إن شغلت بصحبة الملوك فعليك بطول الرابطة في غير معاتبة، ولا يحدثن لك الاستئناس غفلة ولا تهاونا. إذا رأيت أحدهم يجعلك أخا فاجعله أبا، ثم إن زادك فزده. إذا نزلت من ذي منزلة أو سلطان فلا ترين أن سلطانه زادك له توقيرا وإجلالا من غير أن يزيدك ودا ولا نصحا، وأنك ترى حقا له التوقير والإجلال، وكن في مداراته والرفق به كالمؤتنف
4
ما قبله. ولا تقدر الأمر بينك وبينه على ما كنت تعرف من أخلاقه، فإن الأخلاق مستحيلة مع الملك، وربما رأينا الرجل المذل على ذي السلطان بقدمه قد أضر به قدمه. لا تعتذرن إلا إلى من يحسب أن يجد لك عذرا، ولا تستعينن إلا بمن يجب أن يظفر لك بحاجتك. لا تحدثن إلا من يرى حديثك مغنما ما لم يغلبك الاضطرار. إذا غرست من المعروف غرسا وأنفقت عليه نفقة فلا تضنن بالنفقة في تربية ما غرست فتذهب النفقة الأولى ضياعا. إذا اعتذر إليك معتذر فتلقه بوجه مشرق طليق، إلا أن يكون ممن قطيعته غنيمة.
اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، زينة في الرخاء، وعدة في الشدة، ومعونة على المعاش والمعاد، فلا تفرطن في اكتسابهم وابتغاء الوصلات والأسباب إليهم. اعلم أنك واجد رغبتك من الإخاء عند أقوام قد حالت بينك وبينهم بعض الأبهة التي قد تعتري أهل المروءات فتحجز منهم كثيرا ممن يرغب في أمثالهم، فإذا رأيت أحدا من أولئك قد عثر به الزمان فأقله. إذا عرفت نفسك من الوالي بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثرن من الدعاء له في كل كلمة، فإن ذلك شبيه بالوحشة والغربة، إلا أن تكلمه على رءوس الناس، فلا تأل عما عظمه ووقره. إن استطعت ألا تصحب من صحبت من الولاة إلا على شعبة من قرابة أو مودة فافعل، فإن أخطأك ذلك فاعلم أنك تعمل على عمل السخرة. وإن استطعت أن تجعل صحبتك لمن عرفت منهم بصالح مروءتك قبل ولايته فافعل، إن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع، وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه، غير أن الأرذال والأنذال هم أشد لذلك تصنعا، وعليه مكابرة، وفيه تمحلا، فلا يمتنع الوالي وإن كان بليغ الرأي والنظر من أن ينزل عنده كثير من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخونة بمنزلة الأمناء، وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء، ويغطي عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التمحل والتصنع. لا يعرفنك الولاة بالهوى في بلدة من البلدان ولا قبيلة من القبائل، فيوشك أن تحتاج فيها إلى حكاية أو مشاهدة فتتهم في ذلك، وإذا أردت أن يقبل قولك فصحح رأيك، ولا تشعرنه بشيء من الهوى، فإن الرأي يقبله منك العدو، والهوى يرده به عليك الوالد، وأحق من احترست من أن يظن بك خلط الرأي بالهوى الولاة، فإنها خديعة وخيانة وكفر. إن ابتليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعية، فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين ليس بينهما خيار: إما ميلك مع الوالي على الرعية وهذا هلاك الدين، وإما الميل مع الرعية على الوالي وهذا هلاك الدنيا، ولا حيلة لك إلا بالموت أو الهرب. واعلم أنه لا ينبغي لك وإن كان الوالي غير مرضي السيرة إذا علقت حبالك بحبله إلا المحافظة عليه إلى أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلا. تبصر ما في الوالي من الأخلاق التي تحب والتي تكره، وما هو عليه من الرأي الذي يرضى له والذي لا يرضى، ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحب ويكره إلى ما تحب وتكره، فإن هذه رياضة صعبة تحمل على التنائي والقلى. واعلم أنك قلما تقدر على رد رجل عن طريقته التي هو عليها بالمكابرة والمناقضة، وإن لم يكن يجمح عن السلطة، ولكنك تقدر أن تعينه على أحسن رأيه، وتسبب له منه وتقويه فيه، فإذا قويت منه المحاسن، كانت هي التي تكفيك المساوي، وإذا استحكمت منه ناحية من الصواب، كان ذلك هو الذي يبصره الخطأ بألطف من تبصيرك، وأعدل من حكمك في نفسه، فإن الصواب يريد بعضه بعضا، ويدعو بعضه إلى بعض، فإذا كانت له مكانة اقتلع الخطأ، فاحفظ هذا الباب واحكمه. ولا يكونن طلبك ما عند الوالي بالمسألة، ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولكن اطلب ما قبله بالاستحقاق له، واستأن وإن طالت الإناءة، فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب، وإن لم تستبطئه كان أعجل له. لا تخبرن الوالي أن لك عليه حقا وأنك تعتد عليه ببلاء، وإن استطعت أن ينسى حقك وبلاءك فافعل، وليكن ما تذكره من ذلك تجديدك له النصيحة والاجتهاد، وألا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره أول بلائك. واعلم أن ولي الأمر إذا انقطع عنه الآخر نسي الأول، وأن الكثير من أولئك أرحامهم مقطوعة وحبالهم مصرومة، إلا عمن رضوا عنه، وأغنى عنهم في يومهم وساعتهم. إياك أن يقع في قلبك تعتب على الوالي أو استزادة له، فإنه إن آنست أن يقع في قلبك، بدا في وجهك إن كنت حليما، وبدا على لسانك إن كنت سفيها، وإن لم يزد ذلك على أن يظهر في وجهك لآمن الناس عندك، فلا تأمنن أن يظهر ذلك للوالي، فإن الناس إليه بعورات الإخوان سراع، فإذا ظهر ذلك للوالي كان قلبه هو أسرع إلى التعتب والتعزز من قلبك، فمحق ذلك حسناتك الماضية وأشرف بك على الهلاك، وصرت تعرف أمرك مستدبرا، وتلتمس مرضاته مستصعبا. اعلم أن أكثر الناس عدوا مجاهرا جريئا واشيا وزير السلطان ذو المكانة عنده؛ لأنه منفوس عليه بما ينفس على صاحب السلطان، ومحسود كما يحسد، غير أنه يجترأ عليه ولا يجترأ على ذلك؛ لأن من محاسديه أحباء السلطان الذين يشاركونه في المداخل والمنازل، وهم وغيرهم من عدوه الذين هم حضاره وليسوا كعدو من فوقه النائي عنه المكتتم منه، وهم لا ينقطع طمعهم من الظفر به فلا يغفلون عن نصب الحبائل. فاعرف هذه الحالة، والبس لهؤلاء القوم الذين هم أعداؤك سلاح الصحة والاستقامة، ولزوم الحجة فيما تسر وتعلن، ثم روح عن قلبك كأنه لا عدو لك ولا حاسد، وإن ذكرك ذاكر عند ولي الأمر بسوء في وجهك أو في غيبك، فلا يرين منك الولي ولا غيره اختلاطا لذلك ولا اغتياظا، ولا يقعن ذلك منك موقع ما يكرثك، فإنه إن وقع منك ذلك الموقع أدخل عليك أمورا مشتبهة بالريب، مذكرة لما قال فيك العائب، وإن اضطرك الأمر في ذلك إلى الجواب، فإياك وجواب الغضب والانتقام، وعليك بجواب الحجة في حلم ووقار، ولا تشكن في أن القوة والغلبة للحليم أبدا. لا تحضرن عند الوالي كلاما لا يعني ولا يؤمر بحضوره إلا لعناية به، أو يكون جوابا بالشيء سئلت عنه، ولا تعدن شتم الوالي شتما ولا إغلاظه إغلاظا، فإن ريح العز قد تبسط اللسان بألفاظ في سخط ولا بأس. جانب المسخوط عليه والظنين به عند الولاة، ولا يجمعنك وإياه مجلس، ولا تظهرن له عذرا، ولا تثنين عليه خيرا عند أحد من الناس، فإذا رأيته قد بلغ من الإعتاب مما سخط عليه فيه ما ترجو أن يلين له الوالي واستيقنت أن الوالي قد استيقن بمباعدتك إياه وشدتك عليه؛ فضع عذره عند الوالي، واعمل في إرضائه عنه في رفق ولطف. ليعلم الوالي أنك لا تستنكف عن خدمته، ولا تدع مع ذلك أن تقدم إليه القول عن بعض حالات رضاه، وطيب نفسه في الاستعفاء من الأعمال التي يكرهها ذو الدين وذو العرض وذو المروءة من ولاية القتل والعذاب وأشباه ذلك.
إذا أصبت الجاه والخاصة عند الملك، فلا يحدثن لك ذلك تغيرا على أحد من أهله وأعوانه ولا استغناء عنهم، فإنك لا تدري متى ترى أدنى جفوة فتذل لهم فيها، وفي تلون الحال عند ذلك من العار ما فيه.
ليكن مما تحكم من أمرك ألا تسار أحدا من الناس، ولا تهمس إليه بشيء تخفيه عن السلطان، فإن السرار مما يخيل كل من رآه أنه المراد به، فيكون ذلك في نفسه حسيكة
5
ووغرا وثقلا.
لا تتهاونن بإرسال الكذبة عند الوالي أو غيره في الهزل، فإنها تسرع في رد الحق وإبطال الصدق مما تأتي به. تنكب فيما بينك وبين الوالي خلقا قد عرفناه في بعض الأعوان والأصحاب في ادعاء الرجل - عندما يظهر من صاحبه من حسن أثر أو صواب رأي - أنه هو عمل في ذلك، وأشار به، وإقراره بذلك إذا مدحه مادح، بل وإن استطعت أن يعرف صاحبك أنك تنحله صواب رأيك فضلا عن أنك تدعي صوابه، وتسند ذلك إليه وتزينه، فافعل، فإن الذي أنت آخذ بذلك أكثر مما أنت معط بأضعاف.
إذا سأل الوالي غيرك فلا تكونن أنت المجيب، فإن استلابك الكلام خفة بك، واستخفاف منك بالمسئول والسائل، وما أنت قائل إذا قال لك السائل ما إياك سألت، أو قال لك المسئول عند المسألة يعاد له بها دونك فأجب! وإذا لم ينصب السائل في المسألة لرجل واحد، وعم بها جماعة من عنده فلا تبادر بالجواب، ولا تسابق الجلساء ولا تواثب الكلام مواثبة، فإن في ذلك من شين التكلف والخفة أنك إذا سبقت القوم إلى الكلام صاروا لكلامك خصماء؛ فيتعقبونه بالعيب والطعن، وإذا أنت لم تعجل بالجواب، وخليته للقوم، اعترضت أقاويلهم على عينك، ثم تدبرتها وفكرت فيما عندك، ثم هيأت من تفكيرك ومحاسن ما سمعت جوابا رضيا، واستدبرت به أقاويلهم حتى تصيخ إليك الأسماع، ويهدأ عنك الخصوم، وإن لم يبلغك الكلام حتى تكتفي بغيرك، أو ينقطع الحديث قبل ذلك، فلا يكون من العيب عندك ولا من الغبن في نفسك فوت ما فاتك من الجواب؛ فإن صيانة القول خير من سوء وضعه، وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب موضعها خير من مائة كلمة أمثالها في غير فرصها ومواضيعها، مع أن كلام العجلة والبدار موكل به الزلل وسوء التقدير، وإن ظن صاحبه أن قد أتقن وأحكم.
صفحه نامشخص