتمرد على الدور الذي قيضه لنا المؤلف؛ إذ ليست العبرة بالدور بل بالأداء. يقول إبكتيتوس في «المختصر»: «تذكر أنك ممثل في مسرحية تمضي مثلما يشاء لها المؤلف، قصيرة إذا شاء لها القصر، وطويلة إذا شاء لها أن تطول. إذا راقه أن تلعب فيها دور شحاذ فإن عليك أن تؤديه أداء طبيعيا. وقد يريدك أن تؤدي دور أعرج أو مسئول حكومي أو صاحب عمل خاص. وأيا ما كان دورك فهذه مهمتك: أن تجيد أداء الشخصية المقيضة لك. أما اختيار الشخصية فليس هذا من شأنك» (المختصر، 17).
الحياة كمباراة رياضية
يعقد إبكتيتوس مماثلة بين تدريب المرء في الأخلاق الرواقية كإعداد له كي يعيش الحياة الفلسفية وبين تدريب شخص ما تدريبا رياضيا لإعداده لدخول حلبة المنافسة. يخاطب إبكتيتوس شخصا أصابه الكرب؛ لأنه لا يجد فراغا كافيا لدراسة كتب الفلسفة: «أليست القراءة ضربا من الإعداد للحياة؛ على أن الحياة مكونة من أشياء أخرى غير الكتب؟ وكأن على الرياضي إذا دخل الإستاد أن ينهار ويبكي لأنه لا يتدرب خارجه! هذا ما كنت تتدرب من أجله. هذا ما كنت تصطنع له الأثقال والرمل والخصوم الأشداء. أفأنت تلتمس هذا الآن وقد حان وقت الفعل؟! تماما كما لو أننا في مجال التصديق، وقد ووجهنا بانطباعات بعضها بين الصواب وبعضها بين الخطأ، علينا بدلا من أن نميز بينها أن نطلب قراءة ما كتب عن الإدراك» (المحادثات، 4-4).
التدريب الفلسفي كالتدريب الرياضي ليس نزهة، إنه طريق مجهد ومسلك وعر. ومن العبث إبداء شغف سطحي بأي مشروع صعب دون تقدير حصيف للمطالب التي يضعها على عاتقنا. وإلا فإن حماسنا الأول سرعان ما يفتر فنبدو كالحمقى. يصدق هذا على التدريب الفلسفي مثلما يصدق على إعداد المصارع للمنافسة في الألعاب الأوليمبية (انظر «المختصر»، 29). «التدريب هو من أجل الفعل الحياتي وليس غاية في ذاته. فإذا ما سمعت أذان الفعل الحياتي فاترك الكتب وطبق المبادئ التي في الكتب. وليكن سقراط قدوتك في هذا؛ لم يكن على حكمته وعلمه يتخلف عن الحملات العسكرية ، وكان مثالا لتلبية نداء الفعل وعدم الاقتصار على الدرس والتدريب ... لقد أتاح الله لك منذ قليل فراغا للدرس والقراءة والتدريب. أما الآن فقد آذن وقت الفعل وحانت المنازلة لكي ترينا تطبيق ما تعلمت» (المحادثات، 4-4). «إلام تنتظر حتى تنتدب نفسك لأجل المراتب ولا تحيد عن حدود العقل؟ لقد تلقيت النظريات التي ينبغي الإلمام بها وألممت بها. أي معلم آخر إذن ما زلت ترتقبه حتى تحيل إليه مهمة تقويم ذاتك؟ أنت لم تعد صبيا، لقد كبرت. فإذا بقيت مهملا كسولا، وما تنفك تسوف وتماطل وترجئ اليوم الذي ستنتبه فيه إلى نفسك، فلن تراوح وستظل جهولا في حياتك وفي مماتك. الآن إذن اعتبر نفسك جديرا بالعيش كراشد وسالك على درب الفلسفة، وخذ كل ما تراه حقا واجعله قانونا صلبا لا يقبل الانتهاك. فإذا عرض لك عارض من ألم أو لذة أو مجد أو شين فتذكر أن النزال الآن، الأوليمبياد الآن ولا يمكن أن تؤجل. وبانكسارة واحدة وتخاذل واحد يذهب الفوز أو يأتي. هكذا بلغ سقراط الكمال؛ مقوما نفسه بكل وسيلة، غير مصغ إلى شيء سوى العقل، ورغم أنك لست سقراطا بعد فإنه ينبغي عليك أن تعيش كمن يطمح أن يكون سقراطا» (المختصر، 51).
الحياة كخدمة عسكرية
تعود هذه الاستعارة إلى الفكرة الرواقية القائلة بأن الله يحكم العالم وأننا جميعا، شئنا أم أبينا، في خدمة الله. وعلى الطالب الرواقي أن يحاول أن يقضي هذه الخدمة على أعلى مستوى ممكن. يقول ستوكدال الطيار الأمريكي الذي وقع في الأسر في حرب فيتنام: ... كان مبعث ثقتي هو إدراكي أنني قد وجدت الفلسفة الحقة للفنون العسكرية كما مارستها، كان الرواقيون الرومان هم مبتكري صيغة «الحياة هي الجندية»
Vivere militare . وفي المحادثات يخاطب إبكتيتوس ذلك الفتى الذي جزع لاضطرار الفتيان إلى أن يرتحلوا بعيدا تاركين أمهاتهم يألمن لغيابهم: «ألا تعلم أن الحياة خدمة عسكرية؟ على الواحد أن يبقى للحراسة، وعلى الآخر أن يذهب للاستطلاع، والثالث ينتشر في الميدان. من غير الممكن أن يظل الجميع حيث هم، ولا هو من الأفضل. فمالك تتوانى في تنفيذ أوامر القائد وتشكو إذا بلغك أمر صارم، إنك لا تفهم أي وضع بائس تضع فيه الجيش بقدر ما يتمثل فيك؛ إنك لا تدرك أنه إذا حذا الجميع حذوك فلن يكون هناك أحد يحفر خندقا أو يشيد سياجا، ولا أحد يؤمن الحراسة الليلية أو يقاتل في الميدان، بل الكل سوف يبدو جنديا لا نفع فيه ... كذلك الأمر في العالم؛ حياة كل إنسان هي حملة عسكرية، حملة طويلة متعددة الألوان، وإن عليك أن تلعب دور الجندي. افعل كل ما يأمرك به القائد، مقدسا أوامره ما أمكن ذلك» (المحادثات، 3-24). (10) التقدم على درب الحكمة «التقدم هو الانصراف عن الأشياء الخارجية وتدريب الإرادة على الانسجام مع الطبيعة، وألا نرغب إلا فيما هو في قدرتنا ولا نتجنب ما ليس في قدرتنا اجتنابه، والتيقن من أن من يحيد عن هذا المبدأ الرواقي فإنما يجعل من نفسه ألعوبة في يد الأحداث وريشة في مهب الريح وعبدا لمن بيده أن يمنحه ما يرغب فيه ويمنع عنه ما ينفر منه.
هذا هو التقدم الحق على درب الحكمة. أما مجرد قراءة الكتب للحفظ والاستيعاب فليس شيئا، ولا يستحق السعي والسفر وهجرة الأهل. إنما الغاية الحقيقية من التحصيل الرواقي هي أن نتعلم كيف نخلص أنفسنا من الأسف والإحباط وكيف نتحمل السجن والنفي والأغلال فلا ننوح ولا نولول، بل نتأسى بقول سقراط: «أي عزيزي أقريطون إن كان هذا ما تريده الآلهة فلتكن مشيئتها»» (المحادثات، 1-4).
والتقدم على درب الحكمة لا يكون بغير ثمن.
أوله شيء من «الانسلاخ» عن القطيع وعدم مجاراته في مسلكه ومزاجه. إن لك أن تستمتع بمهرجان الحياة وتشارك فيه، ولكن إذا حضرت مباراة رياضية على سبيل المثال: «فلا تبد حرصا تجاه أي طرف أكثر من حرصك على نفسك! أي أرد الأشياء أن تكون ما تكونه فحسب، وأن يفوز الذي يفوز فحسب. فهكذا تسلم من أي متاعب. ولكن امتنع تماما عن الهتاف والسخرية والانفعالات العنيفة. وعندما تنصرف لا تكثر من التعليق على ما حدث، وعلى ما لا يسهم في صلاح حالك، وإلا بدا من حديثك أنك مأخوذ بالمشهد أكثر من اللائق» (المختصر، 33).
مثل هذا الانفصال المتعمد عن الحشد هو الثمن الذي يدفعه الرواقي من أجل اليوديمونيا
Eudaimonia
والخلو من الانفعالات
dispassion (apatheia)
والسكينة أو الطمأنينة
ataraxia .
والثاني هو تحمل السخرية والتهكم ممن يحيطون به؛ لأن من يرفض القيم السائدة وأنماط السلوك الشائعة بين الناس، فإنه يثير ارتيابهم ويكتسب عداوتهم. غير أنه بثباته على مبدئه والتزامه بفضائله سرعان ما يسترد ثقتهم وسرعان ما يتفهمون نموذجه كشخص يبحر في العالم دون أن يغرق فيه ويأخذ الأشياء دون أن يؤخذ بها، ويجدون فيها نمطا من الشخصيات مهما لصلاح المجتمع وموكلا لمهام معينة لا يجيدها سواه مثل التوسط في الخلافات وفض المنازعات ... إلخ. يقول إبكتيتوس في «المختصر»: «إذا كانت لديك رغبة مخلصة في اكتساب الفلسفة، فلتعد نفسك منذ البداية لتلقي ما لا يحصى من استهزاء الآخرين وسخريتهم، وقولهم: «ها قد عاد إلينا فيلسوفا دفعة واحدة.» وقولهم: «من أين أتى بهذا الخد المصعر؟» أما من جهتك فلا تصعر خدك حقا، وتمسك بتلك الأشياء التي تراها الأفضل، تمسك بذلك المكان الذي قيضك الله له. واعلم أن ثباتك على تلك الحال سوف يجعل من كان يسخر بك بالأمس يعجب بك. أما إذا انخذلت أمامهم فستكون قد جلبت على نفسك ضعفين من السخرية» (المختصر، 22).
ولأنه لا يعول في شيء إلا على نفسه، فإنه يأخذها بكل الحزم والشدة، ويراقبها بكل اليقظة والاحتراس. «صفة الجاهل وأمارته أنه لا يرتقب النفع ولا الضرر من نفسه بل من الأشياء الخارجية. وصفة الفيلسوف وأمارته أنه يرتقب كل النفع والضرر من نفسه. أمارات المتقدم على درب الحكمة هي أنه لا يذم أحدا ولا يطري أحدا ولا يلوم أحدا ولا يتهم أحدا، ولا يتحدث عن نفسه كما لو كان شيئا ما أو كما لو كان لديه علم ما. وإذا أعيق أو تعثر يتهم نفسه. وإذا مدح يسخر في نفسه من المادح. وإذا انتقد لا يرد، بل يمضي حذرا كأنه الناقه يخشى أن يتعتع أي عضو فيه لم يلتئم بعد . إنه ينفي عنه كل رغبة. أما نفوره فيحصره فيما هو في قدرته ومضاد للطبيعة. إن نزوعه معتدل تجاه كل شيء. إذا بدا غبيا أو جاهلا لا يبالي. وباختصار، يراقب نفسه كما لو كان عدوا مترصدا لها في مكمن» (المختصر، 48). (11) الحرية
نحن لا نملك إلا حريتنا، والحرية هي أن يتصرف المرء في أفكاره وإرادته بحيث لا يمكن أن يقهره أحد على غير ما يريد. من لا يرضى بحاله فهو في سجن. «السجن الحقيقي هو أن تكون حيث لا تريد أن تكون» (المحادثات، 1-12). «إنه حر ذلك الذي يعيش مثلما يحب أن يعيش، لا يناله قهر أو كبح أو عدوان، لا توقف مساعيه ولا تخيب رغائبه ولا يحيق به مكروه. فمن ذا الذي يختار أن يعيش في ضلال؟ لا أحد، من ذا الذي يريد أن يعيش مخدوعا متخبطا ظالما منفلتا ساخطا منكسر النفس؟ لا أحد. إذن لا أحد من الأشرار يعيش مثلما يود، وبالتالي لا أحد من الأشرار يمكن أن نعتبره حرا» (المحادثات، 4-1). «لو سمعك شخص تقلد منصب قنصل مرتين تقول هذا الكلام فلسوف يعذرك بشرط أن تضيف: «غير أنك إنسان حكيم ولا يشملك هذا الحديث.» ولكن ماذا لو أخبرته الحقيقة، وقلت له: إنه من حيث العبودية فلا فرق بينه وبين أي عبد بيع ثلاث مرات؟ هل تتوقع منه غير اللكمات؟ فسوف يقول لك: - «أأنا عبد وأبي حر وأمي حرة؟! وسيناتور بعد ذلك وصديق لقيصر وتقلدت منصب قنصل مرتين وأمتلك الكثير من العبيد؟» - أولا، يا صاحب العزة، ربما يكون أبوك أيضا عبدا من نفس الصنف. وكذلك أمك وجدك وشجرة أسلافك جميعا. وحتى لو كانوا جميعا أحرارا، فماذا يفيدك هذا؟ ماذا لو كانوا كراما وأنت لئيم، شجعانا وأنت جبان، راشدين وأنت خليع؟ - «ولكن ما علاقة ذلك بكوني عبدا؟» - أليس من العبودية أن تفعل شيئا ضد إرادتك؟ مكرها متحسرا؟ - «ومن ذا الذي يمكنه أن يكرهني على شيء، باستثناء سيد الجميع؛ قيصر؟» - إذن باعترافك الشخصي فإن لك سيدا. أما كونه سيد الجميع على حد قولك فلن يجديك شيئا، لأنك بذلك تكون عبدا لعائلة عظيمة لا أكثر.
ومع ذلك فأرجو منك أن تدع ذكر قيصر جانبا وتجيبني: ألم تقع يوما في حب أي شخص، سواء كان عبدا أو حرا؟ أتقول: وما شأن ذلك بكوني حرا أو عبدا؟ ألم تأتمر قط بأمر حبيبتك في شيء ما كنت تود أن تفعله؟ ألم تدلل يوما جاريتك؟ ألم تقبل قدميها أنت الذي لو أمرت بتقبيل قدمي قيصر لاعتبرت ذلك إهانة وإمعانا في الطغيان؟ ماذا تكون العبودية غير هذا؟ ألم يقدك الغرام ليلا إلى حيث لا تريد؟ ألم تحمل على الانتظار أطول مما يليق بك؟ ألم يتهدج صوتك أحيانا وتمتزج نبراته بالأنين والنشيج؟ ألم تضطر يوما إلى تحمل الإهانة والصدود؟» (المحادثات، 4-1). «انظر فكرتنا عن الحرية في حالة الحيوان. البعض يحتفظ عنده بأسود مستأنسة، ويطعمها، بل يأخذها للتروض. فمن يقول: إن هذا الأسد حر؟ أليست الحقيقة أنه كلما تمادى في عيشه الرغد كان أكثر عبودية؟ ومن ذا الذي أوتي إدراكا وعقلا ويود أن يكون واحدا من هذه الأسود؟
ثم تلك الطيور التي تؤخذ وتحبس في الأقفاص، ترى كم تعاني في محاولة الهروب من سجنها؟ إن بعضها يفضل أن يجوع على أن يمضي في هذا العيش، ولا يتردد في الهروب مهما كانت المصاعب إذا سنحت له الفرصة. إن لديها رغبة مكينة في الحياة الطبيعية الحرة والانطلاق دون قيود. إذا سألتها: «أي ضير عليك من حياة القفص؟» ستجيبك: «ماذا تقول؟! لقد خلقت بطبيعتي لكي أطير حيث أشاء، وأعيش في الهواء الطلق، وأغني متى شئت، أتحرمني من كل هذا ثم تسألني أي ضير؟ لهذا السبب فنحن لن نعده حرا إلا الكائن الذي لا يطيق الأسر وعندما يقع فيه يهرب منه بالموت. لهذا السبب قال ديوجين مرة: «ليس إلى الحرية غير طريق واحد، أن تموت راضيا مرتاح البال.» وكتب إلى ملك الفرس: «لا يمكنك أن تستعبد الأثينيين أكثر مما يمكنك أن تستعبد السمك.» «كيف ذاك؟ أليس بوسعي أن أقبض عليهم؟» يقول ديوجين: «إذا فعلت فسوف يفلتون منك على الفور مثلما يفعل السمك؛ إذا أمسكت سمكة فإنها تموت. وإذا أمسكت هؤلاء الناس فسوف يموتون، ماذا تستفيد إذن من الإعداد للحرب؟»» (المحادثات، 4-1). «العبد يود أن يعتق فورا، لماذا؟ أتظن أنه راغب في أن يدفع رسم الإعتاق للمأمور؟ كلا بل لأنه يتصور أنه يعيش متعثرا حتى الآن ومحبطا لافتقاره إلى العتق، ويحدث نفسه: «إذا نلت حريتي سأرتد سعيدا كل السعادة. لن يهمني أحد، سأخاطب الجميع خطاب الند للند، سأذهب حيثما شئت، وأعود وقتما شئت وكيفما شئت.» وأخيرا نال حريته، وما كاد ينالها حتى وجد نفسه مضطرا إلى أن يتملق من يتعشى معه، ثم إن عليه أن يعمل بيده ويتحمل الأهوال. فإذا أمكنه الدخول إلى مائدة واحد من سراة القوم فإنه يرزح في عبودية أسوأ من عبوديته السابقة، وحتى لو أصبح غنيا، فإنه لافتقاره إلى أية معرفة بما هو خير فإنه يقع في حب فتاة وينوح ويشقى، ويود أن يكون عبدا مرة ثانية، ويقول لنفسه: «أي ضير نالني من العبودية؟ لقد كان غيري يقدم لي الكساء، وغيري يقدم لي الحذاء، وغيري يطعمني، وغيري يعتني بي في المرض، ولم أكن أقدم له إلا خدمات قليلة. أما الآن فما أشقاني وقد أصبحت عبدا للكثير بدلا من أن أكون عبدا لواحد. ومع ذلك، فلو أمكنني أن أرتقي إلى رتبة فارس فسوف أعيش في غاية الهناء والسعادة.»
لقد تنازل بما يقتضيه الحصول على هذه الرتبة، ثم عندما اكتسبها وجد الحال كما هو مرة ثانية، فقال: «إذا انخرطت في الخدمة العسكرية فسوف أتخلص من كل المتاعب.» فلما انخرط ناله من الهوان ما ينال أحط العبيد، ومع ذلك فقد سعى إلى خدمة ثانية وثالثة. وعندما وضع اللمسة الأخيرة وصار عضوا في مجلس الشيوخ أصبح يعيش أرقى ضروب العبودية وأبهاها ...
وعندما نجح في أن يصبح صديقا لقيصر فقد فشل رغم ذلك في أن يظفر بما يريد. فماذا يريد كل إنسان سوى أن يعيش آمنا وسعيدا وأن يفعل ما يرغب فيه وألا يحبط ولا يقهر؟ وعندما أصبح هذا صديقا لقيصر فهل تخلص من الإحباط والقهر؟ هل هو مطمئن؟ هل هو سعيد؟ ... ولنسأله متى نمت نوما أهنأ، الآن أم من قبل أن تصبح صديقا لقيصر؟ فيصيح بنا في الحال: «كفى، أتوسل إليكم، لا تسخروا مني فأنتم لا تعرفون أي بؤس أعاني، والنوم لا يأتيني، بل يأتي واحد ويقول إن قيصر استيقظ حالا، ويأتي آخر ويقول: إنه سيخرج الآن، ثم تأتي المتاعب والهموم.»
حسن، ومتى اعتدت أن تتعشى بمتعة أكبر، الآن أم في السابق؟ واسمع ماذا يقول في هذا أيضا. يقول إنه إذا لما يدع فقد انتقص من قدره. وإذا دعي فإنه يتعشى مثل عبد مع سيده، موسوسا طوال الوقت خشية أن يأتي بأي فعل غير لائق. وماذا تظن؟ أتظنه يخشى أن يجلد كالعبد؟ كلا؛ فالعقوبة ليست بهذه البساطة، بل عقوبة تناسب رجلا عظيما مثله؛ صديق قيصر: الإطاحة برأسه.
4
ومتى أخذت حمامك بارتياح أكثر؟ ومتى مارست تدريبك الرياضي على رسلك؟ وباختصار: أية حياة تفضلها، حياتك الآن أم حياتك السالفة؟ بوسعي أن أقسم أنه ليس ثمة إنسان بلغ من الغباء والبلادة بحيث لا يأسى لحاله بقدر صداقته لقيصر وقربه منه» (المحادثات، 4-1). «إذا رأيت إنسانا يخضع لآخر أو يتملقه بما يخالف قناعاته فثق تماما أن هذا الإنسان أيضا غير حر، سيان أن يكون التملق من أجل عشاء أو من أجل حكومة أو قنصلية، ولتسمهم «العبيد الصغار»، أولئك الذين يفعلون ذلك من أجل أشياء صغيرة، ولتسم الآخرين كما يستحقون «العبيد الكبار».
كل من جعل سعادته وهنائه في يد غيره أو في يد الظروف والأشياء الخارجية فهو عبد، ولو كان يرتدي الأرجوان الملكي. وإذا ما وجدته مبتهجا، لا لشيء إلا لأن ظروفه الحالية مواتية رخاء فلا تدعه حرا بعد، إنما هو عبد في إجازة، لأن سيده على سفر وسرعان ما يعود فيذيقه مر العبودية تارة أخرى. من هو هذا السيد الذي سيعود؟ هو من يملك أن يمنح أو يمنع. إننا مستعبدون لأشياء كثيرة؛ للجسد، للمال، للصحة، والممتلكات، والمنصب، والأبناء والأهل والأصدقاء، وكلها أشياء ليست في يدنا» (المحادثات، 4-1). «الحرية هي في أن ننصرف عما ليس في قدرتنا إلى ما هو في قدرتنا. فإذا التمس الإنسان الحرية الصحيحة فليبحث عنها، لا في الأشياء الخارجية ولا في جسمه ولا في ماله ولا في جاهه؛ لأن في ذلك كله رقا أخلاقيا وبلاء عظيما، بل إنه واجدها في نفسه وفي شيء مستقل كل الاستقلال؛ وهو قدرته على الحكم والإرادة. ولا شيء يستطيع أن ينال حرية النفس بسوء.
5 «هل ينبغي علي إذن ألا أرغب في الصحة؟»
كل ما ليس في قدرتك اكتسابه والاحتفاظ به فهو ليس ملكك. وما ليس ملكك فلتنصرف عنه. لا تصرف عنه يدك فقط، بل رغبتك نفسها، وإلا فأنت تسلم رقبتك للأغلال.
6
جسدك نفسه ليس ملكك كما تظن، إنه تراب وعرضة للإعاقة والقهر. وليس بوسعك أن تملكه إلا بوصفه حمارا يحمل أثقالا، وعرضة لأن يؤخذ منك في أي لحظة. وإذا كان هذا حال الجسد فما بالك بمتعلقاته التي نتزود بها من أجله: الكساء والغذاء والمأوى ...؟ فلتكن فيها أزهد من زهدك فيه ... إنها متعلقات الحمار» (المحادثات، 4-1). «الحر إنسان غير مكبل، والأشياء تمضي مثلما يريدها أن تمضي. أما الإنسان المكبل أو المقهور أو المحبط أو الملقى في ظروف مضادة لإرادته فهو عبد. ولكن من هو غير المكبل؟ إنه ذلك الذي لا يرغب في أي شيء لا يخصه. وما هي الأشياء التي لا تخصنا؟ إنها تلك الأشياء التي ليس بيدنا أن نحوزها أو لا نحوزها، أو أن نحوزها على نحو معين أو بطريقة معينة. لذا فالجسد لا يخصنا، وكذلك أجزاء الجسد، والممتلكات. فإذا ما ارتبطت بهذه الأشياء على أنها ملكك، فسوف تتحمل العقوبة التي يستحقها من يرغب فيما ليس له. هذا هو الطريق المؤدي إلى الحرية، هذه هي الطريقة الوحيدة للانعتاق من العبودية، حتى يسعك في النهاية أن تقول من أعماق روحك: «قدني يا زيوس، وأنت أيها القدر، إلى حيثما رسمتما لي الطريق»» (المحادثات، 4-1).
يقدم إبكتيتوس في المحادثات مثالين للإنسان الحر، هما ديوجين وسقراط، فلنأخذ سقراط نموذجا: «كان لديه زوجة وأطفال ، ولكنه لم يكن يعدهم ملكه. كان لديه وطن وأصدقاء وأقارب، ولكنه أخضع كل ذلك للقانون ولواجب الطاعة للقانون. ولذا فعندما دعا داعي الجهاد كان أول الملبين. وفي القتال كان يعرض نفسه للخطر دون تحفظ. وحين أرسله الطغاة ليعتقل ليون لم يفكر في ذلك مجرد تفكير؛ لأنه رأى ذلك عملا دنيئا. كان يعرف أنه مهدد بالموت إذا أصر على وجهته، ولكنه لم يبال بالموت؛ لأن حرصه لم يكن منصبا على جسده البائس بل على شيء آخر؛ على إخلاصه، على شرفه. هذه أشياء لا يمكن أن تنتهك أو تخضع. فلما كان عليه أن يتحدث مدافعا عن حياته، فهل كان يتكلم كرجل لديه أبناء وزوجة؟ كلا، وماذا فعل عندما كان عليه أن يشرب السم وكان بإمكانه الهروب وقال له أقريطون: «اهرب من أجل أبنائك»؟ هل اعتبر ذلك فرصة سانحة؟ كلا، بل قرر أن يفعل ما يليق به ولم يحسب حسابا لأي شيء آخر. مثل هذا الرجل لا تنقذ حياته بأفعال دنيئة. إنما ينقذه الموت لا الهرب؛ فمثله كمثل الممثل الجيد الذي يحفظ شخصيته بالتوقف عندما ينبغي أن يتوقف وليس بالمضي في التمثيل فيما وراء التوقيت الصحيح ... والآن، وسقراط ميت، فليس أقل نفعا للناس بل أكثر نفعا تذكر ما فعله وما قاله عندما كان حيا» (المحادثات، 4-1).
إنما تبلغ الحرية لا بامتلاك كل الأشياء التي ترغب فيها، بل بإزالة الرغبة ذاتها. الحرية هي الغنى عن، وليس الغنى ب. (12) القربى بين الله والإنسان
ويحلو لإبكتيتوس أن يتحدث عن الأواصر الوثقى التي تربط بين الله والناس. وهو يفضل تلك القرابة على الفكرة المجردة الذاهبة إلى اشتراك الناس في العقل، ثم يجعلها مبدأ لفكرة عظمة النفس، ولفكرة الإخاء بين بني البشر.
7 «إذا أمكن لامرئ أن يقبل هذا المبدأ، مثلما ينبغي، وهو أننا جميعا ننحدر من أصل واحد هو الله، وأن الله هو أبو البشر والآلهة على السواء، فأعتقد أنه لن يستهين بنفسه أبدا ولن يحتقرها، فلو أن قيصر تبناك لما احتملنا غطرستك وخيلاءك، فما بالك لو عرفت أنك ابن زيوس، ألن يغمرك شعور بالزهو والرفعة؟
غير أننا لا نقدر هذا التشريف حق قدره. ولما كانت جبلتنا تجمع بين جسد تشاركنا فيه الحيوانات وعقل نشارك فيه الآلهة، فإن أكثرنا يميل إلى تلك القرابة البائسة الفانية (مع الحيوانات) وأقلنا يميل إلى هذه القرابة الإلهية السعيدة. وحيث إن كلا منا يتعامل مع كل شيء وفق رأيه فيه فإن تلك الأقلية التي ترى أنها خلقت من أجل الإيمان والشرف والاستخدام الحصيف للانطباعات لن تحقر نفسها ولن تستهين بعنصرها. أما الأكثرية فسوف تفعل العكس. سيقول الواحد منهم: «من أكون أنا؟ إنني إنسان بائس حقير ... بهذه القطعة البائسة من اللحم التي هي جسدي.» بائسة حقا، ولكن لديك أيضا شيئا أفضل من هذا اللحم البائس. لماذا إذن تتشبث بما هو أدنى وتغفل عما هو خير؟!» (المحادثات، 1-3). «إذا صح ما يقوله الفلاسفة عن آصرة القربى بين الله والناس، فماذا يسع المرء أن يفعل غير ما فعله سقراط؟ إذا سئلت: إلى أي بلد تنتسب؟ فلا تقولن إني أثيني أو كورنثي، بل قل: إني مواطن العالم. فلماذا تنتمي إلى أثينا ولا تنتمي إلى الركن الأصغر من أثينا الذي شهد مسقط رأسك؟! من البين أنك تدعو نفسك أثينيا أو كورنثيا نسبة إلى المكان الذي يتمتع بسلطان أكبر ويتجاوز هذا الركن الصغير ويتجاوز عائلتك كلها ليضم كامل البلد الذي انحدر منه أسلافك جميعا وصولا إليك. ومن البين أن من يفطن إلى إدارة العالم ويعلم أن المجتمع الأكبر والأعظم والأشمل هو ذلك المكون من الله والناس، وأن الله هو الأصل الذي أتى منه لا والده وجده فحسب، بل جميع الكائنات على الأرض، وبخاصة الكائنات العاقلة؛ لأنها وحدها الكائنات التي جبلت على التواصل مع الألوهة من خلال العقل؛ من البين أن مثل هذا الإنسان سيدعو نفسه مواطن العالم، وابن الله، ولن يخشى أي شيء يحدث بين البشر. فإذا كانت قرابتك بقيصر أو بأي متنفذ في روما تضمن لك أن تعيش آمنا لا يتسافه عليك أحد ولا تخشى شيئا على الإطلاق، فما بالك إذا كان الله هو خالقك ووالدك وحارسك؛ ألا يكفي هذا لكي يحررك من الأحزان والمخاوف؟
ربما يقول قائل: «من أين آتي بلقمتي، فأنا لا أملك الكفاف؟» ... وعلام يعتمد الرقيق الآبقون؟ على أملاكهم أم على عبيدهم أم على أوانيهم الفضية؟ إنما على أنفسهم يعتمدون ولا يخذلهم الرزق، فما ظنك بالفيلسوف منا، أيرتحل في الأرض لكي يستنيم إلى غيره ويركن إليه ولا يتولى زمام أمره، فيكون أدنى وأجبن من العجماوات التي تكتفي بذاتها ولا تعدم الطعام ولا العيش الملائم؟ ...
لعلكم تقولون: «إبكتيتوس، لم نعد نطيق سجننا في هذا الجسد البائس، نطعمه ونسقيه وننظفه، ونذعن من أجله لرغبات هؤلاء وأولئك. أليست هذه الأشياء غير فارقة ولا تعني لنا شيئا، كما أن الموت ليس شرا؟ ألسنا أقرباء الله بمعنى ما ومنه أتينا؟ فأذن لنا أن ننعتق أخيرا من هذه القيود التي تكبلنا وتثقلنا. ها هنا لصوص وسراق ومحاكم وطغاة يرون أن لهم علينا سلطانا من جراء الجسد ولوازمه، ائذن لنا أن نريهم أن لا سلطان لهم على أي إنسان.» لعلكم تقولون هذا، أما من جهتي فأقول: «أيها الأصدقاء، تريثوا حتى يأذن الله بانعتاقكم من هذه الخدمة، ثم اذهبوا إليه. أما الآن فتحملوا المقام في هذا المكان الذي قدره لكم. فما أقصر مدته وما أيسر احتماله ... فأي أذى يمكن أن يلحقه طاغية أو لص أو محكمة بأناس لا يرون قيمة للجسد ولوازمه؟! انتظروا إذن، لا ترحلوا بدون مبرر ...»
كيف سلك سقراط في مثل هذه الأمور؟ سلك مثلما ينبغي للذي يدرك بأنه قريب الآلهة، فقال لقضاته: «إذا قلتم لي الآن إنكم ستبرئون ساحتي بشرط ألا أتحدث بعدها بالطريقة التي تحدثت بها الآن، وألا أفتن عقول الصغار ولا الكبار، فسوف أقول: إنكم تهزلون إذ ترون أن المرء الذي يأتمر بأمر قائده لا يبرح موقعه الذي حدده له ويفضل أن يموت ألف مرة على أن يتركه. أما إذا قيض الله له مهمة أو طريقة حياة فينبغي أن يعرض عنها من أجلكم.» هكذا يتحدث سقراط كرجل قريب حقا للآلهة ، غير أننا نتحدث عن أنفسنا كأننا معدات أو أمعاء أو سوءات، فنخاف ونرغب ونتملق الذين يقدرون على مساعدتنا في هذه الأمور ونخشاهم أيضا» (المحادثات، 1-9).
ويترتب على فكرة القربى بين الله والناس أن لا فرق بين سادة وعبيد، وأن عبيدك هم إخوتك بالطبيعة، وأنهم أبناء زيوس. ستقول لي: ولكني اشتريتهم وهم قد بيعوا لي. فأقول لك: ألا ترى إلى أي اتجاه تنظر؟ إنك تنظر إلى الأرض، إلى الحفرة، إلى تلك القوانين البائسة للفانين! لماذا تلتفت إلى الاعتبارات الأرضية المادية ولا تنظر إلى الاعتبارات الروحية والقوانين الإلهية؟ (المحادثات، 1-13). (13) بداية الفلسفة «بداية الفلسفة، على الأقل لدى من يدخل إليها من الطريق الصحيح ويأتيها من بابها، هي وعيه بضعفه وعجزه في أمور ضرورية؛ فنحن نأتي إلى العالم وليس لدينا فكرة عن المثلث القائم الزاوية أو عن علامة الخنجر المزدوج
8
أو عن نصف النغمة. وإنما نتعلم كلا من هذه الأشياء من خلال تلقين معين وفقا للفن.
ولذا فإن الذين لا يعرفون هذه الأشياء لا يظنون أنهم يعرفونها. ولكن من ذا الذي يأتي إلى العالم وليس لديه فكرة عن الخير والشر، والجميل والقبيح، واللائق وغير اللائق، والسعادة والشقاء، والقويم وغير القويم، ما يجب أن نفعله وما يجب ألا نفعله؟ من هنا فإننا جميعا نستخدم هذه المصطلحات، ونحاول أن نطبق تصوراتنا المسبقة على الحالات الخاصة، فنقول: هذا أجاد، وهذا لم يجد، هذا أصاب، وهذا لم يصب، هذا شقي، سعيد، عادل، ظالم ... إلخ. من منا لا يستخدم هذه المصطلحات؟ من منا يرجئ استخدامها حتى يتعلمها مثل يفعل بإزاء الخطوط والأصوات؟ ذلك أننا أتينا إلى العالم مجهزين بشيء من المعرفة في هذا الأمر، ومن هذه البداية نمضي فنضيف إليها غرورا ذاتيا.
لعلك تقول: «لماذا، ألست أعرف الجميل والقبيح، أليس لدي فكرة عنهما؟!» - بلى، لديك. - «ألست أطبق هذه الفكرة على الحالات الخاصة؟» - بلى. - «ألست أطبقها على النحو الصحيح؟» - ها هنا تكمن المسألة كلها. وها هنا يضاف الغرور.
فمن هذه البداية التي نسلم بها ينطلق الناس إلى ما هو خلافي من طريق التطبيق الخطأ . فلو كان الناس يملكون هذه القدرة على التطبيق إلى جانب أفكارهم الفطرية لما كان ثمة حائل بينهم جميعا وبين الصواب. فإذا كنت ترى أنك تعرف كيف تطبق مبادئك العامة على الحالات الجزئية فقل لي على أي شيء تؤسس هذا التطبيق؟ - «على ما يبدو لي كذلك.» - ولكنه لا يبدو كذلك لغيرك. وهذا الغير يرى أنه هو أيضا يطبق المبادئ على النحو الصحيح، أليس كذلك؟ - «بلى.» - من الجائز إذن أن كليكما يطبق المبادئ تطبيقا صحيحا على نفس الموضوعات التي لديكما عنها آراء مصطرعة؟ - «كلا، هذا غير ممكن.» - هلا أطلعتنا إذن على طريقة في تطبيق المبادئ أفضل من مجرد أنها تبدو لك كذلك؟ وهل يفعل المجنون شيئا أكثر مما يبدو له صوابا؟ فهل هذا معيار كاف له أيضا؟ - «لا، هذا غير كاف.» - تعال إذن إلى أساس يكون أقوى من مجرد الظن، أي ما «يبدو» لك صائبا. - «ما هو؟» - هذه هي بداية الفلسفة: إدراك اختلاف الناس فيما بينهم، والبحث عن سبب الاختلاف، واطراح الظن، ومساءلة «ما يبدو» ووضعه موضع الشك وتسليط الضوء عليه وتمحيصه، هل «يبدو» على النحو الصحيح؟ والبحث عن معيار يفيدنا مثلما يفيد الميزان في تحديد الأوزان، وتفيدنا المسطرة في معرفة المستقيم والمعوج. هذه هي بداية الفلسفة، هل من الممكن أن نقول: إن كل الأشياء التي تبدو حقا لكل الأشخاص هي حق؟ هل يمكن أن تكون التناقضات حقا؟ - «لسنا نقول: كل الأشياء، بل كل ما يبدو لنا نحن.» - لماذا يكون هذا أحق مما يبدو للسوريين حقا؟ لماذا يكون أحق مما يبدو حقا للمصريين؟ - «ليس أحق على الإطلاق.» - إذن ما «يبدو» لكل واحد ليس كافيا لتحديد واقع الشيء، فحتى في الأوزان والأطوال لا نقنع بمجرد المظهر، بل نجد لكل شيء معيارا ما. فهل ثمة إذن في حالتنا هذه أي معيار أفضل مما «يبدو». هل يجوز أن نترك أهم الأشياء بين البشر وألزمها غير قابلة للتحديد والكشف؟ لا بد أن يكون ثمة معيار. ولماذا لا نطلبه ونكتشفه، ثم نستخدمه ولا نحيد عنه، بحيث لا نحرك إصبعا بدونه؟ فهذا، فيما أرى، هو الذي إذا وجد سيشفي من جنونهم أولئك الذين لا يعرفون معيارا سوى طريقتهم المنحرفة في التفكير ... سوى ما «يبدو» لهم حقا. وبوسعنا بعد ذلك، بادئين من نقاط معينة معروفة ومحددة أن نستخدم المبادئ العامة ونطبقها على الحالات الجزئية تطبيقا قويما.
هكذا: ما هو موضوع بحثنا الآن على سبيل المثال؟ «اللذة». اعرضها على المعيار، ألق بها في الميزان. هل ينبغي للخير أن يكون ذلك الشيء الذي يليق بنا أن نطمئن إليه ونوليه ثقتنا؟ - «هذا ما ينبغي للخير.» - هل يليق أن نثق بأي شيء غير مضمون؟ - «كلا.» - فهل اللذة مضمونة على أي نحو من الأنحاء؟ - «لا.» - خذها إذن وألق بها خارج الميزان، وأزحها بعيدا عن مكان الأشياء الخيرة.
على أن بوسعك إذا لم تكن حاد البصر أن تستعين بمعيار ثان إذا لم يكفك معيار واحد، هل يليق بنا أن نبتهج بما هو خير؟ - «نعم.» - هل من اللائق إذن أن نبتهج بلذة آنية؟ حاشاك أن تقول: نعم، وإلا فسوف أراك غير جدير حتى بالميزان.
هكذا تقيم الأشياء وتوزن عندما نكون مجهزين بالمعايير. وهذا هو التفلسف؛ أن تفحص القواعد وتتحقق منها، وأن تستخدم القواعد عندما تعثر عليها. تلك هي مهمة الرجل الحكيم والرجل الخير» (المحادثات، 2-11). (14) مباهج الفلسفة
كل فن من الفنون مرهق في تعلمه واكتسابه، ثم مبهج من بعد في ثماره ونتاجه، انظر إلى صنعة الإسكاف والحداد كم هي مزعجة في تعلمها، ولكن الحذاء شيء مفيد وجميل، وكذلك أعمال الحداد. وانظر إلى الموسيقى؛ فإن من يشاهد تلميذا أثناء تعلمه للموسيقى سيبدو له هذا العلم أبغض العلوم جميعا؛ ورغم ذلك فإن ثماره سارة ومبهجة حتى لدى أولئك الذين لا يعرفون شيئا عن الموسيقى.
والآن ماذا عن انشغال المرء بتعلم الفلسفة؟ أي بجعل إرادته متناغمة مع الأحداث؛ لا يقع أي حدث ضد رغبته ولا ينتفي أي حدث كان يرغب فيه؛ ومن ثم فهو لا يحبط فيما يريده، ولا يجلب أبدا ما يتجنبه، بل يقضي حياته من غير أسى ولا خوف ولا اضطراب، ويحفظ علاقاته، الطبيعية والمكتسبة، مع الآخرين: كابن، أو أب، أو أخ، أو مواطن، أو زوج، أو جار، أو رفيق سفر، أو حاكم، أو محكوم، شيء مثل هذا هو ما نعتبره عمل الفيلسوف، ويبقى أن نبحث كيف يمكن تحقيق ذلك.
والآن نحن نرى أن النجار يصبح نجارا بتعلم أشياء معينة، والملاح يصبح ملاحا بتعلم أشياء معينة. قد لا يكفي إذن في حالتنا هذه أن نرغب مجرد رغبة في أن نكون حكماء أو أخيارا، بل هناك أيضا أشياء معينة لا بد من أن نتعلمها. فما هي هذه الأشياء؟ يقول الفلاسفة: إن علينا أولا أن نتعلم أن هناك إلها، وأن عنايته توجه الكل، وأنه لا يطلع على أعمالنا فحسب بل على خواطرنا ونوايانا. وعلينا ثانيا أن نعرف ما هي طبيعة الآلهة؛ لأن من يريد أن يرضي الآلهة فإن لزاما عليه أن يتشبه بها جهد ما يستطيع. فإذا كان الإله مخلصا فإن على الإنسان أن يكون مخلصا. وإذا كان حرا فإن على الإنسان أيضا أن يكون حرا. وإذا كان الإله محسنا وشهما، فكذلك على الإنسان أن يكون.
من أين نبدأ إذن؟ نبدأ من فهم الأسماء. - «تعني إذن أنني لا أفهم الأسماء؟» - لا تفهمها. - «وكيف أستعملها إذن؟!» - تماما مثلما يستعمل الأمي كلمات المتعلم، وكما تستخدم العجماوات ظواهر الطبيعة؛ ذلك أن الاستخدام شيء والفهم شيء آخر. فإذا كنت تظن أنك تفهمها فهات أي ألفاظ تريد ودعنا نرى هل تفهمها أو لا. - «حسن، ولكنه شيء بغيض إلى الإنسان أن يفحم وقد كبر الآن وربما قد خدم في ثلاث حملات.» - أنا أعلم هذا أيضا؛ فقد أتيت إلي وكأنما لا يعوزك أي شيء، وكيف يمكن أن تتصور، مجرد تصور، أنك تعاني من أي قصور في أي شيء؟ أنت ثري، ولديك أبناء وزوجة، وربما لديك كثير من العبيد، تعرف قيصر، ولك في روما أصدقاء كثيرون توفيهم حقهم جميعا، أنت تعرف كيف تثيب من أسدى إليك معروفا وكيف تنتقم ممن آذاك. ماذا ينقصك؟ إذا أثبت لك إذن أنك تفتقر إلى أهم الأشياء وألزمها للسعادة، وأنك راعيت حتى الآن كل شيء إلا ما ينبغي أن تراعيه؛ وأول ذلك أنك لا تعرف ماذا يكون الله وماذا يكون الإنسان، وما هو الخير وما هو الشر، فلربما احتملت ذلك. أما الذي لا قبل لك باحتماله فهو أن أقول لك: إنك لا تعرف نفسك أدنى معرفة.
ولكن لماذا تغضب إذا باح لك المعلم بحقيقة جهلك، هل تغضب من الطبيب إذا أخبرك بحقيقة مرضك؟ أو من المرآة إذا عكست لك حقيقة منظرك كما هو؟!
موقفنا الذي نتخذه أشبه بما يجري في سوق المزارعين الموسمية؛ حيث تجلب البهائم والمواشي للبيع، ويأتي أغلب الناس إما للبيع وإما للشراء، غير أن هناك فئة صغيرة يأتون لرؤية السوق فحسب والنظر في كيف يعقد ولماذا، ومن الذي حدد موعده، ولأي غرض.
وهكذا الأمر في هذا السوق أيضا (العالم): البعض مثلهم مثل الأنعام لا يكرثون أنفسهم بأي شيء سوى العلف؛ فلكل منكم يا من تشغلون أنفسكم بالأملاك والأراضي والخدم والوظائف العامة، فإن هذه الأشياء لا تعدو أن تكون علفا.
إلا أن هناك طائفة صغيرة من الناس بين الجمع يشغفها النظر والتأمل: ما هو العالم إذن، ومن يحكمه؟ تراه بلا حاكم؟ وكيف يمكن ذلك؟ فإذا كانت المدينة بل الأسرة لا يمكن أن تدوم ولو لوقت قصير من غير شخص يديرها ويرعاها، فكيف يتسنى لمثل هذا النظام العظيم والبديع أن يدار بهذا الانضباط من غير غرض وإنما بالمصادفة والاتفاق؟!
ثمة حاكم إذن، من أي صنف هو؟ وكيف يحكم؟ ومن نحن الذين يحكمنا؟ ولأية غاية؟ هل تربطنا به صلة أو علاقة؟
هذه هي الطريقة التي تولع بها هذه القلة؛ ومن ثم فإنهم يكرسون أنفسهم للنظر في السوق فحسب ثم يرحلون. تضحك عليهم الجموع مثلما يضحك البائعون والمشترون في السوق على المتفرجين. ولو كان للمواشي أي قدر من الفهم لضحكت أيضا على من يعجب بأي شيء غير العلف» (المحادثات، 2-14). (15) لا وحدة مع الفلسفة
لا يملك أن يأنس بغيره من لم يكن له أولا أنس بنفسه.
إنه لا يأنس إلى الغير ولا يعرفه بل «يستعمله» و«يستهلكه» هربا من ذاته الفارغة التي لا ترضيه ولا تشفيه ولا تمنحه أساسا داخليا يقيم عليه، مع الغير، علاقات أصيلة.
يعلمنا إبكتيتوس أن من لا يفهم الخير لا يمكنه أن يعرف كيف يحب وكيف يصادق وكيف يأنس. ويقول في «المحادثات»: «الوحدة هي حالة معينة لإنسان مغلوب على أمره. فليس كل من ينفرد بذاته هو في وحدة، ولا كل من ينخرط بين الناس هو بمنأى عن الوحدة. ليس كل اقتراب ينفي الوحدة، بل اقتراب الإنسان المخلص الودود السند. أما اقتراب اللصوص منا في سفرنا فيزيد شعورنا بالوحشة وقلة الحيلة.
يجب أن يتدرب المرء على أن يكون مكتفيا بذاته ورفيق نفسه، يحاورها ويأتنس بها ولا يشعر بالحاجة إلى الآخرين وبالافتقار إلى وسائل لتزجية الوقت.
وأنتم تدركون أن قيصر قد أمن لنا سلاما عظيما، فلم يعد ثمة أعداء أو معارك أو عصابات من اللصوص أو القراصنة، بل إن بوسعنا أن نسافر في أي وقت ونبحر من الشرق إلى الغرب. ولكن هل بوسع قيصر أيضا أن يحمينا من الحمى، أو من انحطام السفن، أو من الحريق أو من الزلازل أو البرق؟ بل هل يمكنه أن يحصننا من الحب؟ كلا. من الأسى؟ كلا. من الحسد؟ لا يستطيع.
وباختصار إذن: هو لا يستطيع أن يحمينا من أي شيء من هذه الأشياء. ولكن مذهب الفلاسفة يعدنا بتقديم الأمان حتى من هذه الأشياء، ماذا تقول الفلسفة؟ تقول: «أيها الناس إن أصغيتم إلي، أينما كنتم وأيا ما تفعلون فلن تجدوا الحسرة ولا الغضب ولا القهر ولا العجز، بل ستقضون عمركم في صفاء لا يشوبه أي اضطراب.»
إذا حظي امرؤ بهذا السلام الذي لا يدعيه قيصر نفسه (وكيف يمكن أن يدعيه؟) بل يبسطه الله من خلال العقل؛ ألا يكون راضيا حين يكون بمفرده؟ وهو ينظر ويتأمل: «الآن لا يمكن أن يصيبني أذى، لا لص، ولا زلزال ... كل شيء مفعم بالسلام، مفعم بالسكينة، كل طريق، كل مدينة ، كل لقاء، جار ، رفيق، كل شيء مأمون الجانب. لدي من يضطلع، بحكم عمله، بأن يزودني بالغذاء، ومن يزودني بالكساء، وآخر بالنظرات والأفكار. وإذا لم يزودني بما هو ضروري فإنه يأذن لي بالانسحاب.
9
يفتح الباب ويقول: اذهب. إلى أين؟ إلى حيث لا ذعر على الإطلاق، بل إلى المكان الذي منه أتيت، إلى أحبائك وأقربائك، إلى العناصر ... إلى حيث لا رعب ولا وحشة، بل آلهة وكائنات نورانية.»
بهذه الأفكار في رأسك، والشمس والقمر والنجوم والأرض والبحر في ناظريك، لن تكون وحدك ولن تكون بغير عون. - «حسن، ولكن ماذا لو اقتحم أحد وحدتي وقتلني؟» - أيها الأحمق، لا تقل قتلني بل قل قتل جسدي البائس.
أية وحدة تبقى إذن؟ وأي عوز؟ لماذا نجعل أنفسنا أدنى من الأطفال؟ وماذا يفعل الأطفال إذا تركوا وحدهم؟ يتناولون الأصداف والتراب، ويبنون شيئا ثم يقوضونه ويبنون غيره؛ ومن ثم لا يعدمون طريقة لتزجية الوقت. تراني إذن، إذا ما سافرت بعيدا، أجلس وأبكي لأنني تركت وحدي بلا أنيس؟ تراني إذن سأفتقر إلى الأصداف والتراب؟ وإذا كان الأطفال يفعلون ذلك من جراء الحماقة فهل نشقى نحن من جراء الحكمة؟
الموهبة الكبيرة خطر على المبتدئ، ادرس أولا كيف تعيش مثل إنسان في حالة مرض، عساك تعرف مع الوقت كيف تعيش مثل إنسان في حالة صحة. امتنع عن الطعام. اقتصر على الماء. اكبح رغبتك تماما لبعض الوقت، عساك في النهاية تستخدمها وفقا للعقل. فإذا تيسر لك ذلك وصرت أرسخ في الفضيلة فلسوف ترغب على النحو الصحيح. - «لا، إنما نود أن نعيش من فورنا كرجال حكماء بالفعل، ونكون نافعين للبشرية.» - ماذا تفعل؟ وهل فرغت من نفع نفسك فاتجهت إلى وعظ الناس؟ أنت تعظ! أترغب في أن تكون ذا نفع لهم؟ أرهم إذن في نموذجك الخاص أي صنف من البشر تصنع الفلسفة، وكف عن العبث. حين تأكل فكن ذا نفع لأولئك الذين يأكلون معك. وحين تشرب فلمن يشرب معك. كن ذا نفع لهم بأن تذعن لهم جميعا وتلين لهم وتحتملهم، لا بأن تنفس عليهم غضبك وسوء مزاجك» (المحادثات ، 3-13). (16) كيف يكون التدريب «ينبغي ألا نشط بتدريبنا إلى ما هو خارج عن الطبيعة والعقل ومهيأ لانتزاع الإعجاب؛ لأننا إن فعلنا ذلك فلن نختلف - نحن من ندعو أنفسنا فلاسفة - عن الدجالين والمشعوذين. فلا شك أن المشي على الحبل أمر صعب بل خطر. فهل علينا من أجل ذلك أن نجعل تدريبنا المشي على الحبال أو احتضان التماثيل؟ كلا. كل ما هو صعب وخطر فهو لا يصلح للتدريب. أما الأشياء الملائمة للتدريب فهي تلك التي تساعدنا على اجتراح ما نحن منتدبون لاجتراحه؛ أن نجعل رغبتنا ونفورنا ملك يدنا وغير معرضين للإعاقة والإحباط. ماذا يعني ذلك؟ ألا تحبط عما ترغب فيه ولا يحيق بك أي شيء تجتنبه. إلى هذه الغاية ينبغي أن يتجه التدريب، لا بد من التدريب الشديد والمستمر لكي نحفظ رغبتنا ونفورنا مثلما نود لهما، فلا نأسى على رغبة لا تتحقق ولا نجر على أنفسنا ما نود تجنبه، ولا يتم لنا ذلك إلا بأن نقصرهما على الأشياء التي في قدرتنا. أما الأشياء التي ليس لنا سلطان عليها فينبغي ألا تشغلنا ... ألا نرغب فيها ولا ننفر منها. وحيث إن للعادة سطوة وقيادة، وحيث إننا اعتدنا على استخدام رغبتنا ونفورنا في أشياء خارجة عن إرادتنا، فإنه يتعين علينا أن نعادل كل عادة سيئة بعادة مضادة.
إذا كنت ميالا للذة فإن علي أن آخذ نفسي بالامتناع، والمبالغة في هذا الاتجاه المضاد على سبيل التدريب. وإذا كنت هيابا من الألم، فإن علي أن أصطرع معه حتى لا أعود أجفل من الأشياء المؤلمة. وإذا كنت سريع الانفعال علي أن أدرب نفسي على أن أتحمل إذا أوذيت وألا أغضب إذا أهنت» (المحادثات، 3-12).
غير أن إبكتيتوس ينصح المبتدئ في التدريب الفلسفي أن يوغل في التدريب برفق وألا يتصدى في البداية لما لا طاقة له به، فقد يكون إغراء المواقف الحياتية أشد من قدرة العقل على الحكم الصحيح، و«ليس من الإنصاف أن تتبارى الجرة النحاسية والجرة الخزفية كما تقول الحكاية.» فالمباراة مثلا بين المرأة الفاتنة والشاب المبتدئ في الفلسفة ليست مباراة متكافئة (المحادثات، 3-12).
بعد الرغبة والنفور يأتي الموضوع الثاني: الإقدام والإحجام، أن تقدم على الفعل أو تتخلى عنه وفقا لأوامر العقل، بحيث لا تفعل شيئا غير لائق من حيث زمانه ومكانه أو أي وجه آخر.
أما الموضوع الثالث فيتعلق بالأحكام، أي بما هو معقول ومقنع، فقد قال سقراط: «إن حياة لا تخضع للنقد هي حياة غير جديرة بأن نحياها.» لذا فإن علينا ألا نقبل أي انطباع دون تمحيص، وإنما ينبغي علينا أن نقول له: «قف، دعني أرى ما أنت ومن أين أتيت.» شأننا شأن خفير الليل: «أرني أمارتك.» «هل لديك ذلك التصديق من الطبيعة الضروري لقبول كل انطباع (مظهر)؟»
باختصار، كل ما يتجه بأي شكل إلى الرغبة أو النفور فهو صالح للتدريب. أما إذا كان متجها إلى مجرد التظاهر والادعاء فهو إنما يكشف عن إنسان يهفو إلى الأشياء الخارجية ولا يرمي إلا إلى انتزاع إعجاب المشاهدين. لذا فقد حق لأبولونيوس أن يقول: «إذا كنت تريد أن تدرب نفسك من أجل مصلحتك الحقيقية وجف حلقك من الحر، فاستف قبضة من الماء البارد ثم اتفله ولا تقل (لأحد) شيئا» (المحادثات، 3-12). (17) العرافة (الكهانة) «من خلال الاهتمام المفرط بالعرافة يتخلى كثير منا عن كثير من الواجبات.
فأي شيء يمكن للعراف أن يراه غير الموت أو الخطر أو المرض أو أشياء من هذا القبيل؟ فإذا كان من واجبي أن أعرض نفسي للخطر من أجل صديقي، أو حتى أموت من أجله، فما حاجتي إذن إلى العرافة؟ أليس لدي في داخلي عراف أنبأني بطبيعة الخير والشر وبين لي أمارات الاثنين؟ ما حاجتي إذن إلى استشارة أحشاء الضحايا أو زجر الطير؟ ولماذا أستسلم حين يقول لي: «الطالع في صالحك»؟ فهل هو يعرف ما هو في صالحي؟ هل يعرف ما هو الخير؟ وإذا كان قد عرف أمارات الأحشاء تراه أيضا عرف أمارات الخير والشر؟
أنبئني أيها العراف ما طالعي، حياة أم موت، فقر أم غنى؟! أما هل هذه في صالحي أو في غير صالحي فلا أنوي أن أسألك ، لماذا لا تعطينا رأيك في مسائل النحو، لماذا تقصره على المسائل الخلافية؟ لذا فقد كان وجيها رد تلك المرأة التي اعتزمت أن ترسل في سفينة مئونة شهر إلى جراتيلا في منفاها فقيل لها: إن دوميتيان سوف يصادر ما أرسلته، فما كان جوابها إلا أن قالت: «لخير لي أن يصادر دوميتيان كل شيء من أن أتخلى عن إرساله.»
ما الذي يلجئنا إذن إلى العرافة؟ إنه الجبن، الرعب مما سوف يحدث؛ لذا نتملق العراف كما لو كان هو مصرف الأمور؛ ومن ثم نتيح للعرافين أن يتلاعبوا بنا.
وماذا ينبغي علينا أن نفعل إذن؟ أن نذهب إلى العراف دون رغبة أو نفور، مثلما يسأل عابر السبيل عن الطريق الصحيح إلى وجهته لكي يمشي فيه، سواء كان الطريق الأيمن أو الأيسر، فبحسبه أنه الطريق الصحيح، ومثلما نفتح أعيننا لنتلقى انطباعات الأشياء كما تتمثل لنا لا كما نتمنى أن تتمثل، فلنقنع بما اختاره الله لنا، فليس ثم ما هو أفضل مما أراده الله» (المحادثات، 2-7). (18) دفع الثمن «هل فضل عليك غيرك في دعوة إلى وليمة أو في تكريم أو في اجتماع مجلس؟ إذا كانت هذه الأشياء خيرا فإن عليك أن تغبط من نالها. أما إذا كانت شرا فلا تحزن لأنك لم تنلها. واعلم أنك لا يمكن أن يسمح لك بمنافسة الآخرين في الأشياء الخارجية دون أن تستخدم نفس الوسائل للحصول عليها. وإلا فكيف يمكن لامرئ لا يتردد على أبواب أي كان ولا يلازمه ولا يتملقه أن يحظى منه بما يحظى به من يفعل هذه الأشياء؟ إنه لمجحف وجشع إذا كنت تتخلى عن دفع الثمن الذي تباع به هذه الأشياء وتريد أن تحصل عليها بالمجان ... أتظن أنك لم تفز بشيء في مقابل العشاء الذي فاتك؟ بل فزت حقا؛ فزت بإعفائك من تملقك من لا تريد أن تتملقه، وإعفائك من تحمل فظاظة الحجاب على بابه» (المختصر، 25). «كلما عن لك أي مأخذ على «العناية» تأمل الأمر وسوف تجد أنه جرى وفقا للعقل. - «حسن، ولكن الآثم له أفضلية.» - فيم؟ - «في المال.» - ها هنا ينبغي أن يفوقك؛ لأنه مداهن وقح متيقظ. أي عجب في ذلك؟ ولكن انظر هل تراه يفوقك في الأمانة والشرف؟ ... ذات يوم قلت لرجل كان ينفس على فيلوستورجوس ثروته الكبيرة: «أترضى أن تنام مع سورا؟» فقال: «معاذ الله، ولا أراني الله هذا اليوم.» فقلت: «لماذا إذن يغضبك أن يتلقى ثمن ما يبيعه؟ وكيف تدعوه سعيدا باكتساب تلك الأشياء بطريقة ممقوتة ومغثية لك؟ وماذا ارتكبت العناية إذا تعطي ما هو أفضل لمن هو أفضل؟ أليس أفضل لك أن تكون شريفا من أن تكون غنيا؟» - «بلى.» - لماذا أنت غاضب إذن أيها الرجل ما دمت تحظى بالأفضل؟ تذكر دائما حقيقة أن للأعلى ميزة على الأدنى في ذلك الشأن الذي فيه علا، تذكر ذلك ولن تجد في نفسك غلا أبدا. - «ولكن زوجتي تسيء معاملتي.» - حسن. إذا سئلت ما الخطب فأجب: «زوجتي تسيء معاملتي.» هل ثمة أي شيء آخر؟ - «لا شيء.» - «والدي لا يعطيني شيئا.» ولكن أن تسمي هذا شرا فثمة إضافة خارجية وزائفة قد تم إقحامها. لهذا السبب ليس علينا أن نتخلص من الفقر، بل علينا أن نتخلص من فكرتنا عن الفقر ولسوف نكون بخير حال» (المحادثات، 3-17). (19) الغرور مرحلة على طريق النضج «قليل من الفلسفة يؤدي إلى الغرور ... كثير من الفلسفة يؤدي إلى التواضع.
ثمة دائما خطر بأن يمر طالب الفلسفة خلال رحلة التلقي بمرحلة من المراهقة الفلسفية تعلوه فيها سيماء التكبر والغرور، فيتصعر خده ويعلو حاجبه! إنها أزمة نمو، وعكة من تعسر النضج. إنه «احتباس أفكار غير مهضومة»، لا سبيل إلى التعافي منه إلا بمزيد من الفهم ... مزيد من الفلسفة.
يعبر إبكتيتوس عن هذه الأزمة فيتحدث بلسان طالب يمر بها قائلا: «لعل البعض قائل: من أين أتى هذا الزميل بكل هذا الكبر وهذه الغطرسة.» أصغ، إنني لم أكتسب بعد تلك الرصانة اللائقة بفيلسوف؛ وذلك لأني لم أتمكن بعد مما تلقيته، ولم يطمئن قلبي لما تعلمته وتقبلته، ما زلت خائفا من ضعفي، أمهلني أكتسب الثقة ولسوف ترى مني المظهر والسيماء اللائقين. سترى التمثال بعد أن يكتمل ويتم صقله، ماذا تظن بي؟ عجرفة وعتوا؟ حاشا لله! وهل تأنس في تمثال زيوس في الأولمب غطرسة وعلو حاجب؟ كلا، إن نظرته ثابتة كأنه يهم بقوله: «نافذة هي كلمتي ولا معقب لها.» هكذا سأريك نفسي: مخلصا متواضعا نبيلا نقيا من الرنق، ماذا، ومخلدا بعد، ومحصنا من السن والمرض؟ كلا، غير أني أمرض وأموت مثلما يليق بالألوهة التي بداخلي. هذا بقدرتي وذاك بوسعي، وغير هذا ليس بقدرتي ولا بوسعي، سأريك عضلات فلسفية مفتولة: إرادة لا تخيب، ومكاره لا تقع، سعيا حميدا، وعزما صادقا، وحكما حصيفا، هذا ما سوف تراه» (المحادثات، 2-8).
صفحه نامشخص